
تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,745 |
تعداد مقالات | 14,264 |
تعداد مشاهده مقاله | 35,329,164 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 14,021,488 |
الخصائص المنهجية في کتاب التحلیل اللغوي لنهج البلاغة دراسة نقدیة تحلیلیة | ||
بحوث في اللغة العربية | ||
دوره 17، شماره 33، دی 2025، صفحه 1-20 اصل مقاله (668.13 K) | ||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | ||
شناسه دیجیتال (DOI): 10.22108/rall.2024.142192.1537 | ||
نویسنده | ||
سمیه سلمانیان* | ||
أستاذة مساعدة في قسم الإلهيات بجامعة بوعلي سينا، همدان، إيران | ||
چکیده | ||
بما أن نهج البلاغة هو تفسیر القرآن والبیان له، فانبری عدد غیر قلیل من العلماء بشرحه وکشف خفایاه، وألفوا شروحا مختلفة له، منها الشرح العصري المسمی بالتحلیل اللغوي لنهج البلاغة، والذي طبعته مؤسسة علوم نهج البلاغة، ویقع في 456 صفحة، مقتصرا علی شرح العهد الشریف لأمیر المؤمنین إلی مالك الأشتر. یسعی البحث في هذه العجالة إلی ملامسة الخصائص المنهجیة لهذا الکتاب وبیان قیمته وكيفية توجيهه لكلمات وأساليب، وردت في المتن ومعرفة السمة الممیزة التي يتميز بها، کما یهدف إلی بیان أهم المآخذ علیه. تکمن أهمیة البحث في عدة أسباب، منها کون هذا الکتاب شرحا عصریا، ألّف وفق المستویات اللغویة المختلفة، استجابة لطلب وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية، ولا بدع أن البحث في مثل هکذا موضوع له العدید من الإسهامات والإیجابیات علی صعید المجتمع الأکادیمي الإیراني، حتى یتعرف على أحدث المنهجية التي يتم على أساسها تألیف الكتب الدراسية في الجامعات العراقية ونقاط القوة والضعف فيها. یسلك البحث المنهج الوصفي، بالإضافة إلی المنهجین الاستقرائي ـ التحلیلي، لمعالجة الجوانب المختلفة للموضوع. وکان من أهم النتائج المتوصل إلیها: أن الشارح تناول الظواهر اللغویة في خمسة مستویات بدءا بأصغر وحدة في التحلیل اللغوي وانتهاء بأکبرها بأسلوب، یغلب علیه السؤال والجواب، لإثارة أذهان الطلبة في توظیف علوم العربیة. وأسلوبه المتبع هو التفصیل وتجنب التکرار وتسلسل العمل، مع ذكر آراء النحاة واللغویین القدامی والأصواتیین المحدثین، ومناقشة الوجوه اللغویة المختلفة والترجیح بینها. من أهم المآخذ علی منهج الکتاب هو أنه لم یوثق المعلومات والأفکار الواردة في المتن، ولم یضع فهارس المصادر والمراجع، والآیات القرآنیة، والأعلام، وغیرها، کما أنه لم یسخر حیزا للتعالیق والشروح اللازمة في مساحة الهامش. | ||
کلیدواژهها | ||
المباحث اللغویة؛ المنهجیة؛ الشرح؛ العهد الشریف؛ نهج البلاغة | ||
اصل مقاله | ||
لقد كان نهج البلاغة منذ زمن طويل محط اهتمام الباحثين ومناط بحثهم، حيث قد قاموا بدراسته وشرحه من زوايا مختلفة، وحاولوا الارتواء من هذا المعین الذي لا ینضب والاغتراف من بحر أسراره التي لا تنتهي. ومن سمات نهج البلاغة وخصائصه التي لفتت انتباه الباحثين هو جانبه الأدبي واللغوي، حتى كتبت عليه شروح وفيرة، وحاول كل من هؤلاء الشراح استكشاف سماته العلمیة والأسلوبية واللغوية والأدبية. یتفق معظم الباحثین علی أن قطب الدين الراوندي حاز قصب السبق في هذا المجال في شرحه الموسوم بمنهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، واستمرت هذه الجهود حتى عصرنا هذا. ومن الشروح العصریة التي ألّفت بمنهج جديد لتلبية احتياجات المجتمع الأكاديمي العراقي، شرح عصري عنوانه التحلیل اللغوي لنهج البلاغة؛ منهج مادة الکتاب القدیم في أقسام اللغة العربیة، التحلیل اللغوي للعهد الشریف، والذي طبعته مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسینیة بکربلاء المقدسة. یقع الکتاب في 456 صفحة، ویقتصر علی شرح العهد الشریف لأمیر المؤمنین إلی مالك الأشتر، لما ولاه مصر. قد جاء هذا البحث، ليسلط الأضواء على أهم الخصائص المنهجية في هذا الشرح، بسبب کونه کتابا عصریا هاما ومعرفة السمة الممیزة التي يتميز بها والخطوات التي سلکها الشارح للتعريف بالخفايا اللغوية لهذا العهد الشریف، ویحاول سبر أغوار الآلیات التي اعتمدها لاستجلاء مفاصل هذا الکتاب. تکمن أهمیة البحث في عدة أسباب، منها کون هذا الکتاب شرحا حدیثا، ألّف وفق المستویات اللغویة المختلفة، استجابة لطلب وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية ولجنة إعادة النظر في المناهج المقررة للدراسة في أقسام اللغة العربیة. ولا بدع أن البحث في مثل هکذا موضوع له العدید من الإسهامات والإیجابیات علی صعید المجتمع الأکادیمي، حتى يتعرف على أحدث المنهجية التي يتم على أساسها تألیف الكتب الدراسية في الجامعات العراقية ونقاط القوة والضعف فيها. ونظرا لطبيعة البحث والغرض الذي نسعی في تحقيقه، ارتأينا أن نستعين بالمنهج الاستقرائي بتتبع المباحث اللغویة المختلفة وجمعها، بالإضافة إلی المنهج الوصفي؛ وذلك لتوصیف معاني ومفاهیم البحث کمفهوم الظواهر الصوتیة والصرفیة وغیرهما، مما یحتاج إلیه البحث، وأیضا المنهج التحلیلي لتحلیل النصوص والشواهد، وإیضاح ملامح المنهجیة التي سار علیها الشارح، کاطع جار اللّٰه ساطم وزمیلته جنان ناظم حمید، بغية الوصول إلى الحقيقة العلمية بتجرد وموضوعية. 1ـ1. أسئلة البحث المشکلة التي نحاول دراستها فی هذه الأوراق، تتمثل في الإجابة عن التساؤلات الآتیة: ـ ما المحاور الأساسیة التي یدور علیها منهج الکتاب في شرح العهد الشریف؟ ـ ما الطریقة التي سلکها في شرحه؟ ـ ما المصادر التي اعتمد علیها؟ ـ ما أهم المآخذ علیه؟ 1ـ2. خلفیة البحث ثمة دراسات تقترب من هذا الموضوع في دراسة المباحث اللغویة لشروح نهج البلاغة؛ لکنها لا تتقاطع معه في مادته، ولم نجد ـ بعد البحث والتفتیش ـ غیرها. فهنا، نتناولها فیما یأتي: دراسة المباحث اللغوية في منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة لقطب الدين الراوندي، لسعد صباح جاسم (2012م). قد عالج الباحث فیها المباحث اللغویة لمنهاج البراعة في أربعة المستویات الصوتیة، والصرفیة، والنحویة والدلالیة. ورسالة المباحث اللغوية في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحدید، لهادي عبد علي هویدي الفتلاوي (2002م). قد تناول الباحث فیها منهج ابن أبي الحدید في دراسة السمات اللغویة لنهج البلاغة. ورسالة المباحث اللغوية في منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، لحبیب اللّٰه الخوئي، لمصطفی کاظم شغیدل (2008م). قد ارتکزت الدراسة علی المباحث اللغویة لشرح الخوئي علی نهج البلاغة في المستویات الثلاثة الصوتیة، والصرفیة، والدلالیة. ورسالة رسائل الإمام علي (8) في نهج البلاغة: دراسة لغویة، لرملة خضیر مظلوم البدیري (2009م). لقد عرضت الباحثة فیها للمباحث اللغویة في المستویات الصوتية، والصرفية والترکیبية. ورسالة المباحث الدلالیة في شرح نهج البلاغة، لکمال الدین میثم البحراني (2011 م). قد عالجت الرسالة مظاهر التطور الدلالي واللغوي لمفردات نهج البلاغة في ضوء شرح البحراني. یتبین من مراجعة الدراسات السابقة، أن هذه الدراسات، وإن لامست مسائل فرعیة من هذا البحث، إلا أنها لا تتقاطع معه في أهدافه، ومادته، وخطته؛ بذلك فإن هذا البحث جدید في نوعه، یحاول ملء هذه الفجوة البحثیة، ودراسة هذا الکتاب الذي لم تحرث أرضه بعد.
إن هذا الکتاب یقع في 456 صفحة، ویقتصر علی شرح العهد الشریف لأمیر المؤمنین إلی مالك الأشتر، وفق المستویات اللغویة الصوتیة، والصرفیة، والنحویة، والمعجمیة، وإنه إلی جانب هذه المستویات الخمسة، خصص قسما للطبائع الفنیة والبلاغیة التي نحن تغاضینا عنها، واکتفینا بالظواهر اللغویة التي هي الهدف الرئیس الذي تبناه الشارح، کما یبدو من تسمیة الکتاب الذي یحمل عنوان التحلیل اللغوي لنهج البلاغة. قد جاء في مقدمة الکتاب عن حجیة تألیفه: «یشدّ هذا الکتاب انتباه الطالب إلی قضایا النص الصوتیة، والصرفیة، واللغویة، والنحویة، والمعجمیة، وینبّه علی اتقان القراءة، ومراعاة أصوات العربیة، وصفاتها عند النطق، ومراعاة تجاور الأصوات في اللفظة، فضلا عن تطورات المعنی فیها» (2018م، ص 7). وفي موضع آخر جاء عن أسباب تألیف الکتاب: وقد شکلت وزارة التعلیم العالي والبحث العلمي لجنة لإعادة النظر في المناهج المقررة للدراسة في أقسام اللغة العربیة کافة. ولما تناهی إلی سمعنا بتشکیل تلك اللجنة ومباشرتها بالعمل، قدّمنا مقترحا لها، یوصي بتدریس نهجالبلاغة مادة للکتاب القدیم في السنتین الثانیة والثالثة من الدراسة الجامعیة الأولیة، ثم أوصت اللجنة باختیار عهد أمیر المؤمنین للدراسة في مادة الکتاب القدیم للسنة الثالثة (المصدر نفسه، ص 8). ندرس فیما یلي، منهجیة الکتاب في خمسة أقسام وحسب المساحة التي شغلت في الکتاب، بدءا بالمستوی الصوتي وانتهاء بالمستوی الدلالي.
الصوت لغة بمعنی الجرس، وجمعه الأصوات، وصات یصوت صوتا، وأصات صوّت به: نادی (ابن منظور، 1968م، ج 3، ص 258). واصطلاحا هو «الأثر السمعي الذي به ذبذبة مستمرة مطردة، حتی ولو لم یکن مصدره جهازا صوتیا حیّا، فما تسمعه من الآلات الموسیقیة النفخیة أو الوتریة أصوات، کذلك الحس الإنساني صوت» (حسان، 1955م، ص 240). فإن أول مستوی لغوي في هذا الکتاب هو المستوی الصوتي، «وهو المستوی الذي یقوم بدراسة أصوات اللغة وحروفها من حیث طریقة النطق بها، وأسس تصنیفها، وبیان مخارجها، وطبیعة تکونها، وتآلفها لتشکل ألفاظا معینة ذات مدلولات محددة» (أبو مغلي، 2010م، ص 115). والشارح في شرحه علی العهد الشریف، قد تطرق إلی بیان مخارج الحروف وأصواتها، ودرس التشکیل الصوتي للمفردات في أربعة أقسام: هي الإبدال، والإعلال، والإدغام، والتنغیم. فنعالج کلا منها علی حدة. 3ـ1. الإبدال الإبدال في اللغة «وضع الشيء مکان غیره» (ابن سیدة، د.ت، ج 13، ص 267)، وهو مصدر أبدلت الشيء بالشيء، وبدلُ الشيء غیرُه، واستبدل الشيءَ بغیره وتبدلّه، إذا أخذ مکانه (الجوهري، د.ت، ج 4، ص 1632). واصطلاحا هو إقامة حرف مکان حرف مع الإبقاء علی سائر أحرف الکلمة (رضي الدین الأستراباذي، 1982م، ج 3، ص 197). فهو أعم من الإعلال الذي یقتصر علی حروف العلة، ویشمل جمیع الحروف، علة کانت أو غیر علة. أحرف الإبدال تسعة، جمعها ابن مالك في جملة «هدأت موطیا» (ابن عقیل، 1965م، ج 2، ص 548 ـ 549). لم یتفق اللغویون القدماء علی عدّ الإبدال ظاهرة صوتیة، کما هو الحال لدی المحدثین. «وقد اشترط أغلب المحدثین وجود علاقة صوتیة بین المبدل والمبدل منه کقرب المخرج، أو الاشتراك في بعض الصفات الصوتیة کالجهر والهمس» (شغیدل، 2008م، ص 16). واشترط اللغویون القدامی للإبدال أن تکون هناك علاقة بین الحرف المبدل والمبدل منه؛ إذ نقل ابن جني عن أبي علي قوله: «إن أصل القلب في الحروف إنما هو فیما تقارب منها، وذلك الدال، والطاء، والتاء، أو غیرها، مما تدانت مخارجه» (1954م، ج 1، ص 197). ووافقهم المحدثون علی ذلك؛ إذ اشترطوا العلاقة الصوتیة بین الحرفین المبدل والمبدل منه. وقد أورد الشارح أمثلة الإبدال بکثرة وشرحها، وأبان مواضعها. ویمکن تقسیم الإبدال حسب ما ورد في هذا الشرح إلی النوعین، وهما الإبدال الصوتي بین الصوائت، والإبدال الصوتي بین الصوامت. 3ـ1ـ1. الإبدال الصوتي بین الصوائت قد تختلف دلالة اللفظ بتغیر الصوائت القصیرة (الفتحة، الضمة، الکسرة)، مثلما قد تختلف دلالته باختلاف الصوامت، نحو: الذّل للدابة ضد الصعوبة، والذُّل للإنسان وهو ضد العز (جاسم، 2012م، ص 32). لم یغفل الشارح أثر الحرکة في المعنی، وإنما تنبّه علی ذلك من خلال وقفاته عند ألفاظ النهج المختلفة في حرکاتها، منها قوله: الفعل: خلف یخلف مصدره (خلفا) ساكن الفاء، وهو ضدّ تقدّم وسلَف، وخلَف عن القوم: تأخّر عنهم، وخلف أباه: جاء بعده، ثم استعمل اسم جمع لكلّ من يأتي بعد، وغلب في الطالح، «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّاª (مریم 19: 59)؛ أما إذا ما حُرّكت العين، صار المعنى بالضدّ، أي أنّ الخَلَف هو اسم جنس إفرادي لمن هو صالح من الولد أو الأمة: خير الخلَف لخير السلَف، وهو خلَف خير لأبيه. وقطع الحركة عن العين أوقف هذا الاتجاه في المخلوفين إلى نقيضه، ومنهم من جعل ساكن العين دالّ على الحيّ والجامد معا. وهذا هو الراجح؛ لأنّ الخلْف في الأصل مصدر، ثمّ صار اسما لمن يخلف سلفه حقيقة أو مجازا كاستعمال اللفظ دالا على الظرفیة بمعنی الوراء (2018م، ص 111). 3ـ1ـ2. الإبدال الصوتي بین الصوامت والمراد منه وضع صوت أو مقطع لغوي مکان صوت أو مقطع لغوي آخر. وما یحدث من تغییر في الدلالات یفضي إلی تغییر في المدلولات (برکة، 1988م، ص 110). وفي هذا المجال، تفطن الشارح القدير إلی الفرق الدلالي بین الجموح والطموح في معرض شرحه علی قوله (8): «أمره أن یکسر نفسه عند الشهوات، ویزعها عند الجمحات قائلا: جمح بملحظ الجیم المرکبة بین الشدة والرخاوة فیه خروج عن الحد الطبیعي، یستلزم جهدا، فهو بمعنی ذهاب الشيء قُدُما بغلبة وقوة: جمح الفرس جماحا: إذا اعتز فارسه حتی یغلبه» (2018م، ص 34). أما طمح، فبملحظ الطاء المطبقة التي یرتفع معها اللسان إلی أعلی الحنك، أفاد اللفظة دلالة علی خروج بارتفاع، وهو لیس خروجا عن المألوف، وإنما خروج في دائرة المألوف الطبیعي إلی ما هو أعلی منه (المصدر نفسه). وفي بیان الفرق بین الإلحاف والإلحاح في قوله: «واسأل بالإلحاف» یقول: «إن الإلحاح هو السؤال الظاهر المکرور بلحاظ جرس الحاء الاحتکاکي المکرور في مشتقات الجذر (لحح). وهذا الفرق الدلالي بین الإلحاف والإلحاح ملائم لحال الخاصة من الرعیة؛ إذ هم مقرّبون من الوالي، فیسألونه سرا وخفیة، فهم أکثر الرعیة سؤالا بالإلحاف» (المصدر نفسه، ص 86). وعند التفسیر الصوتي للفظة "آل" في قوله: «أنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك»، تحدث عن فرقه مع "أهل"، وذکر أقوال النحاة واللغویین المتضاربة، ومنهم سیبویه الذي یذهب إلی أن "آل" أصله "أهل"، وفیه إبدال؛ لأنه بمعناه؛ ولأنه یصغر کتصغیر أهل، فیقال فیهما: "أُهَیل". ورأی الکسائي أن "آل" أصله "أوَل"، وقلبت الواو ألفا، لتحرکها وفتح ما قبلها، وأنهم قالوا: إنما هم "آل"؛ لأن الإنسان یؤول إلی أصله وحسبه، أي: یرجع، یقال: آل یؤول أولا: إذا رجع. وسُمع من العرب قولهم: "أُوَیل" في التصغیر (المصدر نفسه، ص 86 ـ 87). 3ـ2. الإعلال الإعلال لغة مصدر "أعل"، وأصله من العلّ والعَلَل: الشَّربة الثانیة. وقیل: الشُّرب بعد الشُّرب تباعا، یقال: عَلَلٌ بعد نَهَلٍ، وعلَّ الرجل یعلُّ من المرض (ابن منظور، 1968م، ج 11، ص 467). واصطلاحا هو تغییر حرف العلة، أي الألف، والواو، والیاء، بالقلب، أو الحذف أو الإسکان (رضي الدین الأستراباذي، 1982م، ج 3، ص 66)، وقیل: تغییر حرف العلة للتخفیف، بقلبه أو إسکانه أو حذفه (إبراهیم، 1957م، ص 213). فیکون الإعلال علی ثلاثة أقسام: الإعلال بالقلب، والإعلال بالحذف، والإعلال بالتسکین. 3ـ2ـ1. الإعلال بالقلب لقد أورد الشارح أمثلة لأنواع الإعلال. ومن الأمثلة التي ذكرها لإعلال القلب هو قلب الياء ألفا في لفظتي "قُضاة ووُلاة"، وتحدث عن آراء القدماء والمحدثين في هذا النوع من الإعلال، وقال: إن الیاء قلبت ألفا عند القدماء لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها والأصل "قُضَیَة ووُلَیَة" على وزن "فُعَلَة"، على حين رأى المحدثون أن الذي جرى هو حذف الياء ودمج الفتحتين وأصل التشكيل المقطعي هو: قُضَيَةٌ: قُ، ضَ، _َ ، يَ، تُ، ن، وحذفت الياء في المقطع الثالث، فصار: قُ، ضَ،_َ ، تُ، ن، ودمجت الفتحتان فصارتا ألفا. فصار اللفظ "قضاة"، أي "قَ، ضَ، تُ، ن"، وکذا "وُلاة" (2018م، ص 158). وفي موضع آخر، علّل صوتيا قلب الواو ياء في لفظة الخيانة في قوله (8): «فإنّما جماع من الجور والخيانة»، وعدم إعلال هذا الصائت الطويل في ألفاظ أخرى، نحو: قوام، لواذ، وقال: "خيانة"، أصلها "خِوانة" على فِعالة من "خان يخون"، ولما أعلّت الواو في الفعل الماضي بقلبها ألفا، قلبت كذلك في المصدر ياء تخفيفا، فضلا عن أمن اللبس بغيرها. أمّا قوام، فاسمٌ على فعِال. ولو قلبت واوه ياء، لالتبس بمصدر الثلاثي "قام يقوم"، وهو "قام" الذي قلبت فيه الواو ياء تخفيفا. وأما "لِواذ"، فمصدر "لاوَذَ" المزيد بالألف، وهو بمنزلة "الملاوذة"، ولما لم تعلّ الواو في الماضي لم تعل كذلك في المصدر (المصدر نفسه، ص 241). 3ـ2ـ2. الإعلال بالحذف وقف الشارح عند أمثلة من الإعلال بالحذف في العهد الشریف، وعلّل حذف الصائت الطويل "الواو"، إذا كان عينا لفعل الأمر، وفق معطيات الدرس الصوتي الحديث من خلال معالجة فعل "کان" في قوله (8): "وليكن نظرك"، "ليكن" أصله "ليكوْنْ"، ولما دخلت عليه لام الأمر، سكنت نونه، فالتقى ساكنان (الواو والنون)، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين. وفي الدرس الصوتي الحديث أن الواو لم تحذف كليّا، بل قصرت لتؤول إلى ضمة، وذلك في التشكيل "يَ، كو، نُ"، وبعد حذف ضمة النون للجزم وتقصير الواو المدية إلى ضمّةٍ، تخلّصا من المقطع المديد "کون" في الطرف صار التشكيل "يَ، کُن" (المصدر نفسه، ص 264- 265). وفي موضع آخر، یعلّل ضمّ ما قبل واو الجماعة في فعل "يكفُونهم" ضمن قوله: «ويكفُونهم من الترفق بأيديهم»، وفتح ما قبل واو الجماعة في لفظة "یقوَون" في قوله: «من الخراج الذي يقوَون به على جهاد العدوّ»، ویحاول أن یستعین بالقواعد الصرفیة المتبعة في إسناد الأفعال إلی ضمائر الرفع، قائلا: الفعلان "يَكفي ويَقوى" معتلا اللام، وكلاهما يحذف لامه عند الإسناد إلى ضمير الرفع الساكن "الواو"، غير أن الفعل "يكفِي" ناقص، تحذف لامه عند إسناده إلى واو الجماعة، فيضم ما قبل واو الجماعة مناسبة للواو؛ لأن الكسرة ثقيلة قبل الواو. أمّا الفعل "یقوی"، فتقلب یاؤه ألفا في المضارع "یقوی"، وتحذف الألف عند اتّصال الفعل بالضمير الساكن "الواو" لالتقاء الساكنين، ويحرّك ما قبل الواو بالفتحة للدلالة على الألف المحذوفة، فضلا عن عدم ثقل الفتحة قبل الواو (المصدر نفسه، ص 158 ـ 159). 3ـ3. الإدغام الإدغام لغة هو إدخال اللجام في أفواه الدوابّ. وأدغم الفرس اللجام: أدخله في فیه، وأدغم اللجام في فمه (ابن منظور، 1968م، ج 12، ص 203). واصطلاحا هو تقریب صوت من صوت (ابن جني، د.ت، ج 2، ص 141)، أو هو أن تصل حرفا ساكنا بحرف مثله متحرك، من غیر أن تفصل بینهما بحركة أو وقف، فیصیران لشدة اتصالهما كحرف واحد یرتفع اللسان عنهما رفعة واحدة شدیدة (ابن یعیش، د.ت، ج 10، ص 121). قد اهتم النحاة واللغویون بهذه الظاهرة منذ القدم، وقیل: «یعد سیبویه من أوائل علماء العربیة المعتنین بالإدغام، حتی أعدّه محور دراسته للأصوات العربیة، وقد ترسم خطاه من تلاه ـ علی اختلاف في العرض ـ بالکلام علی مخارج الأصوات وبیان صفاتها العامة والخاصة» (العطیة، 1982م، ص 81). ولم یختلف المحدثون عن القدامى في تفسیر ظاهرة الادغام، فهي عندهم عبارة عن فناء الصوت الأول مع الصوت الثاني، بحیث ینطق بالصوتین صوتا واحدا كالثاني (أنیس، 1979م، ص 178)؛ في حین اختلفوا معهم في تسمیته، فأطلقوا علیه مصطلح "المماثلة"؛ إذ درسوا الإدغام بوصفه ضربا من المماثلة. قد تنبّه الشارح إلی مواضع الإدغام في کتاب الإمام (8) إلی مالك الأشتر، منها قوله في تعلیل حذف همزة الوصل من الفعل "شحّ" في: «وشحّ نفسك»، وعدم حذفه من الفعل "علم" في قوله: «ثم اعلم یا مالك»، حیث یقول: «إن الفعل شحّ مضعّف، ویجوز في الأمر منه فكّ الادغام، وعندئذ تلزمه همزة الوصل لسکون أوله، ویجوز الادغام فیحرّك أوله لانتقال حرکة عینه إلی فائه لأجل الادغام» (2018م، ص 40). 3ـ4. التنغیم التنغیم لغة هو جرس الکلام وحُسن الصوت في القراءة وغیرها (ابن منظور، 1968م، ج 12، ص 590). وفي الاصطلاح هو عبارة عن تتابع النغمات الموسیقیة أو الإیقاعات في حدث کلامي معین (باي، 1973م، ص 93)، أو هو ارتفاع الصوت وانخفاضه أثناء الکلام (حسان، 1955م، ص 164). ویقوم التنغیم في الکلام بوظیفة علامات الترقیم في الکتابة. وبوساطته، یمکن تحدید دلالة الجملة من إثبات أو نفي (المصدر نفسه). ويقصد بالتنغيم التنويع في أداء الكلام بحسب المقام المقول فيه. فكما أن لكل مقام مقالا، فكذلك لكل مقال طريقة في أدائه، تناسب المقام الذي اقتضاه. فالتهنئة غير الرثاء، والأمر غير النهي، والتساؤل والاستفهام غير النفي (جبل، 2006م، ص 177). يعد إبراهيم أنيس أول من أدخل مصطلح التنغيم في الدراسات اللغوية العربية المعاصرة، وسماه "موسيقى الكلام"، حيث ذكر أن الإنسان حين ينطق بلغته، لا يتبع درجة صوتية واحدة في النطق بجميع الأصوات. فالأصوات التي يتكون منها المقطع الواحد، تختلف في درجة الصوت، وكذلك الكلمات قد تختلف فيها، ويمكن أن نسمي نظام توالي درجات الصوت بالنغمة الموسيقية (1979م، ص 176). إن الشارح قدم تعریفا لأنواع التنغیم، باعتباره عاملا مهمّا في أداء المعنى، من تعجّب، وتحسّر، واستفهام، ونفي، وأمر، ونهي، ونداء، وغير ذلك، وقسمها إلی النغمة المنخفضة، والنغمة المتوسطة، والنغمة العالیة والنغمة فوق العالیة، أو الصاعدة (2018م، ص 362). ثم وقف عند مواطن التنغیم في عهد أمیرالمؤمنین (8) إلی مالك. ولما وصل إلی قول الإمام (8): «ففيم احتجابك من واجب حقّ تعطيه»، حاول تبیین كيفيّة الأداء الصوتي لهذه العبارة، وقال: «في سؤال الإمام (8) للوالي عن سبب احتجاجه عن الرعيّة مع أنّ هذا واجب عليه استفهام فيه دلالة التعجب واضحة؛ إذ كيف يقصر عن أمر لا بدّ له من القيام به في إعطاء أو منع، وهو بذلك يزيح الشبهات عنه؛ ولذا فإنّ الاستفهام التعجبي في هذه العبارة يؤدّى بالنغمة فوق العالية (الصاعدة) لما فيها من مشاعر الانفعال والتأثر من تصرّف في غير محلّه. ونلاحظ أنّ التنغيم يقوم بوظيفة الترقيم من علامات، كالنقطة، والفاصلة، والشرطة، وعلامة الاستفهام، وعلامة التأثر؛ لذا نضع بعد انتهاء العبارة هذه، علامة الاستفهام، تتلوها علامة التعجب (؟!) (المصدر نفسه، ص 362). 3ـ5. العنایة بآراء الأصواتیین المحدثین لقد أولی الشارح اهتماما بالغا لآراء الأصواتیین المحدثین إلی جانب آراء الصرفیین القدامی، وحاول الموازنة بین آرائهما في المواطن التی اختلفت أقوالهم وتضاربت آراؤهم. وعند التعلیل الصوتي لقلب الصائت الطويل "الیاء" همزة في لفظة "البائع"، وقلبها ألفا في لفظة "المبتاع" من قوله (8): «وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع»، یقول: البائع أصله "البایع". ورأى الصرفيون القدماء أن الياء لما وقعت عينا لفعل "باع"، أعَلَّت بقلبها ألفا، وكذلك في اسم فاعله، فقلبت همزة. أما الأصواتيون المحدثون، فلم يرضوا بهذا التعليل، فرأوا أن الذي جرى في اللفظة هو حذف الياء وبقاء كسرتها بعد الألف، فاجتلبت الهمزة وسطا بين الألف والهمزة، كما في التشكيل "با، يِ، عُ"؛ والمقطع الثاني مكوّن من مزدوج صوتي "الیاء والکسرة"، فحذفت الياء، وبقيت الكسرة، كما في التشكيل "با _ِ"، فظهر المقطع الأول من قمّتين، وهذا لا يجوز في مقاطع العربية، فانزلق النطق من الألف إلى الكسرة بصوت الهمزة (المصدر نفسه، ص 301). وفي موضع آخر، یعلّل صوتيا قلب الواو ياء في اللفظتین "الدنیا، والعلیا"، ویقول: إن القدماء علّلوا قلب الواو ياء في "الدنيا" ونحوها بأن الواو إذا وقعت لاما لوصف على "فُعلی"، قلبت ياء تخفيفا. فالدنيا أصلها "الدُنوی"، والعليا أصلها "العُلوی"، فقلبت الواو ياء للسبب المذكور آنفا، ولم يرض المحدثون بهذا التعليل، ورأوا أنّ الذي جرى في "الدنيا والعليا" وأشباههما هو وجود مزدوج صوتي ثقيل في الطرف لتباعد قاعدته عن قمته هو المقطع الطويل المفتوح (و_َ) وبين مخرج الواو الشفوي والألف الحنجري بون واسع، فلجأوا إلى التقريب بين ركني المقطع بأن حذفوا الواو واجتلبوا الياء؛ لأن الياء من شجر الفم، وهي أقرب من الواو إلى مخرج الألف (المصدر نفسه، ص 375). ثم یحذو حذو القدماء في اعتبار أصل "رياضة "من "رِواضة"؛ إذ ذهب القدماء إلی أن الواو إذا وقعت عينا في مصدر أو جمع تكسير مسبوقة بكسر ومتلوة بالألف، قلبت ياء، نحو: صيام أصله صِوام، ورياض أصله رِواض، وزيارة أصله زِوارة، ورياضة أصله رِواضة. ولم يرض المحدثون بهذا التعليل، فرأوا أن الذي جرى في مثل هذه الألفاظ هو وجود مثلث صوتي متجاور ومتنافر مؤلّف من تتابع الكسرة والواو والألف في نسق صوتي واحد، فلجأوا إلى التقريب بين أركان هذا المثلث الصوتي روما للخفة، فحذفوا الواو، واجتلبوا الياء، ليكون التتابع مقبولا من الكسرة إلى الياء إلى الألف (المصدر نفسه).
لقد أولی الشارح أهمیة کبیرة للمباحث الصرفية، ووقف وقفات طویلة عند الظواهر الصرفیة المختلفة. فنحاول الاکتفاء ببعض النماذج حرصا علی الاختصار، ونحیل القارئ الکریم إلی الکتاب، لیتعرف علی تفاصیل القول فيه. 4ـ1. العنایة بجذر المفردات إن معرفة جذور الكلمات وأصولها تعد من المباحث المهمة في الموضوعات الصرفية، وهي مفيدة جدا في تحليل وفهم معاني الكلمات وبنيتها. فالشارح لم یهمل هذا الجانب، وتحدث عن جذر کل مفردة، ظن أنه یستعصي علی المتلقي فهمه. منه مفردة "التقوى" التي تکون من الجذر "وقی" الذي تدل مشتقاته علی دفع شيء عن شيء بغیره. ووقیتُه أقیه وقیاً، والوقایة: ما یقي الشيء. واتقِ اللّٰه: تَوقَّهُ، أي اجعل بینك وبینه کالوقایة. قال رسول اللّٰه (|): «اتقوا النار ولو بشق تمرة، وکأنه أراد: اجعلوها وقایة بینکم وبینها» (المصدر نفسه، ص 150). وفي موضع آخر، یقول أن "واسی" في قوله (8) «واساهم»، من أسی، وواوه مقلوبة من الهمزة، ثم یضیف: وفي هذا الجذر بابان: الأوّل: أسا يأسو فهو آسٍ، بمعنى المداواة والعلاج؛ والثاني: من أسي يأسى أسًى بمعنى حزن. قال تعالى: «قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَª (المائدة 5: 26) (المصدر نفسه، ص 196). وهنا، نرى أن الشارح على عادته المعهودة ومنهجه الذي سلكه في شرحه، بعد ذكر جذر كلمة "واسی"، يوضح الفرق في معنى الفعلين "أسا یأسو، وأسی یأسی"، بالاستناد إلى القرآن الکریم؛ لیعزز قوله، ویدعم رأیه في التفریق بین الفعلین. 4ـ2. العنایة بالأوزان إن الشارح تناول صیغ الأوزان المختلفة، وتحدث عن تصریفاتها بالتفصیل، وبیّن الفرق الدلالي بین الأوزان المتقاربة، والوجه الأدبي لتوظیف الأوزان المختلفة للمفردات في العهد الشریف للإمام علي (8). فعند تعلیله حذف الصائت القصیر (الضمة) في لفظة "الأکل" بتسکین الکاف في قوله: «تغتنم أکلهم» ورفع الکاف في لفظة "الأکُل" بضم الکاف في قوله تعالی: «تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَاª (إبراهیم 14: 25). یقول: وردت لفظة "الأکُل" قرآنیا بضم الفاء والعین، وهي اسم لما یؤکل، لتدل علی الوفرة في الثمر: «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُª (الأنعام 6: 141)، ووردت اللفظة في سیاق العقاب بدلا من ضدها في الخیر: «وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍª (سبأ 34: 16)، فقوبل بین الکثرة بالشر والکثرة بالخیر. ولم تستعمل ساکنة العین، أما في قوله: تغتنم أکلَهم، فحذف الصائت یشیر إلی ما یؤکل عن قلة. فالرعیة مهما ارتفعت قدراتها المعیشیة، تقصر عن قدرة الحکومة، ولذا یرقّق أمیر المؤمنین قلب الوالي عن رعیته (2018م، ص 58 ـ 59). 4ـ3. العنایة بتناوب الحروف من میزات اللغة العربیة تشارك الحروف وتناوبها بین بعضها بعضا. فتناوب الحروف معناه أن یؤدي حرف معين معنى حرف آخر كأن يأتي "في" بمعنی "علی" أو وضع حرف مکان حرف آخر. «یری سیبویه أن لکل حرف معنی خاصا به؛ لکنه یجیز أن یخرج عن هذا المعنی اتساعا، إلا أنه یلجأ إلی التأویل لردّه إلی معناه الأول، ومع هذا، فإنه أحیانا یری أن للحرف الواحد أکثر من معنی» (العطیة، 2008م، ص 236). لم یهمل الشارح ظاهرة التناوب وتحدث عن الحروف التی نزّلت منزلة الحروف الأخری في العهد الشریف وعلّلها، کما نری عند شرحه علی قوله (8): «وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه فإنّ مغبّة ذلك محمودة»، يفسّر حرف الباء بأنّه بمعنى "مع". ولتعلیل هذه القضیة، یقول: ذكر اللغويون للباء عدة معان أوصلوها إلى ثلاثة عشر معنى، واقتصر سيبويه على المعنى الرئيس، وهو الإلصاق حقيقة، نحو: أمسكت به، أي: ممسكا بشيء من جسمه أو ثوبه أو مجازا، نحو: مررت به، أي: ألصقت مروري بمكان يقرب من زيد، وأبرز ما قيل في مجيء الباء بمعنى حرف آخر هو مجيئها بمعنى "في"، أي: بمعنى الظرف الزماني أو المكاني، وجعلوا منه: «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّٰه بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللّٰه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَª (آل عمران 3: 123). ویری الشارح أن الإمام (8) أراد أن يذكّر الوالي بأن عاقبة فعله من تحرّيه الحق مع قرابته يوصله إلى رضا اللّٰه تعالى، وإن عانى الأمرين من الحاح القرابة والخاصة ومكائدهم. فالإمام (8) أكد على كون الوالي لا مفر له من تحمل ثقلهم؛ لأنهم لن يسكتوا عن تأخيرهم بالعطاء مع قربهم من الوالي، وهو القائم عليه؛ لذا عبر عن هذا الأمر المحتوم التصاقه بالوالي بحرف الباء التي تفيد الإلصاق. ولو استعمل (8) بدلا عن "الباء"، لفهم مصاحبة الوالي لثقل هؤلاء دون انغماسه في مشكلاتهم أو قد يتكفل بشكاواهم وزيره أو صاحبه؛ وبذا لا يلامس تذمرهم من القريب، وهذا خلاف ما أراده (8) (2018م، ص 381 ـ 383). 4ـ4. العنایة بأبنیة الجموع الجمع هو ما دل على أكثر من اثنین او اثنتین، والغرض منه الایجاز والاختصار، كما كان في التثنیة كذلك؛ إذ كان التعبیر باسم واحد اخف من الاتیان بأسماء متعددة (ابن یعیش، د.ت، ج 5، ص 2). الشارح یهتم بجموع التکثیر أکثر من اهتمامه بجموع السالم، ویتحدث عن مواضع جموع القلة والکثرة في هذا العهد الشریف، ویحاول في تعلیله الاستناد إلی أقوال النحاة المختلفة والترجیح بینها، حیث یقول عن لفظة "أشرار": إنها جمع قلّة على أفعال، ومفرده شرّ على فَعْل ضدّ الخير، يقال: رجل شرّ على نحو رجل برّ ورجال أبرار. وذهب الأخفش إلى أنّ "أشرار" جمع "شرير"، على فعيل كيتيم وأيتام وشريف وأشراف. وهذا خلاف القياس؛ لأنّ فعيلا صفة تجمع قلّة على أفعلة، نحو: أذلّة جمع ذليل، ويتيم اسم لا صفة بدليل عدم جواز جمعه جمع سلامة للمذكّر (2018م، ص 116). ویری أن لفظة "آراء" جمع قلّة على أعفال، ومفرده "رأي"، وحصل لهذه اللفظة تغيير بالقلب المكاني. فالأصل جمعها "أرأاي" على "أفعال"، ثم قدمت الهمزة الثانية التي هي عين الكلمة تمهيدا لتخفيفها، فصارت "أَأْراي"، ثم قلبت الهمزة الثانية ألفا لالتقاء همزتين أوّل الكلمة، الأولى مفتوحة والثانية ساكنة، ثم قلبت الياء همزة لتطرفها بعد ألف زائدة (المصدر نفسه، ص 117 ـ 118). وإنه لم یهمل الاسم الجنس الجمعي أو ما یعرف عند النحاة بشبه الجمع، وتحدث عن الدلالة الصرفیة بین جمع التکسیر "الجنود" وشبه الجمع "الجُند"، ورأی أن "الجُند" اسم جنس جمعي يفرّق بينه وبين واحده بالياء، فمفرده: جنديّ، ومثلها: كُرد كرديّ ورُوم روميّ، وكذلك كلّ اسم جنس جمعي يفرّق بينه وبين واحده بالتاء، نحو: تمر وتمرة وورد ووردة؛ أمّا "الجنود": فهو جمع كثرة على فُعول لاسم الجنس الجمعي جند، كما جمع "التمر" على تمور، و"الزهر" على زهور، ويجمع في القلّة على الأجناد، كالأوراق والأزهار جمعي وَرق وزَهر (المصدر نفسه، ص 200). وفي اسم الجمع، یستشهد بالملأ الذي هو اسم جمع لا واحد له من لفظه يدلّ على الجماعة من الأشراف وعِلية القوم الذين يملؤون العين رَواء ومنظرا، والنفوس بهاء وجلالا (المصدر نفسه، ص 289 ـ 290). 4ـ5. العنایة بأبنیة اسم المصدر لقد اهتم الشارح باسم المصدر من بین أنواع المصدر، وتحدث عن موارد استعماله وأبوابه، واعتبر لفظة "عقوبة" اسم مصدر على فعولة، من عاقبه معاقبة وعقوبة، وقال إن "العقاب والمعاقبة" مصدران مقيسان، والعقوبة اسم مصدر يختص بالعذاب؛ لأنه يكون تتبع الذنب، وهذه كلها مبنية على العقب، وهو مؤخر القدم. يقال: عقب فلان فلانا: إذا جاء عقبه أي بعده وتلاه. أما العاقبة، فهي اسم ذات لما يأتي تاليا في الخير والشر (المصدر نفسه، ص 246). والاسم المصدر الآخر في العهد الشریف هو لفظة "الخَراج" من أخرج يخرج إخراجا، وجعل المعجميون الخرج والخراج بمعنى واحد وهو الأجر، وجمع الخرج: أخراج، وجمع الخراج: أخرِجة كجناح أجنحة، واجتمع اللفظان في قوله تعالى: «أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌª (المؤمنون 23: 72). فكأن الخراج مجتمع الخرج، فاستعمل الواحد للناس والجمع للباري عز وجل. ومنهم من فرّق بين الصيغتين، فجعل الخرج دالا على الجعل، وما تبرّعت به، والخراج دالا على العطاء وما لزمك منه. وواضح أنّ اسم المصدر "الفَعال" يدلّ على ما هو محدّد معيّن مما يخرج، لذا جعل الخراج لما يفرض من ضريبة على الأراضي (المصدر نفسه، ص 166 ـ 167). 4ـ6. مناقشة الوجوه الصرفیة والترجیح بینها الترجیح في اصطلاح علماء الصرف والنحو هو «إثبات مرتبة في أحد الدلیلین علی الآخر» (الجرجاني، 1978م، ص 37). والغرض من الترجیح هو تقویة أحد المحتملات لدلیل یقترن به أو یکون میلا لأحد الآراء أو الأقوال باعتبار الاجتهاد (الحربي، 1996م، ص 41). إن الشارح قد ینبّه القارئ علی الوجوه المختلفة لقضیة صرفیة، ثم یرجّح ما یراه صحیحا، منه قوله فی اختلاف العلماء في لفظة "أحد" زنة وتأصیلا، وهم علی مذهبین: الأول أن "أحد" أصله "وحد" المنشعب من "واحد" بحذف الألف تخفیفا، ثم همزت الواو المفتوحة في "وحد"، فقالوا: "أحد" کما قالوا: "أجم" في "وجم"، ولم یسمع إبدال الهمزة من الواو المفتوحة في غیر هذا. ولما استعمل "أحد" صفة للباري دل علی معنیین: الأول أنه بمعنی أصله الذي انشعب "واحد"؛ والآخر أنه بمعنی الأول، أي إن معنی "أحد" في قوله تعالی: «قُلۡ هُوَ اللّٰه أَحَدٌª (الإخلاص 112: 1). هو أنه سبحانه وتعالی الأول الذي لا شيء قبله وهو أحد لا ثاني له ولا شریك معه؛ وأما المذهب الثاني، فظاهره أن "أحد" لا إبدال فیه ولا تغییر، فکأنه "فَعَل" من أصل مهجور، فاؤه همزة، وعینه حاء، ولامه دال بمعنی "أول"، ومنه قیل: الیوم الأحد بمعنی الیوم الأول، وکذلك هو في قوله تعالی: «قُلۡ هُوَ اللّٰه أَحَدٌª أي: الأول (2018م، ص 88). ورجح كثير الباحثين المحدثين المذهب القائل: "أحد" مشتقّ من أصل ثلاثي، فاؤه همزة، وعينه حاء، ولامه دال، وهو أصل ساميّ قديم كان موجودا في العربية الجنوبية واللحيانية والنبطية. أما في العربية الحديثة، فهُجر الاشتقاق من اللفظة تامّا. ولكن اشتقّت منه مفردات، فاؤها واو، ومنها "واحد"، وقد كان "أحد" في الساميات يعني "واحد". أما العربية، فخصّصت لكلّ من اللفظين معنى خاصا، فصارت "أحد" تطلق على ضربين: الأول الجنس؛ والثاني الواحد (المصدر نفسه).
5ـ1. العنایة بالاشتقاق من القضایا التی تناولها الشارح عند تعریف المفردات هي الاشتقاق الذي له قدرة کامنة وحضور واسع في کیان اللغة العربیة. وعند حدیثه عن مشتقات جذر "رحم"، یفصل القول عن الفرق الدلالي للصیغتین "الرحمن، الرحیم"، ویری أن الرحمن (فعلان) صیغة مبالغة؛ أما الرحیم، فهو (فعیل) صفة مشبهة. والفرق بین الصیغتین واضح بیّن المبالغة والثبوت، وإنما تتلازم هاتان الدلالتان في صفة الخالق تعالی لتجمع دعوة المخلوق لخالقه في زمن الدنیا؛ إذ یحتاج فیها إلی دوام رحمة الخالق تعالی بصیغة الرحیم، ودعوة المخلوق لخالقه التي لا تخلو من المبالغة في طلب الرحمة في یوم شدة الاحتیاج إلیها، وهو یوم القیامة؛ لذلك یقال في حقه رحیم الدنیا ورحمن الآخرة (المصدر نفسه، ص 41). وفي شرح قول أمیر المؤمنین (8): «فإن ذلك یطامن إلیك من طماحك»، یتحدث عن اشتقاق لفظة "یطامن"، ویورد أقوال المعجمیین، منهم الراغب الذي ذکر أن الجذر "طمن" بمعنی السکون بعد الانزعاج، ومنه: «وَمَا جَعَلَهُ اللّٰه إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِª (آل عمران 3: 126)، وذکر صاحب اللسان أن طمن غیر مستعمل في الکلام، وإنما اطمأن. وذهب سیبویه إلی أن اطمأن مقلوب طأمن، وقال بعضهم: إنه کاحمارّ ثم هُمز. واستعمال أمیر المؤمنین "یطامن" فیه دلیل قطعي علی أن المجرد هو "طمن" وعلیه بُني "طامن" مزیدا بالألف، ثم اشتق "اطمأن" بزیادة همزة الوصل في أوله والتضعیف في آخره، کما في "اشرأب" من شرأب، و"اشمأز" من شمأز، و"اقشعرّ" من قشعر، وغیر کثیر من الأفعال التی وزنها افعللّ (المصدر نفسه، ص 66). وفي أصل الوزیر والخلاف في اشتقاقه من الوِزر أو الوَزَر، یقول: وزراء: جمع كثرة على فُعلاء ومفرده وزير على فعيل، والوزير في الأصل صفة مشبّهة، وفي اشتقاقه قولان: الأول: إنهّ مشتقّ من الوِزْر وهو الثقل؛ لأنه الذي يحمل عن الوالي أثقاله ويعينه، قال تعالى: «وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِيª (طه 20: 29)، ثم صار اسما لمن يقوم بهذه المهمّة، فهو شخص بعينه، وكان هارون في عهد موسی ثم سمّي بذلك الأشخاص المساعدون للوالي كلّ حسب مهامه. والآخر: إنه مشتق من الوَزَر بمعنى الملجأ، كما في قوله تعالى: «كَلَّا لَا وَزَرَª (القیامة 75: 11) (المصدر نفسه، ص 116). 5ـ2. العنایة بالترادف الترادف لغة هو «ركوب أحد خلف الآخر، یقال: ردف الرجل وأردفه، أي ركب خلفه» (ابن منظور، 1968م، ج 9، ص 114). أما في الاصطلاح، فهو «دلالة عدة كلمات مختلفة ومنفردة على المسمى الواحد دلالة واحدة، نحو الشمول والعقار والراح. فكل هذه الأسماء تدل على الخمر وحدها» (ابن فارس، 1963م، ص 69). إن الشارح لتثبیت القواعد في ذهن القارئ واستلفات انتباهه، یطرح أسئلة؛ مثلا حین یرید أن یبیّن الفرق بین الکلمات المترادفة، یقول: استعمل الإمام لفظة "الجمحات" للتعبیر عن خروج النفس عن حدها الطبیعي، وهي من الجموح، فهل یمکن استبدال لفظة "الطموح" بها لأداء المعنی ذاته؟ (2018م، ص 33)،. ویجیب علی السؤال المطروح في قوله: قد یرد اللفظان بمعنی واحد معجمیا، یقال: جمحت المرأة، فهي جامح طامح بمعنی نشزت، وطمّح الفرس تطمیحا: رفع یدیه. غیر أن مشتقات الجذرین "جمح، طمح" تشترك في معنی الخروج عن الشيء. فإذا کان خروجا عن المألوف، سمّي جماحا، نحو امتناع الفرس عن طاعة فارسها، وهو خروج عن الحالة الطبیعیة؛ أما الطموح، فهو خروج عن مستوی ما إلی أعلی منه، فیستعمل في مجال النفع والإیجاب (المصدر نفسه، ص 34). وردت ألفاظ مترادفة في العهد الشریف، تدلّ على البغض والكره، وهي: الشَّنأَ والحِقد والوِتر. یحاول الشارح تبیین عدم تطابقها من خلال استعمالها جميعا في نصّ واحد، ویقول: الشنأ والشنآن بمعنى البغض الظاهر للعيان يقال: شنَأته شَنْءاً، وشُنْءاً، وشِنْءاً، ومشنأً، وشنآنا، بالتحريك؛ أما الحِقْدُ، فيعني الضِغْن الداخلي، والجمع أَحْقادٌ. وتقول: حَقَدَ عليه يحقد حِقْداً، وحَقِد عليه بالكسر حَقَداً.أما الوتر فيعني النقص ومنه الموتور: الذى قُتل له قتيل فلم يُدرك بدمِهِ، یقال: وتَرَهُ حقَّه، أي نقصه. وقوله تعالى: «وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْª (محمد 47: 35)، أي لن يتنقَّصكم في أعمالكم. وقوله (8): «أطلق عن الناس عقدة كلّ حقد واقطع عنك سبب كلّ وتر»، معناه احلل عقدة الأحقاد من قلوب الناس بالعدل فيهم وحسن السيرة معهم. واقطع السبب في عداء الناس لك بالإحسان اليهم قولا وعملا (المصدر نفسه، ص 127 ـ 128). 5ـ3. العنایة بالمشترك اللفظي المشترك اللفظي عند اللغویین الغربیین عبارة عن اصطلاحین، هما: تعدد المعنی، والاشتراك اللفظي (ابن هاشم الحسیني، 2004م، ص 168). کأن یقال علی سبیل المثال: إن الخال هو أخ للأم، وهو الشامة في الوجه، وهو الأکمة الصغیرة (أنیس، 1980م، ص 214). وحده الأصولیون بـ«أنه اللفظ الواحد الدال علی معنیین المختلفین فأکثر، دلالة علی السواء عند أهل تلك اللغة، واختلفت الناس فیه، فالأکثرون علی أنه ممکن الوقوع» (السیوطي، 1998م، ج 1، ص 292). أول من تحدث عن المشترك اللفظي هو سیبویه؛ إذ يقول: «اتفاق اللفظين والمعنى مختلف قولك: وجدت عليه من الموجدة، ووجدت إذا أردت وجدان الضالة» (1988م، ج 1، ص 24). ویلیه صاحب کتاب المقتضب، حیث یقول: «وأما اتفاق اللفظین واختلاف المعنیین، فقولك: ضربت مثلا وضربت زیدا وضربت في الأرض» (د.ت، ج 1، ص 46). من أمثلة المشترك اللفظي في عهد أمیر المؤمنین (8) لمالك الأشتر لفظة "وجد". وثمة المعاني المختلفة المشتقة من هذا الجذر، حیث تعددت المصادر المسموعة لهذا الفعل. فقيل: إن الفعل "وجد"، إذا دل على الحزن أو الحب بتعديته بالباء، فيقال: وجد به، ومصدره الوِجد بكسر الواو؛ وإذا دل على الغضب، فيقال: وجد عليه، ومصدره موجدة؛ واذا أريد به إيجاد الشيء، فيقال: وجد ضالّته ومصدره الوجود؛ وإذا أريد به الغنى، فيقال: وجد المال أو المطلوب يجده وَجدا وجِدة: استغنى ومصدره الوجدان والجِدة والوُجد بضم الواو، قال تعالى: «أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمª (الطلاق 65: 6)، أي تمکنکم وقدر غناكم. وفي قوله: «وَأفضل عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ»، أمر الإمام (8) الوالي بالإفضال على الجند من جدته، أي: قدر تمكّنه على العطاء، فالمراد الهيئة الحاصلة مماّ يجده متوفّرا عنده، ومصدر الهيئة يأتي على فعِلة، أي: وجدة ثمّ تحذف فاؤه تخلّصا من الثقل الصوتيّ الحاصل من كسر الواو، وكذا في كلّ ما كان واويّ الفاء، نحو هبة وعدة وصلة (ساطم، 2018م، ص 210). ويمكن عدّ لفظة السنّ في قوله (8): «وذوي الرّقّة في السّنّ» من المشترك اللفظي؛ وذلك لأنه يمكن أن يكون المراد بلفظة "السنّ" العمر، فيكون المراد بذوي الرقّة في السن هم الشيوخ الكبار الذين بلغوا في السنّ، غاية يرقّ لهم ويرحم عليهم؛ ويمكن أن يكون المراد بالسن واحد الأسنان، فيكون الكلام مجازا مرسلا علاقته جزئية؛ إذ ذكر السنّ، وأراد الجسد كله (المصدر نفسه، ص 331). 5ـ4. العنایة بالأضداد الأضداد لغة جمع ضد، والضد: كل شيء ضادّ شیئا لیغلبه، والسواد ضد البیاض، والموت ضد الحیاة (ابن منظور، 1968م، ج 3، ص 263). واصطلاحا هي اتفاق اللفظ واختلاف المعنى من جهة الضد، أي أن الاختلاف بینهما اختلاف تضاد لا اختلاف تغایر. «ولیس كل ما خالف الشيء ضدا له، ألا ترى أن القوة والجهل مختلفان، ولیسا ضدین، وإنما ضد القوة الضعف، وضد الجهل العلم. فالاختلاف أعم من التضاد؛ إذ كان كل متضادین مختلفین، ولیس كل مختلفین ضدین (اللغوي، 1963م، ج 1، ص 1). وقال ابن فارس في هذا الصدد: «من سنن العرب في الأسماء أن یسمّوا المتضادین باسم واحد نحو الجون للأسود والجون للأبیض» (1963، ص 117). من اللغویین والأصولیین من لا یفرق بین المشترك اللفظي والأضداد، منهم الشوکانی الذي یذهب إلی هذا المذهب في قوله: «المشترك موجود في هذه اللغة العربیة لا ینكر ذلك إلا مكابر، كالقرء، فإنه مشترك بین الطهر والحیض، مستعمل فیهما من غیر ترجیح، وهو معنى الاشتراك» (1998م، ج 1، ص 90). ومن المحقق أن المشترك أعم من التضاد؛ لأنه یقع علی معنیین ضدین، کما یقع علی معنیین مختلفین غیر ضدین. وردت في هذا الکتاب نماذج غیر قلیلة للأضداد، منها لفظة "وَرَاء" التي اختلفت فيها أقوال المفسرين واللغويين. فأصحاب كتب الأضداد يذهبون إلى أنها من ألفاظ التضادّ، مستدلّين على دلالتها على الخلف بقوله تعالی: «وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِيª (مریم 19: 5)، وعلی الأمام في قوله تعالی: «وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًاª (الکهف 18: 79)، وقوله تعالی: ﴿مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُª (الجاثیة 45: 10)، وقيّد بعض اللغويّين دلالتها على الأمام، فاشترط أن تكون لفظة "الوراء" منساقة في المواقيت والأزمنة، وعليه قوله تعالى: «مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُª، و: «وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌª (إبراهیم 14: 17)، و: «وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَª (المؤمنون 23: 100) (ساطم، 2018م، ص 174 ـ 175). ولذا أخرج بعض المفسّرين هذه اللفظة من باب التضادّ. والمختار عند الشارح في لفظة "وراء" هو أنّ اللفظ ليس من التضادّ؛ لأنّ دلالة الوراء على الخلف تدخل في باب الترادف لا حمل اللفظ على معنى وآخر ضده، فضلا عن أنّ دلالة اللفظة على الأمام لا تستحصل إلا بالتأويل، وليست حاصلة بصورة مستقلّة عن السياق، كما هو حال ألفاظ التضادّ الأخرى. فالمحصّل من مدلول لفظة الوراء إنّما هي من المُواراة والاستتار. فما استتر عنك فهو وراء، خَلْفَكَ كان أو قُدّامَكَ هذا إذا لم تَرَه أو تشاهده؛ فأمّا إذا رأيته، فلا يكون الذي أمامك وراء (المصدر نفسه). من الألفاظ الأخری التي اعتبرها الشارح من الأضداد لفظتا "البيع والشراء" اللتان تدلان على معنيين مختلفين: المبتاع وهو المشتري وابتاعه بمعنى اشتراه، ويبدو أن ما يحصل في عملية البيع وهو تبادل السلعة الذي لا يتم إلا بوجود طرفين: بائع ومشتر، لذا اشترك الطرفان في هذه العمليّة فيقال: باع للبائع والمشتري والمساوم، ويقال: ابتاع، إذا باعه وإذا اشتراه، فصارت هذه الصيغ من الأضداد للّفظة على حين أنّ اسم الفاعل يحدّد الطرف المعطي والآخذ منهما، فيقال: بائع ومشتر (المصدر نفسه، ص 309). 5ـ5. العنایة بالفروق اللغویة إن الفروق في اللغة جمع فرق، والفرق یعني: «الفصل بین شیئین، فرق یفرق فرقا فصل» (ابن منظور، 1968م، ج 10، ص 301). وقال ابن فارس: «الفاء والراء والقاف أصیل صحیح یدل على تمییز وتزییل بین شیئین» (1979م، ج 4، ص 493). أولی علماء العربیة القدامی اهتماما بالغا للفروق اللغویة، من أمثال ابن قتیبة، وابن جنی، وأبي هلال العسکري. يقول ابن عشيرة البحراني: وإن من أوائل الذین ألفوا کتابا مستقلا في الفروق اللغویة والذي وصل أثره إلینا الأدیب اللغوي أبو هلال العسکري (ت 395ﻫ)، وهو أبرز من حذق في هذا الفن؛ إذ حوی کتابه المسمی الفروق اللغویة ما قارب الألف من الفروق اللغویة والفقهیة والکلامیة، ورتبها بشکل موضوعي، ففاق ما أُلّف في هذا المضمار کمّا وکیفا (د.ت، ص 9). ویراد بالفرق هنا في اصطلاح اللغویین هو أن «التفریق بین دلالات الألفاظ المتقاربة، وتمییزها لإظهار أن كلا منها یحمل مغزى معینا وفائدة لیست في غیره؛ وذلك لأن اختلاف مواد هذه الألفاظ وتباین صورها یوجبان اختلاف معانیها، حتی إن كانت بینها علامة معنویة في أصل الوضع، أو كانت من جذر لغوي واحد، فقد ینفرد كل منهما بخصوصیة لیست في غیره» (مشري،1990م، ص 5). إن الحدیث عن الفروق اللغویة شغل حیزا کبیرا في هذا الکتاب، ووقف الشارح على الكثیر من الألفاظ التي تبدو أنها بمعنى واحد، وبیّن ما بینها من الفروق الدقیقة في دلالتها، وهذه الفروق تعود إلی الاختلاف في الألفاظ. من نماذج الاختلاف في الألفاظ لفظتا "لمّا، حین"، حیث یسأل الشارح عن إمکانیة استبدال "لمّا" بـ"حین" في قوله: «ومن کتاب له کتبه للأشتر النخعي ... لما ولاه مصرَ»؟ ثم یجیب قائلا: إن دلالة هاتین الأداتین واحدة غیر أن ثمة فرقا دقیقا بینهما في الاستعمال، فـ"لما" تستعمل لتشمل الزمن المطلق، فهي سواء في الماضي والمستقبل، کما في قوله تعالی: «وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَª (یس 36: 32) (2018م، ص 44 ـ 45). و"الزمن" هو یوم القیامة وقوله تعالی: «فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَª (الأنعام 6: 77)، وما بعد لما یکون سببا لما قبلها. ففي قوله هذا کان تولي الأشتر مصرا سببا لهذا الکتاب. أما "حین"، فتدل علی التوقیت وما قبلها مظروف بما بعدها، أي إن کتابة العهد کان في زمن التولیة. وفي قوله تعالی: «وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَª (النحل 16: 6). تکون الأنعام جمیلة في نظر مالکها في وقت رواحها من المرعی عصرا وفي وقت سروح إلیه صباحا (المصدر نفسه، ص 45).
6ـ1. العنایة بإعراب الجمل لقد اعتنی الشارح بإعراب الجمل ما دام یزید إعرابها المعاني وضوحا، والمقاصد بیانا؛ وذلك نحو قوله في بیان نوع "إلا" في قوله: «لا یسعد أحد إلا باتباعها»، و«فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم اللّٰه»، حیث یقول: إن "إلا" في الجملة الأولی أداة حصر سبقها نفي، والمعنی: السعادة هي اتباع أوامر اللّٰه، وإلا أداة استثناء ملغاة (2018م، ص 42)، نحو قوله تعالی: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُª (آل عمران 3: 144). وفي تعیین نوع "لا" في «فإنه لا یدي لك بنقمته»، یقول: هي لا النافیة للجنس، تعمل عمل "إنّ" و"یدي" اسمها مبني علی ما ینصب به، وهو الیاء؛ لأنه مثنی وخبرها محذوف وجویا، و"لك" جار ومجرور متعلق بالخبر المحذوف، وحذف نون المثنی للبناء؛ لأن نون المثنی بمنزلة التنوین في الاسم المفرد، ولما حذف تنوین المفرد في بعد لا النافیة للجنس، نحو: لا طالبَ في الصف، حذف کذلك نون المثنی ونون الجمع، فیقال: لا طالبي فی الصف بدلا من لا طالبین، إن أرید نفي جنس المثنی کله، ولو ثبت التنوین والنون، لکان النفي للأفراد، وتکون "لا" نافیة وما بعدها مرفوع، والید لفظ محذوف اللام، والأصل: "یدي"، فحذفت الیاء حذفا سماعیا، وأعربت بالحرکات (المصدر نفسه، ص 66 ـ 67). 6ـ2. مناقشة الوجوه الإعرابیة والترجیح بینها مر بنا أن الغرض من الترجیح هو تقویة أحد المحتملات لدلیل یقترن به أو یکون میلا لأحد الآراء أو الأقوال باعتبار الاجتهاد. إن الشارح قد یورد الوجوه الإعرابیة المختلفة، ویرجح من بینها ما یراه صوابا، وینبّه القارئ علی الأصح في إعرابها، مثلا حین یصل إلی قوله (8): «فإنْ أحد منهم بسط يده إلى خيانة»، یذکر عدّة أوجه لتقدير عامل الرفع للفظة "أحد"، ثم یرجح أيسرها تعلُّما. والوجه الأوّل أن يعرب "أحد" فاعلا لفعل محذوف، يفسّره الفعل المذكور بعد "أحد"، أي: فإن بسط أحد منهم يبسط يده. وهذا ما قال به أغلب البصريين في إعرابهم الاسم المرفوع بعد إن وإذا الشرطيتين، كقوله تعالى: «وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُª (التوبة 9: 6)؛ والوجه الثاني أن يكون "أحد" فاعلا متقدما للفعل المذكور بعده وهو رأي الكوفيين. ويمكن أن يعرب "أحد" مبتدأ، والفعل بعده خبره، وهذا هو مذهب الأخفش. ويمكن أن نرجّح الوجه الثاني لما فيه من تيسير في الإعراب الموافق للمعنى. فالاسم المرفوع بعد أداة الشرط هو الفاعل الحقيقي سواء تقدّم عليها أم تأخّر عنها، وهذا الإعراب يحافظ على ظاهر النص، دون القول بالحذف أو احتمال الابتداء والخبر، مع أن السياق يستعمل أسلوب الشرط الذي هو سياق زمني أظهر ما يتضح في الجملة الفعلية التي منع البصريون تقدم الفاعل على فعله في سياقها، مع أنه في المعنى هو هو، سواء تقدّم أم تأخّر، وينبغي أن يراعى في النحو المعنى لا التركيب اللفظي (2018م، ص 251 ـ 252). وفي إعراب "عهدا" في قوله: «وكلّ قد سمّى اللّٰه له سهمه ووضع على حدّه فريضة في كتابه أو سنّة نبيّه عهدا منه عندنا محفوظا»، یذکر أكثر من وجه إعرابيّ واحد، حیث يمكن أن يعرب تمييزا منصوبا لرفع الابهام في تسمية السهم أو يعرب حالا من المفعول به فريضة؛ والأولى أن يكون منصوبا على الإغراء، أي الزموا عهدا من اللّٰه تعالى (المصدر نفسه، ص 169).
الدلالة وكما أسماها بعضهم السیمانتیك، لغة هي مصدر دلّ یدلُّ دَلالة ودِلالة ویقال فیها: دُلُولة. ومن معاني الفعل (دلّ) أنَّه بمعنى هدى وأرشد. فالدليل: كما إن الاسم "الدِّلالة" و"الدَّلالة" بالکسر والفتح (ابن منظور، 1968م، ج 4، ص 531). والدلالة اصطلاحا هي كون الشيء بحالة یلزم من العلم به العلم بشيء آخر، والشيء الأول هو الدال، والثاني هو المدلول (الجرجاني، 1978م، ص 109). لقد تناول الشارح في کتابه طائفة من المباحث الدلالیة، وهي أقسام الدلالة، والتطور الدلالي من تخصیص العام، ورقي الدلالة، وتغیر الدلالة. ونعرض فیما یأتي لجملة من الألفاظ التي وقف الشارح علی تطورها الدلالي. 7ـ1. تخصیص الدلالة ویقصد به تضییق مجال معنى الكلمة بعد توسع وتحویله من المعنی الکلي العام إلی المعنی الجزئي الخاص. وقد أفرد السیوطي لهذا الضرب من التطور فصلا سماه «في العام المخصوص، وهو ما وضع في الأصل عاما ثم خص في الاستعمال ببعض أفراده» (1998، ج 1، ص 471)، وضرب له أمثلة، منها "السبت". فإنه في اللغة الدهر، ثم خص في الاستعمال لغة بأحد أیام الأسبوع، وهو فرد من أفراد الدهر (المصدر نفسه). من أمثلة تخصیص الدلالة الذي نبّه الشارح علیه لفظة الخراج من أخرج یخرج إخراجا، وهي في الأصل تدل علی کل ما یخرج بمقدار معلوم محدد، قال تعالی: «أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَª (المؤمنون 23: 72). والخرج هو اسم أیضا من أخرج إلا أنه یکون مقابل عمل، أي هو الأجر علی عمل شيء وهو غیر معیّن بالمال، ولا بالمقدار، کما في قوله تعالی: «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّاª (الکهف 18: 94). فهم أرادوا أن یدفعوا أجرا؛ لکنه غیر معین نوعه؛ لذا سموه خرجا. أما الخراج، فهو محدد ممن یخرجه مقدارا لا نوعا؛ لذا قال: (خراج ربك خیر)، لا یعلم نوعه؛ ولکنه سبحانه یقدّره بمشیئته، ثم تطور الخراج لیصیر دالا علی المقدار المعلوم نوعا، فضلا عن کونه معلوما مقدرا، وهو الضریبة التي تضرب علی الأراضي الزراعیة، وقیل أنها خصّت بعد هذا التخصیص أیضا بما یفرض علی أهل الذمة من مال علی أراضیهم. فاللفظ طرأ علیه تخصیص بعد عموم (2018م، ص 45 ـ 46). وفي معرض حدیثه عن التطور الدلالي الحاصل للفظة "غرب" في کلام أمیر المؤمنین (8): «یکف عنك من غربك»، حاول توضیحها عن طریق متابعة التأصیل المعجمي للفظة، ورأی أن هذه اللفظة تدل علی الخفاء، وأصل اطلاقها من الغارب، وهو عنق البعیر الذي یلي السنام العالي، سمّي بذلك لانخفاضه وخفائه بین سنام البعیر ورأسه. وأطلق الغرب علی الدلو العظیمة لکثرة ما تخفیه فیها من المیاه، ویطلق الغرب علی حد السیف؛ لأنه یختفي في المقتول، ثم تطورت الدلالة نحو المعنویات المجردة، فسمّي ما یقابل الظهور "غرب"، وهو الجهة التي تقابل الشرق، وبملحظ الخفاء في جهة الغرب اشتق لکل عجیبة صیغة من هذا المعنی. فالغربة لما فیها من أمور خفیة تنتظر المبتعد عن وطنه، وکذا الغراب؛ لأنه صوته یؤذن بالاغتراب، والترحال علی وفق ما شاء في العرف العربي، وکذا أطلق الغرب علی الحدة في الطبع؛ لأن الغاضب یخرج قلیلا من کثیر یخفیه في نفسه، وهذا یعني حصول تخصیص دلالي للفظة (المصدر نفسه، ص 75 ـ 76). 7ـ2. رقيّ الدلالة نقصد من رقيّ الدلالة أو التغییر المتسامي ذلك التغییر الذي «تسمو فیه دلالة کلمات کانت تشیر إلی معان هینة أو وضیعة ثم صارت تدل علی معان أرفع أو أقوی أو أشرف» (السعران، د.ت، ص 282). إن التطور الدلالي الحاصل للفظة "العذر" الواردة في قوله (8): «فإنّك لا تعذر بتضييع التّافه لإحكامك الكثير المهم»، یکون من نوع رقيّ الدلالة؛ لأن الأصل هو من العذرة، وهو الشيء النجس، يقال: عُذّر الصبيّ، إذا طُهّر وأُزيلت عذرته، ثمّ انتقلت من إزالة العذرة إلى إزالة الذنب، فقيل: عذّرت فلانا: أزلت نجاسة ذنبه بالعفو عنه، كقولك غفرت له، أي: سترت ذنبه، وعذّر يفيد كثرة ترديد العذر، ويكون لغير المحقّ في عذره. قال تعالى: «وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَª (التوبة 9: 90). أمّا المحقّ في العذر، فهو المعتذر، واعتذر يفيد الإتيان بالعذر أيضا؛ ولكن على سبيل المبالغة (ساطم، 2018م، ص 333). فالتطور الدلالي للفظة العذر من نوع رقيّ الدلالة بعد أن كانت هابطة. وفي معرض حدیثه عن تطوّر دلالة لفظة الصلاة، یری أن الأصل في هذه اللفظة من الصلا، وهو وسط الظّهر من الإنسان والدواب، يقال: صلّی الفرس في السّباق: جاء مصلّيا، وهو الثاني في السباق، أي الذي يتلو السابق؛ لأن رأسه عند صلوي السابق، أي مغرز ذنبه، وتحريك الصّلوين، وهما العظمان الناتئان أسفل الظهر كان من الكفّار لتعظيم أصنامهم، ثم انتقل هذا اللفظ من المعنى المادي في تحريك الظهر إلى المجرّد، وهو الدعاء أثناء عبادة الأصنام وطلب الحوائج منها. ثمّ ارتقى هذا المعنى في زمن البعثة النبوية من الدعاء بالباطل إلى الدعاء الحق، وهو الدعاء من اللّٰه تعالى؛ لأنّه الخالق وهو المعبود بحق (المصدر نفسه، ص 355 ـ 356). 7ـ3. انتقال مجری الدلالة یتفق اللغویون علی أن نشأة دلالة الألفاظ تبدأ بالمحسوسات، ثم تتطور إلی الحقول المعنویة، وذلك بحسب تطور العقل الإنساني ونموه. فكلما ارتقى هذا الإنسان حضاريا وفكريا، أقبل على استخراج الدلالات المجردة وتولیدها، ثم الارتكاز عليها في الاستعمال والتواصل. وهذا الانتقال من المجال المحسوس إلى المجال المجرد يتم عادة في صورة تدريجية، حیث تظل الدلالتان سائرتین جنبا إلى جنب زمنا طويلا (شتیح، 2014م، ص 172). من نماذج هذا النوع من التطور الدلالي هي لفظة "البطر" في قوله (8): «ولا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك»، ویعالجها الشارح، یذکر أصلها من الشّقّ، بطر بطنه: شقّه، والبيطار هو معالج الدّواب بشقّ بطنها، البيطر: المشقوق، وهو أصل مادي، ثمّ انتقلت الدلالة من المجال المادي إلى المجال المعنوي، فصار يعبّ به عن تجاوز الحدّ في المرح. وبطر النعمة كأنّه انشقّ عن الوجه المحمود للنعمة، فلم يتحمّلها (2018م، ص 292 ـ 293). ثم نبّه الشارح القارئ بلفظة الفراسة في قوله (8): «ثمّ لا يكن اختيارك إيّاهم على فراستك واستنامتك وحسن الظّنّ منك»، وقال إن أصل اللفظة من الفَرس، وهو وطْءُ الشيءِ الشيءَ بالأرجل ودَقّه، ثمّ انتقلت من المجال المادي إلى المجال المجرّد، فصارت تدلّ على إصابة النظر في الأمر والمسألة، كأنّه وطأها ووقف على علّتها (المصدر نفسه، ص 293). واعتبر تطور لفظة الإصدار في قوله (8): «وإصدار جواباتها على الصواب عنك»، من مقولة الانتقال، حیث إن لفظة الإصدار أصلها من صرف الرعاء لدوابّهم عن الماء بعد إيرادهم ايّاه، أصدر الرعاء دوابّهم: سقوها وصرفوها عن الماء، والمجرد صدر عن الماء: «لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُª (القصص 28: 23)، ثم انتقلت الدلالة من المجال المادي إلى المعنوي، فقيل: أصدر الأمر: إذا أنفذه وأذاعه (المصدر نفسه، ص 293). واللفظة الأخری التي تحدث عن تطورها الدلالي هي مفردة "الصواب" التي أصلها نزول المطر واستقراره، والنازل صوب، قال تعالى: «أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِª (البقرة 2: 19)، وأصابهم: إذا وصل إلى المرمى، ثمّ انتقلت الدلالة للمجرّد، فصار الصواب في القول أو الفعل، كأنّه أمر نازل مستقرّ قراره، وهو خلاف الخطأ (المصدر نفسه، ص 294).
الخاتمة إن أهم ما رشح عن البحث من النتائج، یمکن إیجازها علی النحو التالي: ـ إن الشارح قد عرض طائفة وفیرة من المباحث اللغویة لعهد أمیر المؤمنین علي بن أبي طالب (8) إلی مالك الأشتر، تتمثل في المستویات المختلفة الصوتیة، والصرفیة، والنحویة، والمعجمیة، والدلالیة، وحاول بفضل هذا الشرح تثبيت القواعد اللغویة في أذهان المتعلّمين، وکأنه یرید منهم أن یقتفوا هذه الخطوات، إذا أرادوا استیعاب ما في کلام الإمام (8) من الخفایا اللغویة والأدبیة. ـ إن هذا الكتاب نافع لكل من یروم الدرس اللغوي للعهد الشریف، صوتا وصرفا ومفردة وترکیبا ودلالة؛ ومرجع ذلك هو أن الشارح درس مفاصل النص وسماته اللغویة دراسة فضفاضة، حیث یواجه القارئ في هذا الکتاب المفيد نفعا لغویا جما وحشدا دلاليا مکتنزا، یدل علی أن أمیر المؤمنین (8) الذي ارتوی من نمیر القرآن الکریم ومعین خطاب النبوّة، وارتشف من عذب نقاوة العربیة، وأفرغ معظم مفرداته من محتواها الدلالي المعجمي، لیشحنها بمحتوی متفرد جدید، یؤدي وظائف، قد تنوعت بتنوع أنساق الکلام. ـ المحاور الأساسیة التي یدور علیها منهج الکتاب في شرح العهد الشریف، تشمل تقسیم نص العهد الشریف إلی عشرین مقطعا، ثم یعقب کل مقطع بکلمة المعنی العام، وبعد ذلك یتناول سماته اللغویة في خمسة مستویات بدءا بأصغر وحدة في التحلیل اللغوي، وهو المستوی الصوتي، وامتدادا إلی المستوی الصرفي، والنحوي، والمعجمي، وانتهاء بالمستوی الدلالي بأسلوب یغلب علیه السؤال والجواب، لإثارة أذهان الطلبة في توظیف علوم العربیة. ـ الأسلوب المتبع في الشرح هو التفصیل والوضوح وتجنب التکرار وتسلسل العمل، مع ذكر آراء النحاة واللغویین القدامی والأصواتیین المحدثین ومناقشة الوجوه الصوتیة والصرفیة والنحویة المختلفة والترجیح بینها. والشارح في کل هذه الخطوات یحاول تدعیم مباحثه بأمثلة وشواهد قرآنیة، تمکن الطالب من استیعاب أهم الخطوات الواجب اتباعها لفهم النص. ـ من أهم المآخذ علی منهج الکتاب هو أنه لم یوثق المعلومات والأفکار الواردة في المتن، واکتفی بالإشارة إلی بعض مصادره في المقدمة، ولم یقدم فهرس الآیات القرآنیة، وفهرس الأعلام، والأشعار والمواضع والبلدان والمصادر والمراجع وغیرها، ونحن نعرف أن وضع الفهارس في الکتب العلمیة ضرورة تسهل الولوج إلی مادته الغنیة، والکتاب المجرد من الفهارس تقل فائدته وتصعب قراءته، کما أنه لم یسخر حیزا للتعالیق والشروح اللازمة في مساحة الهامش. ـ من خصائصه المنهجیة التي تعد من إیجابیات الکتاب هو الحفاظ علی وحدة الموضوع، حیث لا یقفز من فکرة إلی أخری، وكذلك تقسیم العهد الشریف إلی مقاطع مختلفة ومتنوعة، واقتباس آیات قرآنیة، تعزز حدیثه عن الموضوع وتخدم أهدافه العلمیة. | ||
مراجع | ||
المصادر والمراجع * القرآن الكريم. إبراهیم، کمال. (1957م). عمدة الصرف. بغداد: مطبعة الزهراء. ابن جني، أبو الفتح عثمان بن عبد اللّٰه. (د.ت). الخصائص. تحقیق محمد علي النجار. بیروت: دار الکتاب العربي. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ . (1954م). سر صناعة الإعراب. القاهرة: مطبعة مصطفی البابي الحلبي وأولاده. ابن سیدة، علي بن إسماعیل. (د.ت). المخصص. بیروت: المکتبة التجاریة للطباعة والتوزیع والنشر. ابن عشیرة البحرانی، الشیخ یحیی بن الحسین. (د.ت). بهجة الخاطر ونزهة الناظر في الفروق اللغویة والاصطلاحیة. تحقیق السید أمیر رضا عسکري زاده. بیروت: مؤسسة التاریخ العربي. ابن عقیل، بهاء الدین عبد اللّٰه. (1965م). شرح ابن عقیل علی ألفیة ابن مالك. النجف الأشرف: مطبعة النعمان. ابن فارس، أبو الحسین أحمد. (1963م). الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في کلامها. تحقیق مصطفی الشویمي. بیروت: مؤسسة بدران. ــــــــــــــــــــــــــــــ . (1979م). مقاییس اللغة. تحقیق عبد السلام محمد هارون. بیروت: دار الفکر. ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مکرم. (1968م). لسان العرب. بیروت: دار صادر. ابن هاشم الحسیني، راشد بن حمد. (2004م). البنی الأسلوبیة في النص الشعري. لندن: دار الحکمة. ابن یعیش، أبو البقاء موفق الدین. (د.ت). شرح المفصل. بیروت: عالم الکتاب. أبو مغلي، سمیح. (2010م). علم الصرف. عمان: دار البدایة. أنیس، إبراهیم. (1979م). الأصوات اللغویة. القاهرة: مکتبة الأنجلو المصریة. ــــــــــــــ . (1980م). دلالة الألفاظ. القاهرة: مکتبة الأنجلو المصریة. باي، ماریو. (1973م). أسس علم اللغة. ترجمة أحمد مختار عمر. طرابلس: جامعة طرابلس. برکة، بسّام. (1988م). علم الأصوات العام. بیروت: مرکز الإنماء القومي. جاسم، سعد صباح. (2012م). المباحث اللغویة في منهاج البراعة في شرح نهجالبلاغة لقطب الدین الراوندي. رسالة الماجستیر. كلية الآداب. الجامعة المستنصریة. جبل، محمد حسن. (2006م). المختصر في أصوات اللغة العربیة. القاهرة: مکتبة الآداب. الجرجاني، علي بن محمد الشریف. (1978م). التعریفات. بیروت: مکتبة لبنان. الجوهري، أبو نصر إسماعیل بن حماد. (د.ت). الصحاح. تحقیق أحمد عبد الغفور العطار. القاهرة: دار الکتاب العربي. الحربي، حسین بن علي. (1996م). قواعد الترجیح عند المفسرین. الریاض: دار القاسم. حسان، تمام. (1955م). مناهج البحث في اللغة. القاهرة: مکتبة الأنجلو المصریة. خضیر الخرساني، وصال عبد الواحد. (2011م). المباحث الدلالیة في شرح نهج البلاغة للشیخ کمال الدین میثم البحراني. العراق: جامعة الکوفة. رضي الدین الأستراباذي، محمد بن الحسن. (1982م). شرح شافیة ابن الحاجب. بیروت: دار الکتب العلمیة. ساطم، کاطع جار اللّٰه. (2018م). التحلیل اللغوي لنهج البلاغة؛ منهج مادة الکتاب القدیم في أقسام اللغة العربیة. کربلاء المقدسة: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسینیة المقدسة. السعران، محمود. (د.ت). علم اللغة، بیروت: دار النهضة العربیة. سیبویة، أبو بشر عمر بن عثمان. (1988م). الکتاب. تحقیق عبد السلام محمد هارون. القاهرة: مکتبة الخانجي. السیوطي، جلال الدین عبد الرحمن بن أبي بكر. (1998م). المزهر في علوم اللغة وأنواعها. تحقیق فؤاد علي منصور. بیروت: دار الکتب العلمیة. شتیح، ابن یوسف. (2014م). معالم المنهج اللغوي في شرح الحدیث النبوي عند الإمام العیني. أطروحة الدکتوراه. قسم اللغة العربیة وآدابها، جامعة قاصدي مرباح ورقلة. شغیدل، مصطفی کاظم. (2008). المباحث اللغویة في منهاجالبراعة في شرح نهج البلاغة لحبیب اللّٰه الخوئي. أطروحة الدکتوراه. قسم اللغة العربیة وآدابها. جامعة بغداد. الشوکاني، محمد بن علي. (1998م). إرشاد الفحول إلی تحقیق الحق من علم الأصول. تحقیق شعبان محمد إسماعیل. القاهرة: دار السلام. الصالح، صبحي. (1973م). دراسات في فقه اللغة. بیروت: دار العلم للملایین. العطیة، أحمد مطر. (2008م). «حروف الجر بین النیابة والتضمین». مجلة التراث العربي. ع 112. س 28. العطیة، خلیل ابراهیم. (1982م). في البحث الصوتي عند العرب. بغداد: دار الجاحظ للنشر. اللغوي، أبو الطیب عبدالواحد بن علي. (1963م). الأضداد في کلام العرب. تحقیق عزة حسن. دمشق: المجمع العلمي العربي. المبرد، محمد بن یزید. (د.ت). المقتضب. تحقیق محمد عبد الخالق عضیمة. بیروت: عالم الکتب. مشري، علي کاظم. (1990م). الفروق اللغویة في العربیة. أطروحة الدکتوراه. قسم اللغة العربیة وآدابها. جامعة بغداد. مظلوم البدیري، رملة خضیر. (2009م). رسائل الإمام علي (ع) في نهج البلاغة: دراسة لغویة. رسالة الماجستیر. جامعة الکوفة. هویدي الفتلاوي، هادي عبد علي. (2002م). المباحث اللغوية في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحدید. أطروحة الدکتوراه. كلية الآداب. جامعة الکوفة. | ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 91 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 58 |