تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,675 |
تعداد مقالات | 13,678 |
تعداد مشاهده مقاله | 31,692,641 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 12,521,198 |
تغليب المذكر على المؤنث نحوياً والواقع اللغوي | ||
بحوث في اللغة العربية | ||
مقاله 7، دوره 16، شماره 31، دی 2024، صفحه 87-100 اصل مقاله (1.01 M) | ||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | ||
شناسه دیجیتال (DOI): 10.22108/rall.2024.140791.1507 | ||
نویسنده | ||
شاکر عامري* | ||
أستاذ مشارك في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة سمنان، سمنان، إيران | ||
چکیده | ||
التغليب ظاهرة لغوية متميّزة، تلجأ إليها اللغة بعض الأحيان لاعتبارات متعددة، لا تخرج عن إطار اللغة، أي لا تحمل قيما غير لغوية، بل تجري ضوابطها حسب القوانين اللغوية. والتغليب المقصود هو تغليب المذكر على المؤنث أو التغليب النحوي الذي يُذيب المؤنث في المذكر، ويخفيه، حيث لا يُرى منه شيء. ومنهج البحث هو المنهج الوصفي. أما هدف البحث، فهو إثبات أنّ مسألة تغليب المذكر على المؤنث غير موجودة في الخطاب النحوي العربي، ولا تعدو أن تكون من اختراع النحاة الذين تأثّروا بمؤثّرات من خارج اللغة، غافلين عن الصيغة العامة التي يشترك فيها المذكر والمؤنث ولا رجحان لأحدهما على الآخر. ولتحقيق هذا الهدف، تناول البحث بعض العناوين بالدراسة، من قبيل: النحو العربي بين الوصفية والمعيارية، والصيغة العامة، والنظرة الدونية للمرأة بما في ذلك وأد البنات، وقيمومة الرجل على المرأة، والخطاب القرآني. وقد خرج البحث بنتائج، أهمها: أنّ التغليب النحوي غير موجود في العربية، بل الموجود هو صيغة عامة يندمج فيها المذكر والمؤنث، وأنّ أهمّ أسباب التغليب هو الاختصار أو التسهيل أو ما يسمّى بقانون السهولة واليسر الذي نراه متفشّيا في كثير من الظواهر اللغوية. وهناك حاجة ملحة لتمحيص الدرس النحوي وتنقيته، مما علق به من علوم غير لغوية وتغيير نظرة النحو العربي من المعيارية إلى الوصفية. | ||
کلیدواژهها | ||
المذكر؛ المؤنث؛ التغليب؛ الخطاب اللغوي؛ الخطاب القرآني | ||
اصل مقاله | ||
لا شك أنّ التغليب واقع يعيشه الإنسان في حياته، كما لا شكّ أنّ مسألة التذكير والتأنيث في العربية ترتبط ارتباطا وثيقا بمسألة مهمة كانت ولا تزال تثير جدلا كبيرا في الأوساط اللغوية قديما وحديثا، ألا وهي مسألة تغليب المذكر على المؤنث عند اجتماعهما؛ لذلك سوف نعرّج عليها وعلى الآراء المطروحة في هذا المجال. والأمر الذي يهمنا هنا هو التغليب النحوي، دون غيره من أنواع التغليب؛ إذ ليس هدفنا هو استقصاء كافة أنواع التغليب، والتي يمكن العثور عليها في مظانها ولا تفيد بحثنا كثيرا، بل سنحاول التركيز على التغليب النحوي، لنصل إلى الهدف الأصلي من بحث التغليب، وهو مناقشة تغليب المذكر على المؤنث نحويا لنناقش مسوغاته اللغوية في العربية، إن كانت له مسوّغات، كما ادّعى ذلك أنصاره ودعاته. ولقد هالني، وأنا أطالع بعض المقالات الحديثة الصدور، ما رأيته من السذاجة في النظر لمسألة تغليب المذكر على المؤنث، وأخذ المسألة أخذ المسلمات، وتوجيه مختلف التهم للغة العربية؛ وأفظع تلك التهم اتهامها بالقصور، وهي اللغة التي شرفها اللّٰه باختيارها وعاء لمعجزته الخالدة القرآن الكريم، يتهمون اللغة، ولا يتهمون أفهامهم وعجزهم عن تفسير الظواهر اللغوية. فإن هدف البحث هو إثبات أنّ مسألة تغليب المذكر على المؤنث نحويا عند اجتماعهما غير موجودة في الخطاب النحوي العربي، بل الموجود هو صيغة عامة يشترك فيها المذكر والمؤنث، ولا رجحان فيها لأحدهما على الآخر. وهذا لا يعني أنّ هذا البحث يرفض التغليب كلّه، بل التغليب من ضرورات الخطاب اللغوي العربي، بل المرفوض هو التغليب النحوي الذي يعتبر استعمال صيغ لغوية (فعلية واسمية)، تناسب المذكر عند اجتماع المذكر والمؤنث تغليبا للمذكر. وقد طرح البحث بعض الأسئلة، وصولا لذاك الهدف، منها: ـ ما أهمّ أسباب التغليب النحوي؟ ـ ما السبيل لتمحيص الدرس النحوي، وتنقيته مما علق به من علوم غير لغوية؟ ـ لماذا علينا تغيير النظرة من المعيارية إلى الوصفية؟ وتأتي أهمية البحث وضرورته من كونه محاولة لتصحيح النظرة للتغليب، وتغيير المعنى الذي طالما رافق التغليب النحوي، وهو علوّ منزلة الذكر بالنسبة للأنثى أو المذكّر بالنسبة للمؤنث، لمن شاء أن يفرّق بين التعبيرين. منهج البحث هو المنهج الوصفي الذي يستقي المعلومات من مصادرها، ليقوم بتصنيفها تمهيدا لتحليلها. والواقع أنّ بحث التغليب في اللغة العربية لم يبقَ لغويا، كما هو واقعه، بل حاول أنصاره إشراك العلوم الأخرى، كالفقه، والتفسير، والمنطق، والتاريخ، وغيرها، مما هو خارج اللغة. لذلك ارتأينا أن نتطرق لواقع اللغة العربية أولا، ثمّ نعرّج على بعض العلوم والمقولات التي استعان بها أنصار التغليب، ليجمعوا البراهين والأدلة على صحة ما ذهبوا إليه. 1ـ1. خلفية البحث لقد كثرت النصوص التي تناولت مسألة التغليب في العربية. فأقول النصوص، ولا أقول البحوث رغم وجودها؛ وذلك بسبب أنّ أكثر البحوث كانت عرضا لما في الكتب، ولم تطرح شيئا جديدا، إلاّ بعضها التي طرحت بعض الاعتراضات. فردّا على مقولة أنّ المذكّر هو الأصل، وضعت نوال السعداوي كتابها الأنثى هي الأصل. وتعتبر زليخة أبو ريشة في كتابها اللغة الغائبة: نحو لغة غير جنوسيّة، اللغة العربية متحيّزة ضد المرأة، عندما ساوت بين المرأة العاقلة والحيوان غير العاقل في جمع المؤنث (نصر، 2022م، ص 4). ويُرجع نصر حامد أبو زيد في كتابه دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة، جذور العنصرية التي تواجهها المرأة في مجتمعاتنا العربيّة إلى بنية اللغة العربية (المصدر نفسه، ص 2)، وما إلى ذلك من الاعتراضات والاتهامات الموجّهة للغة، أو طرحت بعض زوايا النظر الجديدة تأييدا وتثبيتا لقاعدة التغليب. وسوف نعرض لبعضها أدناه: بحث بعنوان النظام الأبوي في النحو العربي، لريبوت نور الهدى (2021م). أبان فيه الباحث وجهة نظره في البداية بادّعائه اتفاق الباحثين أنّ «التفكير النحوي عند العرب يقوم على ثلاثة مبادئ، هي: السماع والقياس والعامل». وهذا الوصف للتفكير يبيّن أنّه بدأ وصفيا بالسماع، ثم صار معياريا بالقياس والعامل، كما طرح فيه بعض الآراء العنيفة والصريحة، ومنها أنّ «الذكورة أشرف من الأنوثة»، معتبرا اللغة العربية جزءا من الدين، وأنّ «تغليب المذكر ليس ظاهرة لغوية فحسب، وإنما سنة ربانية تسير عليها الحياة في كثير من مظاهرها الحسية أو المعنوية»، مستندا على فهم خاطئ للآيتين الكريمتين: «الرِّجَالُ قَوَّامُوْنَ عَلَى النِّسَاءِª (النساء 4: 34)، و«ولِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌª (البقرة 2: 228)، مستنتجا بقوله: «ومن هذا الواقع، كان النظام الذكوري مبدأً في الإسلام». وقد اعتبر كلمة "الغابرين" في قوله تعالى: «فَأَنْجَيْنَاه وَأَهْلَه إِلاَّ امْرَأَتَه كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِيْنَª (الأعراف 7: 83)، عدولا وانزياحا، فقال: «والأصل في الكلمة ... من الغابرات؛ لكن عُدل عن جمعِ المؤنث إلى جمعِ المذكر السالم؛ فعُدت الأنثى في المذكر بحكم التغليب». وأجملَ بحثه بقوله: «وخلاصة القول أنّ القاعدة "الذكورة أشرف من الأنوثة" التي تدل على التغليب، متعلقة بالمعتقدات»، مفترضاً، بذلك، أنّ الدين أسبق من اللغة. بحث بعنوان تحيّز اللغة العربية ضدّ المرأة لدورين نصر (2022م). استعرضت فيه مظاهر تغليب المذكر على المؤنث كجمع المذكّر السالم، وقول ابن جني «التذكير هو الأصل»، لتصل إلى أنّ المذكّر هو الأصل في اللغة العربية، وهو المهيمن، معتبرةً أنّ ذلك من طبيعة اللغة، وأنّ الإنسان أسير لغته، لا يستطيع رؤية العالم إلا من خلالها، وهو ما تؤيده النظريّات اللسانية التي تقول بالحتمية اللغوية، وختمت بحثها بأن تغليب المذكّر على المؤنّث مصدره الرئيس أنّ واضعي اللغة وقواعدها على مر التّاريخ هم الذكور، ودعت إلى تغيير تلك النظرة من أجل إنصاف المرأة، تماشياً مع التغيرات الاجتماعية الحديثة. ومقالة تغليب المذكّر على المؤنث في الخطاب القرآني، لمحمد أبو زيد (2010م). دافع فيه الباحث عن التغليب في القرآن الكريم واستعرض آيات تغليب المذكر على المؤنث، معتبرا أنّ تمييز الرجل على المرأة شبهة، وأنّ ذلك التمييز هو في صالحها. وهكذا، نرى أنّ القوم لم يفهموا طبيعة العربية التي اختارها خالق الذكر والأنثى بحكمته. فلو كانت العربية متحيزة، لما اختارها العادل الحكيم، ونراهم قد دخلوا في معارك لا طائل تحتها، وذهبوا مذاهب شتّى، وذلك أنّهم لم يستطيعوا التمييز بين الصيغة العامة التي يشترك فيها المذكر والمؤنث، ولا رجحان لأحدهما على الآخر وصيغة المذكّر. فلو أنّهم فعلوا، لآمنوا بانتفاء التغليب، الأمر الذي يسعى هذا البحث لإثباته بعون اللّٰه.
بدأت دراسة اللغة العربية وصفية يحكمها مبدأ الملاحظة والاستقراء، ليتم استنباط القواعد عند توفر أمثلة وشواهد، تشهد بصحة ما ذهب إليه النحوي اللغوي. وليس من حق النحوي أن يقسر اللغة على قاعدة وضعها هو أو من كان قبله من النحاة. فاللغة «موضوع من موضوعات الوصف، كالتشريح، لا مجموعة من القواعد كالقانون. إن الباحث في تشريح الجسم الإنساني لا يُتوقع منه أن يعبّر عن أفكاره بقوله، يجب أن تكون العضلة الفلانية بهذا الوضع، أو يجب أن يكون العظم الفلاني بهذا الحجم أو الصورة، وإنّ الباحث في تشريح اللغة؛ والمقصود هنا تحليلها تحليلا دراسيا، لا ينبغي أن يعبر عن موقفه من موضوعه بالنص على ما يجوز وما لا يجوز» (حسّان، 2001م، ص 24). ولقد كان النحويون «يسعون وراء الشعر الذي يمكّنهم من استكمال استقرائهم لكلام العرب الذي يشهد لقاعدة معينة أو يشذ عن هذه. ولقد تم تقعيد القواعد النحوية والصرفية في اللغة العربية في عصر بدأ بأبي الأسود الدؤلي ثم سيبويه» (المصدر نفسه، ص12). وقد كانت بدايات النحو العربي بدايات صحيحة، حيث «كان النحو عند نشأته علميا وتعليميا في الوقت نفسه. فقد كان علميا؛ لأنه كان تدوينا ـ لأول مرة في التاريخ ـ لأصول العربية، ولأن الذين وضعوه، قاموا باستقراء النص القرآني لاستنباط هذه الأصول بالموضوعية اللازمة. وبدئ بتعليم هذه الأصول بمجرد ما تم إثباتها بهذه الكيفية، ثم احتاج الباحث فيه أن يبرر ما يجيزه من الكلام، فاضطر أن يأتي بأدلة علمية من قبيل التفسير العلمي. وظهر ذلك في زمان عبد اللّٰه ابن أبي إسحاق، حتى بلغ الغاية في كتاب سيبويه؛ وما جاء في هذا الكتاب، يدل على وجود نشاط علمي سابق واسع وعميق استمر ثمانين سنة، بعد انتهاء الفترة الأولى، وهي فترة تأسيس النحو» (الحاج صالح، 2012م، ص 13 ـ 14). إنّ المنهج الوصفي في النحو يقرّر أنّ النحو هو وصف للظواهر اللغوية وليس تقنينا لها، ويقوم الوصف على الملاحظة «وسبيل الملاحظة الاستقراء. ولقد حل الاستقراء في البحث العلمي محل القياس منذ قرون، وكان القياس من قبل يسيطر على المفردات، ويدمغ بعضها بالشذوذ إذا لم يرضخ لمقتضيات الانضواء تحت معاييره القياسية الجامدة» (حسّان، 2001م، 154). إنّ مفهوم خروج التأنيث من التذكير، وبالتالي تغليب المذكر على المؤنث في اللغة، أُخذ من كلام سيبويه: «واعلم أنّ المذكّر أخفّ عليهم من المؤنّث؛ لأنّ المذكّر أوّل، وهو أشدّ تمكّنا، وإنّما يخرج التأنيث من التذكير؛ ألا ترى أنّ الشيء يقع على كلّ ما أُخبر عنه من قبل أن يُعلم أذكر هو أو أُنثى والشيء مذكّر» (١٩٩٠م، ج 1، ص 14). ولا بأس أن نتوقف قليلا عند كلام سيبويه الذي اكتسب أهمية قصوى في علم النحو وعلم التفسير، فنقول: الظاهر أنّ سيبويه كان مركّزا على لفظ المذكر، حين حكم بخفته وتمكّنه، أي عدم منعه من الصرف، وأنّ عدد حروفه أقل من المؤنث الذي يزيد عليه بعلامة للتأنيث. فكلمة "عربي" أخف من "عربية"، وكلمة "حامد" متمكنة منصرفة، بينما كلمة "فاطمة" ممنوعة من الصرف، وحروف كلمة "حميد" أقلّ من عدد حروف كلمة "حميدة"؛ لكنّنا يجب ألا نأخذ كلام سيبويه على عواهنه، فنحاول تطبيقه على المذكر والمؤنث كيفما اتفق، بل يجب أن نقوم بتحليله لتتضح خيوطه الأصلية. فقد جرى الخلط بين ثلاثة أقسام من المؤنث، هي الحقيقي واللفظي والمجازي. فمسألة خفة المذكر لا تصدق بالنسبة للمؤنث اللفظي، مثل: "حمزة، وطلحة، وسمرة، وعُيينة، وأسماء، وعنبسة" وغيرها كثير. أما مسألتا المنع من الصرف وعدد الحروف، فهما نسبيتان، فلا تختصّ الأولى بالمؤنث دون المذكر. فكثير من أسماء العلم التي مدلولها مذكر، ممنوعة من الصرف، مثل كلمة "إبراهيم". أما عدد الحروف، فهي نسبية أيضا. فالأسماء، بغض النظر عن كونها مذكرة أو مؤنثة، تنقسم إلى ثلاثية، مثل: "دعد، ونعم، ورغد، ونوح، وجون، وروح"، أو رباعية أو خماسية ... إلخ. وعدد حروف كلمة "إبراهيم" يفوق عدد حروف كثير من المؤنثات؛ وهذه مسألة معروفة. لكنّ المهم في هذا المجال أنّه جرى الخلط بين المؤنث الحقيقي والمؤنث المجازي. فحروف كلمة "نعيم" أقل من حروف كلمة "نعيمة". لكنّ هذه مغالطة؛ إذ يجب أن نفرّق بين المؤنث الحقيقي والمؤنث المجازي. فمسألة عدد الحروف تنطبق على المؤنث المجازي الوصفي، مثل: "جالسة" مؤنث "جالس"، وما شابهها؛ لكنها لا تنطبق على المؤنث الحقيقي الذي هو مؤنث بالوضع، خاصة المعنوي منه.
الصيغة العامة هي الصيغة الأولى التي تتوحّد فيها نظرة اللغة. فلا تمايز بين الكلمات جنسيا، وهي الصيغة التي نراها في جميع اللغات. لكنّ اللغات اختلفت نظرتها للأشياء. فلم تتطور النظرة كثيرا في أغلب اللغات، وبقيت قريبة من الصيغة العامة، بينما قطعت بعضها شوطا طويلا، كالعربية التي وصلت إلى ما لم تصل إليه لغة أخرى في الدقة في هذا المضمار. إنّ اللغة العربية تحاول النظر إلى الموجودات نظرة عامة أولا، ثم تعيد النظر إليها كرّةً أخرى، فتقسمها إلى مذكّر ومؤنث. وكان لا بد من اختيار أو اختراع علامات أو صيغ تميّز المذكّر أو المؤنث أو كليهما. إنّ اختراع علامات أو صيغ تميز المذكّر والمؤنث تلحقهما كليهما، ليست منطقية؛ إذ إنّ تعليم أو توسيم أحدهما يُغني عن توسيم الآخر. بقي لدينا خيار واحد، وهو اختيار الذي يتميّز وإبقاء الذي لم يتميز يستخدم الصيغة العامة التي تعني كلا القسمين: المذكّر والمؤنث دون قرائن خاصة. وهكذا تمّ تمييز المؤنث في العربية، كما في غيرها. وخلاصة القول أنّ اللغة العربية تستخدم ثلاث صيغ في تعاملها مع الأشياء: صيغة عامة تشمل المذكّر والمؤنث تستخدم عند اجتماعهما خالية مما يمّيزها؛ لأنّ العربية دقيقة في هذا المجال؛ وصيغة خاصة بالمؤنث مع علامات التأنيت؛ وصيغة خاصة بالمذكّر دون علامات، أي أنّ المذكّر يستخدم الصيغة العامة الخالية مما يميزها. وهذا لا يعني أنّ المذكّر الذي تخلّى عن علامات التذكير واكتفى بالصيغة العامة، يستغني عن قرائن لفظية أو معنوية، تميّزه عن تلك الصيغة. فكما أنّ بعض صيغ التأنيث الخالية من العلامات اللفظية، لا بدّ من احتوائها على قرائن معنوية أو لفظية أو سياقية. إن صح التعبير، تنص أو تفيد أو تشهد بأنثويتها، كذلك لا بدّ من وجود قرائن معنوية أو لفظية أو سياقية تنص أو تشهد للمذكّر بذكوريته. وإن انعدمت، فالمعنيّ هو الصيغة العامة. ومن هنا، نرى فداحة الخطأ الذي وقع فيه من اعتبر العربية لغة ذكورية لا مكان للمؤنث فيها إلا في حدود ضيقة، بعد أن جمع صيغة المذكر إلى الصيغة العامة التي تشترك معها في الظاهر (العامري، 2009م، ص 45). والصيغة العامة هذه هي التي تم تفسيرها خطأً باعتبارها مذكرا لخلوها من علامات التأنيث، واعتُبرت تغليبا عند اجتماعها مع المؤنث وتبعيّة الصيغ اللغوية لها.
إنّ مقولة تغليب المذكر على المؤنث نحويا عند اجتماعهما، ليست من أصل اللغة، بل تعود جذورها إلى ثقافة المجتمع الجاهلي التي سعى الإسلام حثيثا من أجل إزالتها وإحلال الثقافة الإسلامية المتعالية محلها؛ وأهم مفردات تلك الثقافة البالية مسألة النظر للمرأة. وبما أنّ تلك المسألة كانت متجذّرة في الثقافة الجاهلية؛ الثقافة التي كان أكثر العرب يحملونها، لم يعمد الإسلام إلى اقتلاعها مرة واحدة؛ لكونها عرفا سائدا، فعمد إلى القضاء عليها بالتدريج متوسّلا من أجل ذلك بنوعين من الطرائق نظرية وعملية. ففي الجانب النظري، تطالعنا آيات كريمة كثيرة وأحاديث شريفة، تؤكد على كون المرأة إنسانا، يتمتع بكافة الحقوق الإنسانية التي جعلها اللّٰه له وكرّمه بها. فكافة الآيات والأحاديث التي أكّدت حقوق الإنسان وكرامته وشرفه، لم تفرّق بين الرجل والمرأة. وأدناه عدد من الآيات الكريمة الواضحة في هذا الصدد: «فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍª (آل عمران 3: 195). «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقيراª (النساء 4: 124). «مَنْ عَمِلَ صالِحا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَª (النحل 16: 97). «مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فيها بِغَيْرِ حِسابٍª (غافر 40: 40). فالإنسان عند اللّٰه إنسان له كرامة ومسؤول في ذات الوقت، رجلا كان أو امرأة. والفرق الوحيد بينهما هو الدور الذي يقوم به كلّ منهما. وعليه فالخطاب القرآني للإنسان هو خطاب للذكر والأنثى، وحديث القرآن عن الإنسان هو حديث عن الذكر والأنثى. تأمل في الآيات التالية: «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتابا يَلْقاهُ مَنْشُوراª (الإسراء 17: 13). «﴿يُريدُ اللّٰه أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعيفاª (النساء 4: 28). «وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌª (هود 11: 9). فهل كان المخاطب أو المعنيّ بتلك الآيات هو الرجل فقط؟ أما في الجانب العملي، فسيرة رسول اللّٰه (|)، خير دليل على مكانة المرأة في دين الإسلام. فقد تركت اثنتان من النساء أثرا كبيرا في حياته (|)، إحداهما زوجته خديجة الكبرى؛ والأخرى ابنته الكريمة فاطمة الزهراء، حيث جاء عنه (|)، أنه قال حول زوجته خديجة في حديث رواه عبد اللّٰه بن المبارك عن مجالد عن الشعبي عن مسروق عن السيدة عائشة، إنها قالت: كان النبي (|)، إذا ذكر خديجة أحسن الثناء عليها، فقلت له يوما: ما تذكر منها، وقد أبدلك اللّٰه خيرا منها، فقال: ما أبدلني اللّٰه خيرا منها؛ صدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني اللّٰه الولد منها، ولم يرزقني من غيرها (المجلسي، 1984م، ج 27، ص 62 ـ 63). وجاء عنه (|)، أنّه قال حول ابنته فاطمة الزهراء ($): «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي مَنْ آذَاهَا، فَقَدْ آذَانِي وَمَنْ غَاظَهَا، فَقَدْ غَاظَنِي، وَمَنْ سَرَّهَا، فَقَدْ سَرَّنِي، وَقَالَ (|): فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي، وَهِيَ رُوحِيَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ يَسُوؤُنِي مَا سَاءَهَا، وَيَسُرُّنِي مَا سَرَّهَا» (المفيد، 1993م، ص 217). وقد انقسم الباحثون المعاصرون في نظرتهم للمرأة قبل الإسلام، إلى فريقين رئيسين: فريق يراها معزّزة مكرّمة تتمتع بحقوق وحريات؛ وفريق يراها مضطهدة مسحوقة مسلوبة الحقوق والكرامة. وسبب هذا التقاطع بين الفريقين، يعود إلى تعميم أحكام تستند إلى أدلة وشواهد منفردة، في أصلها لا تنطبق إلا على عدد محدود من النساء لهنّ ظروفهنّ الخاصة ولا تشمل كافة النساء. ومن المسلّم به أنّ كلّ ظاهرة اجتماعية تتمتّع بالعموم لها استثناءات قد تكثر وقد تقلّ اعتمادا على الزمان والمكان والظروف. من الواضح أنّ مجتمع ما قبل الإسلام كانت تشيع فيه سيئات وحسنات؛ لكنّ سيئاته كانت أكثر من حسناته؛ لذلك وجب التغيير المتمثّل بالإسلام. ومن الطبيعي أن يكون للرجل والمرأة دور أساسي في بناء المجتمع وصلاحه وخرابه أيضا. يقول شوقي ضيف: فالمرأة لم تكن في الجاهلية مهملة، بل كان لها قدرها عندهم، كما كان لها كثير من الحرية، فكانت تمتلك المال وتتصرف فيه كما تشاء، وقصة اتّجار الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم في أموال السيدة خديجة أم المؤمنين مشهورة. وقد دعم الإسلام هذه الحرية، فحرّم أن تعضل المرأة وتمنع من الزواج بعد وفاة زوجها كما حرّم زواج المقت، وهو أن يجمع الرجل بين أختين، وحرّم الشغار، وهو أن يتزوج شخص أخت صديق له على أن يزوجه أخته، وأيضا فإنه حرّم أن يتزوج الابن امرأة أبيه بعد موته أو أن يتزوج عدة رجال امرأة واحدة، إلى غير ذلك مما كانوا يبيحونه. وتلك كانت عادات عندهم، وهي تلازم الأمة في عصور بداوتها، ولكن ينبغي أن لا نفهم منها أن المرأة كانت مهدرة الحقوق في الجاهلية، أما ما سجله عليهم القرآن الكريم من وأدهم للبنات في قوله تعالى: «وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ! يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَª (النحل 16: 58 ـ 59). فأكبر الظن أنّ من كانوا يصنعون ذلك منهم أجلاف قساة القلوب، كانوا يخشون عليهنّ من الفقر أو السبي؛ إذ كان سباؤهن كثيرا في الجاهلية، وكانوا يعدّون ذلك سُبَّة ما بعدها سبّة (2003م، ص 75). فقد اعتبر شوقي ضيف السيدة خديجة، وهي امرأة منفردة قلّ مثالها في مكة، بل في الجزيرة العربية، شاهدة على مكانة المرأة الجيدة قبل الإسلام، وغضّ نظره عن الممارسات المهينة التي كانت تمارس بحق المرأة، وتحوَّلَ أكثرها إلى أعراف اجتماعية، واكتفى بالقول إنّ القرآن نهى عنها. ومن الواضح أنّ القرآن لا ينهى عن شيء غير موجود، بل كانت تلك الممارسات موجودة في المجتمع الجاهلي. وقد أشار القرآن إلى عدد من أسوئها، فحرّمها، حيث جاء منها في النصّ السابق: عضل المرأة، زواج المقت، الشغار، أن يتزوج الابن امرأة أبيه بعد موته، أن يتزوج عدة رجال امرأة واحدة، ويسمى هذا النوع الأخير من الزواج بزواج الرهط (البخاري، 2002م، ص 1307)، ووأد البنات. وقد عدّت الباحثة الفلسطينية، مي البزور، أربعة عشر نوعا من النكاح قبل الإسلام، أغلبها مهين للمرأة، تقول: وعند تتبعي لعلاقات المرأة الجنسية، وأشكال الزواج التي كانت سائدة في مجتمع شبه الجزيرة قبل الإسلام، وجدت أن هذا المجتمع، عرف أربعة عشر نوعا من أنواع الزواج أو النكاح، وهي: نكاح تعدد الأزواج بالنسبة للمرأة، نكاح المتعة، نكاح الذواق، نكاح الاستبضاع، نكاح الخدن، المضامدة، نكاح البدل، نكاح الشغار، زواج المقت، زواج السبي، زواج الإماء، زواج صاحبات الرايات، نكاح تعدد الزوجات بالنسبة للرجل، زواج البعولة أو (الأحادي) (2013م، ص 66). ثم تعلق على حديثها السابق، في الصفحة نفسها بقولها: إن بعض أنواع النكاح السابقة الذكر، دلّ على دونية مكانة المرأة في مؤسسة الزواج قبل الإسلام، مثل: نكاح الشغار، والمقت، والبدل، والضغينة، والزواج عن طريق الوصي، لما يحويه من ممارسات دونية تجاه المرأة تفيد بتحكم الرجل شبه الكامل بجسد المرأة وعلاقاتها الجنسية (المصدر نفسه). هذه شمّة من حالة المجتمع الجاهلي قبل الإسلام، بالنسبة لموقفه من المرأة وتعامله معها، فلم يكن مجتمعا متمدّنا متوحدا كالمجتمع الفارسي أو الرومي القريبين منه، بل كان مجتمعا قبليا مستقلا في كثير من قيَمه وطريقة تفكيره. فهو مجتمع بدوي يقدّس القوة، ويتحيّز للماديات في الحياة. فالماديات في ذلك المجتمع الصحراوي القاسي تلعب أهمّ الأدوار في حياة العربي منذ ولادته؛ لكنّ دورها يتضاءل في مجتمع المدينة. ولعل أفضل ما يجسد النظرة الدونية للمرأة، أو بالأحرى ما لحقها من ظلم قبل الإسلام، هو مسألة وأد البنات في الجاهلية. قال تعالى: «وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ! يَتَوَارَىٰ مِنَ ٱلْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي ٱلتُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَª (النحل 16: 58 ـ 59). وقد حاول بعض الباحثين التقليل من أهمية الموضوع، كيلا تتشوه صورة العرب النقية قبل الإسلام، وكأنّ المسألة قومية وليست إنسانية. فقد مرّ بنا أنّ شوقي ضيف حاول أن يصوّر وأد البنات الذي كانت تقوم به بعض القبائل العربية، ظاهرة محدودة تافهة. ونحن لا نقول بتعميم الظاهرة لتشمل كافة العرب، كما أنّ نظرة القرآن لظاهرة الوأد نظرة عامة تشمل العرب وغيرهم، ممن كانوا يقومون بقتل أولادهم، بناتا كانوا أو بنين، لأسباب مختلفة تتراوح بين الأعراف الدينية والتقاليد الاجتماعية والمسائل الاقتصادية. وقد حرّم الإسلام تلك الممارسات بحقّ الأبناء، واعتبر قتلهم من ضمن قتل النفس المحرّمة، مشيرا إلى أنّ ذلك العمل من الذنوب الكبيرة. قال اللّٰه عز وجل: «وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئا كَبِيراª (الإسراء 17: 31). كما حاول بعض الباحثين التشكيك في مسألة وأد البنات في الجاهلية، فوضعوا كتبا، وكتبوا بحوثا لنفي تلك الظاهرة عن العرب؛ لكنهم أذعنوا بها في نهاية المطاف. ومن أولئك الباحث والأكاديمي السعودي، مرزوق بن تنباك، في مقابلة مع موقع العربية ـ نت، أن قضية وأد البنات «وهم تاريخي وكذبة لفّقها بعض الرواة للعصر الجاهلي، واخترعوها من الخيال الشعبي لأغراض التذكير والتفضيل». وكان بن تنباك يتصوّر أنه يقوم بنفي الظاهرة عن طريق إثبات عدم صحة الروايات أو ضعفها أو عدم تفسيرها بالشكل الصحيح؛ لكنه اصطدم بالنص القرآني، فاستسلم له، ولم يستطع نفي أصل الظاهرة الثابتة في النصوص القرآنية المباركة، فراح يفسّر ويؤوّل، فأكّد أن التفسير الفعلي والمقصود بـ"الوأد" هو «التخلص من أبناء الزنا، وهذا أمر يحدث في كل العصور». ثمّ طفق يبحث في الجزئيات، متسائلا: «هل هو وأد البنات، كما قال المفسرون أم هو وأد النفس البشرية سواء كانت ذكرا أم أنثى؟» (عطيف، 9/ 1/ 2012م)، ناسيا أو متناسيا أنّ القرآن الكريم قد حرّم قتل النفس بأيّ شكل كان. وهكذا رأينا أنّ مرزوق بن تنباك قد قام بإثبات ظاهرة الوأد، بدلا من نفيها. نرى، مما مرّ أعلاه، أنّ مكانة المرأة قبل الإسلام لم تكن بالمكانة المتميزة بين العرب عموما. وهذا ما يفسر نظرة البعض الدونية لها، ليس قبل الإسلام فحسب، بل بعد الإسلام أيضا. يقول الطبري في تفسير قوله تعالى: «إِنْ يدعونَ مِن دونِهِ إِلَّا إِناثا وإِنْ يدعونَ إِلَّا شيطَانا مرِيداª (النساء 4: ١١٧): يقول جل ثناؤه: فحسب هؤلاء الذين أشركوا باللّٰه، وعبدوا ما عبدوا من دونه من الأوثان والأنداد، حجة عليهم في ضلالتهم وكفرهم وذهابهم عن قصد السبيل، أنهم يعبدون إناثًا ويدعونها آلهة وأربابا، والإناث من كل شيء أخسه، فهم يقرّون للخسيس من الأشياء بالعبودية، على علم منهم بخساسته، ويمتنعون من إخلاص العبودية للذي له ملك كل شيء، وبيده الخلق والأمر (1994م، ج 2، ص 558 ـ 559). لاحظ كيف أصدر الطبري حكما عاما على الإناث من المخلوقات، بأنها من كل شيء أخسه. ولا نريد أن نشطّ عن البحث الذي نحن بصدده، فنناقش مسألة العدل الإلهي وغيرها من المسائل الكلامية والفلسفية، فليس ذلك من اختصاصنا ولا يهمنا كثيرا، بل المهمّ هو إثبات ما نحن بصدده، بغضّ النظر عن مخالفة ذلك للواقع أو النظرة الإسلامية. وحول الموضوع نفسه وتفسير الآية نفسها، قال السعدي في تفسيره:
أي: ما يدعو هؤلاء المشركون من دون اللّٰه إلاّ إناثا، أي: أوثانا وأصناما مسميات بأسماء الإناث (كالعزى) و(مناة) ونحوهما. ومن المعلوم أنّ الاسم دال على المسمى؛ فإذا كانت أسماؤها أسماء مؤنثة ناقصة، دل ذلك على نقص المسميات بتلك الأسماء، وفقدها لصفات الكمال (2001م، ص 358). لاحظ كيف أصدر هذا الباحث حكما عاما بنقص الإناث، نظرا لنقص أسمائها؛ إذ يعتبر الاسم المؤنث ناقصا، ولا أدري كيف استنبط أنّ الاسم المؤنث ناقص في العربية، الأمر الذي لم يقل به أحد من النحاة. والأهم هنا هو ما يتعلق ببحثنا، وهو إصدار حكم عام بنقص الإناث لكون أسمائها مؤنثة. كل ذلك جاء بسبب الموروث الثقافي للعرب في نظرتهم للمرأة الذي ساعدت عوامل كثيرة على رواجه، منها سياسية وغيرها، بين الدارسين والباحثين، وحاولوا تطبيقه على المفاهيم الإسلامية سهوا أو عمدا. إنّ الذي دعانا للخوض في موضوع نظرة العرب للمرأة، هو ارتباطه الكبير بنظرة تغليب المذكر على المؤنث، خارج النظرة اللغوية والنحوية التي نراها لدى سيبويه، حيث تجاوز أولئك المفسرون تلك النظرة. فالمذكر ليس أشدّ تمكنا نحويا فحسب، بل هو أشرف منزلة اجتماعية من الأنثى، ومن حقّه أن تكون له الغلبة في جميع المجالات.
تعدّ هذه المسألة من أكثر المسائل التي أجازت تغليب المذكر على المؤنث، حيث إنّ قيمومة الرجال على النساء أو تفضيلهم عليهنّ في بعض الأمور، كالإرث والشهادة وما إلى ذلك، تمّ اعتباره أفضلية أو أرجحية للذكر على الأنثى، وهو لا يقول به عاقل عادل. وكلّ ذلك نتج عن فهم خاطئ للآية الكريمة: «الرِّجالُ قَوّامونَ عَلَى النِّساءِª (النساء 4: 34)، وغيرها من الآيات. فتصوّر بعض المسلمين أفضلية الذكر على الأنثى، وتبعهم في ذلك النحويون، آخذين بظاهر الألفاظ. إنّ أغلب علماء اللغة والنحو القدماء كانوا من المسلمين، وكان لآيات القرآن الكريم دور الريادة في الشواهد اللغوية والنحوية؛ ولكنّنا نجد اليوم كثيرا من المختصين باللغة من العرب الذين لا يؤمنون بالقرآن كتابا سماويا، ولا يقبلون بقيمومة الرجل على المرأة، فكيف يقبلون بنظرية التغليب التي لا يقبلها الواقع ويرفضها العقل؟ وقد انعكست تلك النظرة على اللغة، ففُسّرت بها خاصة أخرى من خواص المذكر على المؤنث، وهي التغليب النحوي؛ وهو أنه إذا اجتمع المذكر والمؤنث في كلام للغائب أو المخاطب أو المتكلم، فالغلبة للمذكر غلبة، تُلزم الناطق أو الكاتب إعطاء المؤنث حكم المذكر، كيما يتحقق له تعبير وافٍ منسجم بعيد عن الالتواء (ابن الأنباري، 1981م، ص 676). وهذا خلط واضح بين الصيغة العامة التي يشترك فيها المذكر والمؤنث، وبين صيغة المذكر. فما حقيقة القيمومة؟ جاء في المعجم الوسيط: «قام على الأمر: دام وثبت، وقام للأمر: تولاه. قام على أهله: تولى أمرهم وقام على نفقاتهم» (2004م، ص 767)، وقال في الصفحة التالية: «والقوّام: الحسن القيام بالأمور» (المصدر نفسه، ص 767). والنظرة الصحيحة للمسألة لا تتطرّف في ظلم المرأة وسلبها حقوقها العادلة التي جعلها اللّٰه تعالى لها، حيث كرّمها القرآن بقوله: «ولقد كرّمنا بني آدمª (الإسراء 17: 70). ولا يختلف تعريف القيمومة أو القوامة، كما سماها آخرون، الاصطلاحي عن معناها اللغوي: «فقد عرفها القائم بأعمال قاضي القضاة الشرعيين في الضفة الغربية الشيخ يوسف دعيس، بأن "القوامة" معناها الإشراف والإدارة والعناية» (البزور، 2013م، ص 175). وقد جرى الحديث في أحد البحوث عن تغليب المذكر على المؤنث في الخطاب القرآني بإسهاب، مع التطرق لأنواع التغليب العشرة التي ذكرها الزركشي، نقتطف منه موضع الحاجة. وهو يعبّر عن تيار عام سائد لدى كثير من الدارسين العرب حول مسألة التغليب في العربية، قال: اختلف الأصوليون في كون جمع السلامة، مثل: "المسلمين، المؤمنين"، هل يشمل النساء عند الإطلاق أم لا؟ على قولين: الأول: يرى أن اللفظ يتناول النساء ...؛ والقول الثاني: أن مثل هذا اللفظ إذا ورد مطلقا مخصص بالرجال في مورده، إلا أن تقوم دلالة تقتضي الاشتراك. والذي يبدو لي أن التقريب بين القولين من الناحية العملية ليس بعسير، فكلاهما يقول بتغليب المذكر على المؤنث، وبشمول الحكم الشرعي للجنسين، إلا أن الرأي الثاني اشترط لشمول النساء بالحكم أن توجد قرينة دالة على ذلك. ولم يظهر هذا جليا عند أصحاب الرأي الأول، إلا أنه يفهم من كلامهم. وهذا يعني أن أصحاب الرأي الأول قريبون من أصحاب الرأي الثاني، ولا بد أنهم اعتمدوا على قرينة العرف أو الشرع أو نحو ذلك، وليس على مجرد اللغة؛ إذ لا خلاف بين الأصوليين والنحاة في عدم تناول جمع المذكر السالم للمؤنث، وإنما ذهب بعض الأصوليين إلى ثبوت التناول، لكثرة اشتراك النوعين في الأحكام لا غير، فيكون الدخول عرفا، أو نحوه، لا لغة (أبو زيد، 2011م، ص 148 ـ 149). ثم قال في النتائج: «أهم نتيجة توصل لها البحث هي: أن تغليب المذكر مجرد أسلوب وفن من فنون بلاغة لغة العرب، فالتغليب للمذكر على المؤنث، وليس للذكر على الأنثى كما يحب البعض أن يصور الموضوع» (المصدر نفسه، ص 160)، كما قال: وإنما ذهب بعض الأصوليين إلى ثبوت التناول؛ لكثرة اشتراك النوعين في الأحكام لا غير، فيكون الدخول (أي دخول المؤنث في المذكر) عرفا، أو نحوه، لا لغة»، يعني قصورا في اللغة العربية عن مجاراة العرف والشرع وغيرهما، حيث نسب العجز عن تفسير هذه الظاهرة اللغوية إلى اللغة التي شرّفها اللّٰه بدل أن يعترف بعجزه وعجز الأصوليين. كما أنّ قوله: "مثل هذا اللفظ إذا ورد مطلقا مخصص بالرجال" غير صحيح، إذ ليست صيغة الجمع هذه خاصة بالرجال، بل هي صيغة عامة، والصحيح أن يقال: مثل هذا اللفظ إذا ورد مطلقا، غير مخصص بالرجال، ولا بدّ له من قرينة تخصّصه. هذا هو واقع اللغة ولا علاقة للعرف والشرع بذلك (المصدر نفسه، ص 143). وكان قد قال في بداية بحثه: «وبقي تأثير الرجل هو الأول في إيجاد المرأة من النطفة، فقد قال تعالى: «وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى ! مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىª (النجم 53: 45 ـ 46)» (المصدر نفسه). والذي يهمنا، هنا، قيامه باستنباط الأحكام التعسفية من الآيات الشريفة، كما يحلو له دون مراجعة التفاسير، وذلك بالنسبة لمسألة «تأثير الرجل هو الأول في إيجاد المرأة من النطفة». يقول ابن عاشور: والتقييد بـ"إذا تمنى" لما في اسم الزمان من الإِيذان بسرعة الخَلق عند دفق النطفة في رحم المرأة، فإنه عند التقاء النطفتين، يبتدئ تخلّق النسل. فهذا إشارة خفية إلى أن البويضة التي هي نطفة المرأة، حاصلة في الرحم. فإذا أُمنيت عليها نطفة الذكر، أخذت في التخلّق، إذا لم يعقها عائق. ثم لما في فعل "تُمنى" من الإِشارة إلى أن النطفة تقطر وتصب على شيء آخر؛ لأن الصب يقتضي مصبوبا عليه، فيشير إلى أن التخلّق إنما يحصل من انصباب النطفة على أخرى. فعند اختلاط الماءين، يحصل تخلّق النسل. فهذا سر التقييد بقوله: "إذا تُمنى"» (1984م، ج 27، ص 146- 147). فهل كلام ابن عاشور يخلق انطباعا بكون الرجل هو المؤثر الأول في إيجاد المرأة؟ فقد قال الطبري في تفسير الآية الثانية من سورة الإنسان: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِª (الإنسان 76: 2): وقوله: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِª، يقول تعالى ذكره: إنا خلقنا ذُرية آدم من نطفة، يعني: من ماء الرجل وماء المرأة، والنطفة: كل ماء قليل في وعاء كان ذلك ركية أو قربة، أو غير ذلك. وقوله: "أمشاج"، يعني: أخلاط، واحدها: مشج ومشيج، وهي نطفة الرجل ونطفة المرأة (1994م، ج 7، ص 419). وقال ابن عاشور مثل ذلك، حيث قال في تفسير قوله تعالى: «وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ ! مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ ª(النجم 53: 45 ـ 46): ولعل وجه ذكر الزوجين والبدل منه "الذكر والأنثى"، دون أن يقول: وأنه خلقه، أي الإنسان من نطفة، كما قال: «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ! خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍª الآية، أمران: أحدهما: إدماج الامتنان في أثناء ذكر الانفراد بالخلق بنعمة أن خلق لكل إنسان زوجه، كما قال تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَاª الآية؛ الثاني: الإشارة إلى أن لكلا الزوجين حظا من النطفة التي منها يُخلق الإنسان. فكانت للذكر نطفة وللمرأة نطفة، كما ورد في الحديث الصحيح أنه "إذا سبق ماء الجل أشبه المولود أباه، وإن سبق ماء المرأة أشبه المولود أمه"؛ وبهذا يظهر أن لكل من الذكر والأنثى نطفة، وإن كان المتعارف عند الناس قبل القرآن أن النطفة هي ماء الرجل، إلا أن القرآن يخاطب الناس بما يفهمون، ويشير إلى ما لا يعلمون إلى أن يفهمه المتدبرون (1984م، ج 27، ص 145 ـ 146). فهل يبقى، بعد ذلك، شك في كون هذا الأمر يشترك فيه الرجل والمرأة على السواء ولا تفاضل فيه؛ فلا إنجاب إذا فُقد أحدهما. أما مسألة كون المرأة وعاءً للحمل، فيعود للحكمة الإلهية ولا يعتبر منقصة للمرأة أو تقليلا لدورها، بل بالعكس. وهذا ما انعكس في تعظيم الإسلام لدور المرأة باعتبارها أمّاً أكثر من دور الرجل باعتباره أباً. روى عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّٰه (8)، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (|) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّٰه مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: أُمَّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أَبَاكَ» (الكليني، 1986م، ج 2، ص 159 ـ 160).
إذا تتبعّنا آيات الأحكام المشتركة بين الذكر والأنثى أو العامة التي تشمل عموم المسلمين أو الناس، بشكل أعم، في القرآن الكريم، فنجدها من نوع الخطابات التي لم يُلحظ فيها الجنس. تأمل هذه الآيات من سورة البقرة: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ والَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَª (البقرة 2: 21)، و«يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اسْتَعينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ إِنَّ اللّٰه مَعَ الصَّابِرينَª (البقرة 2: 153)، و«يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالا طَيِّبا ولا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبينٌª (البقرة 2: 168)، و«يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَª (البقرة 2: 183). ومن الواضح أنّ الخطاب في الآيات الشريفة كان عاما للذكور والإناث. فلفظ "النَّاس"، "والَّذينَ آمَنُوا"، وما شابه، كل ذلك يشمل الرجال والنساء، وهذا الأمر يقرّ به الجميع، بينما اعتبره البعض تغليبا للخطاب بصيغة المذكر على الخطاب بصيغة المؤنث، وهذا كلام ينقصه الدليل. كان ذلك الخطاب القرآني موجها للجمع؛ في حين نرى خطابات في اللغة؛ سواء في القرآن أم في غيره من النصوص، موجهة للمثنى يُقصد بها الرجل والمرأة، سواء أكان خطابا للمثنى الغائب أم للمثنى المخاطب، وسواء أكان ذلك المثنى رجلا وامرأة أم رجلين أم امرأتين. وإليك في ما يلي بعض الشواهد: الخطاب لرجل وامرأة: قال تعالى: «فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدينَª (الأعراف 7: 20). وواضح أنّ المعنيّين بالخطاب غيبةً وخطابا هما آدم وحواء (3).
وقال تعالى: «وَالَّلذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللّٰه كانَ تَوَّابا رَحيماª (النساء 4: 16). قال الطباطبائي في الميزان: قوله تعالى: "وَالَّلذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما"، الآيتان متناسبتان مضمونا والضمير في قوله: "يَأْتِيانِها"، راجع إلى الفاحشة قطعا، وهذا يؤيد كون الآيتين جميعا مسوقتين لبيان حكم الزنا؛ وعلى ذلك فالآية الثانية متممة الحكم في الأولى، فإن الأولى لم تتعرض إلا لما للنساء من الحكم، والثانية تبين الحكم فيهما معا وهو الإيذاء، فيتحصل من مجموع الآيتين حكم الزاني والزانية معا (1996م، ج 4، ص 234). الخطاب لرجلين: قال تعالى: «إِلّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّٰه إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّٰه معنا فَأَنْزَلَ اللّٰه سَكينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللّٰه هِيَ الْعُلْيا وَاللّٰه عَزيزٌ حَكيمٌª (التوبة 9: 40)، وقال عزّ اسمه: «قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰª (طه 20: 46). الخطاب لامرأتين: قال تعالى: «وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وأَبُونا شَيْخٌ كَبيرٌª (القصص 28: 23). وهكذا نرى أنّ اللغة العربية قد ساوت، في هذا المجال (المثنى بشقيه: الغائب والمخاطب)، بين المذكر والمؤنث. فليس لدينا سوى صيغتين للمثنى: "هما" للغائب، و"كما" للمخاطب، سواء أكانا رجلين أم امرأتين أم رجل وامرأة. فما يقول دعاة التغليب في هذا المورد؟ وهناك خطاب آخر يتساوى فيه المذكر والمؤنث، وهو خطاب المتكلم؛ جمعا ومفردا. المتكلم المفرد المذكر: قال تعالى: «وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالا وَأَعَزُّ نَفَراª (الكهف 18: 34). المتكلم المفرد المؤنث: قال تعالى: «قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلي شَيْخا إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجيبٌª (هود 11: 72). جماعة المتكلمين الذكور: قال تعالى: «فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصاري إِلَى اللّٰه قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللّٰه آمَنَّا بِاللّٰه وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَª (آل عمران 3: 52). جماعة المتكلمين الإناث: قالت هند بنت عتبة: «نحن بناتُ طارق/ نمشي على النمارق» (الكمالي، 7/5/2018). جماعة المتكلمين إناثا وذكورا: «أنا وأخوتي لا نزال صغارا، ولأنني أكبرهم سنّا، فقد تحولتُ فجأةً إلى رجل راشد ومسؤول بعد حضور رغد إلى بيتنا. كنا ننتظر عودة أبي بالصغيرة. سامر ودانة كانا في قمة السعادة؛ لأنّ عضوا جديدا سينضم إليهما ويشاركهما اللعب» (المرشود، 2007م، ص 2). علما أنّ صيغة جمع المتكلمين تشمل المثنى أيضا، أي لا توجد صيغة خاصة بالمتكلم المثنى، بل تتم الاستفادة من صيغة الجمع. قال الزركشي في أنواع التغليب: «الثاني: تغليب المتكلم على المخاطب والمخاطب على الغائب. فيقال: أنا وزيد فعلنا، وأنت وزيد تفعلان» (د.ت، ج 3، ص 302)؛ فقال في الموضع الأول: "فعلنا" رغم أنّهما اثنان، وذلك لكون القائل هو المتكلم؛ بينما قال في الموضع الثاني: "تفعلان". ولا فرق بين أن يكون المثنى مذكرا أو مؤنثا أو مختلطا. وهكذا، نلاحظ أنّ اللغة العربية قد رفضت أن تفرّق بين المؤنث والمذكر في هذا المجال، وساوت بينهما.
الخاتمة لقد حاولنا في هذا البحث أن نحقق الهدف المنشود منه، وهو مناقشة تغليب المذكر على المؤنث في الخطاب النحوي العربي، حيث ذكرنا عددا من الآراء في هذا المجال. وبما أنّ موضوع التغليب المذكور شائك كثير التفرعات، فقد كان لا بدّ لنا من أن نتطرق إلى موضوعات أخرى جديرة بالاهتمام، رغم أنها هامشية. ولقد اتضح لنا، من خلال هذا البحث، أنّ التغليب ظاهرة لغوية تلجأ لها اللغة بعض الأحيان لاعتبارات وأسباب متعددة، لا تخرج عن إطار اللغة؛ أهمّها الاختصار أو التسهيل أو ما يسمّى بقانون السهولة واليسر الذي نراه متفشّيا في كثير من الظواهر اللغوية. أما مسألة تغليب المذكر على المؤنث نحويا عند اجتماعهما، فهي غير موجودة في الخطاب اللغوي العربي، بل هناك صيغة عامة يشترك فيها المذكر والمؤنث ولا رجحان لأحدهما على الآخر، الأمر الذي تؤكده طبيعة اللغة العربية والتعاليم الإسلامية السمحاء. وهناك حاجة ملحّة وضرورة قصوى لتمحيص الدرس النحوي، مما علق به من علوم غير لغوية وتغيير النظرة من المعيارية إلى الوصفية، وذلك لكون المنهج المعياري منهجا غير لغوي. | ||
مراجع | ||
* القرآن الكريم. ابن عاشور، محمد الطاهر. (1984م). التحرير والتنوير. تونس: الدار التونسية للنشر. أبو زيد، محمد. (2010م). «تغليب المذكّر على المؤنث في الخطاب القرآني». مجلة التراث العربي. ع 119. ص 143 ـ 164. البخاري، أبو عبد اللّٰه محمد بن إسماعيل. (2002م). صحيح البخاري. دمشق / بيروت: دار ابن كثير. البزور، مَي. (2013م). مكانة المرأة في الإسلام في ظلّ تأويل آية القوامة من منظور فلسطيني. رام اللّٰه (فلسطين). مواطن (المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية). الحاج صالح، عبد الرحمن. (2012م). منطق العرب في علوم اللسان. الجزيرة: موفم للنشر. حسّان، تمّام. (2001م). اللغة بين المعيارية والوصفية. ط 4. القاهرة: عالم الكتب. الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد اللّٰه. (د.ت). البرهان في علوم القرآن. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. القاهرة: دار التراث. السعدي، عبد الرحمن بن ناصر. (2001م). تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان. اعتناء به ومقابلة سعد بن فواز الصميل. الدمام: دار ابن الجوزي. سيبويه، أبو بشر عمرو بن عثمان. (١٩٩٠م). الكتاب. ط 3. بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات. ضيف، شوقي. (2003م). العصر الجاهلي. ط 24. القاهرة: دار المعارف. الطباطبائي، السيد محمد حسين. (1996م). الميزان في تفسير القرآن. ط 5. قم: مكتب النشر الإسلامي لجماعة مدرسي الحوزة العلمية في قم. الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير. (1994م). تفسير الطبري من كتابه جامع البيان عن تأويل آي القرآن. تحقيق وتعليق بشار عوّاد معروف وعصام فارس الحرستاني. بيروت: مؤسسة الرسالة. العامري، شاكر. (٢٠٠٩م). «صيغ العموم والخصوص في اللغة العربية (بالنسبة للتذكير والتأنيث)». مجلة الجمعية العلمية الإيرانية للغة العربية وآدابها. ع ١٢. ص ٤١ ـ 53. الكليني، أبو جعفر محمد بن يعقوب. (1986م). الكافي. طهران: دار الكتب الإسلامية. المجلسي، أبو عبد اللّٰه محمد باقر. (1984م). بحار الأنوار. بيروت: مؤسسة الوفاء. مجمع اللغة العربية. (2004م). المعجم الوسيط. ط 4. القاهرة: مكتبة الشروق الدولية. المرشود، منى. (2007م). أنت لي. القطيف: أطياف للنشر والتوزيع. المفيد، أبو عبد اللّٰه محمد بن محمد. (1993م). الإفصاح في الإمامة. قم: المؤتمر العالمي للشيخ المفيد. نصر، دورين. (2022م). «تحيّز اللغة العربية ضدّ المرأة». مجلة المشرق الرقمية. ع 19. ص 1 ـ 13. نور الهدى، ريبوت. (2021م). «النظام الأبوي في النحو العربي». مجلة يونيسيا (unisia) للعلوم الاجتماعية والإنسانية. ع 1. ج 39. المقالة رقم 4.
ب. المواقع الإلكترونية عطيف، محمد. (9/ 1/ 2012م). "وأد البنات" أكذوبة مهينة والاستدلال بالنص القرآني مُخالف. الكمالي، ريم. (7/5/2018م). أرجوزة هند.
| ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 89 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 39 |