تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,655 |
تعداد مقالات | 13,542 |
تعداد مشاهده مقاله | 31,063,625 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 12,222,523 |
المفارقة الدعائية وأنماطها اللفظية، والنغمة، والحكاية أو الإيهام، والإلماع دراسة في بنية الدلالة لأدعية مفاتيح الجنان نموذجا | ||
بحوث في اللغة العربية | ||
مقاله 8، دوره 16، شماره 30، تیر 2024، صفحه 105-120 اصل مقاله (1.21 M) | ||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | ||
شناسه دیجیتال (DOI): 10.22108/rall.2024.139018.1478 | ||
نویسندگان | ||
محمدحسین کاکوئي1؛ عباس گنجعلی* 2 | ||
1طالب الدكتوراه في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الحكيم السبزواري، سبزوار، إيران | ||
2أستاذ مشارك في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الحكيم السبزواري، سبزوار، إيران | ||
چکیده | ||
إنّ مفاتيح الجنان كتاب له قيمة بالغة ومكانة عظيمة، لما في أدعيته من المعرفة الإلهية والخلقيات الإنسانية البنّاءة. والأدعية هذه في غالبيتها نصوص أدبية تندرج ضمن الأدب القديم، فهي حافلة بكثير من الملامح البلاغية والفنية الكلامية، منها المفارقة في أنماطها المختلفة. يقتصر هذا البحث على المفارقة، حسب بنيتها الدلالية، كالمفارقة اللفظية، ومفارقة النغمة، ومفارقة الحكاية أو الإيهام، والإلماع، ثمّ تطبيقها علی أدعية مفاتيح الجنان فقط دون الزيارات والملحقات والباقيات الصالحات، ليتقصّى هذه التقنية من جانب واحد ولئلّا يصاب بالتشتت والسطحية في الدراسة والتحليل حتى يصل إلى هدفه بأعلى مستوى يتسنّى له. فالمفارقة تقنية قديمة الاستخدام جديدة المصطلح، يستخدمها المبدع الموهوب ليظهر ما قصده من الرسائل، ناتئاً بارزاً عبر التضاد والتناقض بين طرفي القول. وليس للمفارقة تعريف جامع مانع، بل لها أنماط مختلفة وأنواع متعددة حسب درجتها وصياغتها وطرفيها وما إلى ذلك؛ فمن الصعب أن نحصل على تعريف محدد. والتقنية هذه تُستخدم لإبراز أفكار المبدع وعواطفه، لتؤدّي إلى الصحوة والحث. والقاسم المشترك بين أنواعها، وأنماطها، وأساليبها هو التضاد بين المظهر والمخبر. وقد بيّن هذا البحث المتواضع، المواضع التي لها بنية مفارقية في أنماطها المختلفة، عبر تحليل النص الدعائي، واعتمادا علی المنهج الوصفي ـ التأويلي والتحليلي، لتقصي المفارقة وتبيين أنواعها وفك شفراتها، محاولة الوصول إلى المعاني الخفية والمدلولات المختبئة وتسليط الضوء على المعنى المقصود، حسب بنيتها الدلالية، وفقاً لتقسيم محمد العبد. وفي النهاية، قدّمت أهم الملحوظات والنتائج التي توصلت إليها الدراسة؛ ومن أهمّها أنّ المفارقة في الأدعية وليدة المواقف النفسية وحصيلة الإدراكات العقلية، كما استُعينت بها لتجسيد الواقع الإنساني وإخراجه من نطاق الذاتية المجردة إلى نطاق الموضوعية الحسية، كما أن التنويع في أنماطها يدلّ علی تمكن الداعي في الخطاب. | ||
کلیدواژهها | ||
الأدعية؛ مفاتيح الجنان؛ المفارقة؛ الدلالة | ||
اصل مقاله | ||
إنّ مفاتيح الجنان كتاب عظيم الشأن يعتبر من أوسع الکتب الدينية شهرة ونفاسة وقيمة. فأدعيته المأثورة كنصوص أدبية تجذب كل محبّ شاعر ذي ذوق مرهف. وبعض أدعيته كدعاء عرفة وأبي حمزة الثمالي وغيرهما قد دُرست في المجالات المتعددة وانكشفت بعض مخابئها قدر دارسها. والمفارقة التي تكون هذه الدراسة بصددها، واهتم بها النقاد والباحثون المحدثون مشغوفين بجمالياتها ودلالاتها، مصطلح حديث؛ ولكنها تقنية قديمة العهد، حيث استخدمها القرآن العظيم واستعان بها الأدباء والشعراء، من الجاهلية إلى الحديث، لنقل رسالتهم إلى المتلقين أكثر فاعلية وتأثيراً. والأدعية كنصوص أدبية استُخدِمت فيها كثيرة من التقنيات الفنية لدورها الفعال لترقية النص إلى مصاف الجمال والتأثير شعرية وشعورية. ومن هذه التقنيات، المفارقة التي اهتمّ بها النقد الأدبي الحديث كثيراً؛ لأنها أصبحت جزءاً أساسياً في بناء النص الأدبي، وإن اختلف الباحثون والدارسون حول مفهومها؛ لأنّها قد اتخذت عدة معان في خضم التأملات الفلسفية والجمالية المتفاعلة، ثم المستويات المتعددة والاتجاهات المختلفة، وانقسمت إلى الأنماط المختلفة، حسب وجهات نظر المبدعين والناقدين وحسب كيفيات استخدامها وأغراضها. والمنهج الذي استخدمها الباحثان في هذا المقال هو المنهج الوصفي ـ التأويلي والتحليلي، لتقصي المفارقة وتبيين أنواعها وفك شفراتها، محاولين الوصول إلى المعاني الخفية والمدلولات المختبئة، وتسليط الضوء على المعنى المقصود، حسب بنيتها الدلالية وتطبيقها في الأدعية، وفقاً لتقسيم محمد العبد في المفارقة القرآنية: دراسة في بنية الدلالية. وأخيراً، مع أنّ البحث حاول أن يلم بجوانب المفارقة من كل أطرافها حسب بنيتها؛ لكنه عمل بشري يعتريه النقص، مهما بلغ من الإتقان؛ فهناك جوانب لم يستطع البحث أن يبينها للمتلقين، فهناك طبقات دلالية مختبئة يستطيع دارس آخر أن يقيم بدراستها وبيانها والكشف عما فيها من الدلالات المختلفة. 1ـ1. أسئلة البحث يحاول هذا البحث الإجابة عن السؤالين: ـ يتعلق بماهية المفارقة ومفهومها وبنيتها في الإطار النظري، وأساليبها وأنماطها من خلال تتبع أبعادها من حيث المظاهر والأشكال؛ بمعنی أنه ما هو مفهوم المفارقة وبنيتها في الإطار النظري في أدعية مفاتيح الجنان، حيث تتكوّن منها أنواع متعددة للمفارقة؟ ـ يتعلق بسبب استخدامها في أنماطها المتعددة، وكشف تجليّات المفارقة ومظاهرها ووظيفتها في أدعية مفاتيح الجنان؛ بمعنی أنه كيف استخدمت أنماط المفارقة المتعددة في أدعية مفاتيح الجنان وکيف تجلّت مظاهرها وأدّت وظيفتها؟ 1ـ2. الفرضيات المفارقة تعبير لغوي يسمح للمبدع أن يفسح رحاب نصه، ليستوعب أثقال الكلام في محاورة اللّٰه وليتجسد نفسياته ويعطي المتلقي صورة واضحة تحفّزه على التفكير والتأمل ليصل إلى الحقيقة التي وصل إليها المبدع، کما أن المفارقة تقنية استخدمها الداعي لإبراز فكرته والتأكيد عليها عبر البنيات الدلالية المتضادة والمختلفة في أنماطها المتعددة، ليكون للمعنى بروز أكثر بمعرض المتنافرات والمتناقضات.
1ـ3. أهمية البحث سبب اختيار الموضوع هو أنّ الأدعية والمفارقة كليهما قد تمت حولهما على حدة دراسات عديدة في مجالات مختلفة؛ أما المفارقة في الأدعية، فتطرق إليها بحث واحد، فيمكن اعتبار هذا البحث جديداً غضّاً يريد إلقاء الضوء على قسم من خفاياها مفارقياً، والكشف عن متناقضاتها الظاهرية من خلال النماذج الدعائية. ومن الممكن أن يُعتبر مواصلة الانطلاق لهذه الحركة الجديدة في الأوساط الأدبية والنقدية إلى نظرة أدبية ونقدية جديدة في الأدعية، كشفاً عن دلالاتها ورسالاتها. 1ـ4. خلفيّة البحث إنّ المفارقة قد استحوذت دراستها على اهتمام العديد من النقاد والباحثين تنظيراً وتطبيقاً؛ إذ بحثوا عنها في الكثير من دراساتهم في آثار متعددة لعصور مختلفة من الجاهلية إلى الحديث، منها ما كان مفيداً جدًا في توجيه المقالة وتطويرها، إن لم یستخدم في نص المقالة، منها ما یلی: المفارقة في الشعر الجاهلي لملاذ ناطق علوان (1425ﻫ)، ومقالة المفارقة في شعر الفتوحات في صدر الإسلام لعمر زكي سمسم (2016م)، ومقالة المفارقة التصويرية في القرآن الكريم دراسة أدبية لآيات مختارة لمحمد صبحي عبد الفتاح الجمال (2019م)، ومقالة عناصر المفارقة في شعر أبي نواس لكرار عبد الإله عبد الكاظم الإبراهيمي (2017م)، ورسالة خطاب المفارقة في الأمثال العربية: مجمع الأمثال للميداني، لنوال بن صالح (1432 ـ 1433ﻫ)، ومقالة المفارقة التصويرية في شعر مهيار الديلمي لعامر صلال الحسناوي (2011م)، ومقالة المفارقة التصويرية في شعر معروف الرصافي، لحميد ولىزاده والآخرین (1392ﻫ.ش)، ومقالة فجوة التناقض قراءة في المفارقة السردية في رواية موت الأب للقاص: أحمد خلف، لحسنين غازي لطيف (2009م)، ومقالة مفارقة العنوان في قصص زكريا تامر، لأرشد يوسف عباس (2011م)، ورسالة شعرية المفارقة في رواية الرماد الذي غسل الماء لعز الدين جلاوجي، لمي زيادة دباب (1437 ـ 1438ﻫ)، ودراسة شعرية المفارقة قراءة في منجز البردوني الشعري لعمر باصريح (2016م). منها ما استفدنا منه في سياق المقالة وسبكها كالمفارقة الأسلوبية في مقامات الهمذاني، ليبرير فريحة (2010م)، ومقالة المفارقة في النثر العباسي، لصالح بن عبد اللّٰه الخضيري (1434ﻫ)، ومقالة المفارقة لنبيلة إبراهيم (1967م)، ومقالة جمالية الانزياح البياني في المفارقة القرآنية، لحميد عباسزاده والآخرين (1433ﻫ)، ومقالة المفارقة في الشعر السياسي عند نزار قباني لعدنان إشكورى والآخرين (1396ﻫ.ش)، ومقالة المفارقة في الشعر العربي الحديث بين سلطة الإبداع ومرجعية التنظير، لصليحة سبقاق (2015م). ومنها ما كان أساس المقالة الراهنة وتكوّن به نسيجُها لحمتُها وسداها، وهو المفارقة القرآنية دراسة في بنية الدلالة، لمحمد العبد (1415ﻫ). وهناك أيضاً كثير من الدراسات الأخرى في هذا المضمار؛ أما بالنسبة إلى الأدعية، فوجدنا بحثاً واحداً وطأ فيها قدماً لهذا الموضوع، وهو دراسة في أنماط المفارقة في نصوص الأدعية حسب بنية الدلالة: المفارقة البنائية، والتصوّر، والسلوك الحرکي، لمحمد حسين کاکوئى وعباس گنجعلى، مع أنها خزائن كنوز عظيمة لم تُفتح، بل لم تطرَق كثير من أبوابها بعد. والمقالة المشار إليها تطرقت إلى نفس الموضوع الذي نحن بصدده؛ ولكنها لم تتناول الأنواع التي تناولتها مقالتنا هذه أبداً. وأخيراً، وفي ذاك الكم الكثير، تكون دراسة المفارقات برعماً سيزدهر شيئاً فشيئاً.
إنّ تقنية المفارقة في معناها المصطلح مأخوذة من الأدب الغربي، وتعريفها وتحديدها أمر صعب والكتابة عنها أقرب إلى المخاطرة، وهي أشبه بمحاولة لملمة الضباب، ومن العسير تعريف دقيق ومختصر يشمل كل أنواع المفارقة، والتمييز بينها من زاوية معينة قد لا يكون كذلك من زاوية أخرى، وأنواعها قد تكون عند التطبيق، متداخلة الواحدة في الأخرى (علي، 1429ﻫ، ص 72 ـ 74). لقد جاء في لسان العرب: «الفَرْقُ: خلاف الجمع، فرقَه يفرُقُه فَرْقاً؛ وقيل فَرَقَ للصلاح فَرْقاً، وفَرَّقَ للإفساد تفريقاً. وفارق الشيءَ مفارقة وفراقاً: باينَهُ» (1408ﻫ، ج 10، ص 243). وكلّ ما جاء لمعنى "فرق"، يدل على أنّها يدور معناها حول التباعد. فمصطلح "المفارقة" معناه المذكور بجانب المعنى المراد، وما يراد الوصول إليه هو ليس المعنى المذكور، بل الأمر الذي يبعد عنه ويفارقه مفارقة شديدة. لم نكن نجد مصطلح المفارقة في قاموس الأدب العربي، إلّا بعد أن أدركه الأدباء العرب عقب معرفتهم الأدب الأروبي ودراسته وإثر تأثرهم به. ومن الطبيعي أن نری اختلافاً بين فهم المدلول لمصطلح المفارقة في الأدبين. ولكنه من المعلوم أن الأدباء العرب القدماء قد استعملوا في آثارهم خاصة عند الهجاء بعض معان أرغمت النقاد العرب القدامى أن يستخدموا عند تناولهم هذه النصوص عبارات تقترب مما يدلّ عليه مصطلح المفارقة، مثل السخرية والتهكم وغيرهما. فتقنية المفارقة عرفها البلغاء العرب قديماً على حد القول بالتهكم والسخرية ولطائف القول والذم بما يشبه المدح وما إلى ذلك؛ لأنّ «الحس بالمفارقة حس أصيل في الإنسان» (إبراهيم، 1987م، ص 140). وليست قائمة تحتوي على التقنيات المفارقية وطرق استخدامها، حتى يتمكن الناقد من وضع بطاقة تعريف محدّد على كل عبارة مفارقية يجدها؛ والسبب الأول هو أشكال التعبير، كالهجاء والسخرية والاغتراب والعبث والضحك؛ والثاني هو البون الشاسع بين نوعين من المفارقة مثلاً، كالمفارقة اللفظية ومفارقة الموقف، أو التشابه الكثير بين نوعين آخرين كمفارقة الموقف ومفارقة الأحداث؛ ولكن هناك شكل للمواجهة أو المقابلة في بعض الأنواع، كالمفارقة اللفظية ومفارقة الموقف، حيث يتم وضع شيء بجانب شيء آخر من الأشياء المتعارضة. وللمفارقة تعريفات متعددة متنوعة حسب أرضيتها وأنواعها وأنماطها وقد تُحدّد أحياناً وتُفسّر غير ما فُسّرت أو حُدّدت فيما قبل، أو تغايره أو تناقضه، منها: «هي الكلام الذي يقول شيئاً ويعني غيره، فالمفارقة رفض للمعنى الحرفي للكلام لصالح المعنی الآخر» (المصدر نفسه، ص 133)، دون إلغاء أحد الطرفين، وهي «تقوم على الغموض والازدواجية الدلالية التي تعد أساسية في طبيعتها ... وهي لا تتميز بالغموض فحسب، بل بالإحساس الغريب الذي يولده اشتمالها على عناصر متعارضة» (قاسم، 1982م، ص 144)، تكوّن سمتها الناتئة وتحثّ إعجاب المتلقي، فهي «في اللغة المتداولة أمر عجيب لا يُتوقّع» (عارفى، 1382ﻫ.ش، ص 48)؛ والعنصر الأساس فيها هو التضاد؛ إذ هي «تحدث عندما يناقض الشيء نفسه» (المصدر نفسه، ص 2). وأمّا التعريف القديم للمفارقة، فهو قول شيء والإيحاء بقول نقيضه، «قد تجاوزته مفهومات أخرى؛ فالمفارقة هو قول شيء بطريقة تستثير لا تفسيراً واحداً، بل سلسلة لا تنتهي من التفسيرات» (الخضيري، 1434ﻫ، ص 249)، فتطوّر مفهومها تدريجيّاً و«طرأ توسع جديد في مفهومها، واكتسبت عدداً من المعاني الجديدة التي شكلت تحولاً جذرياً في مفهومها مع عدم إهمال المعاني القديمة، وقد تعددت المفاهيم الجديدة وتباينت تبعاً لتعدد ثقافة الدارسين» (المصدر نفسه، ص 249)، حتّى صارت تقنية راهنة أقبل عليها المبدعون. والمفارقة انحراف قد يحدث في اللفظة الواحدة أو في العبارة، أو في السياق، فـ«ليس فقط في الألفاظ والمواقف، بل في الأشياء كلّها بالاعتماد على آليات خاصّة تُعتبَر شفرات ومفاتيح يبثّها صانع المفارقة في النّص من أجل توجيه المتلقّي نحو دلالة ما» (سبقاق، 2016م، ص 2)، فتكون لها دلالات عديدة تخلق بدورها دينامية في النص تصطحب المتلقي معها، «ليكشف عن جماليات رسمتها العلاقات المتناقضة والمتداخلة» (اشكورى وآخرون، 1396ﻫ.ش، ص 66). وإنّ المفارقة هي الخروج عن المنطق المألوف لغوياً أو تعبيرياً وإسقاط الروابط وأدوات الوصل، مهما كانت لغوية أو تعبيرية أو تصويرية، وكلها على شرط التضاد فيما بينها، ولا يمكن لنا أن نعتبرها جنساً أدبياً؛ لأنها تُستَخدم في الأجناس المختلفة ويعمّ استخدامها أغلبية الفنون. وأما بالنسبة إلى الأدب، فهي إحدى الحيل الأدبية التي «يُنتجه الغموض والإبهام في الكلام، الغموض الذي يوسّع تضادات المعنى الداخلية ويجعل المعنى ذا وجوه متعددة» (بهرهمند، 1389ﻫ.ش، ص 15)، ويفرغ التراكيب من مدلولاتها التي وضعت في أصل اللغة لتصبح دوالاً خاصة ومفاهيم. فالمفارقة محاولة لدفع المتلقي إلى أقصى المعنى المقصود. كل ما جاء في المفارقة صحيح؛ ولكن الذي يبدو أنه ميزة أخرى للمفارقة وأُغفِل عنه حتى الآن في حالة يمكن اعتباره من وظائف المفارقة، ألا وهو الإيضاح والإبانة، كما جاء لمعنى "فرق" في لسان العرب، حيث قال: «فرق لي هذا الأمرُ ... إذا تبيّن ووضح، ... وفَرَقَ لي رأيٌ أي بدا وظهر» (ابن منظور، 1988م، ص 306). وهذا ما نشعر به في الأدعية أكثر مما في غيرها؛ لأنّ الخطاب في الأدعية إلى اللّٰه سبحانه والمفارقة فيها تبرز لنا أصول المعنى وجذوره وتكشف أقصى الوشائج القائمة بين الداعي والمدعوّ وتدلّ على أقوى العلاقات بينهما، حيث لا ينفصم بأي حدث أو ظاهرة أبداً، فلا يمكن اعتبار غرض المفارقة فيها غير هذا المعنى.
كل أمر متكامل يتكوّن من أجزاء مختلفة وعندما يكون عامّاً، فتكثّرت طرق الوصول إليه وتنوّعت إلى عدة أنواع خاصة، إذا كان ذلك الأمر في حقل الأدب، فيختلف حسب الأذواق والسلائق والهوايات ويتنوّع على أساس وجهات النظر والرؤى النقدية. فنرى المفارقة التي تتكون إثر التضاد والتناقض اللذين يحدثان من طرق مختلفة وأساليب متنوّعة، قد تخرج من الإحصاء. فمن الطبيعي أن تنقسم إلى الألوان المختلفة حسب الأرضية التي تُستخدم فيها، فتحتاج في بنائها إلى المستويين، «المستوى السطحي للكلام، والمستوى الكامن الذي لم يعبّر عنه بعد، وبسبب توالد تواصل بين المستويين يبرز فيهما دلالة تسمى بالمفارقة» (علي، 2011م، ص 4). فهنا نأتي ببعض أنماطها التي يمكن تطبيقها في أدعية مفاتيح الجنان. 3ـ1. مفارقة النغمة[1] إنّ المفارقة النغمية كثيراً ما ترتبط «بأداء المنطوق بنغمة تهكمية، يعوّل عليها في إظهار التعارض أو التضاد، بين ظاهر المنطوق وباطنه، بين سطحه وعمقه، بحيث تقتلع هذه النغمة التهكمية، محتوى ذلك الظاهر لمصلحة الباطن. ومفارقة النغمة نوع من التهكم[2]، الذي يبدو ذماً في ثوب المدح. [وهناك نوع آخر من مفارقة النغمة هو] توجيه الإهانة في كياسة أو أدب لا لوم عليهما على شرط البعد عن المغالاة أو المبالغة[3]، [ومنها أيضاً] الاستخدام التهكمي للألقاب. وتتميز هذه المفارقة، بوجه عام، بنغمة عالية سامية[4]، وذلك لإظهار التهكم على المستويين: اللفظي والتركيبي». (العبد، 1415ﻫ، ص53 ـ 54). هذه الفقرات ما وجده البحث ملائمة لتطبيق هذه المفارقة: «وَاسْتُمِيحَ بَابُ فَضْلِكَ فَمَا أكدَيتَ أَبَيْتَ إِلّا إِنْعَاماً وَامْتِنَاناً وَإِلّا تَطَوُّلاً يَا رَبِّ وَإِحْسَاناً وَأَبَيْتُ يَا رَبِ إِلّا انْتِهَاكاً لِحُرُمَاتِكَ وَاجْتِرَاءً عَلَى مَعَاصِيكَ وَتَعَدِّياً لِحُدُودِكَ وَغَفْلَةً عَنْ وَعِيدِكَ وَطَاعَةً لِعَدُوِّي وَعَدُوِّكَ لَمْ يَمْنَعْكَ يَا إِلَهِي وَنَاصِرِي إِخْلالِي بِالشّكْرِ عَنْ إِتْمَامِ إِحْسَانِكَ وَلا حَجَزَنِي ذَلِكَ عَنِ ارْتكَابِ مَسَاخِطِكَ» (القمي، 1376ﻫ.ش، ص 169). يبدو أنّ قرينة المفارقة هنا لعبارة "وَأَبَيْتُ يَا رَبِ ..." تقع في علاقة تضاد دلالي مع العبارات السابقة عليها بسبب عدم الملاءمة[5] بينها وبين العبارات السابقة إلا في "أبيت" الذي يكون أساس المفارقة هنا؛ لأن المتلقي يتوقع أن يواصل النص مساراً معنوياً واحداً؛ ولكنه بعد هذا الفعل الذي جاء على وتيرة سوابقه، كأنه يفاجأ بموانع الطريق التي لا يتوقعها أو لا يتنبّأها أبداً، فيحدث الانحراف عن التوقعات[6] أو الانكسار فيها[7]. إنّ ما يتوقّعه المتلقي هو رصف الإيجابيات في معمولات "أبيتُ"، كما آلفه في ما سبق، خاصة باستخدام "إلّا"؛ فهنا يكثر التوقع ويقوّي الإيجابيات كالتحميد، والتمجيد، والشكر؛ ولكنه لا يجد شيئاً منها، بل ما يواجهه هو خلافها تماماً كانتهاك الحرمة واجتراء على المعصية وتجاوز الحدود؛ فهذا الإتيان بنقيض ما يتوقعه هو كسر التوقع، وهذا الكسر وسيلة لتهكم النفس؛ لأنه خرج دفعةً من المدح المتوقع إلى ذم لا يُتوقّع. «يَا مَوْلايَ أَنْتَ الَّذِي مَنَنْتَ أَنْتَ الَّذِي أَنْعَمْتَ أَنْتَ الَّذِي أَحْسَنْتَ أَنْتَ الَّذِي... أَنْتَ الَّذِي أكرَمْتَ تَبَاركتَ وَتَعَالَيْتَ فَلك الْحَمْدُ دَائِماً ... أَنَا الَّذِي أَسَأْتُ أَنَا الَّذِي أَخْطَأْتُ أَنَا الَّذِي ... أَنَا الَّذِي أَقْرَرْتُ أَنَا الَّذِي اعْتَرَفْتُ بِنِعْمَتِكَ عَلَیَّ وَعِنْدِي ...» (المصدر نفسه، ص 441). عند المقارنة بين الفقرات في هاتين الفئتين، تُدرَك الملاءمة أو عدمها للنغمة البدائية مع صلات الجملة للمقتطفات في كلا الفئتين "أنت الذي ..." و"أنا الذي ..."؛ لأن كلّها تبتدئ بثلاث فتحات منبورة تُلفظ بانفتاح الفم وإبراز الصوت في ذبذبة بالمستوى العالي. وهذا ينسجم مع جو النص، وهو الاعتراف بنعم اللّٰه وإحصاء ما منحه اللّٰه عبده، ويلائم السياق الذي يهتم بإظهار توجهات الخالق إلى المخلوق؛ لأنّ هذه النغمة المفتوحة تواصل من بداية العبارة إلى نهايتها وتتكرر في كل المقتطفات، وهذا ما يتوقعه المتلقي في القسم الثاني المبتدأ بـ"أنا الذي" ذات ثلاث الفتحات المنبورة، فيظن المتلقي أن الملقي يريد إظهار نفسه والاعتزاز بها. ولكنه لا يلبث أن يصل إلى النغمة المضمومة في الأفعال ذات معنى سلبي في نهاية العبارة، كأنه خجل واستحيى، فعدل من ذاك الانفتاح وتكبير النفس إلى التقرفص والانكماش على النفس. فهنا ينقطع توقع المتلقي وينحرف عن الفرح والسرور الناشئ من النغمة المنفتحة إلى الحزن والكآبة الناتجة من النغمة المضمومة المتكررة في نهاية كل العبارات في هذه الفئة. هذه النغمة المنفتحة المتوقع منها الفرج وإثارة السرور، واستمراريتها حتى النهاية، والتي ينبعث منها السعادة والفرح في سياق هذا النصّ، لا تدوم على حالها في القسم الثاني وتنتهي إلى ظهور نغمة مؤدية إلى الشعور بالذنب والجريمة، والحزن والكمد. هذا العنصر المفاجئ، أي تحوّل النغمة من الإيجاب إلى السلب، يجعل الإنسان يشعر بانكسار القلب والخاطر. فهذه المفارقة النغمية تدل على أن التباهي وحب الظهورية أمام الخالق سبحانه يؤدّي إلى ما لا يُرغب فيه، وهو الانغماس في مستنقع الهلاك، فيجب على الإنسان التوبة إلى اللّٰه حتى يخلّص نفسه ويفوز، هذا الذي ترمي إليه البنية الدلالية للمفارقة هنا. «... أَسْئلُكَ سؤالَ مَنْ أساءَ وَظَلَمَ وَاستكانَ وَاعْتَرَفَ وَأسْئَلُكَ أنْ تَغْفِرَ لي ...» (المصدر نفسه، ص 368). عندما نقرأ هذه العبارة دون انتباه إلى ما قبلها، نعتبرها ابتهالاً وتضرعاً من داع عاجز تعب يقتنع بأقل من القليل ويريد أن ينجي نفسه مما وقع فيه فقط، ولا يهمه أكثر منه؛ ولكنا عندما نراجع بداية هذا الطلب حيثما يقول: «... اللَّهُمَّ کَمَا کَفَیْتَ نَبِیَّك مُحَمَّدا صَلَّى اللّٰه عَلَیْهِ وَآلِهِ هَوْلَ عَدُوِّهِ وَفَرَّجْتَ هَمَّهُ وَکَشَفْتَ غَمَّهُ وَصَدَقْتَهُ وَعْدَك وَأَنْجَزْتَ لَهُ عَهْدَك اللَّهُمَّ فَبِذَلِكَ فَاکْفِنِی هَوْلَ هَذِهِ السَّنَةِ وَآفَاتِهَا وَأَسْقَامَهَا وَفِتْنَتَهَا وَشُرُورَهَا وَأَحْزَانَهَا وَضِیقَ الْمَعَاشِ فِیهَا وَبَلِّغْنِی بِرَحْمَتِكَ کَمَالَ الْعَافِیَةِ بِتَمَامِ دَوَامِ النِّعْمَةِ عِنْدِي إِلَى مُنْتَهَى أَجَلِي أَسْئلُكَ سُؤَالَ مَنْ أَسَاءَ وَظَلَمَ وَاسْتَکَانَ وَاعْتَرَفَ وَأَسْئلُكَ أَنْ تَغْفِرَ لِي مَا مَضَى مِنَ الذُّنُوبِ ...» (المصدر نفسه، ص 367 ـ 368)، نرى أنّ الداعي لم يكن قانعاً بالقليل فحسب، بل يطلب ما هو للشخص الأول عند اللّٰه سبحانه، والذي هو ذريعة الوجود للعالم، كما قيل «لولاك لما خلقت الأفلاك» (المجلسي، 1403ﻫ، ج 15، ص 28)، والذي لم يرتكب أي خطاء سهواً ناهيك عن الإساءة والظلم، بل بلغ قمة الإنسانية والألوهية ومنحه اللّٰه سبحانه مقام الشفاعة والاستغفار لعباده. فالداعي هذا يطلب أكثر بالكثير مما هو يستحقه أو لا يستحقه أبداً؛ لأنه هو الذي أساء وظلم، فنشعر بنوع من الهزء والسخرية الظاهرين؛ لأن المسيء الظالم لا يطلب الشيء العظيم عادة ولا يتوقعه حتي يحسّن الوضع شيئا فشيئا ويحصل على ثقة المدعو لطلباته العظيمة؛ ولكنه استخدم هذا المظهر المخدع لمصلحة الباطن المملوء بالأمل والرجاء؛ لأنه أقام نفسه مقام ذلك الشخص. فيدل هذا الاستخدام المفارقي على رجاء فائق جداً، حيث يجعل الداعي يدعو العظيم الأعظم كل ما يليقه، وإن لم يكن الداعي من أهله. 3ـ2. المفارقة اللفظية[8] في المفارقة اللفظية دلالتان للفظ الواحد: الدلالة على المعنى، والدلالة على معنى المعنى. فيجب أن ننفذ من الحدث اللفظي إلى الحدث المغزي، أي مما قيل إلى ما يُقصَد، حتّى ندرك هذه المفارقة. فهي مفارقة «لا تخرج عن كونها دالاً يؤدّي مدلوليين نقيضين: أحدهما قريب نتيجة تفسير البنية اللغوية حرفياً، والآخر سـياقي خفي يجمد القارئ في البحث عنه واكتشافه» (فريحة، 2010م، ص 15). ويقول ميويك عنها: «المفارقة اللفظية انقلاب في الدلالات» (المصدر نفسه، ص 15)؛ ولكنه ـ خلاف مفارقة الأحداث ـ انقلاب غير زمني؛ لأنّه لا يحدث مع مرور الزمن. والمفارقة اللفظية أكثر بروزها «عندما يعكس ظاهر الدلالة القضية ويحسّ القارئ بالمغايرة بين المبنى والمعنى، وهنا يمرّ القارئ بثنائيّة حادّة بين اللفظ والمعنى» (عباس زاده وآخرون، 1433ﻫ، ص133). فهي مفارقة «يكون فيها المعنى الظاهر واضحاً ولا يتسم بالغموض واللفظ المفارقي ذا قوة دلالية مؤثرة» (البرسيم، 2002م)، على السياق ويعتمد عليه المبدع ويُخطّط به لمفارقته عبر التضاد بين المظهر والمخبر ويقصد بها المفارقة التي يكون فيها المعنى الضمني الذي عبر عنه، ظاهراً. وتأتي المفارقة اللفظية عبر حدّة التضاد بين المتضادين أو المتناقضين، بين معناه الظاهر من جهة ومفهومه المدرك من السياق من جهة أخرى وتقع بينهما مسافة توتر يجعل المتلقي يتأمّل فيه ولا يكتفي بالظاهر. وتنبثق هذه المفارقة من سلسلة التضادات التي تراكمت في الأدعية. فيعتمد الدعاء على أسلوب التراكم الدلالي بالتضادات الفرعية داخل نسيج النص، للوصول الى قمة المفارقة السياقية التي تنتجها الأدعية ككل. «أَفَتُرَاكَ سُبْحَانَكَ يَا إلَهي وَبِحَمْدِكَ تَسْمَعَ فِيهَا صَوْتَ عَبْدٍ مُسْلِمٍ سُجِنَ فِيهَا بِـمُخَالَفَتِهِ وَذَاقَ طَعْمَ عَذَابِهَا بِمَعْصِيَتِهِ وَحُبِسَ بَيْنَ أَطْبَاقِهَا بِجُرْمِهِ وَجَرِيرَتِهِ ...» (القمي، 1376 ﻫ.ش، ص 106). «وَمِنَ الزَّقُّومِ وَالضَّرِيعِ فَلا تُطْعِمْنَا ... وَمِنْ ثِيَابِ النَّارِ وَسَرَابِيلِ الْقَطِرَانِ فَلا تُلْبِسْنَا» (المصدر نفسه، ص 300). ولفظة "الذوق" تُستخدم للقليل؛ ولكن العذاب ليس بقليل ولا محدد بوقت قصير، کما أنه: «وجود الطعم بالفم، وأصله فيما يقلّ تناوله دون ما يكثر، فإن ما يكثر منه يقال له: الأكل، واختير في القرآن لفظ الذوق في العذاب؛ لأن ذلك، وإن كان في التعارف للقليل، فهو مستصلح للكثير، فخصه بالذكر ليعم الأمرين، وكثر استعماله في العذاب» (الراغب الأصفهاني، 1416ﻫ، ص 314). ومن جانب آخر، «لفظ "ذوق" فيه رقة ولطف، حيث إنّه يُستعمل في اختبار طعم الأشياء ذات الطعم والموثوق به في لذة طعمه وجودتها» (حنفي، 1992م، ص 223). إن الملاحظة الجديرة بالذكر هنا هي أنّ وضع الذوق مع العذاب، والإطعام مع الزقّوم والضريع، والإلباس مع النار والقطران، يبيّن بشكل ملحوظ أنه لا مجال لكل واحد من الذوق والإطعام والإلباس بما يسرّ في تلك المواقف المهيّأة لعقاب الكفار والمكذّبين والمستكبرين وأمثالهم. فاستخدام هذه الأفعال في ذاك السياق النصي طلباً لعدم حدوثها، يلهم أنها انزاحت عن معناها الأصلي تهكّماً لمن تصدر هذه الأحكام عليه. فصارت المجازات اللغوية، مجازات إفرادية من نوع إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر. وفي الوقت نفسه، دخلت في الاستعارة العنادية التهكمية التي تستعمل في الضد أو النقيض؛ ذلك لأنّ الذوق كان في العادة لأكل القليل المرتاح للنفس والعذاب ليس بقليل ولا مريح وطعمه مرّ مزعج تمام المر والإزعاج، والإطعام لإشباع الجائع الذي يشعر بالهدوء والسكينة والارتياح النفسي عند شبعه؛ ولكن الزقوم والضريع لا يسمنان ولا يغنيان من الجوع، بل يزيدان على الألم والوجع. هذا، والإلباس للستر والزينة، ولكن النار والقطران عند وقوعهما على الجسم يحرقانه أشد الإحراق لا يميتان ولا يحييان، ولا يبقيان ولا يذران، فلا شأن للألبسة. فإنّ هذا الاستخدام في ذاك السياق مما يزيد طاقة العبارة وقدرتها المفارقية على التهكم عند حصول تلك الأحداث لمن يستحقها. فالمفارقة هنا نابعة من التضاد بين المعنى المباشر المنطوق والمعنى غير المباشر، وهذا التضاد يحدث من خلال السياق الراهن للنص. إنّ ما يقوي بنية المفارقة في هذه الفقرات هو «ربط بنية نصية صغرى ببنية نصية كبرى هي مجموع المنطوقات وما تحتويه من حركات، لملاحظة العلاقة ـ على المستوى الدلالي ـ بين هاتين البنيتين» (العبد، 1415ﻫ، ص 77 ـ 78). ويأتي هذا الربط بأساليب مختلفة كالتكرار، والتفصيل، ومصاحبة المتجانسات (مراعاة النظير) عندما «تنتجها الصيغ السطحية[9] للنص، في هيئة علاقات فردية تنهض بين الجمل أوالوحدات الجملية الكبرى[10] في النص، وهي تمظهر سطحي[11] للعلاقات الكامنة التي تربط النص كالمفارقة» (المصدر نفسه، ص 78). والربط ومعيار التماسك في هذه الفقرات يختلف حسب السياق النصي، ففي الفقرة الأولى هو الذكر التفصيلي أو الجزئي للحركة الكلية أو الصورة الكلية لسماع صوت العبد، حيث كأنه يشرح صوت العبد بذكر سبب صوته، وهو تعذيبه وحبسه بين أطباق النّار مع ضجيجه آملاً برحمة اللّٰه، وذكر فعل "ذاق" الدال على اعتراء حالة السرور والارتياح النفسي، في مجموع الكلمات الدالة على الكآبة والكمد والحزن، يكون كهوة بينها ولكن الاستخدام المفارقي لهذا الفعل يخرجه عن صفته الحسنة، فيكون سبباً للانسجام والتماسك النصي بينها. وفي القسم الثاني، تم التماسك النصي بالتكرار الضدّي للأفعال: "فأطْعِمْنَا / فَلا تُطْعِمْنَا، وفألْبِسْنَا / فَلا تُلْبِسْنَا". فالصورة الأولى للإطعام صورة حقيقية لها، وهي متكونة من أطعمة الجنة اللذيذة الشهية كثمار الجنة ولحوم طيرها؛ والصورة الثانية للإطعام هو إطعام الزقوم والضريع اللذين ليسا شيئين يُؤكلان؛ وهكذا تكرار التضاد للإلباس، وهو صورة لـ"فَألْبِسْنَا / فَلا تُلْبِسْنَا"؛ فالصورة الأولى للإلباس هو الإلباس الحقيقي من ثياب الجنة كالإستبرق والحرير، والتي تكون زينة وحلية للابسها وتشير إلى مكانة صاحبها؛ وأما الصورة الثانية للإلباس، فهي إلباس مستعار للنار والقطران اللذين يكونان عذاباً وعقاباً لصاحبهما ويشيران إلى مكانة صاحبهما السفلى. فالأساس الذي تبنّت عليها المفارقة هو السياق اللغوي من جانب والموقف التبليغي لهذه الفقرات من جانب آخر. «اَللّهُمَّ اِنَّكَ اَنْزَلْتَ في کِتابِكَ اَنْ نَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنا، وَقَدْ ظَلَمْنا اَنْفُسَنا؛ فَاعْفُ عَنّا ...» (القمي، 1376ﻫ.ش، ص 326). حدثت المفارقة هنا في فعل "ظلمنا" من جانبين: والأول هو أنه فعل لم يحدث مع مرور الزمن، بل حدث طوال الزمن، فيكون الفعل غير زمني، بل فعل دائم من قبل الإنسان العادي المتراوح بين الألوهية والإنسانية على الأقل، إن لم نعتبره مائلاً إلى الإنسانية تماماً؛ والآخر هو ما يعطينا السياق، وهو أنّ الحدث نفذ من اللفظ إلى المغزى. فنرى أنّ المعنى الظاهر هو المعنى الفاعلي والمعنى المقصود منه هو المعنى المفعولي. فالسياق جعل الفاعل فاعلاً ومفعولاً معاً. فالفاعل هو الظالم والمظلوم في آن واحد. فالمستنبط هو أنّ هذه الثنائية الحادة في الفعل هي التي تكوّن توتراً يجعل القارئ يدرك المغايرة بين المبنى والمعنى. فجاءت هذه المفارقة لتبيّن موضع الداعي في حاجته إلى عفو الرحمن أشدّ الحاجة؛ لأنّ «يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم» (نهج البلاغة، 1422ﻫ، ص 689). فاللّٰه سبحانه هو عون المظلوم علی الظالم أشد عوناً وأقوى، والمظلوم هنا هو الظالم الذي لم يجد من يعفو عنه؛ فهو مظلوم؛ لأنّه لم يُغفر فيُعاقَب، إلا أن اللّٰه سبحانه وتعالی يغفره ويصفح عنه. 3ـ3. مفارقة الحكاية أو الإيهام[12] هذه المفارقة خطاب بالشيء على خلاف الاعتقاد، حكاية على زعم المتلقي أو «المتحدث عنه في المفارقة، أي تختار المفارقة من اللفظ ما يحكي هذا الزعم، ويوهم بأنه حقيقي ومقرر، في الوقت الذي تزدريه وتسخر منه، ويعني ذلك، أن اللفظ الذي تختاره المفارقة، له معنيان: أحدهما قريب توهم به المفارقة بصحة المعتقد؛ والآخر بعيد تنقض به المفارقة هذا المعتقد وتنفيه لتثبت ضده تماماً ... . والطريق الذي تسلك هذا النوع من المفارقة هو أنها تأخذ من المعاني السابقة خط المعنى المجازي، وهو ـ في هذه الحال ـ مجاوزة معنى المنطوق إلى ضده أو نقيضه» (العبد، 1415ﻫ، ص 111). «إلَهي لا تَرُدَّ حَاجَتي وَلا تُخَيِّبْ طَمَعي وَلا تَقْطَعْ مِنْكَ رَجَائي وَأَمَلي ...» (القمي، 1376ﻫ.ش، ص 261). إنّ كلمة "الطمع" تعنى في المعاجم "الحرص"؛ «طَمَعَ في الشيء وبه: حرص عليه» (ابن منظور، 1988م، ج 8، ص 240)، وهو كما جاء في المفردات: «نزوع النفس إلى الشيء شهوة له» (1416ﻫ، ص 505). فإنّه عمل لا يوصَى به في معتاد العرف، بما فيه من المساوئ، وكل ما وصل إلينا من أبويْ هذه الأمة عن الطمع، يحذّر الناس عنه؛ لأنهما وصفا الطمع بأنه يستعبد الإنسان ويسوقه إلى الذّلّ والهوان، والكبر والعجب والغرور، فلاماه وعدّا سماته السيئة السلبية بأنه سبب للتبعية والأسر والشره والمفسدة، ويؤدّي إلى الفقر وينتهي بالهلكة (نهج البلاغة، 1422ﻫ، ص523 و623 و651 و675 و683 و685 و702؛ نهج الفصاحة، 1394ﻫ.ش، ص 105 و146 و207 و297 و380). وعندنا أيضاً القرآن العظيم الذي قد استُخدم فيه الـ"طمع" في المعنيين: المرغوب عنه في الآية الـ32 من سورة الأحزاب؛ والمرغوب فيه في الآيات الأخرى (البقرة 2: 75؛ المائدة 5 : 84؛ الأعراف 7: 46؛ الشعراء 26: 51؛ الأحزاب 33: 32؛ المعارج 70: 38؛ المدّثر 74: 15). فمن أيّ نوعٍ الطمعُ في هذا المقتطف؟ أمن المحذَّرات منه أم من المحرَّضات عليه؟ أو هذه الکلمة من الأضداد؟ لا! ليست من الأضداد، بل يكسب معناه حسب السياق الذي يُستخدَم فيه، كما جاء في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة. فالطمع هنا في هذا المقتطف يلهم إلى المتلقي في نظرته الأولى، ما يكرهه ويتجنّب منه حسب ما عرف من العرف وما وصل إلى سمعه من تبعات الطمع وعواقبه؛ لأنّ الطمع هو نفسه يؤدّي إلى الخيبة. والدعاء هنا يطلب عدم الخيبة من الخيبة، أي يطلب الخيبة والحرمان؛ ولكن ما يمنحه السياق في نظرته الثانية العميقة هو خلاف الظاهر تماماً؛ لأنه يتغير معناه ويتحول إلى الرجاء والأمل عند اللّٰه والخير وحسن العاقبة وما يتوقعه في دنياه وآخرته، ويصبح شيئاً جميلاً يوصل حصوله الإنسان إلى الهدوء وارتياح النفس والطمأنينة. والغرض من هذه المفارقة أي اختيار لفظ الطمع على مرادفاته، هو الإيحاء إلى الحالة الداخلية التي كان الداعي عليها من حرصه وشدّة نزوع نفسه إلى ما ترغب فيه. «إلَهي وَقَدْ أَفْنَيْتُ عُمْري في شِرَّةِ السَّهْوِ عِنْكَ وَأبْلَيْتُ شَبَابي في سَكْرَةِ التَّبَاعُدِ مِنْكَ إلَهي فَلَمْ أَسْتَيْقِظْ أيَّامَ اغْتِرَاري بِكَ وَرُكُوني إلى سَبيلِ سَخَطِكَ ...» (القمي، 1376ﻫ.ش، ص 261). وإنّ المفارقة هنا تحدث من الصياغة التركيبية التي تتكون من الكلمتين: السكرة والتباعد. التباعد هو الفراق والانفصال؛ ولكن السكرة ناتجة من الاقتراب والامتزاج كسكرة الخمر عند شربها وأثرها في لبّ شاربها، وسكرة النوم عند حصول النوم وفقدان الوعي، وسكرة القدرة عند حصولها وشعور السكران بها، وسكرة الشباب، وسكرة المدح وسكرة العلم وغيرها من السكرات، كلّها تحدث عند الاقتراب واتحاد ظاهرة المسكر مع السكران أو اجتذابها فيه؛ ولكن التباعد يفارق عما يؤثّر ويرسّخ. فهذه السكرة أي سكرة التباعد، تحدث في زعم الّذي يظنّ أنّ التباعد هو الّذي يعتبره السكران اقتراباً، نعم! ولكن إلى نفسه الأمارة؛ لأنّه يحسب نفسه حرّاً طليقاً من كلّ ما يحدّده ديناً ودنياً. والظاهر أنّ النص لما جعل السكرة للتباعد بدل التقارب، قد كرّس على جهل الإنسان الذي لزم ما لا ينفعه فحسب، بل يضرّه دائماً، الإنسان الذي جعل يقدّس الناقص وينقص المقدّس. فوضِعت بنية المفارقة هنا على المستوى الاستبدالي، حيث جعل السكر الحاصل من الابتعاد والافتراق بدل السكر الحاصل من الاقتراب والاجتذاب. هذه المفارقة تُنتِج التعريض والتلويح، حيث تظهر التهكم بمعتقدات الإنسان الغافل وتكشف عملياً عن التضاد والتنافر بين معتقداته وبين الواقع والحقيقة. ولعله يوحي إلى حرمة التباعد من اللّٰه كحرمة الخمر؛ لأنه مسكر مثلها. «وَالحَمْدُ للّٰهِ الّذي أسْئَلهُ فَيُعْطيني وَإنْ كُنْتُ بَخيلاً حينَ يَسْتَقْرِضُني ...» (القمي، 1376ﻫ.ش، ص 306). عند ما يسمع المؤمن كلام اللّٰه سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، حيث يقول: «مَن ذَا الَّذِی یُقْرِضُ اللّٰه قَرْضًا حَسَنًا فَیُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا کَثِیرَةً واللّٰه یَقْبِضُ وَیَبْسُطُ وَإِلَیْهِ تُرْجَعُونَª (البقرة 2: 245)، يرغب في الإقراض ويشتاق إلى إعطائه أشد الاشتياق؛ ذلك لأنه موقن أنّها وعد صادق من اللّٰه الذي لا يخلف وعده أبداً، ولكنّ الداعي يستخدم هذه الخلفية الذهنية من جانب لإلقاء الكلام. ومن جانب آخر، يستفيد من عنصرين: هما النبرة العاطفية في الآية ومعنى الاستقراض المدرَك من السياق، حكاية على زعم المتلقي، ليخطر بباله أنّ اللّٰه يطلب القرض ليتدارك النقص والضعف، فيبخل عن إعطائه إيّاه سبحانه. أما سؤاله من اللّٰه تعالى وإعطائه سبحانه إيّاه، فيؤكّد على المعنى المفارقي في هذه الفقرة، ويُنقض ذاك المعتقد ويثبت ضده تماماً ويخرج الاستقراض والنص من الضحك الظاهر وبساطته إلى جدّ الباطن وثقله ويعطي النص معناه البعيد هو تقييم إمكانية العبد وطاقته لإنجاز الفعل المطلوب حتی يرقى نفسه ويحصل علی الدرجات العظيمة عند اللّٰه سبحانه. 3ـ4. مفارقة الإلماع[13] الإلماع هو اللمعان من لمع ــَـ، أي ضاء وتلألأ، وهو في علم البلاغة «كلام يوحي إلى العقل بفكرة عن شيء لم يُصرّح به» (وهبة والمهندس، 1984م، ص 60). وفي النقد الحديث، هو ملاحظة رمزي أو إيماءة تلميحية تتعلق بشخص أو شيء ما، وخاصة من النوع الساخر [أي يقصد منه الانتقاص من قدر ذلك الشخص أو تحقيره على وجه الخصوص]. يبدو أن هذا التعريف يميز نوعاً خاصاً من عرض قضية ما عرضاً مفارقياً، يلحظه المرء فيما تهمله المفارقة [أي البنية المفارقية] أكثر مما يلحظه فيما تذكره صراحة» (لیتش، 1991م، ص 174 ـ 175)، أي إنّ انتباه المتلقي يكون أكثر تركيزاً على ما لا تقوله المفارقة في هذه البنية صراحة، ولكن بشكل ضمني في معناها. عندما يقال مثلاً: إنّ فلاناً عندما يصل إلينا، يكون شجاعاً، (بمضمون کلام العرب: أسد عليّ وفي الحروب نعامة)، فهذا الكلام يشير إلى شيء اختفى وراءه، وهو أنّ المعتاد منه هو الجبن، والشجاعة شيء عارض عليه، «يجعله ملحوظاً مراقباً» (العبد، 1415ﻫ، ص 152)، فيتكون تضادّ بين المعنى المباشر والمعنى غير المباشر. فالمتكلم يقصد الجبن ويجعله الأصل ويتكلم عن الشجاعة ويفترضها الأصل، والذي يسمعه المتلقي مكبَّراً هو الشجاعة ولا يلبث أن يدرك الحقيقية ويركّز عليها وهي الجبن الدائم. ومن المثير للاهتمام في هذا المثال، «أنّ إدراج كلمة فقط سيزيل القناع المفارقي، ويجعل المرء [المتلقي] على وعي مباشرةً بموقف الكاتب الحقيقي» (لیتش، 1991م، ص 175). إنّ فلاناً عندما يصل إلينا فقط، يكون شجاعاً. إنّ الأدعية في بعضها خطابات من الممكن إدراجها ضمن مفارقة الإلماع، وإن لم تكن في صميمها بالضبط؛ هذا لأنّ «التضاد فيها بين المعاني المباشرة والمعاني غير المباشرة، قائم على التضاد بين الافتراضات المباشرة والافتراضات غير المباشرة غايتها إنزال المتهكم به منزلة متدنيةً تليق به» (العبد، 1415ﻫ، ص 153). «إِلَهِی ... لَئِنْ طَالَبْتَنِي بِذُنُوبِي لَأُطَالِبَنَّكَ بِعَفْوِكَ وَلَئِنْ طَالَبْتَنِي بِلُؤْمِي لَأُطَالِبَنَّكَ بكرَمِكَ وَلَئِنْ أَدْخَلْتَنِي النَّارَ لَأُخْبِرَنَّ أَهْلَ النَّارِ بِحُبِّي لَكَ» (القمي، 1376ﻫ.ش، ص 324). «إِلَهِي إِنْ أَخَذْتَنِي بِجُرْمِي أَخَذْتُكَ بِعَفْوِكَ وَإِنْ أَخَذْتَنِي بِذُنُوبِي أَخَذْتُكَ بِمَغْفِرَتِكَ وَإنْ أَدْخَلْتَني النَّارَ أَعْلَمْتُ أهْلَها أنّي أُحِبُّكَ» (المصدر نفسه، ص 261). هذه المقتطفات من الأدعية تتكلم عن الحبّ الإلهي الذي «هو الانشداد بين العبد ومولاه بما أدركه من عظمته وجلاله وجماله» (مكّاوي، 1435ﻫ، ج 1، ص 126). والمفارقة تكونت فيها للاجتماع بين الحب الإلهي وإدخال المحب في النار مع أنّ الحبّ الإلهي هو الذي ينجي من النار، فضلاً عن أنّ «النار هي منزل أعداء اللّٰه والناس المنغمسين في الخطيئة والعدوان، وأصدقاء اللّٰه ومحبّيه لا يقبلون على الإطلاق؛ لأن يُعَدّوا في زمرتهم، فهم يحيون بحب اللّٰه ويعيشون به» (عبد خدايى، 1383ﻫ.ش، ص 174). فظاهر الكلام يقول شيئاً يلفت انتباه المتلقي كثيراً، وهو إدخال المحبّ في النار. فلا يلبث أن يدرك المتلقي ما يناقض إدراكه البدائيّ ويركّز فكره عليه بأنّ الحبّ نجّاه منها قبل أن يدخلها. واستخدام شرط "إنْ" يؤكّد على هذا المعنى؛ لأنّ تحقق الجواب متوقف على تحقق الشرط؛ ولكن هذه الجملة على أسلوب كأنه جعل الجواب حاجزاً لتحقق الشرط. فالجواب لا يتحقق لعدم تحقق الشرط. والغرض للمفارقة هنا الحطّ من شأن أهل النار؛ لأنهم لم يحبّوا اللّٰه، وهذا الكلام أي "أحبُّك" أو "حبّي لك" يوحي أنّ كل من يحبّ اللّٰه لا يدخل النار ولا يكون في زمرة أهلها؛ لأنّه يفعل ما لا يفعله أهل النار، وهو الحبّ الأعظم، أي حبّ اللّٰه تعالى الذي «تكون المعرفة باللّٰه هي المنبع والدافع له ومسيرته لا تقف إلا عند مرفأ التسليم للّٰه والفناء في ذاته» (مكّاوي، 1435ﻫ، ج 2، ص 382). «إنّ العلامات المفارقية التي لا تجعلنا نفهم وحدة نصية ما فهماً حرفياً، أو نفسّر مثيراً نصياً بمعناه الحرفي، لا تحتاج دائماً إلى أن تكون حاضرة في النص حضوراً صريحاً، ومن أجل ذلك، فإنّه باستطاعتنا، أن نجعل الدال [دال الحبّ] علامة برّانيّة[14] على المفارقة؛ لأنها تشير إلى مدلولات خارج النص ذاته» (العبد، 1415ﻫ، ص 155). ولكن هنا علامات أخرى حاضرة بينها علاقات دلالية تركيبية تؤكّد على البنية المفارقية في هذه المقتطفات، منها: علاقات المصاحبة: كمصاحبة "العفو" و"الكرم" و"الغفران" من جانب اللّٰه سبحانه، و"الذنوب" و" اللؤم" و"الجرم" من جانب العبد. علاقات التضاد: كالعلاقة بين الذنب والعفو، وبين اللؤم والكرم، وبين الجرم والعفو. العلاقات السببية: نحو العلاقة بين الأخذ والمطالبة وبين معمولاتهما المجرورة. «وَهَا أنَا مُقْبِلٌ عَلَيْكَ مُلْتَجِئٌ إلَيْكَ بَاعِدْ بَيْني وَبَيْنَ أعْدَائي كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ أعْدَائي اخْتَطِفْ أَبْصارَهُمْ عَنِّي بِنُورِ قُدْسِكَ وَجَلالِ مَجْدِكَ ...» (القمي، 1376ﻫ.ش، ص 178). إنّ النور هو اللّٰه وهو الرحمة والحنان والرأفة. وإذا تجلّى على قلب، يهديه إلى طريق الحق، والمفارقة تكونت هنا على الوضع غير المتلائم في استخدام نور قدس اللّٰه؛ لأنّه في أصله، أساس للرؤية والهداية، خاصة إذا كان من جانب اللّٰه سبحانه. فاستُخدِم هنا على شكل لا يُنفِع غير المستأهلين فحسب، بل يضرّهم أشدّ الإضرار، كأنّه له فاعلية تختلف عن فاعليته للمستأهلين له تماماً وأصبح سلاحاً للنقمة بدل أن يكون سلاحاً للرحمة (درويش، 2011م، ص 96 ـ 95). فالتضاد قائم بين المعنى المباشر المعروف لنور اللّٰه المقدس ـ وهو الذي يؤدّي إلى الهداية والرشاد ـ والمعنى غير المباشر الذي نقلت عنه هذه الكلمة إلى حقل دلالي آخر، ليبدو مضاداً لأصله كل الضدّ، فهو عامل لضلالة غير المستأهلين. فهذا التضاد قائم على التضاد بين فاعلية شيء مطلوب مرغوب فيه للكل، أي تضاد عمل نور اللّٰه المقدس للمستأهلين وبين فاعليته لغير المستأهلين؛ ذلك لأنّ أنوار قدسه رائقة لمحبّيه لا لغيرهم: «يَا مَنْ أنْوارُ قُدْسِهِ لِأبْصَارِ مُحِبّيهِ رَائقَةٌ» (القمي، 1376ﻫ.ش، ص 208). إنّ النور عندما يسطع يشمل كل من في رحابه ولا يقتني عدداً ويترك الآخرين، فيسطع على كلهم على السواء؛ ولكنّه ينفع البعض ويُجلي قلوبهم ويُضيئها، ويضرّ البعض الآخر ويُعميهم ويغشّي على أبصارهم في قلوبهم كانت أم على رؤوسهم. فطلب الإضرار هذا لهم، هو الحط من شأنهم بأنهم لا يليقون رحمة اللّٰه الواسعة. وبلاغة النصّ تتجلّى في توظيف النور المفارقي لفاعليته على المستويين: هما النفع والضرر، ليبيّن التعارض بين حقيقة أحبّاء اللّٰه وحقيقة أعداءه.
الخاتمة توصلت المقالة إلى ما يلي: إنّ المفارقة في أدعية مفاتيح الجنان وليدة المواقف النفسية وحصيلة الإدراكات العقلية والمعرفة والثقافة الدينية، وهي من إحدى الوسائل الفنية التي أستُعينت بها لتجسيد الواقع الإنساني وإخراجه من نطاق الذاتية المجردة إلى نطاق الموضوعية الحسية من خلال إبراز التناقضات المختلفة التي تخامر طوايا الذات أو تتراءى في أطراف الواقع الإنساني المعيش. تحققت هذه المفارقات؛ لأنها تتكئ على المعرفة والوعي اللذين يجعلان النص ثمّ متلقيه في حالة من التوتر والانشطار والزلزلة، وتشبه بالصدمة التي تخرج متلقيه من السكون والرتابة إلى التأمل والتفكير. ليست المفارقة في الأدعية للضحك أو الهزء أو الحطّ من شأن الآخرين، بل العامل في مفارقتها يعود إلى المبدع صاحب المفارقات؛ لأنّ المقام والحال يكونان أمام من هو فوق كل شيء وكثيراً ما تتكوّن للاستعطاف والاسترحام، ولا مجال للضحك والهزء، فنأتي لعرض المعنى والمقصود أكثر ظهوراً وبروزاً. وقد يستمد المفارقة الدعائية من المتلقي خلفية وعيه لاستكمال معناها، أو من تصوراته الذهنية التي تغاير ما تعطيه المفارقة، كما هو الحال في مفارقتي الإلماع والحكاية في أدعية مفاتيح الجنان. لا نستطيع أن نطبّق كل ما وصل إليه الباحثون والنقاد حول المفارقات في النصوص الأخرى، على نصوص الأدعية، فقد نحتاج إلى أن نأتي بتعريف جديد لبعض أنماطها أو ببعض التغيير في بعض آخر. إنّ صاحب المفارقة والضحية في أغلبية الأدعية شخص واحد لايرفض واقع الموقف فحسب، بل يقبل عليه ويحاول أن يشارك في إصلاحه ورقيه.
وقد نرى في بعض الأدعية أن المفارقة تحدث بالتكرار الضدي للفعل الواحد الذي يعطي النص صورتين مختلفتين: الواحد منهما صورة ترغب فيه النفس؛ والأخرى تنصرف عنها، كما أشير إليه في النص كعمل الفعلين من مصدري الإطعام والإلباس وكفعل النور في الإبصار والإعماء. إنّ التنويع في أنماط المفارقة دليل على تمكّن الداعي في الخطاب وإجادته سبك الحروف وعلمه بأساليب البيان وقدرته على استيعاب فنون هذا الأسلوب الأدبي. فتكوّنت مفارقةٌ تكشف عن المشاعر وتُوقظ النفس من الغفلة لتقف في وجهها، فالحالة هذه كلها تجعل المفارقة في الأدعية ترقی إلى المستوى الترانسندنتالي[15].
[1]. Irony of Tone [2]. Sarcasm [3]. Exaggeration [4]. Elevated tone [5]. Irrelevance [6]. Deviation from Exepectations [7]. Exepectations Breaking [8]. Verbal Irony [9]. Surface Forms [10]. Clause Units [11]. Surface Manifestation [12]. Irony of Anecdote or Delusion [13]. Innuendo or Allusion Paradox [14]. Exophoric [15]. Transcendental | ||
مراجع | ||
* القرآن الكريم. * نهج البلاغة. (1422ﻫ). شرح علي محمد علي دُخيّل. بيروت: دار المرتضى. * نهج الفصاحة. (1394ﻫ.ش). تحقيق وترجمة علي غضنفري. قم: عصر غيبت.
أ. العربية إبراهيم، نبيلة. (1987م). «المفارقة». فصول. ع 3 ـ 4. ص 131 ـ 141. الإبراهيمي، كرار عبد الإله عبد الكاظم. (2017م). «عناصر المفارقة في شعر أبي نواس». اوروك. ع 2. ج 10. ص 83 ـ 100. ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم. (1988م). لسان العرب. بيروت: دار إحياء التراث العربي. اشكورى، سيد عدنان؛ وهومن ناظميان، وحسين ابويسانى، ومجتبى بهروزى. (1396ﻫ.ش). «المفارقة التصويرية في الشعر السياسي عند نزار قباني». مجلة الجمعية الإيرانية للغة العربية وآدابها. ع 42. ص 65 ـ 88. باصريح، عمر. (2016م). شعرية المفارقة: قراءة في منجز البردوني الشعري. عمان: دار کنوز المعرفة العلمية. بن صالح، نوال. (1432 ـ 1433ﻫ). خطاب المفارقة في الأمثال العربية: مجمع الأمثال للميداني. أطروحة الدكتوراه. الجزائر. جامعة بسكرة. كلية الآداب. الجمال، محمد صبحي عبد الفتاح. (2019م)، «المفارقة التصويرية في القرآن الكريم: دراسة أدبية لآيات مختارة». حولية كلية اللغة العربية بإيتاي البارودي. ع 32. ج 5. ص 4453 ـ 4497. الحسناوي، عامر صلال، (2011م). «المفارقة التصويرية في شعر مهيار الديلمي». مجلة آداب ذي قار. ع 4. ج 1. ص 35 ـ 50. حنفي، عبد الحليم. (1992م). التصوير الساخر في القرآن الكريم. القاهرة: الهيئة المصرية العلمية للكتاب. الخضيري، صالح بن عبد اللّٰه. (1434ﻫ). «المفارقة في النثر العباسي». مجلة جامعة أم القرى لعلوم اللغات وآدابها. ع 9. ص 245 ـ 275. دباب، مي زيادة. (1437 ـ 1438ﻫ). شعرية المفارقة في رواية الرماد الذي غسل الماء: لعز الدين جلاوجي. رسالة الماجستير. الجزائر. جامعة بسكرة. درويش، أحمد. (2011م). تأملات في جماليات النص القرآني. القاهرة: دار نهضة مصر للنشر. الراغب الأصفهاني، حسين بن محمد. (1416ﻫ). المفردات في غريب القرآن. دمشق: دار القلم؛ بيروت: الدار الشامية. زايد، علي عشري. (2002م). عن بناء القصيدة العربية الحديثة. ط 4. القاهرة: مکتبة الآداب. سبقاق، صليحة. (2016م). «المفارقة في الشعر العربي الحديث بين سلطة الإبداع ومرجعية التنظير». مجلة اللغة الوظيفية. ج 2. ع 2. ص 1 ـ 22. سمسم، عمر زكي. (2016م). «المفارقة في شعر الفتوحات في صدر الإسلام». مجلة جامعة البعث للعلوم الإسلامية. ع 61. ص63 عباس، أرشد يوسف. (2011م). «مفارقة العنوان في قصص زكريا تامر». مجلة جامعة كركوك للدراسات الإنسانية. ع 2. ج 6. ص 65 ـ 74. عباسزاده، حميد؛ ومحمد خاقانى، ونصر اللّٰه شاملى، ومحمد رضا ابن الرسول. (1433ﻫ). «جمالية الانزياح البياني في المفارقة القرآنية». مجلة العلوم الإنسانية الدولية. ع 19 (3). ص 133 ـ 148. العبد، محمد. (1415ﻫ). المفارقة القرآنية: دراسة في بنية الدلالة. القاهرة: دار الفكر العربي. علوان، ملاذ ناطق. (1425ﻫ). المفارقة في الشعر الجاهلي: دراسة تحليلية. رسالة الماجستير. جامعة بغداد. کلیة التربية للبنات. علي، عاصم شحادة. (2011م). «المفارقة اللغوية في معهود الخطاب العربي: دراسة في بنية الدلالة». مجلة الأثر. ع 10. ص 1 ـ 22. علي، نجاة. (1429 ﻫ). «مفهوم المقارقة في النقد الغربي». مجلة نزوى. ع 53. ص 71 ـ 80. فريحة، يبرير. (2010م). المفارقة الأسلوبية في مقامات الهمذاني. رسالة الماجستير. جامعة قاصدي مرباح ورقلة. الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية. قاسم، سيزا. (1982م). «المفارقة في القص العربي المعاصر». مجلة فصول. ع 2. ص 143 ـ 151. القمي، الشيخ عباس. (1376ﻫ.ش). مفاتيح الجنان. ترجمة موسوى كلانتری دامغانی. ط 2. قم: فاطمة الزهراء. لطيف، حسنين غازي. (2009م). «فجوة التناقض قراءة في المفارقة السردية في رواية موت الأب للقاص أحمد خلف». مجلة کلية التربية، الجامعة المستنصرية. ع 2. ص90 ـ 108. المجلسي، محمد باقر بن محمد تقي. (1403ﻫ). بحار الأنوار لدرر أخبار الأئمة الأطهار. ط 3. بيروت: دار إحياء التراث العربي. مكّاوي، جبار جاسم. (1435ﻫ). مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي. تحقيق عبد الحليم عوض الحلّي. مشهد: مؤسسة الطبع والنشر التابعة للآستانة الرضوية المقدسة، مجمع البحوث الإسلامية. ولىزاده، حميد؛ علی صيادانى، وعلى خالقى. (1392ﻫ.ش). «المفارقة التصويرية في شعر معروف الرصافي». مجلة إضاءات نقدية. س 3. ع 12. ص 215 ـ 237. وهبة، مجدي؛ وكامل المهندس. (1984م). معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب. ط 2. بيروت: مكتبة لبنان.
ب. الفارسية بهرهمند، زهرا. (1389ﻫ.ش). «آيرونی و تفاوت آن با طنز و صنايع بلاغی مشابه». فصلنامه زبان و ادب پارسی (متن پژوهی ادبی). د 14. ش 45. ص 9 ـ 36. عارفى، عباس. (1382ﻫ.ش). «صدق و پارادكس دروغ». مجله ذهن. ش 13. ص 4 ـ 80. عبدخدايی، محمدهادى. (1383ﻫ.ش). جلوهگاه عرفان: شرح مناجات شعبانيه. چ 3. مشهد: انتشارات بنياد پژوهشهای اسلام آستان قدس رضوی.
ج. المواقع الإلكترونية البريسم، قاسم. (2002م). «المفارقة في شعر عدنان الصائغ». مجلة ضفاف. . http://www.adnanalsayegh.com/ara/index.asp?DO=STUD&id=44
د. اللاتينية ليتش Leech, N, Geoffrey. (1991). A linguistic Guide to English Poetry. London: Longman.
| ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 119 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 82 |