تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,656 |
تعداد مقالات | 13,542 |
تعداد مشاهده مقاله | 31,064,106 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 12,222,874 |
جدلیة المدنس والمقدّس في الخطاب الشعري لمحمد صابر عبید قراءة في قصیدة عشب أرجواني یصطلي في أحشاء الریح وفق رؤیة جون سیرل | ||
بحوث في اللغة العربية | ||
مقاله 6، دوره 16، شماره 30، تیر 2024، صفحه 67-86 اصل مقاله (869.09 K) | ||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | ||
شناسه دیجیتال (DOI): 10.22108/rall.2023.136615.1451 | ||
نویسنده | ||
حسين الياسي* | ||
أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة لرستان، لرستان، إيران | ||
چکیده | ||
التداولیة فرع من فروع الدراسات اللسانیة التي تعني باللغة کأداة للتواصل. والتّداولیة اللسانیة تعالج الأفعال الکلامیة، بوصفها الجزء الأساسي في الدراسة التداولیة التي تعکف علی اللغة في ضوء علاقتها بالمعنی والجهة التي تنشده من خلال العلاقة المعهودة بین المنتج والمرسل إلیه. یعدُّ جون سیرل من البارزین في هذا المجال وأخذ فرضیاته لاتجاهه اللساني والتداولي من أستاذه أوستین غیر أنَّه وضع التصنیف الآخر للأفعال الکلامیة وعالجها معتمداً علی المعطیات السیاقیة ودور طرفي التخاطب في البناء اللغوي وجعل هذا الرعایة الأساسیة شرطاً في إنجاز الفعل اللغوي وفاعلیته. یضمُّ هذا البحث بین دفئتیه مقاربة لقصیدة عُشبٌ أرجواني یَصطلي في أحشاءِ الرّیح لمحمد صابر عبید في ضوء نظریة الأفعال الکلامیة لجون سیرل. والهدف في هذا العرض التداولي، الکشف والإبانة عن الخصائص اللغویة وفهم مقصدیات الخطاب الشعري عند الشاعر. وما توصل إلیه البحث هو أن التنضید اللغوي في هذه القصیدة یرتبط بالمعاني والمقاصد والشاعر أکثر من الأنماط اللغویة الخبریة والإنشائیة المختلفة والتعبیریة ذات الوظیفة الإنجازیة من منظور تعاملي تأسیسي، کما أکثر من استخدام الأفعال التوجیهیة الإنجازیة لبناء الممارسة الثوریة عند المتلقي وتحریکه للرفض والتصدي ومواجهة النزعة المادیة في داخله و دفعه نحو المواجهة والبناء من الجدید بعد تجاوز القتامة الوجدانیة والروحیة عند الإنسان المعاصر ودفع الإنسان لمناصرة المقدس الوجودي ومواجهة المدنس الذي یسطیر علی الروح الإنسانیة، وأیضاً تکتظُّ القصیدة بالأفعال التحذیریة تجعل المستقبل في وهج من الشفافیة والوضوح. وهذه المجموعة من الأفعال بعرض سلبیة الواقع تدفع وتحرّض علی مواجهة السلوکیات التي تسبب مأساة المستقبل وضیاع الإنسان؛ وللأفعال التعبیریة حضور واسع في القصیدة، تعبّر عن حزن الشاعر ومکنونه بسبب طغیان الجانب المادي علی الجانب الروحي وسیطرة المادیة والوحشیة علی الصفاء والطهر الداخلي للإنسان، مما یسبب نشوب الحرب والصراع علی وجه الأرض. المقصدیة النهائیة التي من أجلها یتکوّن العمل الإبداعي عند الشاعر والدلالة المرکزیة التي تبوح به الأنظمة اللغویة والأنساق اللغویة الظاهراتیة، هي مواجهة الزاغ أو الجوانب المظلمة داخل الروح الإنسانیة وبثّ الیقینیة بحتمیة مأساة الإنسان المعاصر عند مناصرة الوحشیة الکامنة داخله وسیطرة المدنس علی المقدس بداخله، مما یؤصل في نفس الإنسان الانکفاء الواسع لمواجهة الجوانب المظلمة في نفس الإنسان، وهذا هو ما یظهر بالرؤیة التَّداولیة وبدراسة أفعال الکلام وفق منظور سیرل. | ||
کلیدواژهها | ||
الشعر العربي المعاصر؛ التداولیة؛ الأفعال الکلامیة؛ جون سیرل؛ محمد صابر عبید | ||
اصل مقاله | ||
النظریة التداولیة بوصفها من أهم اتجاهات الدراسة اللسانیة الجدیدة تتجه صوب دراسة اللغة ومقاربة البنیات اللغویة الکبری والأنظمة اللغویة والفعل التعاملي مع النص أو الخطاب والترکیز علی وظیفة الأفعال الکلامیة، فهی تعدُّ محاولة منهجیة وفق التصنیف المضبوط للکشف عن المعاني والمقاصد التي یحتویها النص. دراسة الأفعال الکلامیة التي ظهرت لأوّل مرة بفعل جهود أوستین[1]، تمثل جزءاً محوریاً في الدراسة التداولیة الجدیدة التي ینصب فیها الاهتمام الی دراسة الأنظمة اللغویة في إطار البحث المعرفي والتمعن العمیق للوصول إلی المعنی أو البحث عن العلاقة المکنونة بین البنیات اللغویة والمعاني والمقاصد. کانت بدایات هذا الاتجاه الجدید في کتابات أوستین «وما جاء في طروحاته تمثل مرحلة الظهور لهذا الاتجاه الجدید في الدرس التداولي؛ ولکن جون سیرل[2] طوّر هذا الاتجاه ویمثل ما جاء به وطرح علی المشهد النقدي المعاصر، مرحلة النضج والضبط المنهجي» (مشتة، 2018م، ص 39). وهي مرحلة جدیدة تتجاوز المرحلة التأسیسیة التي تتمثّل في کتابات أوستین، ویسعی جون سیرل خلال دراسة الأفعال الخطابیة والکلامیة لبلوغ المقاصد التي تمثل الدافع والأساس للعملیة التواصلیة التي تتحقق باللغة بأنماطها المختلفة والفرضیة الأساسیة. في فکر جون سیرل ووعیه أن الأنظمة اللغویة والبنیات اللغویة والوحدات اللغویة کلّها، تتجه نحو إیصال المبتغی الخاص وتحمل المقاصد المحدّدة التي تمثل الأساس لولوج العمل الإبداعي والفعل اللغوي ویری أنَّ الفعل التواصلي واللغة والأنظمة اللغویة تمثّل الجسر الرابط بین المقاصد وبین المتلقي وتصبح المقاصد والنهایات للمتلقي عند الظفر بالأنظمة اللغویة والوعي بالوظیفة الإنجازیة للبنیات اللغویة والأفعال ذات الغرض الإنجازي والتأثیري، والنهایات المفتوحة والمقاصد المکشوفة. ونعلم أن کلّ لفظة وأداة لغویة تحمل وظیفة دلالیة وإنجازیة لا یمکن معرفة دلالتها إلا بالوقوف علیها بالرؤیة النقدیة التداولیة. نسعی في هذه الورقة البحثیة إلی دراسة شعر محمد صابر عبید، وهو من الأسماء الشعریة البارزة ذات الحضور البارز والمتمیز في المشهد الشعري والثقافي للعراق. ومن الأهداف المؤملة إلیها في هذه الرحلة العلمیة التي تتصف بصفة المنهجیة والعمق، بلوغ الوعي وتأسیس الفهم بالخصائص اللغویة والعلاقات المکنونة بین الوحدات اللغویة والمقاصد والکشف والإبانة عن مقاصد قصیدة عشبٌ أرجواني یصطلي في أحشاء الریح بالرکون علیها بالبحث والدراسة، علماً بأن هذا الخطاب الأدبي له الخصائص المتمیزة والفضاءات البکّورة التي تتمکن الرؤیة التداولیة ودراسة الأفعال الکلامیة من الکشف عنها بسبر أغوارها والتمعن فیها، بغیة الوصول إلی الأهداف المؤملة إلیها. هذا، والقصیدة فریدة في نوعها تعالج الواقع العربي بالرؤیة النقدیة ولم تکن مطروقة من قبل، مما یزید أهمیة هذا البحث العلمي ویزید الباحثین إصراراً وإلحاحاً للدخول في مثل هذه المقاربة التأویلیة التي تسقط علی هذا الخطاب الشعري، وفق منهج سیرل التداولي، وفي ظلّ الاهتمام بالسیاق اللغوي والسیاق المحیطي الذي أسهم في تکوین هذا الخطاب الشعري لمحمد صابر عبید.
1ـ1. أسئلة البحث والفرضیات یحاول هذا البحث عبر مقاربة شعر محمد صابر عبید، وفق الاتجاه التداولي لجون سیرل، الإجابة عن مجموعة من الأسئلة، ومنها: ـ ما الدلالة الرئیسة المرکزة لقصیدة عشب أرجواني یصطلي في أحشاء الریح؟ ـ ما الوظیفة الدلالیة والإنجازیة والتأثیریة التي تحملها الألفاظ والبنیات اللغویة في هذه القصیدة؟ ـ ما أکثر الأنماط اللغویة حضوراً في شعر الشاعر؟ ـ ما العلاقة المکنونة بین السیاق والنص الشعري ودوره في تحدید الدلالة المرکزیة؟ هذا من أهم الأسئلة لهذا البحث العلمي؛ والفرضیة الأساسیة هي أنَّ المعاني تجد کینونتها في الألفاظ والبنیات اللغویة والصوت واللفظ والأداة اللغویة تحمل المقصدیة والوظیفة الإنجازیة ولایمکن الوعي بالشعر وتأسیس الوعي به من دون العکوف علی البنیات والأنظمة اللغویة. وفي ضوء هذه القصیدة، یتمّ العکوف علی قصیدة محمد صابر عبید الذي جعل من رؤیته النقدیة نصیباً لأشعاره وجعلها وکلّ لفظة مکتظة بالدلالة والإیحاء؛ وهدفنا هو فتح النوافذ الجدیدة علی شعر الشاعر للمشغوفین به ولکل للدارسین. 1ـ2. خلفیة البحث کثرت الدراسات والبحوث التي تناولت موضوع الأفعال الکلامیة بالدرس والتحلیل، وبعضها رکّزت علی النصوص القرآنیة، وبعضها عکفت علی الروایة، وبعضها علی الشعر. نذکر بعض هذه البحوث شأن کلَّ البحوث العلمیة مع ذکر وجوه التباین والاختلاف بین هذا البحث والبحوث السابقة. کتب مالك یاسین وملاذ حرفوش مقالة تحمل عنوان مقاربة لغویة لأفعال الکلام في خطاب الجاحظ: رسالة المعاش والمعاد نموذجاً (2016م)؛ والمقالة دراسة لهذا الخطاب وفق مقولة الأفعال الکلامیة ومحاولة لتأصیل النظریة اللسانیة الجدیدة في التراث النقدي العربي. کتبت عزت ملا ابراهیمى برفقة بایزید تاند مقالة معنونة بالأفعال الکلامیة لتعامل المؤمنین في القرآن الکریم في ضوء نظریة تداولیة؛ سورة لقمان نموذجاً (2021م)؛ وهي مقاربة لسورة المؤمنین، غیر أن ما یجلب الانتباه في هذه المقالة هو التداخل المنهجي والتطایر السلبي الملحوظ في أجواء البحث. وقد قام الباحثان بدراسة السورة الآنفة الذکر من النواحي العدیدة من دون الربط المنهجي بین الفقرات والمحاور الفرعیة المطروحة. الأفعال الکلامیة في لامیة الجلیلة بنت مرة؛ دراسة تداولیة في ضوء رؤیة جون سیرل عنوان لبحث علمي کتبه سعید محمود بایونس (2021م)؛ وهي مقاربة للأسلوب الکلامي للشاعرة في لامیتها ودراسة للقصیدة وفق منهج جون سیرل في التّداولیة. واختارت الطالبة آمنة لعور مقولة الأفعال الکلامیة منهجاً لدراسة القرآن الکریم وکتبت أطروحته تحمل عنوان الأفعال الکلامیة في سورة الکهف: دراسة تداولیة (2012م)؛ وهي مقاربة لسورة الکهف ودراسة للأنماط اللغویة والأنظمة النصیة التي تحمل الوظیفة المعینة ومحاولة للکشف عن المعاني والدلالات التي تحتویها الأنساق اللغویة في هذه السورة. وکتب الناقد المتمیز عصام واصل مقالة تحمل عنوان الأفعال الکلامیة في دیوان أبجدیة الروح لعزالدین المقالح (2020م)؛ وهي محاولة لتطبیق طروحات أوستین وتلمیذه علی هذا الخطاب الأدبي للمقالح. وکتب دراسات عن شعر الشاعر، نذکر بعضها: إیقاع الجسد؛ قراءة في نقد النقد عند محمد صابر عبید لموسی عبد درب (2021م)؛ والبحث دراسة للدور الدلالي والوظیفي لأعضاء الجسد في شعر محمد صابر عبید. ومقالة المعجم الشعري عند محمد صابر عبید؛ دراسة في الدلالات والمعاني لزینب خلیل مزید (2013م). وهناك کتاب یحمل عنوان البنيات الدالة في شعر محمد صابر عبید لزینب خلیل مزید (2016م). وکتاب تحلیل الخطاب النقدیّ المُغامر فی المغامرة الجمالیة للنص الأدبیّ عند محمّد صابر عبید؛ دراسة فی نقد النقد لأحمد شهاب. والکتاب رؤیة جمالیة إلی شعر لمحمد صابر عبید (2015م). وما یهمنا هو أننا لم نعثر علی دراسة تمتُّ بصلة بموضوع هذا البحث وماوجد بحث عن شعر محمد صابر عبید من منظور تداولي، فیعد هذا البحث الخطوة الأولی تسعی لدراسة شعر الشاعر وفق منهج جون سیرل بغیة الإبانة عن الخصائص اللغویة للشاعر وفهم النص الشعري عنده بالارتکاز علی البنیات اللغویة ذات الوظیفة الإنجازیة.
التداولیة جهة من جهات الدراسات اللسانیة الجدیدة التي تقوم بمقاربة اللغة بوصفها وسیلة التخاطب والتواصل، وهي ترجمة لمصطلح فرنسي pragmatics)). وکثرت الترجمات عن هذا المصطلح في الدرس اللساني العربي الجدید؛ ورغم تعدد الترجمات لهذا المصطلح في اللغة العربیة، فالترجمة الصحیحة والأولی لهذا المصلح هي التداولیة والبراغماتیة؛ زد على ذلك هناك ترجمة أخری لهذا المصطلح شاع في الکتابات والطروحات المختصة باللسانیات وعلم اللغة الجدیدة والمقاربات اللغویة. النقد المغربي مثل ما نلحظ في السیمیائیة والأنماط النقدیة الأخری له فضل في التفاعل واستقبال هذه الرؤیة المستحدثة من المعرفة النقدیة. وترجمة هذا المصطلح والمحاولة التامة للتأصیل والمقاربة حول هذا البعد الجدید ظهرت من النقد المغربي المعاصر. «برزت جهود جادة في هذا المجال، ومن أهمها جهود طه عبد الرحمن الحاج صالح وأحمد متوکّل وتم لأوَّل مرة اختیار التداولیة معادلاً للمصطلح الغربي في کتابات طه عبد الرحمن» (صالح، 2000م، ص 27). التداولیة بوصفه علم دراسة اللغة والأنظمة اللغویة، وضعت القوانین والأطر المحددة لدراسة اللغة في سیاق الاستعمال وفي ارتباطها بالمعاني وبالمقاصد. والفرضیة المطروحة في الدراسات اللسانیة الجدیدة هي أنَّ اللغة ظاهرة اجتماعیة ووسیلة للتواصل والتخاطب أو ظاهرة خطابیة واجتماعیة. والکفاءة اللغویة تتأتی من الهیمنة علی اللغة وأسلوب التعبیر اللغوي. والتداولیة عند دراستها للغة التخاطبیة والتواصلیة تعني بها وبالمقدرات اللغویة التي تحتویها اللغة؛ وبتعبیر هي «اتجاه في الدرس اللساني یعنی بأثر التفاعل التخاطبي في موقف الخطاب ویستتبع هذا التفاعل کلَّ المعطیات اللغویة والخطابیة المتعلقة باللفظ وبخاصة المضامین والمدلولات التي یولِّدها الاستعمال في السیاق» (السید، 2001م، ص 58). اللغوي والمحیطي الذي یسهم في العملیة التخاطبیة وفي الدرس اللساني، لا یمکن فهم النص وتجاوز الظاهر العلاماتي إلا بالرکون إلی السیاق اللغوي والسیاق المحیطي. وفي الحقیقة، لا یمکن فهم اللغة والدلالة اللغویة للفظ والأفعال الموجودة والمستخدمة في اللغة إلا في إطار إلقاء الضوء علی الأطراف الأربعة للعملیة التخاطبیة والتي تعدُّ مرتکزة في نظریة التواصل عند جاکبسون ومطروقة بالشرح والتفصیل عنده. وهذا هو ما یمیّز التَّداولیة عن الدراسة البنیویة؛ وذلك لأن الدراسة البنیویة تقوم بمقاربة اللغة والأنظمة اللغویة ومقاربة التألیف اللغوي، من دون أن توجه اهتماماً بالسیاق. ولکن في الدراسة التداولیة، نلحظ المزج بین النظریة السیاقیة والبعد اللغوي والثیمیة أو الموضوع. والفرضیة هي أنها لا یمکن الوقوف علی المعنی وفهمه إلا بالمکوث عند النظام اللغوي والاهتمام بسیاق الاستعمال؛ وبتعبیر آخر «التداولیة دراسة لکل مظاهر المعنی وتدرس اللغة من خلال استعمالها ضمن سیاق معین دون إهمالها للمعنی وعلاقته بظروف الکلام، وهي تهتم بالمخاطبین ومقاصدهم والسیاق الذي ترد فیه مع مراعاة المقام، وکلّ هذه العناصر مترابطة ومتداخلة فیما بینها» (إدریس، 2008م، ص 258). ویهتم بها الدرس التداولي. ومن الرکائز الأساسیة في هذا الاتجاه نظریة أفعال الکلام، والتي برزت لأول مرّة في کتابات أوستین وأخذ عنه سیرل وطوَّر ما تناوله أوستین حول هذا المفهوم. والنظریة في کتاباته والرؤیة الثابتة عنده هي أنَّ اللغة تستخدم لوصف الحقائق والظروف. ویری أنها وسیلة للتعبیر وتحقيق مجموعة من الأفعال یستهدفها الناطق باللغة، وهي في صیرورتها وتألیفها تحقق العمل وفق المنظور الخاص، وهذا هو فاعلیة اللغة عند سیرل، فهو یری أنَّ «الملفوظ یحقق الفعل والنطق بجملة هو إنجاز لفعل أو إنشاء لجزء منه؛ وفي الحقیقة الملفوظ یحقق إنجازاً وعملاً ضمن السیاق الذي تستخدم فیها» (بالتریج، 1396ﻫ.ش، ص 76). الفعل الکلامي له فاعلیة خاصة وعند التلفظ به یتحقَّق المعنی والمقصود المحدّد. وفي الحقیقة، کما یشرح جون سیرل في کتابته ودراساته عن أفعال الکلام بوصفها النواة المرکزیة في الدراسة التداولیة، أن استعمال الأفعال في اللغة تتبع أهداف و«غایات إنجازیة وتأثیریة تخُصُّ ردود فعل المتلقي کالرفض والقبول ومن ثم، فهو أي المخاطب یطمح إلی أن یکون الفعل تأثیریاً أو یطمح إلی التأثیر في المخاطَب اجتماعیاً أو مؤسساتیاً ومن ثم انجاز شيء ما» (صحراوي، 2008م، ص54 ـ 55)، أو صدور الفعل الخاص وفق منظور المخاطِب أو الحذر من صدور الفعل من المخاطَب. وجاء سیرل بعد أستاذه بالتصنیفات الکثیرة والجدیدة حول أفعال الکلام ودور الملفوظ في تحقق الفعل ویری أننا نواجه في العملیة التخاطبیة ثلاثة أنماط مختلفة من الفعل التعبیري والقصدي والإنجازي أو التأثیري یسعی به الفرد للخلق التأخیر في المخاطب أو دفعه للاندفاع نحو العمل وفق المنظور المحدد الذي یبتغیه الشخص وبتعبیر «إنشاء الجملة اللسانیة في حد ذاته فعل لغوي وجزء لایتجزأ عن نظریة اللغة، حیث یحقق فعل القول في إطارها أفعالاً اعتقادیة من قبیل التأکید والأمر أو النهي والطلب والإنشاء والتعجب والهدف من الاستعمال اللغوي تغییر الواقع والتأثیر فیه» (الباهي، 2004م، ص 123)، أو السعي لخلق الفعل والعمل المبتغی أو دفع المخاطب إلی إصدار الفعل والعمل المطلوب أو إدراك الفعل من قبل المخاطب أو الکف عن القیام بالفعل ودفعه إلی ترك الفعل والعمل والقیام بما هو مطلوب. وقد قام أوستین في تصنیفاته للأفعال الکلامیة، بعرضها وفق المنظور الذي یرتئیه ویحقق عنده التواصل اللغوي وما یستهدفه المنطوق اللغوي. وکما قلنا في بدایة هذا القسم إنَّ أفعال الکلام وهي من حقول الدراسة التَّداولیة، أسس أوستین أطرها ووضع التصنیف الخاص لهذه النظریة وجعل الأفعال في الکلام لا تخرج عن «إطار الوظیفة التأثیریة والحکمیة والتمرسیة، وهي تشیر إلی نمط من الأفعال فیها یتضمَّن القرار الذي فیه الصالح للمرسل والمرسل إلیه» (صحراوي، 2008م، ص 56). والأنماط الأخری من الأفعال الکلامیة جاءت ضمن التصنیف الخاص لأوستین، غیر أن جون سیرل غیَّر إطار البحث في نظریة أفعال الکلام، ووضع التصنیف الجدید لأفعال الکلام في نظریته وفق الخاصیة الإنجازیة والتأثیریة للأفعال، وأضاف الفعل القضوي إلی مجموعة الأفعال، وفي إعادته لتصنیف أوستین جعلها أي أفعال الکلام خمسة أصناف منه من الأفعال والمباشرة: الإخباریات والتوجیهات والوعدیات، التعبیریات والإعلانیات والالتزامیات (الجمل، 2018م، ص 11 ـ 12)، ووضع التصنیف آخر للأفعال غیر المباشرة کما نلحظ في الترسیمة التالیة: وجاء هذا التصنیف وفق الخاصیة الإنجازیة والتأثیریة التي تتضمنها الأفعال في الکلام والوظیفة التي تحملها الأفعال في الصیاغة اللغویة وجعلها سیرل وصنَّفها وفق هذا المنظور الإنجازي. والمقصود بالإخباریات نمط من الأفعال تحمل وظیفة نقل الحدث والخبر عن الواقعة. وأفعال هذا الصنف تحتمل الصدق والکذب. ويطلق سیرل اسم الوظیفة الإیضاحیة علی هذه الأفعال (الطباطبائي،1994م، ص 13)، لدورها في الإخبار عن الواقعة وتأسیس الوعي عند المتلقي بالحدث والواقع. والنمط الآخر من الأفعال التي لها الوظیفة الإنجازیة هي الأفعال التوجیهیات «وغرضها الإنجازي محاولة المتکلم توجیه المخاطب إلی فعل شيء ما والأمریات والطلبیات من هذا النوع والهدف الإنجازي خلق الإرادة والرغبة الصادقة عنده والشرط العام للمحتوی القضوی هو دائما فعل السامع شیئاً في المستقبل ویدخل في هذا الصنف الاستفهام والأمر والرجاء والتشجیع والدعوة والنصح والإستعطاف» (مدور، 2014م، ص9). والنوع الآخر من الأفعال هي الوعدیات التي ترتبط بصدور الفعل من المتکلم والسامع في المستقبل، وهذا هو خصوصیة هذه الأفعال عند جون سیرل باعتبارها ذات «الوظیفة الإنجازیة یستعملها المتکلّمون لیلزموا أنفسهم بفعل مستقبلي؛ لأنّها تعبّر عما ینویه وهي وعود وتهدیدات وتعهدّات» (مشتة، 2018م، ص 48). وترتبط بالتحذیر وصدور الفعل من قبل الاثنین أو المخاطب في العملیة التخاطبیة. والتعبیریات نوع من الأفعال التي یستعملها المخاطِب ویتبع بها الأهداف والغایات المختلفة، ومنها التعبیر عن الحالة النفسیة والشعوریة أو المحاولة لخلق الحالة الشعوریة التي تماثل الحالة الشعوریة والحسیة عنده والمحاولة في العملیة التخاطبیة لخلق الحالة الشعوریة عنده بالأفعال التعبیریة. ومن ثم النهوض بالمخاطَب لصدور الفعل في المستقبل أو ردة الفعل من قبل المخاطَب تجاه الموضوع، وهذا هو ما یسمّی القصدیة عند جون سیرل، حيث یری أن الملفوظ اللغوي واستعمال الفعل في العملیة التخاطبیة لا یخلو من القصدیة التي «تُعدُّ رکیزة کلِّ فعل کلامي وتعدُّ مراعاة مفهومها العام، وشبکتها المفهومیة من أبرز المفاتیح المنهجیة في الدراسات اللسانیة الجدیدة» (بایونس، 2021م، ص 161). والقناعة في الدرس التداولي الجدید عندما تدرس الأفعال الکلامیة هي أنَّ القصدیة وغرض المتکلم من الخطاب غایة ترسم نوعیة الخطاب وتخلق الفعل التواصلي وأداء الملفوظ والألفاظ والأفعال التي تستعمل في الصیاغة اللغویة. 2ـ1. إلمامة إلی السیاق یعتبر السیاق من الأساسیات المدروسة في الدرس التداولي الجدید؛ والسبب یرجع إلی دور السیاق في فهم النص والکشف والإبانة عن هویته وهویة الألفاظ والجمل والدلالة البیضاء التي تترشح عن وجوه العلامات والنظام اللغوي. وسبب الأهمیة في الرؤیة التداولیة یرجع إلی دور السیاق حتی في التنضید اللغوي والصیاغة اللغویة؛ وهذا ما جعل السیاق في هذه الرتبة من الأهمیة والاهتمام في الدرس التداولي الجدید. وفي الحقیقة فیما یخص بمصدر هذا الاهتمام بالسیاق في الرؤیة التداولیة، یمکن القول إن السیاق عبارة عن مجاري الأحداث بصفة عامة ومیزة دینامیکیة محرّکة، کما تمتلك البدایات من الواجب أن تکون لها النهایات، وهذا هو خاصیة السیاق أو کما قال فان دايك: إن السیاق یتغیر من حالة إلی أخری ومن لحظة إلی أخری. ومن هذا التغییر، یمکن تحدید بدایة ونهایة السیاق ویتحدّد السیاق الواقعي بفترة من الزمان والمکان، بحیث تتحقق النشاطات المشترکة بین المتکِّلم والمخاطب (شرقي، 2019م، ص 9). وله دوره الخاص والإسهام الکبیر في تحدید هویة النص والنظام اللغوي. وفي الحقیقة أن الألفاظ والأفعال التي تستخدم في خطاب ما تجد کینونتها وهویتها في السیاق الموضوع للمعاني التي تتحدّد بالسیاق التي تقع فیها. واللغویون وضعوا الأنماط المختلفة للسیاق: مثل السیاق الوضعي، والظرفي، واللغوي، والمحیطي. ولأنماط السیاق المختلفة دورها في تکوین الخطاب وتحدید هویة النص والخطاب وبها تتحدد معاني الألفاظ والمقاصد المختلفة التي تحملها الألفاظ وتتحملها في صیرورتها داخل النسیج النصي، وفیما یخص بموضوع السیاق المرتبط بقصیدة عُشبٌ أرجواني یصطلي في أحشاء الرّیح. فبالنظر إلی القصیدة، یتبین أنَّها تعدّ من إبداعات الشاعر والخطوة الإبداعیة فیها مکشوفة والنکهة الإبداعیة تتنزه منها للخائض فیها بالرؤیة التأویلیة والنقدیة. محمد صابر عبید شاعر وناقد متمیز ویسعی في تجربته الشعریة للإبداع وإشعاع وهج الشعر والقصیدة بسیطرة الوعي النقدي علی الشعر والمزج الفني بینهما للخروج منها بثمرة شعریة طریفة یحدث بها النقلة النوعیة في عالم الشعر العربي المعاصر. قصیدة عُشبٌ أرجواني یصطلي في أحشاء الریح تجربة شعریة جدیدة ونمط تعبیري جدید تحاول أن تعمل علی جمالیات القصیدة القصیرة یکثر فیها الشاعر من الترابط بینها وبین الفنون الأخری مثل الکامیرا الشعریة والفنون السینمائیة المختلفة. وکان زمن کتابتها عام 2003م، متزامناً مع الأحداث السیاسیة والاجتماعیة للدول العربیة وخاصة العراق بعد الاحتلال الأمریکي. والقصیدة تعبِّر عن صور حیاتیة مختلفة، بعضها وجداني وروحي تحوم حول القتامة الداخلیة المسیطرة علی الروح الإنسانیة، تجعل الوعي في الضیق والسکونیة. وباعتراف الشاعر أنَّ الجوانب المظلمة في الروح الإنسانیة تهیمن علی نشاطاته وتجعله غیر القادر للسیر نحو التحضر والتمدّن وتسبب الکثیر من الحروب والصراعات؛ وهذا هو السبب الأساسي تنبع منه الحروب والصراعات علی وجه الأرض وبعضها اجتماعي وبعضها حلمي وسیاسي وإلی جانب الدعوة إلی الرفض والمقاومة والترکیز علی خاصیة الحیاة والخصب والحیاة المتجددة الفینیقیة للأرض وترسیخ حس الإنتماء عند المتلقي وتقوم بذکر الأسباب والمسببات في هذه القصیدة. والشاعر انطلاقاً من رؤیته النقدیة، یحرص علی بلوغ الإبداع في اللحظة الشعریة، وتمثل القصیدة القفزة الملحوظة في عالم الأب والشعر تحدیداً. وباعتراف الشاعر الترکیز فیها جری علی محاولة شعریة لبناء شعري مختلف یتحرّك في مضمار طاقة التکثیف الشعري الخاص والبوح الدلالي ونشاط التلقي والعمل فیها علی استغلال الطاقة اللفظیة والدلالیة للوصول إلی بلاغة التعبیر الشعري وحیویة اللغة الشعریة في عملیة التواصل وإیصال المعاني أو الکشف عن ما هو مکنون من المشاعر والأحاسیس. والجدید في القصیدة هو الاختلاف من ناحیة الإیحاء والدلالة، والقصد هو أن کلّ لقطة شعریة في القصیدة لها رؤیة ودلالة وقیمة مختلفة عن الأخری. وفي ضوء هذا، لا یمکن النظر إلیها بمنظور نقدي واحد، بل یتطلب القراءة الواعیة المزدوجة تکشف عن عالم القصیدة، غیر أن هذا لا یعني الانفصال التام بین اللقطات؛ لأن الفضاء الوجداني الواحد المسیطر علی اللقطات الشعریة کلّها ومحاولة الوصول إلی البناء الشعري الجدید فیها تجعل خیوط تواصلیة بین اللقطات المختلفة؛ والقصیدة بمجموعها ذات قیمة إبداعیة وشعریة ممتازة استخدم فیها الشاعر کلّ الطاقات الشعریة واللغویة وتمثّل بانوراما شعریة تمتدّ بمجموعها إلی مساحات شعریة ممتازة ومتنوعة[3] تجعل المتلقي في فضاءات جدیدة تبعث نشوة التلقي عنده بما تمتلکها القصیدة من الطاقات والفعالیات العدیدة التي تتأتی من الرؤیة الإبداعیة والتّوق إلی الممارسة الشعریة الجدیدة والدال المحوري أو لنقل إن الموضوع الرئیسي المسیطر علی الموضوعات الأخری للقصیدة تقوم بتفصیلها و تکثیفها بالخاصیة اللغویة الممتازة هو موضوع الجدلیة بین الجانب المادي والجانب الروحاني في الروح والترکیز علی الصراع الدائم بین الجانبین ومعالجة الموضوع بالاعتماد علی منطق الشعر ورهافة الحس الحاد الذي یشعر بمعاناة الإنسان في کل مکان نتیجة ضیاع الجانب الروحاني وهیمنة الجانب المادي المظلم داخل الوجود الإنساني.
یقوم البحث في هذه المرحلة بدراسة شعر محمد صابر عبید و دراسة النماذج الشعریة المختارة من قصیدته وفق تصنیفه الخاص للأفعال الکلامیة. 3ـ1. الوظیفة الإخباریة والتقریریة للأفعال إن الأفعال في التکوین اللغوي تحمل الوظائف العدیدة؛ والسمة المشترکة بین الأفعال کلها في استخدامها داخل التکوین اللغوي هي الإنجازیة التي تتحقّق من خلال خلق الرابط بین طرفي التواصل والحاصل في عملیة التواصل، زرع حالة من الوعي المشترك عند المخاطِب والمخاطَب. والوسیلة والأداة هي البنیة اللغویة التي تضم الأفعال ذات الوظیفة المحددة. ومن هذه الأفعال، الأفعال التي تحمل الوظیفة الإخباریة، ونعني بها مجموعة من الأفعال تعکس الواقع المعيش، تفاعل معه المخاطِب قبل المخاطب؛ والهدف الأساس من عملیة التواصل والرکون علی الأفعال التي تحمل الوظیفة الإخباریة هي خلق الوعي الفعلي المشترك عند طرفي عملیة التواصل؛ وهذا هو ما تنجزه هذه الأفعال داخل اللبنیة اللغویة عبر ما تشیعه من العلامات وتسببه من الإدراکات التي تنبعث عن تضمن معاني الأفعال داخل البنیة اللغویة والتي تحمل الإیضاحیة والشفافیة للمتلقي، بالنسبة إلی الواقع الذي یتفاعل معه المخاطب؛ وخصوصیة هذه الأفعال هي التقریریة والإیضاحیة من خلال سرد الواقع وتجسید العالم المعیش. «فإذا کان التقریر والوصف مطابقاً، حکم علی المنطوق بالصدق؛ وإذا کان غیر مطابق حکم علی المنطوق بالکذب» (الصراف، 2012م، ص 32)، بسبب عدم ملائمته وموافقته للواقع والعالم؛ وفي تصنیف آخر لسیرل یجعلها أي أفعال الکلام النمطین: النمط الکلامي من الأفعال تعد الأفعال الکلامیة البسیطة والأفعال الکلامیة المعقدة، والأفعال التي لها الوظیفة التقریریة والإیضاحیة تعدُّ من الأفعال الکلامیة البسیطة التي یبتعد فیها الشاعر عن التعقید والالتواء؛ و ذَلك لأن الهدف الإنجازي هو خلق الوعي وتأسیسه بالواقع عند المخاطب؛ وهذا لا یتحقّق في العملیة التواصلیة بالتعقید وفیما یخص بهذه الأفعال ووظیفتها الإیضاحیة. فالتعبیر فیها یوافق الصدق والحقیقة؛ والحکم علی صدق المنطوق حتم؛ وذلك بسبب صدق الشعور والخوالج النفسیة والتعامل الواعي للشاعر مع واقعه وعالمه الذي یعیش فیه وفي هذه القصیدة استخدم الشاعر مجموعة من الألفاظ تحمل وظیفة تجسید الواقع الإنساني بما فیه من السلبیة والوظیفة الإنجازیة لهذه الأفعال ذات الدور الوظیفي تتجلّی في دورها في تأسیس الوعي بالواقع الذي یعیش فیه الإنسان المعاصر: الصدأ یعبق بالماء والنار / والصدأ یجيء علی بساط الفجر/ عرفنا بابنا بعد لأي / لا نحمل من غدر الزمان / سوی الفقرِ / أسرجَ طوفانَ أغانینا / رسمنا في تمائمنا شحوبَ الأرض / خلفنا تمتد أکیاسٌ من الدمع المبلّل بالمنادیل ... (2017م، ص 8 ـ 9). والواقع الذي یجسِّده هذا التشکیل الشعري هو الواقع المأزوم بفعل الحروب والصراعات النابعة عن سیطرة الجوانب المظلمة علی الطهر والصفاء الداخلي للإنسان المعاصر. والفعل ـ بناء علی وظفیته الإنجازیة ـ يقوم بعملیة تأسیس الوعي بهذا الواقع عند المتلقي. استخدم الشاعر في هذا التشکیل الشعري فعل "یعبق"، وهذا الفعل من الأفعال التي تنتمي إلی حاسة الشمِّ وأسند هذا الفعل إلی "الصدأ" بوصفه الفاعل لهذا الفعل، وهو "یعبق بالماء" رمزاً للأرض؛ ویعبّر به الشاعر عن خاصیة الحرکة والاستمراریة ورمز الحلم الإنساني الجمیل؛ ولکن سیطر علیها الصدأ تعبیراً عن سکونیة الأرض، وهي تغطُّ في ثبات سلبي وضیاع الحلم بسبب الحروب والصراعات والفعل یختزل في نفسه صورة الواقع السلبي. واستخدام هذا الفعل، وهو ینتمي إلی حاسة الشمّ، محاولة تأسیسیة بغیة انتقال الحالة الرؤیویة عنده إلی المتلقي. والوظیفة الإنجازیة للفعل تتأتی من فاعلیته في تعمیق مأساة الواقع بالتشکیل البصري عند المتلقي، بحیث یجعله قادراً علی ملامسة هذا الواقع. والفعل بوظیفته التقریریة والإخباریة یجعل الواقع السلبي أشدّ حضوراً وبلورة عند المتلقي. وفي فعل "أسرج" وإسناده إلی الزمن المعیشي، یقوم الشاعر بتجلیة الحاضر بإسناد الفعل إلی الزمن، وهو یسرج الطوفان؛ وفیه إشارة إلی الحیاة الإنسانیة الطافحة بالحرکة والفاعلیة، وهو الآن في التقید والانکسار والحبس ویعزّز دلالات النص الشعري علی السکونیة والثبات وخفوت الحیاة في ظل الحروب والصراعات الناجمة عن سیطرة المادیة والمدنس علی الروحاني والمقدس داخل الروح الإنساني. "الدمع" رمز العذاب والمعاناة. والشاعر لتعمیق دلالات النص الشعري علی العذاب والمعاناة وما یصدمه الإنسان المعاصر من المأساة والعذابات، قام باستخدام فعل الامتداد، وهذا الفعل ذات الفاعلیة والوظیفة الإنجازیة في استحضار الواقع السلبي عند المتلقي وتعمیق دلالات النص الشعري وقدرته الإیحائیة علی الواقع أکثر تأزماً ومأساةً بفعل الحروب والصراعات. قال الشاعر: قفصُّ یلمُّ طیورَ الحبِّ / اسودّت تواریخُ البلادِ علی کشوفِ الهمسِ / اصفَرّ الندی / نشتري فیه امتحان الذل / بلدٌ تقومُ علی مراثي النخل / تداعَت کلّ ألوان المفاتیح إلی الجبّ / سال خیطٌ من دمِ الماء الملون بالصدی / والریح یفتحُ کُوَّةً في مسرح الخاوي (المصدر نفسه، ص 2). والقصد في هذا التشکیل الشعري هو التعبیر عن الواقع المتردي والمحاولة لتعریة هذا الواقع وخلق الوعي واستحضاره عند المتلقي. وبناءً علی هذا المنظور، استخدم الشاعر مجموعة من الأفعال ذات القدرة التأثیریة والإنجازیة وذات الشحن الدلالي الممتاز تبیّن حقیقة الواقع الإنساني المتردي والقصدیة واضحة. والأفعال بناء علی وظیفتها في تجسید الواقع بالصورة المباشرة والتقریریة، ترسم الواقع السلبي، من دون أن یواجه المخاطب عند الصدام مع النص الشعري الغموض والالتواء. فالأفعال تقوم بتأسیس الوعي ورسم الواقع بوقوعها في المشهد الحسي والمشهد الشعري یرسم سکونیة الجانب التأملي والروحي للإنسان، مما یعد مصدر الوعي والإبداع عند الإنسان ویتمثل في تقید الطوفان والأغاني. ویرسم المشهد الشعري حرکیة واستمراریة الجانب المادي والمظلم داخل الوجود الإنساني، وهذا ما یسبب سلبیة الواقع الإنساني وضیاع الحلم والتطلع المستقبلي عند الإنسان الذي کان یبشر الخیر بالحداثة. الشاعر یجعل المتلقي أمام الضدیة المتمثلة في "الطیور" و"القفص" للتعبیر عن الواقع السلبي. وفعل "یلمُّ" بوظیفته الإنجازیة یعبّر عن کلِّ أشکال السلب والقهر تدور بالإنسان المعاصر؛ ویردف الشاعر هذا المشهد الحسي بمشهد آخر یرسم قتامة الواقع الإنساني باستخدام فعل"اسودت" وإسناده إلی تاریخ البلاد وحضاراتها تعبیراً عن ذبول فاعلیة العالم المعاصر بحضارته وثقافته برسم وقوعها في الظلام والعتمة و«الفاعلیة الحضاریة مصدر عظیم من مصادر الحیاة الدائمة التوقد والحضور الإنساني العمیق في الأشیاء» (جمیل،2012م، ص 28)، وفي الکون. ولکن المکوث الحضاري وضیاع الفاعلیة الحضاریة وخفوتها نتیجة للحرب والصراع بسبب المکوث والخفوت الروحي وحرکیة وتوسع المادیة والجوانب المظلمة داخل الإنسان. الإشارة الدلالیة اللونیة في هذا الفعل ذات القوة الإنجازیة في هذا المشهد الحسي، تجعل المخاطب یلامسُ الواقع السلبي. وفي الحقیقة أنَّ حضور الأفعال ذات القوة الإنجازیة مع حسیة المشهد الشعري، یجعل المتلقي أکثر قوة علی احتواء الواقع. إنَّ "الماء" رمز المکان، وإضافة "الدم" إلی المکان تعبیر عن عذابات المکان والمشهد عبر الرکون علی الأنسنة تقوم برسم الواقع بکلِّ ما فیه من العذابات؛ وفعل "سال" وإسناده إلی "الدم" یعبِّر عن توسع العذاب ومعاناة الإنسان المعاصر في الواقع ویعمق وعي المتلقي ومعرفته بالحیاة وواقع العصر. وهذه السلبیة للواقع وکلّ ما فیه من العذاب والمعاناة نتیجة لفعل الخیانة المتمثلة في لفظة "المفاتیح" والصراعات والحروب التي تنبع عن الجشع وطغیان المدنس عند الإنسان؛ وقد حصل هذا القصد وهذه الانتقالیة الرؤیویة في هذا التشکیل الشعري «بجملة من الأفعال الکلامیة الإخباریة تضافرت معاً لتقرُّ بهذه الحقیقیة، وهي سلبیة الواقع وعذاباته ومعاناته؛ واللافت للنظر هو سیطرة الزمن الماضي علی النص ومعلوم أن حضور الفعل بصیغة الماضي یفید تقریر الحقیقة» (مشتة، 2018م، ص 42)؛ لأن الماضي يحمل الفاعلیة في بثّ الیقینیة والتوثیقیة بسلبیة هذا الواقع؛ ولهذا استخدم الشاعر الزمن الماضي في الأفعال لیقوم بتأسیس الوعي عند المتلقي وخلق المعرفة بالواقع بالاعتماد علی القوة التقریریة والإنجازیة للأفعال ذات الشحنة التقریریة والإخباریة وحسیة المشهد الشعري في هذا التشکیل. وما یزید الأفعال ذات الوظیفة التقریریة في هذا النص الشعري قوة ودلالة هو البناء السردي للقصیدة. وسردیة التعبیر تناسب الوظیفة الإخباریة للأفعال في تمحورها حول سلبیة الواقع والعالم المعاصر: لعَبٌ تکسَّرت النصال علی أطرافِ فرحَتِها / استقالت مفردات الآنِ / وانتحرَ الخیالُ / سالَ ماءُ الشعرِ من أذیال طیرِ الزاغ / من یلتقط الحلم من الجب / مَن یسحَق حرفاً قاصراً في الأبجدیة / أحلامنا دمنا / وصخرتنا کماةٌ في فضل المقصلة (2017م، ص 9 ـ 10). اللعبة هي لعبة الحیاة العارمة والطافحة بالفاعلیة والحرکة. وفعل"تکسرت" بوظیفته الإیضاحیة والتقریریة یعبّر عن تفتیت هذه الحیاة. و"تکسّر النصال علی فرحتها" تعبیر شعري عن ضیاع الحیاة الإنسانیة ومعاناة الإنسان المعاصر؛ والتعبیر مأخوذ من قول المتنبي. وهذه النصوصیة تمثل الرابط المعرفي بین النص وبین المتلقي، مما یزید الفعل الذي يحمل الوظیفة التقریریة؛ قوة علی الإیصال ويجعله أکثر دلالةً علی ضیاع الحیاة الإنسانیة التي ینتحر فیها الخیال تعبیراً عن انتفاء المعرفة والإبداع في العالم المعاصر، وفي حین یعیش الإنسان فصول اغترابه الداخلي. أما "الجب" في هذا النص الشعري فـ«معادل للغربة الروحیة والداخلیة التي یعیش فیه الإنسان المعاصر» (الخلیل،2012م، ص 103)، وکیف یتمکَّن الإنسان من أن یأخذ بأذیال أحلامه وآماله، وهو یعیش في الغربة الداخلیة؛ وأکید هذا لا یتحقق ولا یجد سبیله إلی النفوذ والوصول؛ وکیف والإنسان صار مغلوباً للزاغ رمزاً لقوی الشر والجوانب المظلمة في روحه. تصدر الاستفهام علی الفعل ذات الوظیفة التقریریة والإیضاحیة، یعزّز دلالة النص علی انتفاء هذا الموضوع من قبل الإنسان المعاصر؛ وذلك لأن حلم الإنسان المعاصر صار القتل والذبح والصراع مع بني الإنسان من جنسه بغیة إرضاء شهواته ورغباته المادیة: کتبٌ تقصَّر في رثاء الثلج / جذر یطیرُ / وطائرٌ یلهو بآخر قطرة من موتِه / یتقمّص امرةٌ / تحمل نخلة مقضومةً / استعرنا من ثیاب الزاغ ما یجعَلنا نحلُمُ بالتفاحِ ... (2017م، ص 12). والنص الشعري امتداد للتشکیل الصوري الذي یسرد سلبیة الواقع والفعل الکلامي یجد إنجازه وتأثیره في تجسید الواقع والعالم الإنساني المغلوب للعناصر المادیة والجوانب المظلمة وتأسیس الوعي وانتقال هذه الحالة السلبیة إلی المتلقي. "تقصر الکتب" یعبّر عن ضیاع المعرفة الإنسانیة وضیاع الموهبة الإنسانیة؛ و«الجذر والطائر والمرأة من عناصر العالم الروحي وأبجدیات تشکیله وهذه العناصر تلتهمها عناصر الصراع المادي» (غیلان، 2020م، ص 125)، والوحشیة والحروب المدمرة التي نبعت عن طغیان المدنس الجسدي والرؤیة المادیة للإنسان المعاصر، وهذه هي الحقیقیة التي تقود إلیها الأفعال الکلامیة في هذا النص الشعري. "المرأة" رمز الخصب والنماء والانبهار؛ و"النخلة" رمز للقیم والإیمان. والفعل الکلامي المتمثّل في "تقمصَ وتحمل" ینجز الوعي بالواقع الإنساني المقیت الذي یتلاشی فیه کل عناصر العالم الروحي والعالم المثالي؛ والملفوظ الفعلي في "استعرنا" یعبّر عن مکوث الدنس الجسدي والرغبة المادیة عند الإنسان المعاصر وطغیانه؛ وهذا الفعل الکلامي یعکس السیطرة العمیقة للزاغ رمزاً للقوی الشر والدنس الداخلي علی الإنسان، مما یجعله یحلم بالتفاح. الفعل الإنجازي المتمثل في فعل "یحلم" یجسد حضور الحلم عند الإنسان؛ ولکن هذا الحلم لیس الحلم الإنساني النبیل والجمیل، بل یحلم الإنسان المعاصر بالخطیئة والتمرد علی بني الإنسان من نوعه وجنسه لإرضاء شهواته ورغباته المادیة.
3ـ2. الأفعال ذات الوظیفة التوجیهیة الوظیفة التوجیهیة للأفعال ترتبط بدورها في دفع المتلقي إلی القیام بفعل ما أو تحريك المخاطب لإصدار الفعل، وفق ما یقتضیه المرسل والمخاطب. ومعلوم أن الأفعال التي تقوم بعملیة السرد والتقریر الواقع وخلق الوعي عند المتلقي، تعد الخطوة الأولی عند المرسل للمرحلة الأخری المردفة بمجموعة أخری من الأفعال تقوم علی الوظیفة الإنجازیة التي تدفع المتلقي إلی الخروج وتحريكه وممارسة الفعل الذي یبتغیه المخاطِب شرط حضور حالة من الرفض والضدیة بین المتلقي وبین الواقع وخلق الحساسیة عنده، ومن ثم دفعه «وتوجیه للقیام بالفعل؛ وهذا هو القصدیة النهائیة التي تتأتی من خلق الإرادة أو الرغبة الصادقة عند المتلقي؛ وهذا هو الغرض الإنجازي لهذه المجموعة من الأفعال» (حجام، 2020م، ص 48). الفعل القصدي أو محاولة خلق الرغبة عند المتلقي هي المرحلة الثانیة تردف بعد عملیة تأسیس الوعي عند المخاطب بالأفعال ذات الوظیفة التقریریة أو الإحالیة والشاعر بعد سرد الواقع المعیش، بما فیه من السلبیات والإشکالیات والإحالة إلی الواقع بالأفعال ذات الفعالیة التقریریة والإخباریة، باشر باستخدام مجموعة من الأفعال ذات الوظیفة التوجیهیة. إنَّ الشاعر في قصیدته هذه یرسم صورة عن الحاضر السلبي؛ والأفعال ذات الوظیفة الإنجازیة والاخباریة هي التي ترسم هذا الواقع، بما فیه من الغموض والبلبلة والصورة تشیع القلق والخوف في نفسیة المتلقي والإکثار من الاستفهام في هذا النص الشعري یعزِّز دلالات الأفعال علی سلبیة الواقع والفضاء المعیشي المتردي الغامض. والشاعر بعد هذا العرض الإخباري وفي البناء السردي للقصیدة وبعد خلق هذا التفاعل بین المتلقي والواقع بالرابط النصي، یستخدم مجموعة من الأفعال الطلبیة ذات القوة الإنجازیة التأثیریة التي تنجز العمل والفعل عند المتلقي: انزَع ثيابك / لتشرق في الهیام جلودنا / أسرع ... / لکي یصل السبات إلی حدود الکهرباء / مزِّق محاکمة اللهیب الأنیق / اشفع قرارك بالصراخ / ارتعش واحمل علی الخشیة / وأذکر الحب البعیدَ / بین صحراء العرب / معشوقة أسرت بعاشقها / إلی قدر امتلاك العشق في صبح الحواجز / ودّعت شکل العواصم في خیانات القرى / ... (2017م، ص 38 ـ 39). في هذا النص الشعري، استخدم الشاعر مجموعة من الأفعال الطلبیة ذات الوظیفة الإنجازیة والتوجیهیة تدفع المتلقي للقیام بالفعل والخروج من الحالة السلبیة الراهنة. وما تنجزه الأفعال الطلبیة في هذا النص الشعري الدعوة إلی مناصرة الجانب الروحي المقدس ورفض ومواجهة الجانب الجسدي المدنس في وجود الإنسان. و"الثیاب" رمز المدنس الجسدي والفعل الطلبي المتمثل في فعل "انزع" بوظیفته الإنجازیة یدعو المخاطب للقیام بالفعل الثوري في لحظة الصراع بین المدنس والمقدس؛ ونتیجة مناصرة المقدس ونبذ المدنس في وجود الإنسان هي لحظة الإشراق والتوهج في الحیاة الإنسانیة ینجزه ویعبّر عنه فعل "تشرق" في هذا النص الشعري. الإکثار من الأفعال الطلبیة في هذا النص الشعري یدعو جمیعا إلی الرفض ومواجهة الجانب المدنس والمظلم في وجود الإنسان؛ فهو محاولة شعریة من الشاعر لإخضاع المتلقي لتحقّق المقصدیة التي تحملها الأفعال المباشرة التي تحمل الوظیفة التوجیهیة ولیذعن المتلقي ویمتثل أمر الشاعر ویلبّي دعوته للخروج من الحالة السلبیة الراهنة التي تسرده الأفعال ذات الوظیفة الإخباریة. إنَّ فعل "مزَّق" ینجز فاعلیته وإنجازیته بالتشجیع وتحفیز المتلقي ودفعه إلی القیام بتمزیق المحاکمة واتخاذ القرار بالرفض والتصدي والمواجهة المتمثلة في لفظة الصراخ. والفعل ذي الطاقة التوجیهیة یقود المتلقي إلی القیام بهذا الفعل الثوري. والحب مظهر من مظاهر الجمال والمقدس یدعو الشاعر في هذا النص الشعري بالفعل الطلبي المتلقي لذکر الحب؛ وهذا القرار الخالص النقي في لحظة الصراع بین المدنس والمقدس وذکر الحب في الحقیقة ذکر لتلک اللحظة العارمة بالصفاء والطهر والنقاء والشاعر باستحضار الحب والدعوة إلی ذکره من قبل المتلقي بالفعل ذي الوظیفة الإنجازیة، مما یدعو إلی مناصرة المقدس في وجود الإنسان. الفعل التوجیهي المتمثّل في "أذکر" یدعو المخاطب لیصرف ذهنه وإحساسه إلی الحب الخالص المقدس، لیجعل منه القوة الکونیة الصارمة لمواجهة الجانب المادي والمدنس والمظلم في وجود الإنسان؛ ونتیجة القیام بهذا الفعل الثوري ـ کما یعکسها المشهد الشعري ـ ضیاع الحواجز أمام العلاقات الإنسانیة الجمیلة. اللافت للانتباه في هذا النص الشعري هو الحضور المکثَّف للأفعال الطلبیة ذات القوة الإنجازیة والتوجیهیة. ومن المعلوم أن هذا الحضور من جهة بناء علی وظیفتها الإنجازیة والتأثیریة، يدعو المخاطب للقیام بالسلوك الثوري ومواجهة المدنس في وجوده. وأیضا هذا الحضور المکثّف یفرض سلطة النص الشعري علی المتلقي ویزید القوة الإنجازیة والتوجیهیة للأفعال في هذا النص الشعري. القصدیة في هذه الأفعال الطلبیة تکمن في قوتها علی دفع المتلقي وتحریکه للقیام بالممارسة الثوریة ومصارعة الجانب المادي والمدنس في وجوده ومناصرة الجانب الروحاني والمقدس. والحقیقة التي یرسمها الشاعر هي أنَّ سیطرة المادیة وطغیان الجانب الجسدي المدنس علی الوجود الإنساني، یتسبب في ضیاع القیم النبیلة والشریفة والصراع والحواجز بین العلاقات الإنسانیة؛ ولکنَّ الحب بوصفه مظهراً من مظاهر الصفاء والنقاء والصحوة الإنسانیة، يمثل الوسیلة التي یتمکن بها الإنسان من حذف الحواجز القائمة علی العلاقات الإنسانیة. من ثم یدعو إلی ذکر الحب بالفعل الطلبي ذي الوظیفة التوجیهیة لاستحضار الحب في لحظة الصراع بین المدنس والمقدس؛ وذَلِك لأن الحب له فاعلیة ممتازة وأصیلة. والفعل الطلبي یدعو بوظیفته الإنجازیة إلی الانتماء الی الحب «لیتحول به إلی الکائن الروحي الخالص ویتسم بالملائکیة یمنحه القدرة علی الکشف والصفاء والنقاء ومزاوجة الحقائق الباطنیة، لیصبح قادراً علی تجاوز محدودیة الفعل البشري» (جمیل،2012م، ص 35). وفي مشهد آخر من القصیدة، عندما یتطرق إلى موضوع المعاناة الروحیة عند الإنسان المعاصر، یستخدم مجموعة من الأفعال الطلبیة، یقول: یا أیُّها الزاغُ کفی رقصاً / قِنا من صوتك المبحوح / قُدنا نَحو عُشب هاربٍ / أعطِنا رُمحاً لنسترَ ما تبقّی من نشیجِ الرُّوح / عورتِنا / وأنثانا / لا تساقط الثلجِ / لا بیضاءٌ تعصفُ في عصی الراعي (2017م، ص 9). والمشهد الشعري یحتوي علی مجموع من الأفعال الطلبیة ذات القوة والطاقة التوجیهیة. والجانب الإنجازي لهذه الأفعال یکمن في الدعوة إلی کسب القوة والحرکة والوعي للسیر نحو التحضر والتمدّن، بالقضاء علی الجوانب المظلمة في الروح الإنسانیة؛ وکأن حضور هذه الجوانب المظلمة داخل الإنسان وهیمنتها علی الروح الإنساني هي السبب الأساسي للکثیر من الحروب والصراعات. یخاطب الشاعر في هذا النص الشعري "الزاغ"، وهو الرمز المرکزي الذي یعبِّر عن القوّة السوداء لدی کلّ إنسان، وهو الجانب المظلم في الروح الإنسانیة یقبض علی فعالیاته ونشاطاته ولایستطیع کبح جماحه؛ لأنه أقوی من الوعي عندما یکون الوعي ناقصاً وغیر قادر علی تغییر الإنسان، مما یقوده إلی الحرب والصراع، مما جعل الحداثة عند الکثیرین بعیداً عن مثالیته وعن الإنسان وطموحاته. وفي المشهد الحواري، جاء الفعل الإنجازي في هذا الملفوظ: "قُدنا، وأعطنا، وقنا"، في سیاق الأمر طلباً لتنفیذ الأمر علی الحرکة نحو الوعي المتمثّل في رمز العشب لمواجهة الجوانب المظلمة داخل الإنسان. وما یکرّسه الشاعر عبر استخدام هذه الأفعال ذات القوة الإنجازیة هو أن الموائمة الإنسانیة وانتهاء الصراع علی وجه الأرض لا یحصل إلا بتنفیذ الانفصال (واصل، 2020م، ص 85)، عن هذه الجوانب المظلمة داخل الإنسان وتغذیة البعد الروحي للإنسان والتمتع بالقدرة اللازمة لمواجهتها أي الجوانب المظلمة وعند حضور الوعي الکامل داخل الإنسان المعاصر؛ وذَلِك لأن طغیان هذه الجوانب المظلمة تتسبب في الرؤیة المادیة عند الإنسان؛ والنتیجة هي الصراع بینما طغیان الجانب الروحي یعني تماماً الطهر والنقاء وفضاء النشوة والارتقاء، حینئذ لا یحدث صراع علی وجه الأرض. وهذا مشروط بإلزام الإنسان نفسه علی الصراع مع الجوانب المظلمة عنده ومساعدة الجانب الروحي وبلوغ الوعي الکامل الذي یقدر الإنسان علی الحرکة نحو التمدّن والتحضر؛ ولذلک جاء الفعل الکلامي المتمثل في الطلب الالتماسي في أفعال "قُد، وأعطنا، وقنا" یحمل المخاطب علی مسایرة الإنسان نحو الوعي وتملك القدرة للصراع مع الجوانب المظلمة عند الإنسان، وهذا هو ما تنجزه الأفعال الطلبیة في هذا التشکیل الشعري من خلال توجیه المخاطب إلى تغییر الوضعیة السلوکیة عنده، مما یسبب انتهاء الحروب والصراعات ومناصرة الجانب الروحي البیضاء عند مواجهتها مع الجوانب المظلمة داخل الإنسان باعتقاد الشاعر محمد صابر عبید. 3ـ3. الأفعال ذات الوظیفة الالتزامیة أو الوعدیة والنمط الآخر من الأفعال في تصنیف سیرل هي الأفعال التي یستعملها المتکلّم في کلامه ویلزم بها نفسه لخروج العمل والفعل عنه؛ وهذا هو غرضها الإنجازي في الکلام؛ لأنها «تعبّر عما ینویه المتکلم من الوعود والتهدیدات أو بتعبیر کلّ وعد وتهدید تعبیر عن نیة القیام بالفعل في المستقبل» (سیرل، 2006م، ص 218). ومن الناحیة الزمنیة، هذه الأفعال تسمّی الأفعال الوعدیة والالتزامیة نظراً لاستحضار الزمن المستقبلي وإرسال التهدید والوعد بهذه المجموعة من الأفعال و«یتم فیه الوعد أو إطلاق الالتزام في لحظة مستتبعة یتم فیها الوفاء وتنفیذ ما یلتزم به الملتزم من الأمور التي لیست نفسیة ولا مادیة، بل أمور تحدث في فترة وتنقضي عند الوفاء أو عدم الوفاء بها ومضمونها هو العمل موضوع الالتزام» (واصل،2020م، ص 86). والعمل وتحقق الوعود والتهدیدات في المستقبل هما الرکیزتان الأساسیتان لهذه الأفعال في تصنیف جون سیرل، حيث نجد نماذج کثیرة من هذه الأفعال التي تصدر عن المتکلم بوصفها الشخصیة الرئیسة في هذه القصیدة السردیة، والتي ألزم المتکلم والسّارد نفسه للقیام بها في المستقبل منها: نختار من قاماتنا دمنا / ولن نختار من دائرة البرکان . غیر مصیر زهرتنا المموسق بالخطر . الریح للزاغ . وللأرض مطر/ لا یتحرّك الجلادُ من صلصال نوبته/ سوی ذئبٍ جریحٍ / بلد تقومُ علی مراثي النخل (2017م، ص 23). والحرب دارت ولاتزال تدور هذه السلسلة من الحروب والصراعات علی الإنسان المعاصر والعالم؛ وفیما یعتقد الشاعر هذه الحروب والصراعات ناتجة عن سیطرة الجوانب المظلمة التي یمثلها رمز "الزاغ" في هذا النص الشعري علی الروح الإنسانیة. وفعل "نختار" في هذا النص الشعري، یعبّر عن إلزام الإنسان العربي نفسه في المستقبل للقیام بالقتل والفَتكِ والصراع مع أبناء الإنسان في عصر الحداثة، وهذه هو أهم إشکالیة الراهن ومستقبل الإنسان، وکأن الحداثة قادته إلی مرحلة الوحشیة والصراع. و"الدم" رمز للقتل والذبح والضیاع، وهذا الدرب هو ما یختاره الإنسان في العصر الحاضر، وکأنه ألزم نفسه للقیام بفعل القتل والدمار، وهذا التوق إلی هذا الفعل نتیجة لطغیان الجانب المدنس علی الجانب الروحي المقدس. والفعل بوظیفته الالتزامیة، ینجز هذه الحقیقیة وهي اختیار درب الصراع والقتل من قبل الإنسان المعاصر في عصر الحداثة وفي العصر الراهن. وصارت الحرکیة والاستمراریة المتمثلة في "الریح" للزاغ رمزاً للمدنس وللجوانب المظلمة في وجود الإنسان والمقدس الذي من شأنه التدفق والانثیال؛ لکنه في التقوقع والقبو بسبب طغیان المدنس والانفتاح للمدنس والانغلاق للمقدس، وهذا هو مصدر ویلات العالم المعاصر والأرض في ظلّ احتدام الصراعات والحروب، حيث آلت الأرض بسببها إلی الضیاع والخراب المتمثل في رمز "المطر". والشاعر بعد هذا العرض لمأساة الواقع والمصیر المأساوي الذي ألزم الإنسان المعاصر نفسه لاختیار درب القتل والذبح بغیة الوصول إلی السعادة المزیفة التي تعبر عنه رمزة الزهرة في النص الشعري، یستخدم الفعل ا ذي يحمل الوظیفة الإنجازیة الوعدیة یمثّل الحل والخلاص للإنسان والعالم المعاصر. فعل "یقوم" یحتوي علی مفارقة بین هذا الإلزام والإلزام الآخر المطروح، والذي بسببه یعیش العالم في الحرب والصراع والعذاب وهذا الفعل رسم لمشهد آخر من إلزام الإنسان نفسه في لحظة الصراع بین المدنس والمقدس وهذا الإلزام هو العودة إلی الأصالة الإنسانیة والروحانیة التي تتمثّل في رمزیة "النخل". وما ینجزه فعل "یقوم" هو أن الخلاص والحلّ لکثیر من السلبیات واشکالیات العالم المعاصر یکمن في العودة إلی الأصالة الروحانیة المقدسة في وجود الإنسان، وهکذا یمکن خلاص العالم من الأحقاد والحروب، وتنهض بلدان العالم للقیام بالفعل والنشاط والفعالیة الإیجابیة التي ضاعت في ظلّ طغیان المدنس المادي. یقول الشاعر: ریشُ الزاغ وسع من وساطته / أحاطَ العالم الملغوم بالإصرار / طلسمٌ نذر الضلوعَ علی احتدام السیف / السیاف یسرج مهرةً / عرسٌ یفل الشمس / کي یتسلّل اللیلُ المزنر بالنجوم الباطلة (المصدر نفسه، ص 45). الحقیقة التي یؤمن بها الشاعر هي أن الحروب والصراعات علی وجه الأرض سببها هزیمة الإنسان في صراعه الداخلي مع قوی الشرّ. وفي الواقع داخل الإنسان وداخل الروح الإنسانیة، تتصارع قوی الشر والخیر. والصراعات والحروب بدایاتها تتأتی من هزیمة الإنسان في الصراع الداخلي والروحي والخنوع أمام قوی الشر الداخلیة في وجوده. والنیة الکبری لقوی الشر في داخل الإنسان هي سوقه إلی الدمار والضیاع والسکونیة والتقوقع، وهذا هو ما یتعهده "الزاغ" بوصف رمزاً لقوی الشر داخل الروح الإنسانیه، وهذا ما تنجزه الأفعال ذات القوة الوظیفیة الالتزامیة في هذا النص الشعريي. ألزم "الزاغ" بدلالاته المألوفة القادرة علی تمثّل قوی الشر داخل الإنسان نفسه لدحض النور داخل الجسم الإنساني وملئه بالقتامة والسواد. و"الزاغ" یوسع حضوره وتعهده لتوسیع مدی هذا الحضور والانتصار في صراعه مع قوی الخیر لکي یحصل في المستقبل سیطرة القتامة والسواد داخل الروح الإنسانیة. فعل "التسلل" وتصدرها بالحرف الناصب یقود إلی ما یرنو إلیه "الزاغ" في المستقبل. والشاعر برسم حضور "الزاغ" داخل الروح الإنسانیة وما تعهده عبر استخدام الأفعال الکلامیة ذات الوظیفة التعهدیة والالتزامیة، یحذر الإنسان المعاصر من الهزیمة الداخلیة ویشدُّها إلی مناصرة قوی الخیر داخل الروح الإنسانیة، وهذا هو الحل والطریقة للحدِ من استمراریة الحروب والصراعات علی وجه الأرض.
3ـ4. الأفعال ذات الوظیفة التعبیریة موضوع مطابقة الأفعال للواقع أو حضور الواقع في الکلام غیر مطروح في هذا الصنف من الأفعال. وما هو یمیِّز هذه المجموعة من الأفعال عن الأخری هو العلاقة بین هذه الأفعال والمتکلم في الکلام. والواقع في هذا النوع من الأفعال خارج إطار الموضوع. والأفعال تعبّر عن موضع المتکلم تجاه الواقع و«المتکلم لا یحاول أن یجعل الکلمات تطابق العالم الخارجي ولا العالم الخارجي یطابق الکلمات، بل غرضها الإنجازي یتمثّل في التعبیر عن الموقف النفسي تعبیراً یتوافر فیه شرط الإخلاص في التعبیر عن القضیة» (بن یوب، 2017م، ص 86). الموضوع والکلام في ارتباطه بهذا النوع من الأفعال، یتخذ شکل مجموعة من الجمل تعبر عن السرور أو الألم أو عما هو محبوب وممقوت. ومن هذا الصنف نجد ما یدلُّ علی السأم والتوجع والتحسر أو ما یدل علی الشکر والمدح (واصل، 2021م، ص 88). والأفعال التعبیریة في قصیدة محمد صابر عبید ترتبط بمعاني التحسر والحزن علی مصیر الإنسان والعالم الإنساني وتعبّر عن حزنه علی مأساة الإنسان المعاصر وما آل إلیه من الضیاع والإحباط، خلافاً لما کان یتصوَّره ویرنو إلیه في مطلع القرن العشرین. یقول الشاعر: تصیر سنبلة العطاء تقلباً في قریة سوداء / تُرضِعُ من حقولِ ضَمیرها أبناءَها الغافلین / تحت قصائد العَصر المهانة بانکسار العنکبوت / تودِع ملامِحهم سطوراً کي یحل الدم فیها / ویمرّوا دون قید أمام المقصلة / الزاغ أنبت فینا / اللقب والنسب والعلامة والهوی / لا یملُّ من التأرجح في السبب / فتَح الشواطيءَ والعزاء ... / شارة الروح التي تسحق فینا الترقّب / واشتهاء المجزرة (2017م، ص 45 ـ 46). إنَّ الشاعر في هذا النص الشعري یعبِّر عن أحزانه وحسراته علی النتائج السلبیة التي أنجبتها الحداثة للإنسان المعاصر. والأفعال الکلامیة تعبّر عن الحالة النفسیة للشاعر أو الإنسان المعاصر في ظلّ ضغط الحداثة التي صارت أبان تفجّرها، کمحتضن لآماله ومصدر سعادته؛ لکنَّها تحولت إلی الحداثة المزیّفة التي أنجبت الحرب والصراع والخراب والوحشیة للإنسان المعاصر. "سنبلة العطاء" في هذا التشکیل الشعري رمز الحداثة التي یرفضها ویعتبرها هابرماس لبعدها عن العقلانیة وسیطرة المادیة علیها. وفي الواقع أن هابرماس یقف موقفاً معارضاً من هذه الحداثة ویعتبرها المشروع الناقص لبعدها عن العقلانیة التواصلیة ولجوءها إلی العنف ویری أن الکثیر من الإخفاقات والإحباطات علی وجه الأرض ینبع عن زیف الحداثة وتهمیش العقلانیة التواصلیة في عصر الحداثة[4]. والشاعر باستخدام اللغة الشعریة یشیر إلی هذه الحقیقیة التي تبعث في نفسه الألم والحسرة والحزن والحالة الممقوتة التي تحیل إلیها الأفعال الکلامیة ذات الطاقة التعبیریة في هذا التشکیل الشعري؛ وذلك لتقلب أحواله وضیاع آماله في ظلّ توسیع دائرة العنف والصراع علی وجه الأرض بسبب الحداثة التي کان یرنو إلیها بوصفها الملجأ والملاذ؛ لکنها أثارت في الإنسان روح الوحشیة؛ وهذا هو السبب للکثیر من الحروب والصراعات. ویعبّر الشاعر عن إباحة دم الإنسان لأبنائه الغافلین عن الحقیقة الإنسانیة بفعل الحداثة المزیفة التي وضعت صفحة سوداء أمام أعین الإنسان المعاصر وأحیت في داخلها حب القتل واشتهاء المجزرة؛ وهذا هو ما یبعث في نفسیة الشاعر الحزن والألم تبوح به الأفعال الکلامیة في هذا النص الشعري ویستمر الشاعر في رسم سیطرة الجوانب المظلمة علی الروح الإنسانیة وامتثال الإنسان لها مما یقوده إلی الحرب وینشب بها الصراع، یقول: یهجِّرُ القمر الطفولي العتیق / یهوي إلی آخر نهدٍ في حقول ضمیرهِ / ویخاصرُ الحلم الشفیف / یقطِّعُ من مرارته رحیلاً / نحو غابِ المسرح والمأساة / یذبح نفسه خلل المرایا / خوفنا أن تحبل الکلمات بالکیمیاء / ننتظر التحول في الظنون (المصدر نفسه، ص 47). والنص الشعري یعبّر عن مشاعر الخوف والحزن والألم المؤصل في نفسیة الشاعر، مما تعبّر عنه الأفعال الکلامیة في هذا النص بسبب سیطرة المادیة والحیوانیة والجانب المدنس في الإنسان علی الطهر والنقاء والجانب الروحاني، مما یسبب الکثیر من الحروب والصراعات. والملفوظ الفعلي یعبّر عن مشاعر الشاعر وحزنه وآلامه للمصیر الإنساني. فالشاعر یری أن "الزاغ" بدلالاته علی الجوانب المظلمة داخل الإنسان، یجبر "القمر الطفولي" إلی الرحیل؛ ورحیله یعني رحیل النقاء والطهر الداخلي وسیطرة المدنس علی المقدس، وهذا ما یقود الإنسان المعاصر إلی الصراع والوحشیة؛ ومن ثم المأساة والحزن الدفین في داخله والشاعر عبر استخدام الملفوظ الفعلي، یعبّر عن مکنون نفسه من الحزن والألم بسبب سیطرة الجوانب المظلمة علی الروح الإنسانیة وعلی الطهر والنقاء، مما یبعث في نفس الشاعر الخوف الدائم المسیطر علی کیانه یعبّر الشاعر عنه برسم خوفه من تحوّل الکلمات إلی الکیمیاء والتجمد وفراغ الکلام من الحب والإحساس. والقوة الإنجازیة للملفوظ الفعلي تکمن في التعبیر عن حزن الشاعر وألمه من مأساة الإنسان المعاصر بسبب حبه للحرب النابعة عن «الانفصال عن العالم الداخلي المقدس وفصله عن السیاق الروحي له وزجه في ظلمات لاطائل منها سوی اتساع دائرة التیه» (واصل، 2014م، ص 77). وحضوره في عالم فارغ من قیم الإیمان والقیم الإنسانیة وما یعزِّز دلالات الملفوظ الفعلی وقوتها الإنجازیة علی معاني الحزن والألم للشاعر من هذا المصیر المأساوي هو الحضور المکثّف للأصوات التي ترتبط بمعاني الحزن والإکثار من صوت الحاء علی سبیل المثال والأصوات الأخری تتلاءم مع ما یختلج في نفس الشاعر من الحزن والألم علی الإنسان ومصیره المأساوي. 3ـ5. الأفعال الإعلانیات أو الإیقاعیات هي النوع الآخر من الأفعال التي تحمل الوظیفة التداولیة الإنجازیة عند التکلُّم بها في الکلام والمحتوی القضوي یکون متناسباً ومتلائما مع الواقع الخارجي والعالم من دون أن یکون الإخلاص شرطاً في هذا النوع من الأفعال. وأهم ما یمیّز هذا النص من الأفعال هو المطابقة التامة بین الفعل وتجلي دلالاته عند التکلم بها و«اتجاه المطابقة في هذا النوع من الأفعال قد تکون من الکلمات إلی العالم ومن العالم إلی الکلمات؛ ولهذا سماها سیرل الاتجاه المزدوج» (الجمل، 2018م، ص 11). ونلحظ نماذج من هذه المجموعة من الأفعال في قصیدة محمد صابر عبید. یقول الشاعر: غادر الزاغُ إلی یبسِ العنابر / أیقظَ الحلمَ المفخخ بالشعیر / قریباً من سیاج العنکبوت / ما بین سکین وسکین/ قمیصٌ خارجُ من شعر غانیة / نبصرُ في تشیؤنا الزمان في الحانات / بحثاً عن طلاء أخضر / یشعل غابة من الأغنیات المهملة / سیأتي ذات یومٍ من نثار الأندلس / عنق تعشق في جزوع عزائنا (2017م، ص 19). والملفوظ الفعلي في هذا التشکیل الشعري، یعلن المرحلة المعیشیة في المستقبل تتسم بالفاعلیة والحرکة والحیاة الطافحة بالحرکة والفاعلیة الحضاریة المتمثّلة في لفظة "الأندلس". ولفظة "القمیص" رمزاً للخلاص والسرور والبشارة حصیل لمواجهة الزاغ في داخل الإنسان، وهکذا یمکن إحداث التغییر الإیجابي علی مسرح العالم، وهذا ما یعلنه فعل "یشعلُ" وفعل "سیأتي" بدلالته المستقبلیة في هذا التشکیل الشعري، وهذا ما تنجزه الأفعال وتعبّر عنه. تقود الأفعال الأنظار إلی المرحلة المعیشیة الجدیدة التي تتحقق عند الصراع مع قوی الشر الداخلیة ومناصرة الجانب الروحاني داخل الإنسان، مما یشعل في وجوده البعد الروحاني الذي کلّه الصفاء والنقاء. ما تنجزه الأفعال الإعلانیة في هذا التشکیل الشعري هو أن حضور الزمان الدال علی حرکیة الحیاة وإمکانیة العیش في حیاة عارمة طافحة بالفاعلیة والخصب. والنماء المتمثل في الدال اللوني، مرحلة جدیدة تتحقق بنزع حالة سیطرة الزاغ لی الوجود الإنساني، مما تسبب في الکثیر من المعاناة والعذابات للإنسان المعاصر، وهذا ما تعلنه وتبوح به الأفعال الکلامیة في هذا النص الشعري. واستخدم الشاعر لفظة "القمیص" بدلالته المعرفیة في وعي المتلقي بمعاني السرور والبهجة لیأتي بالبشارة للإنسان. ولفظة "قریباً" تعلن عن هذا التغییر المحتوم في الحیاة وحتمیة بلوغ الحیاة الجدیدة التي تکون مصدر سعادة الإنسان وخلاص الأرض من الحروب والصراعات وحتمیة الإشاعة الحضاریة في العالم. وهذه الحقیقة تعلنه الأفعال بوظیفتها الإنجازیة لتجعل الترکیز علی مهمة الإنسان في الحالة الراهنة المقیتة، وهي أن یلجم علی قوی الشر في داخله ومناصرة البعد الروحاني. إن استخدام حرف الاستقبال والإکثار من الافعال التي تعبِّر عن حتمیة المرحلة المعیشیة الجدیدة واستخدام الألفاظ التي تحمل مجموعها الدلالة الواحدة المرکزة والمحوریة، محاولة من الشاعر لبلوغ الانجاز التداولي؛ بغیة تأصیل حالة التوق في وجود الإنسان إلی الحیاة الجدیدة، مما یزید إصراراً وإلحاحاً لمواجهة "الزاغ" رمزاً للجوانب المظلمة في داخله ورمز قوی الشر التي تکمن في وجود الإنسان.
الخاتمة توصلت المقاة إلى ما يلي: الرؤیة التداولیة بوصفها جزء من اللسانیات الجدیدة، تحمل وظیفة الکشف والإبانة عن المعاني والمفاهیم التي تحملها الأفعال في النص. والقناعة العامة في هذا الاتجاه هي أن الأفعال ـ وفق الرؤیة التداولیة ـ ذات الوظیفة المحوریة والمرکزیة في ارتباطها بالمعنی والمقصود. وفي ضوء هذا المبدأ، الرؤیة التداولیة إلی قصیدة عشب أرجواني في أحشاء الریح، تکشف عن دور الأفعال ذات الوظیفة الإنجازیة في هذه القصیدة. والدال المرکزي في هذه القصیدة یترکز علی سرد الصراع الدائم بین البعد الروحاني والحیواني داخل الوجود الإنساني؛ وهذا هو الدال المرکزي في هذه القصیدة. والأفعال ذات الوظیفة الإخباریة تقوم بسرد الواقع وتجسید سلبیات الواقع الإنساني ومعاناة الإنسان المعاصر، نتیجة ضیاع الجانب الروحاني وهیمنة البعد الحیواني علی داخل الإنسان. إنَّ الشاعر یعبّر عن الجانب المادي والمدنس في وجود الإنسان برمز الزاغ، وثمة نوع من الأفعال تقوم بوظیفة رسم الواقع العربي، بما فیه من السلبیات والإشکالیات ونوع من الأفعال الطلبیة والتوجیهیة التي تدعو إلی بناء الممارسة الثوریة عند المتلقي. وفي الأفعال التي تحمل الوظیفة الإنجازیة والإیقاعیة، یدعو الشاعر إلی حتمیة مناصرة الجانب الروحاني ومقاومة الجوانب المظلمة المتمثلة في رمز الزاغ في القصیدة؛ بغیة الوصول إلی الخلاص وتقلیل کل سلبیات الواقع التي تنبعث عن سیطرة الجانب المادي المدنس علی الجانب الروحاني المقدس. والأفعال التعبیریة ـ بناء علی وظیفتها الإنجازیة ـ تقوم بسرد المستقبل ورسمه بالرؤیة التطلعیة. والشاعر باستخدام هذه الألفاظ یقوم بخلق الفضاء المعیشي الطافح برائحة الحیاة والدفء والحضور، وهذا الفضاء یتحقق باعتقاد الشاعر بتهمیش البعد المادي المدنس في وجود الإنسان المعاصر.
[1]. john Osteen [2]. John Searle [3]. هذا ما ذکره الشاعر عن قصیدته و موضوعها وخصائصها بعد التواصل معه عبر وسائل التواصل الإجتماعي؛ ومن أبرزها الواتس والفیسبوك. ومن میزات هذا البحث العلمي هي قراءة الشاعر للبحث مما یجعل دائرة الموضوعیة أوسع وأشمل و التحلیلات أعمق بالنسبة للرموز والعلامات النصیة. والتواصل المباشر مع صاحب النص الشعري له إسهام مهم و کبیر في خلق نوع من الخلفیة المعرفیة للباحث بالنص و یضمن نجاح التلقي عند قراءة هذا النص ویسلحه بالرکائز المعرفیة لمواجهة النص في هذا المشوار النقدي. [4]. حول مشروع الحداثة وموقف هابرماس منها ممکن الرجوع إلی کتاباته عن الفعل التواصلي والعقلانیة التواصلیة. | ||
مراجع | ||
أ. العربية إدریس، مقبول. (2000م). الأسس الابستمولوجیة والتداولیة في النحو عند سیبویه. إربد: عالم الکتب الحدیث. الباهي، حسان. (2004م). الحوار ومنهجیة التفکیر النقدي. المغرب: دار الکتب. بایونس، سعید محمود. (2021م). «الأفعال الکلامیة (الطلبیات) في لامیة الجلیلة بنت مرة: دراسة تداولیة في ضوء رؤیة جون سیرل». مجلة آداب الجدیدة. ع 10. ص 151 ـ 177. بن یوب، نوال. (2017م). أفعال الکلام في الخطاب السیاسي المعاصر: خطاب الرئیس السوري بشار أسد نموذجاً. رسالة الماستر. كلية الآداب. جامعة الجزائر. الجمل، إیمان محمد. (2008م). «الأفعال الکلامیة: دراسة لغویة في نماذج من خطب عصر بني أمیة السیاسیة». مجلة البحث العلمي. ج 1. ص 1 ـ 21. حجام، رانیا. (2020م). أفعال الکلام في شعر محمود درویش. رسالة الماستر. الجزائر. جامعة العربي بن مهیدي أم بواقي. سیرل، جون. (2006م). العقل واللغة والمجتمع. ترجمة سعید الغانمي. بیروت: الاختلاف. الشرقي، فاطمة. (2019م). أفعال الکلام في الأمثال الشعبیة: دراسة تداولیة. رسالة الماستر. جامعة الجزائر. صالح، عبد الرحمن الحاج. (2000م). الخطاب والتخاطب: نظریة الوضع والاستعمال العربیة. الجزيرة: المؤسسة الوطنیة للفنون المطبعیة. صحراوي، مسعود. (2008م). التداولیة عند العلماء العرب. بیروت: دار الطلیعة. الصراف، علي محمود حجي.(2010م). في البراجماتیة الأفعال الإنجازیة في العربیة المعاصرة. القاهرة : مکتبة الآداب. الطباطبائي، سید هاشم. (1994م). نظریة الأفعال الکلامیة. الکویت: جامعة الکویت. عبید، محمد صابر. (2017م). الأعمال الشعریة الکاملة. عمان: دار غیداء للنشر والتوزیع. لعور، آمنة. (2012م). الأفعال الكلامية في سورة الكهف: دراسة تداولية. رسالة الماجستير. الجزائر. جامعة منتوري. المدور، محمد. (2014م). الأفعال الکلامیة في القرآن الکریم: دراسة تداولیة. رسالة الماجستیر. كلية الآداب. جامعة الحاج لخضر باتنة. مشتة، مهدي. (2018م). «الأفعال الکلامیة في دیوان خطب ابن نباتة: تحلیل من منظور رؤیة سیرل». مجلة الآداب. ج 18. ع 1. ص 38 ـ 58. ملاابراهيمى، عزت؛ وبايزيد تاند. (2021م). «الأفعال الكلامية لتعامل المؤمنين في القرآن الكريم في ضوء نظرية تداولية: سورة لقمان نموذجاً». مجلة بحوث في اللغة العربية و آدابها، جامعة إصفهان. العدد 24. صص 74-53. نحلة، محمود أحمد. (2000م). آفاق جدیدة في البحث اللغوي المعاصر. بيروت: دار المعرفة. واصل، عصام. (2020م). «الأفعال الکلامیة في دیوان: أبجدیة الروح». مجلة طلائع اللغة وبدائع الأدب. ع 1. ص 74 ـ 98. ـــــــــــــــ . (2014م). في تحلیل الخطاب الشعري: دراسة سمیائیة. الجزيرة: دار التنویر. ياسين، مالك؛ وملاذ حرفوش. (2016م). «مقاربة لغوية لأفعال الكلام في خطاب الجاحظ: رسالة المعاش والمعاد نموذجاً». مجلة دراسات في اللغة العربية و آدابها. س 7. ع 23. ص 111 ـ 128.
ب. الفارسية بالتریج، برایان. (1396ﻫ.ش). درآمدی بر تحلیل گفتمان. ترجمه طاهره همتی. تهران: نویسه پارسی. | ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 116 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 83 |