تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,649 |
تعداد مقالات | 13,393 |
تعداد مشاهده مقاله | 30,185,163 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 12,069,064 |
مبادئ الاستلزام الحواري في أشعار ولید سیف وفقاً لنظریة التداولیة . | ||
بحوث في اللغة العربية | ||
دوره 16، شماره 30، تیر 2024، صفحه 53-66 اصل مقاله (846.97 K) | ||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | ||
شناسه دیجیتال (DOI): 10.22108/rall.2023.137157.1456 | ||
نویسندگان | ||
جمال غافلي1؛ علي خضري* 2؛ رسول بلاوي2؛ محمدجواد پورعابد2 | ||
1طالب الدکتوراه في قسم اللغة العربیة وآدابها بجامعة خلیج فارس، بوشهر، إیران | ||
2أستاذ مشارك في قسم اللغة العربیة وآدابها بجامعة خلیج فارس، بوشهر، إیران | ||
چکیده | ||
إن التداولیة فرع من السیمیائیة، وهي تهت م بالتواصل کوظیفه لغویة. وبما أ ن السیاق له دور مهم في التداولیة، فهي تتطرق إلی أنواع السیاق، ومنه: سیاق المخاطبین، وهذا یشمل المتکلم والمخاطب. فالمتکلم یختار المفردات ویر تبها حسب قصد یتابعه في الکلام، وإفادة المخاطب من الأهداف المه مة التي لا یمکن إهمالها. ظهر مصطلح الاستلزام في حقل الدرس الفلسفي المرتبط بدراسة الجوانب الدلالیة والتداولیة المتعلقة باللغات الطبیعیة؛ فمعنی الاستلزام في اللغة یدور حول مصاحبة الشيء وعدم مفارقته؛ وأما في اصطلاح الدارسین، فهو علاقة منطقیة تربط قضیة أو جملة أو عدة جمل بمسار استدلالي حجاجي. یرجع الفضل في طرح ظاهرة الاستلزام إلی غرایس الذي اصطلح علیها بالاستلزام الحواري أو التخاطبي، وجعل ک ل همه إیضاح الاختلاف بین ما یقال وما یقصد. هذه الدراسة تتمحور حول مبادئ الاستلزام الحواري في أشعار ولید سیف الشاعر الفلسطیني وفقاً لنظریة التداولیة اعتماداً علی المنهج الوصفي التحلیلي؛ وعزمنا أن یکون البحث في أربعة محاور، هي: قاعدة الکم، وقاعدة الکیف، وقاعدة المناسبة، وقاعدة الطریقة. والدلیل الأساسي لاختیار هذا الشاعر أن قصائده قد اشتملت علی دلالات مستلزمة غیر مباشرة، تُستنبط من خلال السیاق التداولي لهما. وتوصل البحث إلی أ ن الشاعر لم یستخدم الاستلزام النموذجي أو المعمم الذي یتطابق فیه معنی الخطاب مع قصد المرسل؛ إذ لم تسعفه المعاني الحرفیة في التعبیر عن مکنون فؤاده؛ فخرج إلی المعاني الضمنیة المستلزمة، والتي خرق فیها قواعد مبدأ التعاون الأربع )الکم، والکیف، والمناسبة، والطریقة(. | ||
کلیدواژهها | ||
الاستلزام الحواري؛ قاعدة الکم؛ قاعدة الکیف؛ قاعدة المناسبة؛ قاعدة الطریقة | ||
اصل مقاله | ||
التداولیة[1] علم حدیث النشأة، یهتم بالجانب الاستعمالي والتواصلي للغة. ظهرت نتیجة قصور الدارسات السابقة في إجراءاتها ونتائجها؛ لأنها تهتم بالمستویین الدلالي والترکیبي أو بأحدهما. لقد ظهرت التداولیة لتجمع بین التراکیب، والدلالة، والسیاق. وتعد هذه الأخیرة مجالاً جدیداً ولدت من رحم اللسانیات، وهي أهم مجال لغوي تطور وازدهر في الثقافة اللغویة الغربیة بهدف دراسة المعنی وضبطه في سیاق استعمالي. تبحث التداولیة في أفعال الکلام، حیث تجاوزت حدود اللغة، کما ترکز علی الوظائف اللغویة وخصائصها، وتهتم أکثر بإجراءات التواصل بشکل عام. فهي تتمیز بدراسة للغة في الاستعمال، وفي السیاق الذي یساعد في معرفة قصد المتکلم وتأویل المعنی، وتحاول الإجابة عن الأسئلة التالیة: ماذا نصنع حین نتکلم؟ ماذا نقول بالضبط؟ ما ینبغي أن نعلمه کي یزول الإبهام عن الجمل؟ لقد تعدّدت مباحث التداولیة وتنوّعت؛ لکن تبحث عن غرض واحد، وهو الکشف عن المعاني المقصودة من طرف المتکلم؛ وأهم هذه المباحث، الاستلزام الحواري الذي انصب علیه اهتمام هذا البحث، لکونه عنصراً مهماً یلجأ إلیه المتکلم کي یعبّر عن مقاصده باستعمال لغة غیر مباشرة، ویستدلّ السامع عن المعنی المقصود باعتماد قدراته الذهنیة، وکذلك السیاق التواصلي الذي تُستعمل فیه اللغة. «إن المشهد اللغوي، ولاسیما میدان الدراسات اللسانیة، قد نال إعجاباً کبیراً خاصة في العقود الأخیرة؛ إذ أصبحت العلاقة بین المتکلم والمخاطب قائمة علی الحوار والتواصل؛ فالخطاب لا یکون إلا لدواعٍ ومقاصدٍ تحکمها أُطرٌ زمانیة ومکانیة وشروط سیاقیة» (علوي، 2014م، ص 21). یُعد الاستلزام الحواري أحد أهم الآلیات التداولیة التي فتحت باباً واسعاً في تطویر التداولیات اللسانیة؛ کونه یهتم بإظهار المعاني الخفیة للخطاب، وعلاقتها بالمحیط والظروف السیاقیة والمخاطب وتأویلاته، سعیاً لفهم الخطاب ووصولاً إلی إدراك المقاصد الحقیقیة. من أهم ممیزات الاستلزام ـ من حیث کونه آلیة من آلیات إنتاج الخطاب ـ «أنه یقدم تفسیراً صریحاً لقدرة المتکلم علی أن یعني أکثر مما یقول بالفعل، أي أکثر مما تؤدیه العبارات المستعملة» (فاخوري، 1989م، ص 141). إن للجملة وظیفتین دلالیتین: «وظیفة أصلیة قارة في القواعد المضبوطة، ووظیفة متغیرة تبعاً لتغیر ظروف الاستعمال، وهي وظیفة لا یمکن أن تقنن إلا حسب الظرف الاستعمالي للمتکلم والمستمع والمقام» (العیاشي، 2011م، ص 18). لقد سمی غرایس هذه الظاهرة بالاستلزام الحواري؛ وقامت هذه النظریة علی مبدأ التعاون الذي أقره غرایس، ورأی ضرورة أن یتبعه المتحاورون، ویسیرون علی هدیه في الحوار. وقد تفرّع عن هذا المبدأ، أربعة قواعد تضبط مسار الحوار، وهي: قاعدة الکم، وقاعدة الکیف، وقاعدة المناسبة، وقاعدة الطریقة، بحیث إن أي خرق لإحدی هذه القواعد یؤدي إلی اختلال العملیة الحواریة، وانتقال کلام المتحاورین من المعنی الصریح إلی المعنی الضمني، وفقاً للمقام أو لسیاق الحال؛ ونتیجة لذلك الخرق، یظهر الاستلزام الحواري الذي یتغیر بتغیر السیاق الذي یرد فیه شریطة احترام مبدأ التعاون. وکلّ ما سبق ذکره، کان دافعاً أساسیاً لاختیار هذا الموضوع الذي یحمل عنوان الاستلزام الحواري في أشعار ولید سیف وفقا لنظریة التداولیة. فیعود ترکیزنا علی الاستلزام الحواري لأهمیة هذه الظاهرة في إظهار المعاني الخفیة من الخطاب وتأویل المعنی وکشف مقاصد المتکلمین الحقیقیة. فالاستلزام یبحث في عملیة الانتقال من المعنی الحرفي إلی المعنی السیاقي، حیث إنّ الحمولة الدلالیة للجمل تشتمل علی صنفین: الأول یتمثل في المعاني الصریحة، وهي تلك التي تظهر في صریح العبارة؛ أما الصنف الثاني، فیتمثل في المعاني الضمنیة. أما السبب في اختیار أشعار ولید سیف للبحث، فذلك یرجع إلى الأسالیب الفنیة والتعابیر غیر المباشرة في أشعار الشاعر للتعبیر عن الآلام والأحزان التي رافقت الشعب الفلسطیني. 1ـ1. أسئلة البحث هذه الدراسة تسعی أن تجیب عن الأسئلة التالیة: ـ ما أشکال الاستلزام الحواري في أشعار ولید سیف؟ ـ ما القواعد التي تضبط مسار الحوار؟ ـ کیف خالف الشاعر القواعد الأربع (الکم، والکیف، والمناسبة، والطریقة) للتعبیر عن مقصده؟ 1-2.خلفیة البحث وفق الأبحاث التي أجریناها حتی الآن، لم نعثر علی أي أطروحة أو مقالة بعنوان الاستلزام الاحواري في أشعار ولید سیف؛ لکن الدراسات التي تناولت موضوع الاستلزام الحواري، فهي کالتالي: رسالة الاستلزام في قصة لیلة الزفاف لتوفیق الحکیم: دراسة تحلیلیة تداولیة، عام 2017م، کتبها رانجي رمضان؛ استهدفت هذه الرسالة أن الدراسة التداولیة وخاصة دراسة الاستلزام تلعب دوراً مهماً للتعبیر عن سوء التفاهم بین المتکلم والمخاطب. مقالة الاستلزام الحواري في القرآن الکریم: آیات من سورة مریم أنموذجا، عام 2017م، کتبتها سامیة محصول؛ لقد ألقى البحث نظرة جدیدة علی التراث البلاغي العربي؛ لذلك سلط الضوء علی کیفیّة توظیف مفهوم الاستلزام الحواري من أجل دراسة جوانب بلاغیة في القرآن الکریم من منظور تداولي. مقالة تجلیات الاستلزام الحواري في قصص جمیلة زنیر: أصابه الإتهام أنموذجاً، عام 2018م، کتبها محمد بولخطوط؛ في هذه الدراسة، تطرق الباحث إلی مفهوم ونظریات التداولیة ونشأتها ومهامها؛ والنتائج تدّل علی أنّ الاستلزام الحواري یحمل في طیاته معاني ظاهریة وأخری باطنیة مضمرة، یحددها السیاق العام للنص. مقالة الاستلزام الحواري، لحوارات موسی وإبراهیم (c) في سورة الشعراء وفق نظریة غرایس، عام 2020م، کتبها على اسودى، وخدیجه احمدى. تطرق الباحثان إلی تحلیل الحوار في الخطاب القرآني من خلال سورة الشعراء، وکشف تحلیلهما عن أغراض المتحاورین والمقاصد الّتي یرمون إلیها، وقد تبیّن أن خرق القواعد الأربع للحوار من منظور غرایس له دور حاسم في إیصال المعنی الثانوي. مقالة الاستلزام الحواري عند بول غرایس: المفهوم والمقومات، عام 2019، للکاتبین سمیة عامر وسلیم حمدان. یدور موضوع هذا المقال حول أحد مقومات الدرس التداولي، إلّا وهو الاستلزام الحواري، الذي یُعدّ من أبرز الظواهر التي تتمیز بها اللغات الطبیعیة، یقوم علی فکرة جوهریة، وهي أن جمل اللغة تدل ـ في أغلبها ـ علی معان ظاهریة غیر مقصودة، وأخری ضمنیة، هي المرادة بالقصد، تتحدد دلالتها من خلال السیاق؛ فجمل اللغات الطبیعیة حسب غرایس في بعض المقامات لا تدل علی محتواها القضوي.
ولد ولید إبراهیم أحمد إبراهیم سیف في مدینة طولکرم بفلسطین بتاریخ 19 ینایر 1948م. فـ«التحق بالجامعة الأردنية في أكتوبر 1966، حيث حصل منها على شهادة البكالوريوس في اللغة والأدب العربي، كما حصل على شهادة الدكتوراه في اللغويات في جامعة لندن عام 1975م. وقد عمل بعد هذا التاريخ محاضراً في قسم اللغة العربية في الجامعة الأردنية مدة ثلاث سنوات قبل أن يترك القسم ليعمل كاتباً متفرغاً للدراما التلفزيونية. وقد عمل في الدراما التلفزيونية السورية. يلفت شعر وليد سيف الانتباه بجدية موضوعه الشعري وأصالة تناوله، ويعترف الكثير من الشعراء بتأثير شعره عليهم. نشر حتى الآن ثلاثة دواوين شعرية وهي: قصائد في زمن الفتح عام 1969م، وشم على ذراع خضرة عام 1971م، تغريبة بني فلسطين عام 1979م. إضافة إلى قصيدتي البحث عن عبد اللّٰه البري والحب ثانية» (سیف، 2016، ص 20). الدكتور وليد سيف هو من أشهر مؤلفي الدراما التاريخية؛ فله الكثير من الأعمال في هذا المجال، ومنها: «الخنساء، عروة بن الورد، شجرة الدر، المعتمد بن عباد، طرفة بن العبد، جبل الصوان، بیوت في مکة، الصعود إلی القمة، ملحمة الحب والرحیل، الدرب الطویل، صلاح الدین الأیوبي، صقر قریش، ربیع قرطبة، التغریبة الفلسطینیة، ملوك طوائف؛ ومن مؤلفاته الروائية تجدر الإشارة إلی: كتاب الشاهد المشهود: سيرة ومراجعات فكرية، تمّ نشر هذا الکتاب في عام 2016م، وهو سرد روائي لسيرته، حيث تحدث فيه وليد سيف عن ولادته في مدينته طولكرم، وعن حياته اليومية بين أشجار وشوارع وأحياء مدينته طولكرم، وصولاً إلى حياته الدرامية، وكتاب ملتقى البحرين رواية، صدرت في 2019، وكتاب مواعيد قرطبة رواية، صدرت في ديسمبر 2020» (المصدر نفسه، ص 10 ـ 11).
قبل الخوض في غمار البحث، لا بد من الوقوف علی تعریف ماهیة المصطلحات وبعض التعریفات والتنظیرات، فیما یخص الموضوع. فيما يلي، نتطرّق إلی مبادئ الاستلزام الحواري في أشعار ولید سیف، وفقاً لنظریة التداولیة. 3ـ1. المفهوم المعجمي والاصطلاحي للتداولیة یرجع مصطلح التداولیة في أصله العربي إلی: «الجذر اللغوي "دول"، وله معان مختلفة؛ لکنها لا تخرج عن معاني التحول والتبدل، فقد ورد في معجم أساس البلاغة للزمخشري، "دول"، دالت له الدولة، ودالت الأیام بکذا؛ وأدال اللّٰه بني فلان من عدوهم: جعل الکرة لهم علیه؛ وأدیل المؤمنون علی المشرکین یوم بدر، وأدیل المشرکون علی المسلمین یوم أحد، واللّٰه یداول الأیام بین الناس مرة لهم ومرة علیهم» (بن عمر، 1998م، ص 303). وأما مفهوم الاصطلاحي للتداولیة، فـ«هي دراسة اللغة قید الاستعمال أو الاستخدام بمعنی دراسة اللغة في سیاقاتها الواقعیة، لا في حدودها المعجمیة أو تراکیبها النحویة، وهي دراسة الکلمات والعبارات والجمل، کما نستعملها ونفهمها ونقصد بها في ظروف ومواقف معینة، لا کما نجدها في القوامیس والمعاجم» (بهاء الدین، 2010م، ص 18). ونستخلص من کل التعاریف، أن مدار لفظ "دول" هو الناقل والتحول من حال إلی حال، أو مکان إلی آخر.
3ـ2. مفهوم الاستلزام الحواري الاستلزام الحواري «هو أحد أبرز المفاهیم التداولیة، والتي تعود أولی بدایاته إلی أعمال الفیلسوف اللغوي بول غرایس[2] (1913م ـ 1988م)، الذي یعد أول المنظرین لهذا المفهوم في الدرس التداولي الغربي الحدیث من خلال مؤلفه "المنطق والمحادثة"، فقد لاحظ بأنّ المتخاطبین عندما یتحاورون یتبعون عدداً معیناً من القواعد الضمنیة اللازمة في أثناء تواصلهم» (بلانشیه، 2007م، ص 84)؛ إذ تعود نشأة البحث فیه إلی تلك المحاضرات التي ألقاها رائد النظریة، بول غرایس، في جامعة هارفارد عام 1967م، حیث قدّم فیها تصوّره لهذا الجانب من الدرس والأسس المنهجیة التي یقوم علیها. إنّ المعنی الاصطلاحي لمفهوم الاستلزام الحواري عند غرایس، هو: «عمل المعنی أو لزوم شيء عن طریق قول شيء آخر، أو قل: إنّه شيء یعنیه المتکلّم ویوحي به ویقترحه ولا یکون جزءاً مما تعنیه الکلمة بصورة حرفیة» (صلاح، 2005م، ص 78). ومما مرّ، یمکن تعریف الاستلزام الحواري بأنّه التوظیف الاستعمالي القصدي، المدلول علیه بمعونة السیاق والعقل بشرط توفّر مبدأ التعاون التخاطبي. قامت أسس هذه النظریة علی أن «المتخاطبین عندما یتحاورون إنما یقبلون ویتبعون عدداً معیناً من القواعد الضمنیة اللازمة لاشتغال التواصل، والمبدأ الأساسي هو مبدأ التعاون[3]» (موشلار، 2010م، ص 212). یمثل مبدأ التعاون العمود الفقري لنظریة الاستلزام الحواري، فهو «المبدأ التداولي الأول للتخاطب، وصیغة هذا المبدأ هي: لیکن انتهاضك للتخاطب علي الوجه الذي یقتضیه الغرض منه؛ وقد بین غرایس أن هذا المبدأ یوجب أن یتعاون المتکلم والمخاطب علی تحقیق الهدف المرسوم من الحدیث الذي دخلا فیه، وقد یکون هذا الهدف محدداً قبل دخولهما في الکلام أو یحصل تحدیده أثناء هذا الکلام» (طه، 1998م، ص 238). ضرب الجرجاني عدة أمثلة توضح ما ذهب إلیه، فقال: ألا تری أنك إذا قلتَ: "هو کثیرُ رماد القِدر" أو قلت: " طویلُ النجادِ" أو قلت في المرأةِ: " نَؤُومُ الضحی"، فإنك في جمیع ذلك لا تفید غرضك الذي تعني من مجرد اللفظ؛ ولکن یدل اللفظ علی معناه الذي یوجِبه ظاهره، ثم یَعقِلُ السامع من ذلك المعنی، علی سبیل الاستدلال، معنی ثانیا هو غَرَضُك کمعرفتِكَ مِن " هو کثیر رماد القدر" أنه مضیافٌ، ومن "طویل النجاد"، أنه طویل القامة، ومن "نَؤومُ الضحی" في المرأة أنها مُترفَةٌ مخدمةٌ، لها مَن یَکفیها أَمرَها (2004م، ص 263). ونظریة غرایس هذه تجعلنا بین أمرین اثنین: «إما أن نتبع القواعد المتفرعة علی مبدأ التعاون، وإما أن نخرج عنها؛ فإن اتبعناها، حصلنا فائدة قریبة، هي أقرب إلی ما سمّاه الأصولیون بـ"المنطوق"، وإن خرجنا عن هذه القواعد، حصّلنا فائدة بعیدة، هي أقرب إلی ما سمَّاه الأصولیون بـ"المفهوم" أو "المسکوت عنه"» (طه، 1998م، ص 239). فقد فرق الأصولیون بین منطوق الجملي ومفهومها، فقالوا: إن «منطوق الجملة هو ما یتبادر إلی الذهن السامع مباشرة من السماع لهذه الجملة، ومفهومها ما تستعمل له هذه العبارة بطریقة غیر مباشرة» (الشهري، 2004م، ص 429). ولأن الاستلزام الحواري آلیة من آلیات الخطاب، فهو «یقدم تفسیراً صریحاً لقدرة المتکلم علی أن یعني أکثر مما یقول بالفعل، أي أکثر مما یعبر عنه بالمعنی الحقیقي للألفاظ المستعملة» (فاخوري، 1989م، ص 141).
3ـ3. مبدأ التعاون یقضي هذا المبدأ بأن یتعاون المتخاطبون في تحقق الهدف من حوارهم. مبدأ التعاون یحکم الحوار بین المتکلم والمخاطب، «وهو مبدأ حواري عام مفاده لیکن إسهامك في الحوار بالقدر الذي یتطلبه هذا الحوار وبما یتوافق مع الغرض المتعارف علیه أو الاتجاه الذي یجري فیه ذلك الحوار» (الصحراوي، 2005م، ص 34). ویشمل مبدأ التعاون علی أربعة مبادئ فرعیة. في البدایة، نذکر المبادئ الفرعیة (مبدأ الکم، ومبدأ الکیف، ومبدأ المناسبة، ومبدأ الطریقة) في مثالٍ واحد، حتی یتبیّن لنا الموضوع بشفافیة أکثر، ثمّ نتطرق إلی تعریف کل واحدٍ منهما. ـ مثال لاحترام مبدأ التعاون: الزوج: أین مفاتیح السیارة الزوجة: فوق الطاولة ففي هذا الحوار، تتمثل مبادئ التعاون التي قررها غرایس، فقد أجابت الزوجة إجابة واضحة (الطریقة)، وکانت صادقة (الکیف)، واستخدمت القدر المطلوب من الکلمات (الکم)، وأجابت إجابة ذات صلة وثیقة بسؤال زوجها (المناسبة). عن مبدأ التعاون الذي أقره غرایس، تفرعت أربعة قواعد لضبط مسار الحوار، أطلق علیها غرایس قواعد المحادثة أو المحاورة، وهي: قاعدة الکم، وقاعدة الکیف، وقاعدة المناسبة أو العلاقة أو الملائمة، وقاعدة الطریقة أو الجهة. ویثبت مبدأ التعاون فاعلیته عندما یأتي النص غیر صریح، من خلال انتهاك هذه المبادئ الأربعة. فانتهاك أو خرق هذه المبادئ یولد المعنی المستلزم الذي یسعی المتلقي للوصول إلیه باعتباره هدف المتکلم من وراء الخطاب. ونموذج هذه الانتهاکات في أشعار ولید سیف نوضحها بالآتي.
4ـ1. قاعدة الکم اجعل إسهامك في الحوار بالقدر المطلوب من دون أن تزید علیه أو تنقص منه. «تعتبر هذه القاعدة حداً دلالیاً القصد منه الحیلولة دون أن یزید أو ینقص المتحاورون من مقدار الفائدة المطلوبة، وتتفرع بدورها إلی: أ. لتکن إفادتك للمخاطب علی قدر حاجته؛ ب. لا تجعل إفادتك تتعدی القدر المطلوب» (طه، 2000م، ص 103). المساهمة في الحوار مضبوطة لا تزید أو تنقص عن المعلومات التي یطلبها المحاورون؛ وضرب غرایس مثالاً لها بقوله: «إذا ساعدتني علی إصلاح سیارة، فإني أتوقع ألّا تقل مساعدتك أو تفوق ما هو مطلوب منك؛ وإذا احتجت في مرحلة معینة إلی أربعة بَرَاغٍ، فإني أنتظر أن تمدني بأربعة براغٍ، ولیس باثنین أو ستة» (غرایس، 2012م، ص 621)؛ وأحیاناً لا یلتزم المتکلم بمبادئ الحوار، بل یقوم بانتهاکها. وفي هذه الحالة، یکون علی المخاطب أن ینتبه لذلك، ویسعی للوصول إلی ما قصده المتکلم من هذا الانتهاك؛ ومثال ذلك هذا الحوار الذي یجري بین الأم وولدها: 1ـ في حوار یجري بین الأم (أ) وولدها (ب): أ: هل اغتسلت ووضعت ثیابك في الغسالة؟ ب: اغتسلت في هذا الحوار، خرق أو انتهاك لمبدأ الکم؛ الأم سألته عن أمرین، فأجاب عن واحد، وسکت عن الثاني، أي أن إجابته أقل من المطلوب، وأنه لم یرد أن یجیب بنعم، حتی لا تشمل الإجابة شیئاً لم یقم به. ویستلزم هذا أن تفهم الأم أنه لم یضع ثیابه في الغسالة» (النحلة، 2002م، ص 36). فکل من المرسل والمستقبل بنی کلامه علی معلومات مشترکة یفترض بطرفي الخطاب أن یکونا علی علم بها وأي زیادة أو نقصان في کمیة المعلومات یُعد اختراقاً لمبدأ الکم، فیدرك المتلقي ذلك ویسعی للوصول إلی هدف المتکلم. نموذج شعریة لـ"خرق قاعدة الکم" في أشعار ولید سیف: سَلمی جَسَدٌ يَتَفَتَّحُ مِن حَمأِ الطِّينِ ويَرْشَحُ بِالأسْرارِ / سَلمی لَيْسَت قَمَراً يَطْلُعُ مِنْ فَلَكِ الأَشْعارِ / سَلْمی قَمَرٌ وَحْشِيٌ يَطْلُعُ مِنْ فَلَكِ الأزرارِ / سَلْمی وردَةُ نَارٍ تَتَفَتَّحُ فِي حَمّی الأسْعارِ / سَلمی قُنْبُلَةً تَخْلَعُ أَبْوَابَ السِّجْنِ / وَتُطلِقُ مِن صَدْرِي الإعْصَارُ (1971م، ص 20). لقد خرق الشاعر في هذا النص الشعري قاعدة الکم. کأنما سُئل من الشاعر من هي سَلمی؟ من المفروض أن یجب الشاعر بالقدر المطلوب من دون أن یزید علیه أو ینقص منه؛ لکن الشاعر کانت إجابته زائدة عن المطلوب. فجاءت إجابته بتکرار اسم سَلمی، مؤکداً للسائل، أن ما به، ما هو إلا نوع من الوسواس. والشاعر انتهك مبدأ الکم بالإطناب عن طریق التذییل ملبیاً لحاجة نفسیة عند الشاعر الذي أحب بسط الکلام وإطالته. فصورة سلمی النادرة تلحّ علیه إلحاحاً عجیباً یجعله یفرّغ هذا الإلحاح في هذه التشبیهات المتوالیة؛ واللافت أن المشبّة واحد مما عمّق دلالة الصورة المرکبة، ورکّزها في الوعي، فأصبحت سلمی مفهوماً له تعریف متعدد المدلولات. أحیاناً، لا یلتزم المتکلم بمبادئ الحوار، بل یقوم بانتهاکها؛ وفي هذه الحالة، یکون علی المخاطب أن ینتبه لذلك، ویسعي للوصول إلی ما قصده المتکلم من هذا الانتهاك؛ ومثال ذلك، ینقل الشاعر مشهداً یجوز أن یکون حقیقیاً لطفل یقف علی باب خیمة اللجوء یمضغ کسرة خبز، وسرعان ما تأتیه رصاصة مفاجئة، ینذهل أمامها؛ لکن لا تمهله الدهشة وقتاً، حتی یبصق اللقمة، وینکفئ، ویظلّ یتشبث بالحیاة، فیمد یده نحو اللقمة؛ لکن دون جدوی: كانَ الطِّفْلُ علی بَابِ الخَيْمَةِ / يَمْضَغُ آخِرَ كِسرَةِ خُبزِ عاريةٍ / حِينَ أَتَتْهُ الطَّلَقَاتُ اَلنَّارِيَّةُ / مِنْ هَوْلِ الصَّدْمَةِ فِي اللَّحَظَاتِ الأُولی / لَم يَعْرِفْ مَاذَا صارَ وَلَكِنَّ الصَّدرَ الطِّفليَّ تَصدَّعَ / وَانفَجَرَ الدَّمُ وصُندوقُ الأقْمارِ السِّریةِ / وَاندَفَعَ هَواءُ الرِّئَتَينِ / رَذاذاً وردِيّاً يُعَرِّقُ وَجْهَ الكُرَةِ الأرضِيَّةِ / بَصَقَ (اللُّقمَةَ) مِن فَمِهِ / وَانكَفَأَ الصَّدرُ علی الطَّبلِيَّةِ وَتَجَمَّدَت الدَّهَشَةَ في عَينَيهِ / وَمَدَّ يَداً يائِسَةً نَحوَ (اللُّقمَةِ) (1979م، ص 95 ـ 96). في هذا المشهد، نشاهد خرق أو انتهاك لمبدأ الکم؛ بأن السائل، سأل الشاعر عن الطفل الذي کان واقفاً علی باب المخیم بعد أن أصیب بالرصاص، هل هذا الطفل مات مطروحاً علی الأرض؟ فالجواب عادةً یکون بنعم أو لا؛ لکن إجابة الشاعر کانت أکثر من المطلوب، وأنه لم یرد أن یجیب بنعم أو لا، حتی یصور هذا المشهد بصورة متألمة، ونقل صورة مؤثرة لطفل لاجئ، وقد عمّق الشاعر بهذا المشهد مأساة الطفل، ومأساة الإنسان الفلسطیني، وعذاب الإنسانیة المقهورة. ومن المشاهد ما یأتي متخیلاً، فیشکل الشاعر أبعاده کما یرید، وکما تتراءی له الأشیاء، دون أن یعاین مثلها في الواقع، مثل قوله: وصَعَدْتُ إلی جَبَلٍ / كَانَ الْعَالَمُ تَحْتِي / ورَأَيْتُ النّاسَ يَموجونَ / رَأَيتُ الزَّبدَ الْمَنْفِيَّ عَلی السَّطْحِ / رَأَيْتُ نِفَايَاتِ المِرْجَلِ والسَّادَةَ / والْقَوَّادِينَ عَلی مَائِدَةِ الإِفْطَارِ / ورَأَيْتُ جُلُودَ النِّسوَةِ تَفرَمُ مَعَ أَوْرَاقِ التَّبَغِ / وتُحفَظُ فِي عُلبِ السّيجَارِ / ورَأَيْتُ التَّعْسَاءَ عُيُوناً فَارِغَةً / يَنْتَظِرُونَ قِطَارَاتِ اللَّيْلِ عَلی الأَرْصِفَةِ السَّوْدَاءَ / والضَّوْءُ الشَّاحِبُ يَتَكَسَّرُ فِي الْحَانَاتِ / وفِي الثَّكَنَاتِ وفي السَّاحَاتِ ويُدْفِنُ وَجْهَ الأشْيَاءِ / وَرَأَيتُ امرَأةً يَتَفَتَّحُ فِيهَا الرُّمَّانُ / وتَولَدُ فِيهَا الأنْهَارُ / كانَت تَتَسَوَّلُ في أحَدِ الأنْفاقِ عَلی وَتَرِ الجِيتارِ (المصدر نفسه، ص 29 ـ 30). هنا، نشاهد حواراً بین الشاعر وأصدقائه، سألوه کیف رأیت العالم عندما صعدت علی جبل مرتفع؛ والقصد هنا هو ترسیم الحالة المأساویة التي یعیش فیها البلد الفلسطیني؛ ولکن الشاعر هنا خرق مبدأ الکم بالإیضاح المطول؛ کان الجواب هکذا: رأیت مشهد الناس یموجون، والنفایات والقوّادین وجلود النسوة والتعساء والمشتتین وامرأة تتسوّل وأخری تترنح في الطرقات، تبحث عن حصّتها في أکوام القمامة، وشهیداً غارقاً في الموج. من المطلوب، أن یرد الشاعر بکلمات مختصرة ویرسم صورة الإنسان المنبوذ الفلسطیني من أرضه. 4ـ2. قاعدة الکیف لا تقل ما تعتقد أنه غیر صحیح، ولا تقل ما لیس عندك دلیل علیه. القصد منها «منع ادعاء الکذب أو إثبات الباطل؛ ولهذا یطلب من المتکلم ألا یورد من العبارات سوی التي وقفت علی دلیل یثبت صدقها، وقد تمَّ تعریفها إلی: أ. لا تقل ما تعلم خطأه ب. لا تقل ما لیس لك عليه دلیل» (صلاح، 2005م، ص 88). والمثال علی ذلك، هذا الحوار الذي یدور بین التلمیذ (أ) والأستاذ (ب): «یقول التلمیذ: أ. طهران في ترکیا، ألیس هذا صحیحاً یا أستاذ؟ ب. طبعاً، ولندن في أمریکا» (نحلة، 2002م، ص 36). لقد انتهك الأستاذ في هذا الحوار مبدأ الکیف، الذي یقتضي ألا یقول إلا ما یعتقد صوابه، وألا یقول ما لا دلیل علیه. وقد انتهکه الأستاذ عمداً لیظهر للتلمیذ أن إجابته غیر صحیحة، ویؤنبه علی جهله بشيء کهذا، والتلمیذ قادر علی الوصول إلی مراد الأستاذ؛ لأنه یعلم أن لندن لیست في أمریکا، وذلك یستلزم أن الأستاذ یقصد بقوله شیئاً غیر ما تقوله کلماته، وهو أن قول التلمیذ غیر صحیح. علی المتکلم وفق هذه النظریة أن یکون أمیناً وصادقاً، فلا یقول ما هو کاذب أو ما لا یستطیع إثبات صدقه؛ ولکن یحدث أحیاناً أن یخرج المتحاورون علی هذه القاعدة من عدة طرق، منها طریق التهکم، والاستعارة، والمبالغة، والتشبیه، والکنایة. حین تعتمد الصورة علی التشبیه، فإنها تقیم علاقة بین طرفین: الأول المشبه؛ والثاني المشبّه به؛ وکل طرف من هذین الطرفین هو کذلك علاقة بین الشاعر من جهة، والعالم من جهة أخری؛ لذا لم یعد التشبیه في القصیدة الحدیثة مجرد طلاء خارجي محدود الوظیفة. ویهتمّ ولید سیف بالتشبیه، ویتخذه أداة فنیة لرسم حدود صوره مباشرة دون إیغال في الخیالات البعیدة، علی الرغم من أن تشبیهاته تحمل إیحاءات عمیقة؛ ومن أمثلة ذلك قوله: والمُخبِرُ في الغُرفَةِ يَأْخُذُ مِنْ سِيجَارَتِهِ نَفْساً ... / يَنْظُرُ عَبرَ الشُّبَّاكِ إلی اِمْرَأَةٍ تَتَفَجَّرُ مِثْلَ اَلْبَرْقُوقِ النَّاضِجِ (1979م، ص 160). إذا أردنا أن نفترض أحد أصدقاء الشاعر سأل منه هذا السؤال: کیف کان مظهر المُخبر في غرفة التحقیق؟ لیأتي رد الشاعر علیه مدعیاً، في فمه سیجارةً یأخذ منها نَفَسا، وینظر إلی المرأة التي تتفجر مثل البرقوق الناضج. ومحل الاستلزام هنا في إجابة الشاعر عندما قال: "مثل البرقوق الناضج"، فهو استلزام کیفي عدل فیه الشاعر عن ذکر الحقیقة باللفظ الصریح إلی التعبیر عنه بلفظ التشبیه، حتی تظهر هذه المرأة في مخیلة المتلقّي، مملوءة الجسم، لیّنة، تتفجر نضجاً وحیویّة، وتمنح النفس نشوة. وقد تحقق خرق قاعدة الکیف عن طریق استخدام الشاعر لأسلوب التشبیه. وأیضاً في نص آخر، یصور الشاعر صورة الشرطي في غرفة التحقیق کالآتي: سَاقَاهُ عَلی شَكْلِ ثَمَانِيَةٍ تَنْتَصِبَانِ علی جَنبَيَّ / كَجُذوعِ الجَمِّيزِ اليابِسِ، وَالرَّأسُ بَعِيداً کانَ یُطِلُّ / كَحَبَّةِ زَقُّومٍ نَارِيٍ (المصدر نفسه، ص 57). فقد مثّل الشاعر صورة الشرطي تمثیلاً حسیّاً؛ إذ إنّ شکل ساقیه ثمانیة، تحیطان بالجسم بصلابة، کجذوع الجمّیز، وفوق الساقین یبدو رأسه مثل زقومة ناریة. کما نعلم في تعریف قاعدة الکیف (لا تقل ما تعتقد أنه غیر صحیح، ولا تقل ما لیس عندك دلیل علیه). فمن الواضح لیس أي دلیل وبرهان لدی الشاعر لإثبات أن الشرطي لدیه ثمانیة ساقان ورأسه کالزقوم الناري. الشاعر بهذه الطریقة أراد أن یصور الصورة القبیحة التي ترسم الشرطي المحقق بضخامته وشراسته وقبح منظره. وبهذا الاستلزام الحواري القائم علی ادعاء الشاعر بأن الشرطي له ثمانیة ساقان، یکون الشاعر قد انتهك مبدأ الکیف، فالکلام یفتقد الصواب. في موقف آخر، یشبه الشاعر مدینة طولکرم بالإنسان ویقول: وَطولْكَرِم تَسحَبُ الغِطاءَ تَحتَ جَهشَةِ المَطَرِ (1969م، ص 48). الشاعر شبه مدینة طولکرم بامرأة نائمة تسحب غطاءها خوفاً من المطر. قد تناول أوستن[4] التشبیه، فنظر إلیه من حیث «طاقته التخییلیة لا الإحالیة، فرأی أنه أداة لا تفید التطابق الواقعي بین المشبه والمشبه به، کما لا تدعو إلی تمثل ذلك التطابق، أو الإقرار به؛ فالعقد البلاغي بین مستعملي أسلوب التشبیه الذي یقوله والذي یتقبله، ینأی عن إحداث شبهة أن یکون القول حقیقیاً، بل کل من الباث والمتقبل شاعران بوظیفة التشبیه التقریبیة» (الحباشة، 2009م، ص 37). في التشخیص السابق، قد خرق الشاعر مبدأ الکیف القائم علی التزام الصدق، وإلا فمن ذا الذي یصدق أن طولکرم تسحب الغطاء تحت جهشة المطر؟ في تشخیص الشاعر لمدینة طولکرم صورة عمیقة، تبثّ في أوصالها الحیاة والبقاء والحرکة، ورغم أن الصورة فیها انکماش أمام جهشة المطر، إلا أنه انکماش یزید من تصمیم المدینة علی البقاء. 4ـ3. قاعدة المناسبة، أو العلاقة، أو الملائمة تنص هذه القاعدة علی ضرورة أن: «یناسب مقالك مقامك، وترمي إلی أن یناسب القول ما هو مطلوب في کل مرحلة» (بعیطیش، 2014م، ص 108). اجعل کلامك ذا علاقة مناسبة بالموضوع. وتتعلق هذه القاعدة بضرورة التقید بموضوع الحوار، بمعنی أنه «یجب ألا یکون تدخل المساهمین في الحوار خارجاً عن الموضوع المتحاور فیه» (عبد السلام، 1985م، ص 136). وقد ضرب محمود نحلة مثالاً علی اختراق هذه القاعدة بذلك الحوار الذي یجري بین رجلین: (أ) و(ب): أ: أین زید؟ ب. هناك سیارة صفراء تقف أمام منزل عمرو. وإذا تأملنا إلی إجابة الرجل (ب)، وجدنا أن ما قاله «بمعناه الحرفي لیس إجابة عن السؤال؛ لأنه ينتهك مبدأ العلاقة المناسبة بالموضوع؛ ولکن السامع في ضوء المبادئ الأخری للتعاون یسأل نفسه ما العلاقة الممکنة بین وقوف سیارة صفراء أمام منزل عمرو وسؤالي عن مکان زید؟ ثمّ یصل إلی أن المراد بهذا القول إبلاغه رسالة مؤداها أنه إذا کان لزید سیارة صفراء فلعله عند عمرو» (نحلة، 2002م، ص 37). الأساس في هذه القاعدة هو: اجعل کلامك ذا علاقة مناسبة بالموضوع. سنشاهد في أشعار ولید سیف، الحوار الذي یدور بین المخبر وشخصیة زید الیاسین داخل غرفة التحقیق، خرق لمبدأ المناسبة. وهذا الحوار یکشف عن نوایا شخصیة المخبر الخبیثة، وتظهر شخصیة زید الیاسین الصامدة البریئة من التهم: تَظِلُّ الشَّمْسُ هُنَالِكَ سَاطِعَةً، والمُخْبِرُ / يَتَنَفَّسُ رائِحَةُ اللَّحْمِ الْمَشْوِيِّ / تَكَلّمَ! تَسْقُطُ فِي ذَاكِرَةِ الْمَدْفُونَةِ قَطْرَةُ دَمٍّ: / اعْتَرَفَ الآنَ / بِمَاذَا؟! / أَنَّ زُهُورَ فِلَسْطِينَ / تَتَفَتَّحُ فِي جَسَدِي، أنَّ السِّكِّينَ / لا تَقْدِرُ أَنْ تَكْشِطَ عَن جِلدي لَوْنَ الأَرضِ ... / وبَارُودَ الرَّفضِ (1979م، ص 61 ـ 62). شخصیة المخبر مصرّة علی انتزاع شيء من ذاکرة زید الیاسین، وتضمّن فعل الأمر في الحوار، انتهاراً وإلحاحاً، کاشفاً عن مکنون نفسي یمارسه المخبر داخل غرفة التحقیق. ویخیّل للمتلقي أنه أمام مشهد تمثیل عنیف؛ یقف فیه جلّاد بسیاطه علی رأس الضحیة: تکلّم، ... اعترف الآن!!! فتجیبه الضحیة: بماذا؟ لأنه لا شيء لدیها لتعترف به؛ إذ إنّ المخبر ملّ من السؤال والتحقیق، ولم یستلّ شیئاً من زید الیاسین، وأصبح یرید إنهاء القضیة بأیّة وسیلة، ویتهیأ القارئ لیری کیف سینهي زید الیاسین المشهد، ویُخیّل له أنّه سیضع حلّاً نهائیاً یرضي المخبر؛ لکنه یفاجأ المخبر حین یردّ علیه. ولهذا فقد داره الحوار بین المخبر والضحیة بعیداً عن مقصده بطریقة غیر مباشرة مستخدمة أسلوب التعریض بدلاً من التصریح في الجواب، فقد أجاب الضحیة عن سؤال المخبر. وإذا تأملنا إلی إجابة الضحیة (زید یاسین)، وجدنا أن ما قاله لیس إجابة عن سؤال المخبر؛ لأنه ينتهك مبدأ العلاقة المناسبة بالموضوع. وفي إجابة الضحیة انتهاك لمبدأ المناسبة؛ لأن المخاطبة انزلقت لمقاصد أخری مخالفة لتلك التي قصدها المخبر، فلم یکن الرد مناسباً لما هو مطلوب منه. وأیضاً في حوار آخر، نری انتهاك لمبدأ المناسبة، وعندما یجیب الضحیة لسؤال المخبر ویقول: يا مُخبِرُ إِنَّ الْحَبْلَ اَلْمَشْدُودَ عَلَيَّ رُسْغِي لاَ يُوثِقُنِي / فَلَقَدْ وَزّعْتُ عَلَی كُلِّ الأجسادِ المَكدُودَةِ جِسْمي ... / واجْتَمَعت في جَسَدي كُلُّ شَظايَا الْوَطَنِ / هَذَا زَمَنِي يَعْبُرُ مِن شُبَّاكِ السِّجْنِ / ويَنْفُضُ عَنْ عَيْنَيْهِ غُبَارَ الوَسَن / يَقفِزُ مِثْلَ جَوَادِ بَرِّيٍ يَعدُو فِي الأَرضِ بِلا رَسَنِ / وَتَقَلَّصَ وَجهَ المُخبِرِ (المصدر نفسه، ص 64). أبرز الحوار ـ علی الرغم من قصره ـ معاني شتّی، ومفارقات، وتضارباً في الرؤی، وتقابلاً بین الأضداد؛ والضحیة في إجابته یحاول تضلیل المخبر عن طریق تحویل مسار الحدیث؛ فبدلاً من أن یجیب عن سؤاله، یقول له بأن هذا الحبل المشدود علی یدیه، لا یستطیع أن یقفني، وهذه الحالة التي أنا فیها لیست تبقی للأبد، بل تذهب وتُفرَّ، کما یقفز وینفر الجواد الوحشي بلا رَسَن في الأرض. وکان المخبر یتوقع الرد للضحیة غیر هذا؛ ولکن نری الشاعر في هذا الحوار قد انتهك مبدأ المناسبة مرتین، ونتج من هذا الانتهاك المعتمد، حصول الاستلزام کما رأینا. 4ـ4. قاعدة الطریقة أو الجهة هذه القاعدة «لا ترتبط بما قیل، بل بما یراد قوله، والطریقة التي یجب أن یقال بها. والهدف منها تجنب الاضطراب والملل والإیجاز المخل في القول. فهي ترتبط بالقاعدة الأساسیة التي نعبر عنها بـ"التزام الوضوح"» (فضل، 1992م، ص 199). وتتفرع هذه القاعدة إلی أربعة فروع: «أ. تجنب غموض العبارة؛ ب. تجنب اللبس؛ ج. تکلم بإیجاز؛ د. لیکن کلامك مرتباً بالتسلسل» (الخلیفة، 2013م، ص 3). ومثال ذلك هذا الحوار الذي یدور «بین رجلین (أ)، (ب): أ: ماذا ترید؟ ب: قم، واتجه إلی الباب، وضع المفتاح في القفل، ثم أدره ناحیة الیسار ثلاث مرات، ثمّ ادفع الباب برفق. إن ما قاله (ب) یمثل انتهاکاً لمبدأ من مبادئ الطریقة، وهو "أوجِز" إذ کان یکفي أن یقال: افتح الباب» (نحلة، 2002م، ص 37). ومن هنا، یبدو لنا «أن قیمة مبدأ التعاون لیست في محاولة اتباعه أو التقلید به، بل في انتهاکه وتجاوزه عن القصد أو عن غیر قصد، لغایات بلاغیة» (بهاء الدین، 2010م، ص 46). وقد عبّر لودفیغ فتغنشتاین[5] عن هذه القاعدة بقوله: «إن ما یمکن قوله علی الإطلاق یمکن قوله بوضوح، وأما ما لا نستطیع أن نتحدث عنه، فلا بد أن نصمت عنه» (حمود، 2009م، ص 247)؛ ولذلك، فإن خرق هذه القاعدة یؤدي إلی غموض وعدم حصول الفهم. وفي دیوان تغریبة بني فلسطین لشاعر ولید سیف، نری ينتهك الشاعر مبدأ الطریقة في هذه الأبیات ویقول: ورَأيْتُ عَجُوزاً تَتَرَنَّحُ فِي الطّرُقَاتِ / تَبْحَثُ عَنْ حِصَّتِها مِنْ هَذِي الدُّنْيَا فِي أَكْوَامِ الْفَضَلاَتِ / تَحْمِلُ فِي سَلَّتِها قَمَراً مِن تَنَكٍ / وبَقايا حَبَّةِ تُفَّاحٍ وَجَريدَةً / تَتَحَدَّثُ عَنْ تَعْوِيمِ العُملَةِ عَن جَبَلِ الزُّبدِ المَهْدُورِ ... / وقائِمَةِ الأسعارِ (1979م، ص 66 ـ 67). الشاعر هنا یرسم حرکة العجوز المترنّحة، تبحث عن حصّتها في أکوام الفضلات، تحمل في سلّتها قمراً من تنك. في هذا المقطع، یتفاجأ المتلقي عندما یجد هذه العجوز تتحدّث عن تعویم العملة، وقائمة الأسعار، وکیف یمکن یحملها القمر في سلة من تنك. في هذا الخطاب التواصلي، یتعاون الشاعر والمخاطب علی تحقیق مقصدهما من الحوار؛ والقصد هنا هو شکوی الشاعر بحالة من السخریة بطریقة تستفزّ القارئ. نری هنا بردٍ غیر متوقع، کیف یمکن بأن عجوزاً تبحث عن حصّتها في أکوام من الفضلات، وکیف یمکن أن هذه العجوز تحمل القمر في سلّتها، وکیف یمکن هذه العجوز تتحدث عن تعویم العملة، وقائمة الأسعار. کل هذه الردود أتت غیر صریحة والعبارات ملیئة بالغموض وعدم رعایة الإیجاز والوضوح في الکلام. لقد اخترق الشاعر في هذا الحوار مبدأ الطریقة، الذي ینص علی ضرورة التزام الوضوح في کلام، وتجنب اللبس والغموض والإبهام. ولهذا، لم یکن الکلام ملائماً للمعنی الحرفي الذي تعذر التفسیر باعتماده. ولما تعذر علی الشاعر تفسیر الألفاظ حرفیاً، اتجه للاستلزام الحوار. فإن سیاق قول الشاعر: "تبحث عن حصّتها من هذي الدنیا في أکوام الفضلات"، یبعد السامع عن قبول المعنی اللفظي لیبحث عما وراء اللفظ؛ ففیها انتقال بالمعنی الحرفي للجملة إلی المعنی المستلزم من السیاق؛ إذ هي کنایة عن کثرة الأحزان والآلام والظروف المأساویة في بلد الشاعر. ویمیل الشاعر إلی خرق هذه القاعدة مرة أخری ویقول: وَدَخَلتُ إلی مِصر، وَجَدتُ کِنَانَتَهَا فَارِغَةً / قُلتُ، لَقَد فَرَغَتْ کُلُّ الأَسهُمِ في أَجسادِ رُعَاةِ اَلهَکسُوسِ ... / وَكُّلُ غَزَاةِ الْوَطَنِ / لَكِنِّي أَبْصَرْتُ النَّاسَ يوارونا لِشَفَراتِ الْمَزْرُوعَةِ / فِي الأَجْسَامِ وفِي الأَحْلام .ِ.. / وكَانَ الْخَوْفُ يَشَرَّشُ فِي الْأَعْيُنِ ... / كَيْفَ انْتَقَلَتْ سِيْنَاءُ إِلی شَطِّ النِّيلِ / سَأَلْتُ وَأَيْنَ الْحَرْبُ إِذَنْ؟ / فَانْفَضَّ النَّاسُ وَقَالَ النِّيلُ: ابْحَثْ عَنْهَا / فِي صَوْتِ الْعَرَبِ وفي السِّجْنِ الحَرْبِيِّ / وَرَأَيْتُ الأطفالَ يَقُودُونَ مُظَاهَرَة (المصدر نفسه، ص 21 ـ 23). یُعرّي الشاعر حقیقة في بناء هذا الحوار، ساخراً من واقع متناقض؛ فمثلاً کنانة مصر الفارغة جعلت الشاعر یظن أنها فرّغتها في أجساد الهکسوس ورعاتهم؛ لکن المفاجأة تصدم القارئ، حین یری أن الناس هناك یقتلهم الخوف، ولا أحد یجرؤ علی التحرّك. الشاهد لخرق مبدأ الطریقة، عندما یقول الشاعر یصمت الناس عن الکلام ویجیب النیل، وتزید المفاجأة حین یجد العرب تحوّلت من سیناء إلی صوت العرب وإلی السجن الحربي، مع أنه کان یظنّها قائمة فعلاً ضدّ العدوّ علی الأرض. ویبلغ الخرق حین ینسحب الکبار عن الساحة، ویظهر الصغار یقودون المقاومة. وهکذا، نری أن لجوء الشاعر إلی کل تلك الاستلزامات الحواریة، کان سبب لخرق مبدأ الطریقة. فأفکار الشاعر التي أراد أن یعبر عنها لم یناسبها المعنی الحرفي؛ ومن هنا، لجأ إلی المعنی المستلزم المعتمد علی المعاني الضمنیة والتأویل البعید. وقد یتحوّل الشاعر من السخریة والضحك إلی توجیه نقد لاذع ویقول: يا أَبْنَاءَ الطَّائِفِ مَا أَهْلَك مَنْ قَبْلَكُمْ ... / إِلاَّ أَنَّ الأَشْرَافَ إِذَا سَرَقُوا بِالْجُمْلَةِ أقواتَ الأُمَّةِ ... / جَاءَتْهُمْ بِرْقَيَاتِ التَّأْيِيدِ وَبَاقَاتِ الوَردِ / وَإِذا مَدَّ الفَقرُ يَدَيهِ إلی دالِيَةٍ ... / كَي يَسكُتَ مِنْهَا جُوعٌ صَغِيرٌ يَتَضَوَّرُ فِي الْبَرْدِ ... / أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدّ!!! (المصدر نفسه، ص 50 ـ 51). ینقد الشاعر وضعا اجتماعيا مثیراً، یتخذ هذا الوضع اتجاهین متقابلین: الأوّل: سرقة الأشراف أقوات الناس لا تلحق بهم الأذی، بل تجعلهم أکثر احتراماً، وأرفع مقاماً؛ والثاني: مدّ الإنسان الفقیر یدیه إلی دالیة لیسکت جوعه، فیطبّق علیه الحد. السیاق المقالي والمقامي في هذا الحوار یفرض علینا أن نتخلی عن المعنی الحرفي للحوار لنتجه صوب المعنی الضمني أو المعنی المستلزم من الخطاب. لقد خرق الشاعر مبدأ الطریقة في هذا الحوار، فلم یلتزم بالوضوح في کلامه، ونری نوعاً من اللبس والغموض، عندما یبدأ الشاعر بمنطق معوّج، یعکس اعوجاج المجتمع المتمثل في ذوي النفوذ، الذین لا یجرؤ أحدٌ علی انتقادهم؛ لکن الضعفاء لا یتورّع أحد في إیذائهم ومعاقبتهم. مما یستلزم منا أن نحمل معناه علی معنی آخر غیر المعنی الحرفي له، وهو عدم ثبات الأمور في البلاد، ویقول الشاعر، الأشراف والملوك تسرق وتنهب ثروات البلد، بدلاً من معاقبتهم علی هذه السرقات، یوافقون علی أعمالهم الخاطئة والسیئة؛ ولکن إذا مدّ الفقیر یده حتی یشبع طفله من جوع، یعاقب علی هذا الأمر ویجرون علیه الحد. وقد أثبت لنا الشاعر في هذا الحوار تعارضاً حجاجیاً، وتثبت النتیجة الضمنیة المتعارضة، حیث جسّم الشاعر صورة بالمنطق المعوّج. وأیضاً في حوار آخر، نری بأن الشاعر یخرق مبدأ الطریقة ویلجأ إلی استعمال المفردات والعبارات الغامضة: حِينَ أَتَونِي / واستَيْقَظتُ مِنَ النَّومِ / كَانَتْ كُلُّ نِسَاءِ الدُّنْيَا أُمِّي / وامرَأَتي ... (المصدر نفسه، 1971م، ص 84). الشاعر هنا ربط بین أمه وامرأته برابط الواو، فغدت أمُّه، امرأته، وامرأتُه أمَّه. وتفسیر السیاق بهذا الشکل الحرفي یقتل النص، ویضلّل القارئ؛ لکن إذا تأملنا في هذا الحوار، نری مقصوداً آخر یقرّب لنا النص، ویطمئن القارئ ویجعله یألف محتواه الدلالي، فیأخذ یبحث عن المقصد الشعري، لیجد أکثر من تفسیر. فمرّة یری أن الشاعر مضطرب في تلك اللحظة، فلا یکاد یمیّز الأشیاء التي تبدو متداخلة ملتبسة في إدراکه، ومرّة یشعر بوجود القرب الوجداني بین الشاعر ونساء الدنیا؛ فاختار الأمّ والمرأة لقربهما من الشعور. ویظل هناك غموض وتنافر واضح في هذه الفقرة، رغم الاجتهاد في التفسیر؛ لأنها تثیر التوتر وعدم الرضا بحال. وعدم الرضا یحفّز وعي المتلقي تجاه النص؛ لأنه یعرف أن الشاعر جاور بین ما لا یتجاور في الواقع لقیمة فنیة ودلالة معنویة. وهکذا رأینا أن الشاعر ولید سیف یستخدم الاستلزام الحواري الذي یطابق فیه معنی الخطاب مع قصد المرسل؛ إذ لم تسعفه المعاني الحرفیة في التعبیر عن مکنون فؤاده، فخرج إلی المعاني الضمنیة المستلزمة والتي خرق فیها قواعد مبدأ التعاون، مؤثراً للاستلزام الحواري الذي یعتمد علی سیاق التلفظ لإفهام القصد وتأویله.
[1] .Pragmatics [2]. H.P.Grice [3]. Co-operative Principle [4] .Austin [5] .Ludwig Wittgenstein | ||
مراجع | ||
توصلنا إلی مجموعة من النتائج، یمکن تلخیصها فیما یلي: ـ یلجأ المتکلمون، لاسیما المبدعون منهم، کثیراً إلی التعبیر عن أغراضهم ومقاصدهم ومواقفهم، بالتوظیف المجازي للملفوظات، ویعتمدون کثیراً علی الاستلزام الحواري. لجأ الشاعر، ولید سیف، للاستلزام الحواري؛ لأن أفکاره التي أراد أن یعبّر عنها، لم یناسبها المعنی الحرفي للکلام؛ ولهذا، لجأ للمعاني الضمنیة والتأویل البعید. ـ یتکون الاستلزام الحواري من مبادئ عدیدة، مثل قاعدة الکم، والکیف، والطریقة، والمناسبة، فعند خرق أحد هذه المبادئ، یحصل هنالك اتساع للمعنی. ـ عدل الشاعر، ولید سیف، في أغلب قصائده إلی المعاني المجازیة المستلزمة لیعطي دلالات جدیدة ومعاني ملازمة یدرکها المتلقي بالتدبر والتأمل، وذلك بتأویل دلالتها اعتماداً علی معنی الجملة والمقام الذي ینجز فیه والتعاون الحواري بین المتکلم والمتلقي. ـ انتهك الشاعر مبدأ الکم، فلم تأت إجابته علی قدر المطلوب منه فقط، بل أتت أحیاناً أقل، وأحیاناً أخری أکثر من المطلوب مستهدفاً لمعان مجازیة ظهرت من خلال سیاق المحاورة. ـ انتهك الشاعر مبدأ الکیف، فقد استخدم في حواراته الاستعارة، الکنایة، والتشبیه، حیث تقوم هذه الأنواع البلاغیة علی المعنی الضمني. ـ انتهك الشاعر مبدأ المناسبة، فلم یتقیّد بموضوع الحوار؛ وذلك بغرض جر المخاطب إلی مقاصد أخری تخالف المقصد الحقیقي الذي أضمره في نفسه ولم یصرّح به. ـ انتهك الشاعر مبدأ الطریقة، فأتی حواره ملتبساً غیر مفهوم، یظهر فیه الإطناب أحیاناً، والإیجاز أحیاناً أخری. ـ الاستلزام الحواري یکشف عن الجانب الآخر من التواصل، الذي تجوز تسمیته بالتواصل غیر المعلن (غیر المباشر)، بدلیل أن المتکلم یقول کلاماً، ویقصد غیره، کما أن السامع یسمع کلاماً، ویفهم منه غیر ما سمع. ـ أثبتت الدراسة قیام تحاور ناجح في مدونة النظر بین طرفي العملیة التخاطبیة الباثّ المتمثل في أشعار ولید سیف، وفي کل من یتلقي القصیدة سماعاً أو قراءة؛ وهذا النجاح مرجعه، الخرق المعتمد لمبادئ الحوار، وفقاً لنظریة التداولیة.
***
المصادر والمراجع اسودى، على؛ وخدیجه احمدى. (2020م). «الاستلزام الحواري لحوارات موسی وإبراهیم (علیهما السلام) في سورة الشعراء، وفق نظریة غرایس». مجلة اللغة العربیة وآدابها. ع 2. ص 185 ـ 203. بعیطیش، یحیی. (2014م). الفعل اللغوي بین الفلسفة والنحو. عمان: د.ن. بلانشیه، فیلیپ. (2007م). التداولیة من أوستن إلی غوفمان. ترجمة صابر الحباشة. دمشق: دار للنشر والتوزیع. بن عمر، محمود. (1998م). أساس البلاغة. بيروت: دار الکتب العلمیة. بهاء الدین، محمد مزید. (2010م). تبسیط التداولیة: من أفعال اللغة إلی بلاغة الخطاب السیاسي. القاهرة: شمس للنشر والتوزیع. بولخطوط، محمد. (2018م). «تجلیات الاستلزام الحواري في قصص جمیلة زنیر "أصابه الإتهام أنموذجاً"». مجلة رؤی فکریة. ع 8. ص 107 ـ 133. الجرجاني، عبد القاهر بن عبد الرحمن. (2004م). دلائل الإعجاز. ط 5. تعليق أبو فهر محمود محمد شاکر. القاهرة: مکتبة الخانجي. حمود، جمال. (2009م). فلسفة اللغة عند لودفیغ فتغنشتاین. بيروت: الاختلاف، والدار العربیة للعلوم ناشرون. الحباشة، صابر. (2009م). من قضایا الفکر اللساني في النحو والدلالة واللسانیة. دمشق: دار صفحات للدراسات والنشر والتوزیع. الخلیفة، هشام إبراهیم عبد اللّٰه. (2013م). نظریة التلویح الحواري بین علم اللغة الحدیث والمباحث اللغویة في الثراث العربي والإسلامي. لونجمان: الشرکة المصریة العالمیة للنشر. رمضان، رانجي. (2017م). الاستلزام في قصة لیلة الزفاف لتوفیق حکیم: دراسة تحلیلیة تداولیة. رسالة الماجستیر. جامعة مولانا مالك إبراهیم مالانج. کلیة العلوم الإنسانیة. سيف، وليد. (2016م). الشاهد المشهود: سيرة ومراجعات فكرية. عمان: الدار الأهلية للنشر والتوزيع. ــــــــــــ . (1979م). تغریبة بني فلسطین. بیروت: دار العودة. ــــــــــــ . (1969م). قصائد في زمن الفتح. بیروت: دار الطلیعة للطباعة والنشر. ــــــــــــ . (1971م). وشم علی ذراع خضرة. بیروت: دار العودة. الشهري، عبد الهادي بن ظافر. (2004م). إستراتيجيات الخطاب: مقاربة لغوية تداولية. بنغازي: دار الكتب الوطنية. صحراوي، مسعود. (2005م). التداولیة عند علماء العرب. بیروت: دار الطلیعة. صلاح، إسماعیل. (2005م). نظریة المعنی في فلسفة جرایس. القاهرة: الدار المصریة للطباعیة والنشر. طه، عبد الرحمن. (2000م). في أصول الحوار وتجدید علم الکلام. ط 2. الدار البیضاء: المرکز الثقافي العربي. ــــــــــــــــــ . (1998م). اللسان والمیزان أو التکوثر العقلي. الدار البیضاء: المرکز الثقافي العربي. عامر، سمیة؛ وسلیم حمدان. (2019م). «مقالة الاستلزام الحواري عند بول غرایس: المفهوم والمقومات». مجلة القارئ للدراسات الأدبیة والنقدیة واللغویة. ع 2. ص 22 ـ 39. عبد السلام، هارون. (1985م). تحقیق وشرح البیان والتبیین لأبي عمرو بن بحر الجاحظ. ط 5. القاهرة: مکتبة الخانجي. علوي، حافظ إسماعیلي. (2014م). التداولیات: علم استعمال اللغة. عمان: عالم الکتب الحدیث. عياشي، أدراوي. (2011م). الاستلزام الحواري في التداول اللساني من الوعي بالخصوصیات النوعیة للظاهرة إلی وضع القوانین الضابطة لها. المغرب: الاختلاف. غرایس، بول. (2012م). المنطق والمحادثة. ترجمة مجموعة من الأساتذة والباحثین، ضمن کتاب إطلالات علی النظریات اللسانیة والدلالیة في النصف الثاني من القرن العشرین. تونس: المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون. فاخوري، عادل. (1989م). «الاقتضاء في التداول اللساني». عالم الفکر. ج 20. ع 3. ص 99 ـ 141. فضل، حسن عباس. (1992م). البلاغة فنونها وأفنانها: سلسلة بلاغتنا ولغتنا (1) علم المعاني. ط 3. إربد: دار الفرقان للطباعة والنشر. موسلار، جاك. (2010م). القاموس الموسوعي للتداولیة. تونس: دار سیناترا، المرکز الوطني للترجمة. محصول، سامیة. (2017م). «الاستلزام الحواري في القرآن الکریم: آیات من سورة مریم أنموذجا». مجلة اللغة العربیة وآدابها. ع 1. ص 23 ـ 44. نحلة، محمد أحمد. (2002م). آفاق جدیدة في البحث اللغوي المعاصر. الجامعة الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية. | ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 148 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 137 |