تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,652 |
تعداد مقالات | 13,423 |
تعداد مشاهده مقاله | 30,843,236 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 12,141,276 |
أسلوب الحجاج في مناظرة الإمام الرضا (ع) مع رأس الجالوت | ||
بحوث في اللغة العربية | ||
دوره 15، شماره 29، دی 2023، صفحه 121-140 اصل مقاله (1.11 M) | ||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | ||
شناسه دیجیتال (DOI): 10.22108/rall.2023.138641.1473 | ||
نویسندگان | ||
سعید بهمن آبادی1؛ علي اكبر فراتي* 2؛ كوثر بهمن آبادي3 | ||
1طالب الدكتوراه في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة طهران، طهران، إيران | ||
2أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة طهران، طهران، إيران | ||
3طالبة الماجستير في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة طهران، طهران، إيران | ||
چکیده | ||
إنّ الحجاج جهد لغوي يهدف إلى التأثیر علی المتلقي وانبعاث مشاعره وأحاسیسه ومراعاة مقتضی حاله عبر القوی العقلانية والاستدلال المنطقي واللغوي، کما أنّ الحجاج یعدّ عملية فكرية تتّخذ من الخطاب الملفوظ أو المكتوب وسيلة لإيصال الحجة، بحیث يهدف إلى إقناع المخاطب والتأثير فيه وفي سمعه لرأي أو اعتقاد ما. وإنّ المناظرات الکلامیة أو اللغویة من النصوص التي تستعمل فیها الآلیات الحجاجیة لإقناع المخاطب والتأثیر فیه وإلزامه علی الإفحام. في هذا الأثناء، أن مناظرة الإمام رضا (j) مع رأس الجالوت، والتي تعالج نبوة النبي الأكرم (-)، تعتبر خطابا حجاجیا في حد ذاته. تأتي المقالة على المنهج الوصفي ـ التحلیلي، لمعالجة المناظرة المذکورة، اعتمادا علی نظریة الحجاج وآلیاتها المختلفة، وتهدف إلى دراسة الآليات الحجاجية وتقنياتها اللغویة والبلاغیة اللتين تمّ الترکیز علیهما في هذا البحث، وإن أُشیر إلی الحجج الفلسفیة التي تعدّ من الحجج المنطقية المتمثّلة في الحجج النقلية والعقلیة. فلقد رصدت هذة الدراسة أکثر أسالیب الإقناع حضوراً في مستوین اثنین: اللغوية والبلاغية، وتوصلت إلی أنّ التقنيات اللغوية والبلاغية والحجج النقلية والعقلية تشكّل حجر الأساس في مناظرة الإمام (j) مع العالم اليهودي، وذلك لإثراء آرائه وإقناع المتلقّي وتکريس الرسالة النبوية لأجل تبیان مرتكز حجاجي أسست عليه الأساليب الإقناعية والحجاجیة. فإن الأسالیب اللغویة التي تتمثّل في المناظرة هي الترابطات الكلامية مثل "واو العاطفة، وثُمّ، وإنَّ، وأَنَّ": وهي قد ساهمت كثيرا في إقامة الاتصال بين الحجج ورصفها في إقناع المتلقّي؛ وأما الأساليب البلاغية، فهي أساليب التقديم والتأخير، والحصر والاستفهام والكناية، مما أدّتْ دورها الحجاجي في هذة المناظرة. | ||
کلیدواژهها | ||
التداولیة؛ نظریة الحجاج؛ مناظرة الإمام الرضا (ع)؛ رأس الجالوت | ||
اصل مقاله | ||
شهد العصر الحدیث تطوّراً بارزاً في جميع مجالات اللغة، بحيث كان لنظرية الحجاج نصيب وافر في الدراسة والتقنين؛ وهذا راجع إلى العودة القوية للبلاغة وما أضحت تمثّله في الدراسات اللغوية الحديثة، «مما مهّدت الظروف المناسبة لعودة الاهتمام بالخطابة وبالأساليب الحجاجية» (الراضي، ٢٠١٥م، ص 211)، إلى أنْ أصبح الحجاج جانباً مهماً في المسار اللساني التداولي، مجاله الأوّل الخطابة وغرضه الرئيس إبراز المقصود الحجاجي والرافد الإقناعي في الخطاب البشري. هذا، وإنّ البلاغة الجديدة، وهي نظرية الحجاج، تهدف إلى دراسة التقنيات اللغوية التي تسعى إلى إثارة النفوس وكسب العقول، وذلك عبر عرض الحجج، وتبيّن الشروط التي تسمح للحجج بأنْ تنشأ في الخطاب (الحباشة، ٢٠٠٨م، ص ١٥)،کما تتصدّر المحاجة كوظيفة لسانية قائمةَ الوظائف لا تقلّ أهميتها عن وظيفة اللغة اللسانية كالإبلاغ والتواصل واللسان البشري. ويمكن اعتبار مناظرة الإمام الرضا (j) من الخطاب الشفوي الذي يسعى فيه المتكلّم إلى بثّ استنتاجاته الفكرية انطلاقا من الصلات اللغوية واستعمال أي أسلوب من برهان وحجج وغيرها من الأساليب إلى المخاطَب بغية التأثير فيه وإقناعه، في حين تلعب الأدوات اللغوية الدور الحجاجي البارز في ضبط الخطاب، وتمكين قدرة المتكلّم على التأثير في السامع أو المتلقّي وإخضاعه للاعتراف والتسليم إلی المعاني الهادفة بما يودَع في خطابه من مقاصد وأفكار؛ وذلك بفضل ما تحمله هذة الآليات أو الأدوات من خصائص جمالية وملامح تأثيرية وتفاعلية تجعل الخطاب يشكّل بنية إقناعية جامعة، وذلك هو جوهر الحجاج. ولذلك، تهدف المقالة إلى دراسة الآليات الحجاجية وتقنياتها اللغویة والبلاغیة اللتین تمّ الترکیز علیهما بشکل خاص في هذا البحث، ولو أُشیر إلی الحجج الفلسفیة التي تعدّ من الحجج المنطقية المتمثلة في الحجج النقلية والعقلیة؛ ذلك أنّ المناظرة المذکورة تعدّ خطابا جدليا؛ وهذا للوصول إلى طریقة إقناعیة للإمام، کما تکمن أهمیة المقالة في الوقوف علی الخطاب الرضوي کخطاب دیني وحجاجي یحاول فیه الإمام رضا إرسال معتقداته وإقناع من یعانده في المواضع الإسلامیة والأخلاقیة. 1ـ1. أسئلة البحث تسعی المقالة إلی الإجابة عن السؤالین: ـ ما الآليات والتقنيات الحجاجية التي استخدمها الإمام رضا في المناظرة؟ ـ كيف ساهمت التقنيات في نجاح العملية الحجاجية وتحقيق الهدف؟ 1ـ2. منهج البحث يتبع هذا البحث المنهج الوصفي ـ التحلیلي؛ وقد اتخذ نظریّة الحجاج أسلوباً لدراسة تطبیقیة تعالج آليات الحجاج وتقنياتها اللغویة والبلاغیة بشکل خاص في المناظرة والتطرق إلی العملية الحجاجية، لكشف أبرز النتائج، کما تلته نبذة موجزة من المناظرة. 1ـ3. خلفية البحث أما الدراسات التي سبقت هذا المقال، فهي كما تلي: مقالة تحت عنوان التحليل الكلامي لمناظرات الإمام الرضا (j)، لحسن مجيدى. سعت المقالة إلى التحليل الكلامي لمناظرات الإمام الرضا، وتطرقت إلى المناظرات المختلفة للإمام مع أصحاب الأديان الأخرى، مما يفتقر إلى إلی نظرة شمولية ومستقلة، وتوصلت إلى أنّ الإمام استخدم منهجا خاصا في جميع المناظرات، واستند إلى الكتب السماوية، وذلك في ضوء معتقدات الآخر. ومقالة أسلوبية المناظرات الكلامية للإمام الرضا عليه السلام، لفاطمه رجبى واعظم مطهرى. تطرق المقال إلى الکشف عن أسلوب المناظرات الكلامية للإمام، وتوصل إلی أنّ الإمام ناظر بلسان الخصم مع مراعاة الجانب الفكري له، إضافة إلی مراعاة اقتضاء الحال والاستناد إلى الكتب السماوية، وباستخدامه هذا المنهج في مناظراته لعب دوراً بارزاً في تسيير المثل الإلهيّة، بل في عرض المباحث النظرية. مقالة المنطق الحاكم على مناظرة الإمام الرضا (ع) مع أصحاب الأديان، لمعصومه زارع ومحمد رنجبر حسينى. حاول المقال تقييم المنطق الحاكم على مناظرات الإمام مع أصحاب الأديان، وتوصل إلی أنّ الإمام استخدم المناهج المختلفة نظراً للفروق المعرفية للمخاطبین؛ وعلى سبيل المثال، أنّ الإمام قد خاطب بعض المخاطبین بالبراهين القائمة على النقل فحسب، فقد أفاد البعض بالبراهين المبنية على العقل والمستندة إلى النقل. مقالة دراسة منهجية لمناظرات الإمام الرضا (ع)، لمهناز رحيم پور. عالج المقال منهج مناظرات الإمام الرضا. ومن النتائج التی توصل إليها أنّ الإمام في المناظرات التي عُقِدت مع أصحاب الأديان، قد استخدم ثلاثة مناهج، وهي البرهانية والموعظة والجدل الأحسن مراعياً حال المتلقّي، وذلك للمحافظة على الإسلام وبقائه، والكشف عن الحقائق الدينية في العصر الذي شنّت الثقافات الشرقية والغربية فيه غزواً ثقافيا على المسلمين، وذلك بواسطة ترجمة الكتب المختلفة. مقالة أساليب مواجهات الإمام الرضا (ع) لأنصار الأديان، الفرق والمذاهب الإسلامية، ليحىى ميرحسينى ومحمود كريمى. حاولت المقالة دراسة مناهج مواجهة الإمام مع أصحاب الأديان والفرق والمذاهب الإسلامية، وتوصلت إلی أنّ الإمام الرضا باعتباره أكبر مفكر إسلامي في عصره والقائد للتيار الفكري والديني للشيعة، قد استخدم منهج المناظرة والحوار في بادي الأمر، واستند إلى المصادر المقبولة عند المتلقّين، إضافة إلی الإفادة من النصوص الدينية والبراهين العقلية، باعتبارها حجر الأساس؛ وفي المرحلة الثانية، سلط الضوء على العقائد المنحرفة بشكل الإشارة إلى الانطباعات الخاطئة للنصوص الدينية والتنويه بالتزوير، وتطرق إلى سبب نشوء العقائد الخاطئة وغير الصحيحة. نظراً إلى أنّ الدراسات السابقة لم تتطرق إلى مناظرة الإمام الرضا مع العالم الیهودي، رأس الجالوت، فإنّ مقالنا يسعى إلى دراسة أسالیب الحجاج في هذة المناظرة والتطرق إلی التقنيات الحجاجية والإقناعية التي استخدمها الإمام بغية التأثير في المتلقّي وإقناعه، وفقاً لنظرية بلاغة الحجاج، بحيث لم تعالج الدراسات الآنفة الذكر هذا النوع من المنهج الذي قد يكون حديثا في دراسة هذة المناظرة الكلامية.
2ـ1. الحجاج: أنواعه وآلیاته الحجاج في اللغة مصدر، كما قال ابن فارس: «يقال حاججتُ فلانا، فحججتُه، أي غلبتُه بالحجة، وذلك الظفر يكون عند الخصومة، والجمع حُجَج والمصدر الحجاج؛ يقسّم ابن فارس معاني الحجج إلى أربعة، وهي القصد والبرهان وحجّ بيت اللّٰه والسُنّة، ويرى كلّها راجعة إلى القصد، فالحجة بمعنى البرهان ويقول: «ممكن أنْ تكون الحجة مشتقة من هذا، يعني الحجّة بمعنى (القصد)؛ لأنّها تُقصَد، أو بها يُقصَد الحقّ المطلوب» (د.ت، ج ٢، ص ٣٠). فالحجة هي البرهان والدليل، وتُستعمَل للغلبة ويُقصَد بها الظفر أو هو جمع الحجّة. والأصل في "حجج" هو القصد والحجّة: «الدلیل والبرهان؛ وقيل الحجّة ما دوفع به الخصم؛ وقال الأزهري: الحجّة الوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة. والتحاجّ هو: التخاصم؛ وجمع الحجّة: حُجَج وحِجاج، وحاجّه محاجّة وحجاجاً یعني: نازعه الحجّة. وحجّه يحجّه حجّاً: غلبه على حجّته. واحتَجَّ بالشيء: اتّخذه حجّة؛ قال الأزهري: إنّما سميت حجّة؛ لأنها تُحَجُّ، أي تقتصد لأنَّ القصد لها وإليها» (ابن منظور، ١٣٠٠ه.ش، ج ٢، ص ٢٢٨). والحجاج اصطلاحا لا يختلف كثيرا عند قدماء العرب عن معناه اللغوي، وتتجسّد فاعليته في الإقناع والتأثير، فكان يدرس في الخطابة، حيث هما فنّان غايتهما الإقناع. وهذا هو الجاحظ الذي يرى مدار الأمر والغاية من البيان هو الفهم والإفهام (١٩٦٨م، ص ٨٢). کما هناك تعاريف متعددة للحجاج في العصر الحديث، منها: «الحجاج وسيلة المتكلّم في جعل المتلقّي يتقبّل آراءه واتجاهاته وانتقاداته وتوجيهاته» (حشاني، ٢٠١٣م، ص ٢٧٠)، و«طريقة عرض الحجج وتنظيمها» (المصدر نفسه، ٢٠١٣م، ص ٢٧٠). يمكن القول: إنّ الحجاج اصطلاحا هو الطریقة التي یتمّ من خلالها تقديم الحجّة والأدلة التي تؤدي إلى نتيجة معينة. لقد ظهرت نظرية الحجاج كنظرية لسانية في العصر الحديث، تهتّم بالوسائل اللغوية وبالإمكانات النصية التي تتوفر للمتكلّم ليوجه خطابه وجهة ما، يمكّنه من تحقيق بعض الأهداف الحجاجية. وتندرج هذة النظرية ضمن تيار حديث في اللسانيات، حيث لا يعتبر التيار الوظيفة الإخبارية، الوظيفة الأساسية للغة (العزاوي، ٢٠٠٦م، ص 9 ـ 14). ويرى طه عبد الرحمن أنّه «لا تواصل باللسان غير الحجاج ولا حجاج بغير تواصل اللسان، ويرى توسّع معنى الحجّة وتعديّها مجرد الإثبات إلى الدلالة والتأثیر» (د.ت، ص ٥). وبيرلمان[1] أوّل من طرح نظرية الحجاج على ساحة الدراسات الحديثة للبلاغة، وشاركه تيتكا[2] في تحديد بناء النظريّة، ولهما تعاريف عديدة لنظرية الحجاج، أهمها هو أنّ «موضوع نظرية الحجاج، هو درس تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يعرض عليها الأطروحات أو أن تزيد في درجة ذلك التسليم» (صولة، ٢٠٠٧م، ص ٢٧). فغاية الحجاج جعل العقول مذعنة لما يطرح عليها من آراء أو زيادة إذعانها. يرى بيرلمان وتيتكا أن أنجع الحجاج ما وفّق في جعل السامعين مهيئين للقيام بالعمل في اللحظة المناسبة (المصدر نفسه). فأنجع الحجاج هو ما أثّر في المتلقّي نظرياً وسلوكياً، فالإذعان بما يطرح عليه هو التأثير النظري والقيام بالعمل المطلوب هو التأثير السلوكي. ويلی بيرلمان، ديکرو[3] الذي وسّع هذة النظرية سنة ١٩٧٣من خلال كتابه الحجاج في اللغة (حشاني، ٢٠١٣م، ص ٢٧١)، منبثقا من داخل نظرية الأفعال اللغوية (العزاوي، ٢٠٠٦م، ص ١٥). وخالف بيرلمان في المنطق المنطقي للعمل الحجاجي، بل يرى ديكرو أنّ البنى الحجاجية لغوية وداخلة في اللغة (الحباشة، ٢٠٠٨م، ص ٢٠)، ويكمن فيها. فنظرته إلى الحجاج قائمة على أساس أنّه بنية نصية، فهو يركّز على جوانب لغوية، وذلك بالحديث عن الأدوات اللغوية التي تلعب دورا حجاجياً في النص، فهكذا يجري بحثه في أديم لساني بحت (حشاني، ٢٠١٣م، ص٢٧٠). فهو يرى أنّ نظريّة الحجاج تسعی إلی تبين: أنّ اللغة حاملة وظيفة حجاجية بصفة ذاتية جوهرية، وهذه الوظيفة مؤشرة لها في بنية الأقوال نفسها، وفي المعنى وكلّ الظواهر الصوتية والصرفية والمعجمية والتركيبية والدلالية (العزاوي، ٢٠٠٦م، ص ٨). يتمثّل الحجاج في إنجاز متواليات من الأقوال بعضها بمثابة الحجج اللغوية والأخرى بمثابة النتائج المستنتجة منها (المصدر نفسه،ص 16). واهتمام النظرية بالوسائل اللغوية المتوفرة للمتكلّم بقصد توجيه خطابه وجهة ما، تمكّنه من تحقيق بعض الأهداف الحجاجيّة (المصدر نفسه، ص 14). فيبدو من كلّ ما سبق، أنّ نظرية الحجاج عند ديكرو تتسم بميزتين: التأكيد على الوظيفة الحجاجية للبنى اللغوية وإبراز السمة التوجيهية للخطاب (الدريدي، ٢٠٠١م، ص 23 ـ 24)، يعني يرى وظيفة الحجاج هي التوجيه. يرى ديكرو معنيين للحجاج، المعنى العادي والمعنى الفني؛ والعادي هو طريق عرض الحجج وتقديمها بهدف التأثير في السامع، والمعنى الفني للحجاج يدلّ على صنف مخصوص من العلاقات المؤدية في الخطاب المطروحة فيه (الحباشة، ٢٠٠٨م، ص ٢١). فعلی أساس تخریجات بیرلمان وتتیکا في الحجاج المنطقي أو الفلسفي إلی حد ما، وتخریجات دیکرو في الحجاج اللغوي، یمکننا نقسیم الحجاج إلی ثلاثة أقسام: الحجاج اللساني، والحجاج البلاغي، والحجاج الفلسفي. 2ـ2. أنواع الحجاج وآلیاته يتمّ تعريف الحجاج بتعريفات متباينة، لشتّی مجالاته وتعدّد استعمالاته. فبما أنّ الحجاج ينشغل بوظائف الخطاب في حقله التواصلي الذي يتناسب واستراتيجياته، فلهذا علی المتکلّم أنْ یستخدم التقنیات الخاصة بسیاق الخطاب ویراعي عند توظیفها ظروف المتلقي لیترك أثرا إیجابيا نفسيا فیه، وهذا الأمر من الأهمیة بمکان في إقامة اتصاله؛ وإذا لم یأخذ هذا الأمر المذکور آنفاً بعین الاعتبار، فهو یفشل لا محالة في الوصول إلی هدفه، وهو الإقناع والتاثیر معاً. في هذا السیاق، نری أن أکثر القدماء والجدد مُشدّدون علی هذا الأمر، من مثل الجاحظ؛ فهو في کلامه بشأن إقامة الاتصال بالآخرین والتأثیر فیهم، یقول: إنّ المتکلّم یتحتّم علیه أنْ یراعي حال متلقیه إدراکاً، فيختصر الاتصال في «الفهم والإفهام» (الجاحظ، 1968م، ص 86). فحصر الحجاج عند بعض الباحثين، من بينهم ديكرو، وبرلمان، وغیرهما في أنواع ثلاثة: ـ الفلسفي، وهو ينطلق من مقدمات مقبولة صائبة، وذلك بهدف استنباط أو قبول أطروحات أخری. في الحقيقة هذا النوع من الحجاج «يتّخذ من الفلسفة بعدا من أبعاده وآلية من آلياته، فتقاس نجاعته بمعايير خارجية، كالقوة والضعف والكفاءة أو عدمها والنجاح أو الفشل في الإقناع، ويكون هدفه التأثير والتقبل» (مدقن، 2006م، ص 191). ـ اللساني، وهذا الحجاج يركّز اهتمامه على الجانب اللغوي في الخطاب. تتضمّن فيه الأدوات اللغوية، مثل ألفاظ التعليل والأفعال اللغوية والسلالم الحجاجية، مثل "حتّی، لكن، بل" وغيرها (عبد الرحمن، 1998م، ص 275). والأدوات اللغویة کلّ واحدة منها لها وظائفها الخاصة بها، وفق ما یرید إیصاله المتکلّم إلی المتلقي الذي هو الأساس في حدّ ذاته، مثلاً عندما یکون المتلقّي مُردّداً في کلام الباثّ، فهو یختار الأدوات اللغویة، مثل "إنّ، ولام الابتدائية"، في سیاق إزالة شکّه وترسیخ الموضوع في ذهنه، فنری المتكلّم الحاذق لا یمرّ مرور الکرام بهذة القضیة ویجعلها نصب عینیه أثناء الاتصال. ـ البلاغي، الذي يتّخذ آلياته من البلاغة. فهو «يتمثّل في استعمال الأوجه البيانية كالاستعارة، والتشبيه، والمبالغة، والطباق؛ وأساليب المعاني كالقصر، والوصل والفصل والأساليب الخبرية والإنشائية بوصفها آليات بلاغية تسهم في الإمتاع والتأثير؛ بالإضافة إلى وظيفتها الحجاجية كونها تعبّر عن الحجج بطريقة مركّزة تجعلها أكثر تأثيراً» (الشهري، 2004م، ص 456). الأدوات البلاغیة المذکورة وفق المجال المتاح في المقال، تعدّ من أهمّ التقنیات البلاغیة في نصّ حجاجي، حيث لا یمکن أيّ متکلّم أنْ یستغني عنها في نصّه المبني علی الحجاج؛ لأنّها تسهم في إقناع المتلقي وإفحامه بشکل کبیر؛ فلهذا یوظّفها في تسییر وتسهیل عملیة إقناعه والإمالة عن رأیه. ففي هذا السیاق، یمکننا أنْ نضرب مثلاً بشأن تأثیر الاستعارة والمبالغة في الکلام، بحیث إنّهما بسبب الصور التي تقدّم حول أمر ما، تترکان بصمة الأثر في نفسیة المتلقي بشکل کبیر وتوصِلان الباثّ إلی هدفه من إلقاء کلامه، وهو یختزل في التأثیر الذي یعقبه الإقناع الذي هو محلّ اهتمام نظریة الحجاج. وفقاً لما جاء، نری أنّ العلماء اللغویین العرب قد ساروا في المنهج التداولي الذي تعدّ نظریة الحجاج إحدی روافده. فنحن نهدف إلی تطبیقها علی مناظرة الإمام الرضا مع رأس الجالوت. ونحن قد جعلنا نصب أعیننا نظریات هؤلاء العلماء اللغویین العرب المذکورین في نصّ البحث، وهم طه عبد الرحمن، وهاجر مدقن، وعبد اللّٰه الشهري في تقسیمنا للحجاج اللغوي والبلاغي والفلسفي، وقد طبّقنا هذا التقسیم علی نصّ المناظرة، وذلك لدراسة الآلیات الحجاجیة اللغویة والبلاغیة بشکل خاص للمناظرة.
٣. قراءة على سياق المناظرة إنّ مناظرة الإمام الرضا (j) مع رأس جالوت هي الحوار الكلامي الذي یتمحور حول قضية إثبات نبوّة النبي الأكرم (-). وقد استند الإمام الرضا في المناظرة إلى عبارات من التورات، الإنجيل، الزبور؛ وذلك لإثبات رسالة رسول اللّٰه وبعثه نبيّا؛ لأنّ رأس جالوت قال: إنّما يقبل قولا منصوصا من التورات أو الإنجيل أو الزبور أو صحف إبراهيم وموسى (G). فيصرّح الإمام الرضا بذلك ويستشهد بعبارات من تلك الكتب الموثوق بها عند رأس الجالوت. حدثت مناظرة الإمام الرضا بأمر من المأمون، وبتقرير من شيخ صدوق. فلمّا غادر الإمام المدينة المنورة متجّهاً نحو بلاط المأمون في مرو، طالب علماء المسيح، اليهود، الزراتشت، الصابئة بعقد مناظرة معه (الشيخ الصدوق، ١٣٧٨ه.ش، ص ١٥٤ ـ 155). وکان رأس الجالوت عالماً يهوديّا وإلى جانبه، حضر جاثَليق، أي العالم الکبیر للمسیحیین، وعمران الصابئی کبار الصابئیین، وهِربِذ أي کبار الزرادشتیین، بحيث قاموا بالمناظرة (المصدر نفسه، ص 154 ـ 175). وقد اعتبر حسن بن النوفلي راوي المناظرة أن هدف المأمون من عقد المناظرة هو اختبار الإمام (المصدر نفسه، ص ١٥٥)، كما استنبطنا من نصّ المناظرة. فمن الأفضل أنْ نقسّمه على قسمين: الأول هو حجج الإمام الرضا النقلية التي تتمثّل في المصادر الموثوقة عند رأس الجالوت، باعتباره أحد طرفي المناظرة؛ ونظراً لدراسة المناظرات الأخرى للإمام مع علماء المذاهب الأخرى، فإنّه تبيّن أنّه (j) قد يقنع متلقّيه تماماً؛ وذلك استناداً إلى معتقداته؛ ففي الواقع، أنّ الإمام يفيد من هذا الأسلوب بشكل جيّد؛ وأما القسم الثاني فهو يتجلّى في الحجج والبراهين العقلية التي يوظّفها الإمام أثناء مناظراته الكلامية مع العالم اليهودي؛ ففي الحقيقة، فإنّه (j) باستخدامه هذة الأدلة العقلية، يقطع الطريق على متلقّيه، بحيث لا يرى بُدّاً غير قبول قول الإمام والوصول إلى الإقناع الكامل بشأن ما هو بصدده؛ لذلك حسب ما تمّ ذكره، تبيّن أنّ الإمام يستدلّ في مناظرته بالطرق المختلفة: فالأولى منها هي الأدلة النقلية؛ والثانية هي الأدلة العقلية التي قد يقطف الإمام ثمرتها، وهذا الأمر يُبدي مدى معرفته بعلم البلاغة.
في هذا القسم من البحث، نقوم بدراسة الآلیات الحجاجیة اللغویة والبلاغیة اللتین تعدّان نقطة الترکیز في تحلیلنا لنصّ مناظرة الإمام مع رأس الجالوت الذي یعدّ أحد الطرفینِ فیها.
4ـ1. التقنيات اللغویة تعدّ "الواو" من أهمّ الروابط الحجاجية؛ لأنّها تجمع بين دورين: الأول: هو الجمع بين الحجج ورصفها وربط المعاني؛ والثاني: هو تقوية هذة الحجج وزيادة تماسكها بعضها ببعض وتقوية كلّ منها بالأخرى من أجل النتيجة المبتغاة. ويتنج عن الربط بـ"الواو" علاقة التتابع التي تجعل المخاطِب يلقي حججه بطريقة متسلسلة ومرتبة. فالربط الحجاجي بواسطة هذه الأداة يسهم في بناء هيكلية مكونات الخطاب وضبط منهجه بربط المقدمات بالنتائج داخل الخطاب الواحد (ناجح، ٢٠١١م، ص ٢٧). ـ المثال الأوّل: «قَدْ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّٰه». كما نلاحظ، أنّ الربط الحجاجي بواسطة "الواو" في العبارة أعلاه قام بوصل بين الحجة والأخرى، كما قام بترتيب هذه الحجج ورصفها لتشكيل البنية العامة، ومن ثمّ تقوية وتدعيم النتيجة التي هي المضمرة وتكون إثبات نبوة عيسى بن مريم. الحجج هنا جاءت مترابطة متسقة غير منفصلة وكلّ حجة في إثر سابقتها، تساندها وتقويها؛ وذلك بفضل"الواو". وقصد الإمام من خلال هذه العبارة الحجاجية، إثبات نبوة عيسى بن مريم (j) عند رأس الجالوت، والنتيجة كما هي الواضحة مصرّحة. كما نلاحظ في النصّ أعلاه، أن الإمام قد جاء بالبراهين العقلية التي هي الدامغة بشأن إثبات نبوة عيسى بن مريم، وهي تتجلى في "يحيي الموتى ويبرئ الأكمة والأبرص ويخلق من الطين كهيئة الطير". وهذة الأمثلة المذكورة نوّه بها الإمام، حين عدّد رأس الجالوت أسباب نبوة موسى بن عمران، باعتبارها معجزات لمْ يصدر عن الأنبياء الآخرين؛ ولكنّ الإمام من خلال الأدلة المذكورة، قد تمكّن من إثبات أن المعجزات ليست حكراً على نبيّ ما، بل يحظى بها أيّ نبيّ ما بإذنه تعالى. والجدير بالذكر أنّ الإمام عند إتيانه بالأدلة لتقوية كلامه، يلجأ إلى سورة المائدة المباركة: «إِذْ قَالَ اللّٰه يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِيª (المائدة 5: ۱۱۰). ففي هذة الآية، نلاحظ أنّ اللّٰه تعالى قد أشار إلى هذة المعجزات في كتابه المجيد الذي لا يدع أيّ مجال للشك في إثبات نبوة عيسى بن مريم لرأس الجالوت الذي قد سبّبت هذة الأدلة في إقناعه والإمالة عن رأيه وتظهر مدى براعة الإمام في ذكره الأدلة وفق الظروف، ثُمّ نرى في هذة الأدلة العقلية التي قد ذكرها الإمام عند مناظرته مع رأس الجالوت، وذلك لإقناعه وإفحامه، أنّه (j) قد وظّف الترابط الكلامي، وهو يتجلّى في "واو" العاطفة التي قد ربط بين حججه (j) التي قد تختلف من حيث الدلالة عن الأخرى؛ ولكنّ هذة الأدات اللغوية قد رصفت الحجج المذكورة وأدّتْ دورها الحجاجي في المناظرة. ـ المثال الثاني: «وَفِي الْإِنْجِيلِ مَكْتُوبٌ إِنَّ ابْنَ الْبَرَّةِ ذَاهِبٌ وَالْفَارَقَلِيطَا جَاءٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ الَّذِي يُخَفِّفُ الآصَارَ وَيُفَسِّرُ لَكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيَشْهَدُ لِي كَمَا شَهِدْتُ لَهُ أَنَا جِئْتُكُمْ بِالْأَمْثَالِ، وَهُوَ يَأْتِيكُمْ بِالتَّأْوِيلِ، أَتُؤْمِنُ بِهَذَا فِي الْإِنْجِيلِ، قَالَ: نَعَمْ لَا أُنْكِرُهُ». نلاحظ في الفقرة المذكورة أعلاه أنّ الإمام في سياق إثبات نبوة النبي الأكرم يوضّح لرأس الجالوت، وذلك استناداً إلى المصدر الموثوق عنده، وهو التوراة، وهذا الأمر يعكس مدى معرفة الإمام بالمصادر المختلفة عند إتيانه بالاستدلال، كما نرى أنّ الإمام يعبّر عن الأسماء المذكورة في كتاب الإنجيل، وهما "ابن البرّة" و"الفارقليطا"، وقصده (j) بالأول هو عيسى بن مريم؛ وبالثاني هو النبي الأكرم، وأيضا نلاحظ في قول الإمام أنّه قد جاء بالبراهين، وهي تتمثّل في "وهو الذي يخفّف الآصار ويفسّر لَكم كلّ شيء". وفي هذة الاستدلالات التي تمّ ذكرها، إنّ الإمام قد وظّف حرف الترابط بين حججه، وهي "واو" كما هو الواضح. ومن الجدير بالذكر أنّ المقصود بتخفيف الآصار في كلامه (j) هو أنّ النبيّ المرسَل يبلغ آخِر الرسالة الإلهية التي هي على عاتقه بإذنه تعالى ويخفّف إصرة هذة المسؤلية الجسيمة عن كاهل الأنبياء المرسلين السابقين. والمقصود بتفسير "لكم كلّ شيء" أنّ النبي الأكرم يقوم بتفسير الآيات التي من الصعب إدراكها أو من الممكن أنْ تؤدّي إلى شيوع الفهم الخاطئ من جانب الآخرين بعمد. ونری أنَّه تعالی قد نصّ علی هذا الأمر في قرآنه الکریم، وبالتحدید في سورة آل عمران المباركة: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّٰه وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِª (آل عمران 3: ٧). والمقصود بالراسخين في العلم هو أنبياؤه المرسلون الذين هم واقفون على التأويل والتفسير الصحيح للسور المنورة للقرآن الكريم. ومن الوضوح كلّ الوضوح أن هذه الحجج النقلية قد تسبّبت في إقناع رأس الجالوت والعدول عن رأيه، بحيث يقول: "نعم لا أنكره"، وهذا خير دليل على تأثير كلام الإمام في الطرف الآخر. وهذا النحو الكلامي الذي قد اختاره الإمام، يظهر مدى براعته (j) بعلم البلاغة والإتقان فيها، بحيث قد بدأ حججه بـ"في الإنجيل مكتوب إنّ ابن البرَّة ذاهب"، وهذا له خلفية بلاغية حجاجيّة؛ لأنّه (j) يدرك تماماً أنّ هذا المصدر الديني مصدر إلهام عند اليهود بعد التوراة، مما يسهّل له (j) عملية الإقناع لرأس الجالوت؛ وذلك للتأثير الذي يتركه عليه هذا المصدر. وذكر "ابن البرَّة" في استهلال كلامه (j)، والمقصود به عيسى بن مريم (j)، و"فارقليطا"، والمقصود به النبيّ الأكرم ثانياً؛ فيختزل سبب تقدم ابن برة في القوة البلاغية والإقناعية التي يحظى بها ابن البرَّة المذكور في الإنجيل عند اليهود، ولا سيّما رأس الجالوت باعتباره أحد طرفي المناظرة. ونرى أن الإمام يقطف ثمرة هذة الخطة البلاغية والإقناعية التي قد طبّقها في مناظراته، حيث يقنع رأس الجالوت بشأن ما الذي يسعى إليه، وهو إثبات نبوة النبيّ الأكرم. ـ المثال الثالث: «فَقَالَ لَهُ الرِّضَا (j) هَلْ تُنْكِرُ أَنَّ التَّوْرَاةَ تَقُولُ لَكُمْ جَاءَ النُّورُ مِنْ جَبَلِ طُورِ سَيْنَاءَ وَأَضَاءَ لَنَا مِنْ جَبَلِ سَاعِيرَ وَاسْتَعْلَنَ عَلَيْنَا مِنْ جَبَلِ فَارَانَ». نرى في هذة الجملة التي هي محلّ بحثنا، أنّ الإمام في إتيانه بالأدلة المقنعة والدامغة فيما يتعلّق بإثبات نبوة النبي الأكرم للرأس الجالوت، قد أحال إلى القول المكتوب في التوراة التي تعدّ أهم المصدر الديني وأوثقه عند اليهود، كما طلب منه (j) العالم اليهودي. فلا يبعد أنّه أراد اختبار الأمام، في علمه بالمصادر المختلفة، فنرى أنّه (ع) خرج مشرئب الرأس من هذا الاختبار بإذنه تعالى وجاء بالحجج والبراهين التي تتجلّى في "جاء النور من جبل طور سَيْناء وأضاء لنا من جبل ساعير واستعلن علينا من جبل فاران". فنرى الإمام يفسّر له هذة الأدلة المذكورة؛ لأنّه يصرّح بأنّه لا يعلم تفسيرها، فيعبّر الإمام أنّ المقصود بـ"جاء النور من جبل طور سَيْناء" هو اللّٰه تعالى الذي تكلّم مع موسى (j) في هذا الجبل وبعثه إلى مرتبة النبوة عند قومه. وأما مقصوده بـ"أضاء لنا من جبل ساعير" فيتمثّل في أنّ الرسالة الإلهية وُضعت على كاهل عيسى بن مريم في هذا الجبل المذكور، حيث تكلّم تعالى معه وأخبره بأنّه قد اصطفاه نبيّاً لقوم مسيح لإرشادهم إلى طريق الحقّ. والمقصود بالثالث "واستعلن علينا من جبل فاران" أنّ اللّٰه تعالى أبلغ محمّد في هذا الجبل أنّه بُعث نبيّاً ليكمل دينه ويكون رحمة للعالمين أجمعين. فنرى في هذا السياق، أنّ الإمام وظّف حججه أحسن توظيف خدمة لهدفه؛ حيث تترك أثرها على الطرف الآخر؛ لأنّها أوّلاً موجودة في الكتاب الموثوق عنده؛ وثانياً إنّه (j) فسّرها أكمل تفسير، بحيث أقنع رأس الجالوت وأفحمه بشكل بارع، كما نلاحظ أنّه (j) استخدم حرف الترابط "واو" مجددا لإقامة العلاقة بين حججه ورصفها؛ وهذا الأمر قد ساعده في الهدف الذي هو يكون بصدده في هذة المناظرة، وهو إثبات نبوة النبي وإقناع رأس جالوت. ـ المثال الرابع: «قَالَ فَكَذَلِكَ أَتَتْكُمُ الْأَخْبَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ بِمَا فَعَلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، فَكَيْفَ صَدَّقْتُمْ بِمُوسَى وَلَمْ تُصَدِّقُوا بِعِيسَى، فَلَمْ يُحِرْ جَوَاباً، قَالَ الرِّضَا وَكَذَلِكَ أَمْرُ مُحَمَّدٍ وَمَا جَاءَ بِهِ وَأَمْرُ كُلِّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللّٰه وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّهُ كَانَ يَتِيماً فَقِيراً رَاعِياً أَجِيراً لَمْ يَتَعَلَّمْ كِتَاباً وَلَمْ يَخْتَلِفْ إِلَى مُعَلِّمٍ، ثُمَّ جَاءَ بِالْقُرْآنِ الَّذِي فِيهِ قِصَصُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَخْبَارُهُمْ حَرْفاً حَرْفاً وَأَخْبارُ مَنْ مَضَى وَمَنْ بَقِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ كَانَ يُخْبِرُهُمْ بِأَسْرَارِهِمْ وَمَا يَعْمَلُونَ فِي بُيُوتِهِمْ وَجَاءَ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ لَا تُحْصَى». نلاحظ في هذا المثال، أنّ الإمام يشرح لرأس جالوت أنّ عيسى بن مريم وصل إلى مرتبة النبوة بالمعجزات بإذنه تعالى، ويستدلّ بأنّ هذة المعجزات قد أتتهم الأخبار والمصادر الموثوقة ولمْ يرها الإمام ورأس الجالوت بأمّ عينيهما ويستطرد قائلاً: إنّ قضية معجزات النبي تتبع هذة القاعدة، ويجيء باستدلالاته العقلية التي هي تدع مجالاً لرأس الجالوت لعدم قبول نبوة النبي ويثبت ادعاءه بهذة الأدلة التي تبرز في "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّهُ كَانَ يَتِيماً فَقِيراً رَاعِياً أَجِيراً لَمْ يَتَعَلَّمْ كِتَاباً وَلَمْ يَخْتَلِفْ إِلَى مُعَلِّمٍ، ثُمَّ جَاءَ بِالْقُرْآنِ الَّذِي فِيهِ قِصَصُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَخْبَارُهُمْ حَرْفاً حَرْفاً وَأَخْبارُ مَنْ مَضَى وَمَنْ بَقِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ كَانَ يُخْبِرُهُمْ بِأَسْرَارِهِمْ وَمَا يَعْمَلُونَ فِي بُيُوتِهِمْ وَجَاءَ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ لَا تُحْصَى)". وفي هذة الحجج المرسَلة من جانب الإمام، نرى أنّه خلال كلامه قد أشار إلى معجزتي النبي، وهما القرآن الكريم في حين أنّه (-) لم يقرأ كتاباً ولم يُلقِ معلّم عليه درساً، وهذا الأمر يعتبر معجزة في حدّ ذاتها؛ والأخرى أنّ النبي كان عالماً بالغيب، حيث كان يخبر الناس بالمستقبل وأسرارهم التي كانت دفينة في صدورهم بإذنه تعالى. وهذة المعجزات المذكورة تنحصر في النبي وليس في نبيّ آخر وصدرتْ عنه، كما كانت لموسى بن عمران وعيسى بن مريم معجزات خاصّة بهما مما لم تصدر عن نبي آخر لِتكون دليلاً مقنعاً ودامغاً على نبوتهما من جانبه تعالى. لذلك، نرى أنّ الإمام يقنع رأس الجالوت بأنّ المعجزات ليست حكرة على موسى، بل يتمتّع بها الأنبياء الآخرون حسب درجتهم عند اللّٰه تعالى وبالضبط النبي الأكرم الذي هو محلّ نقاشنا ودراستنا في هذا المقال. وتدور المناظرة حول إثبات نبوته. ومن الواضح أنّ الإمام قد وظّف حرف الترابط "ثُمّ" بين حججه. وهذة الرابطة قد ساهمت بشكل كبير في عميلة إقناع رأس الجالوت وإفحامه، بحيث قد ذكر الإمام مقدمات للوصول إلى هدفه، فجاء بحرف الترابط "ثُمّ" نتيجةً لهذة المقدمات؛ والنتيجة تتمثّل في إثبات نبوة النبي. يأتي دور التوكيد في تحقيق الحجاج والإقناع في ارتباطه مع المخاطب، بحيث يأتي لتقرير المؤكد في نفس المخاطب وتمكينه في قلبه وإزالة ما في نفسه من شكّ أو توهّم أو غفلة (الزمخشري، ١٣٢٣ه.ش، ص 111 ـ 112). ـ المثال الخامس: «هَلْ تَعْلَمُ يَا يَهُودِيُّ أَنَّ مُوسَى أَوْصَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ لَهُمْ إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ نَبِيٌّ هُوَ مِنْ إِخْوَتِكُمْ فَبِهِ فَصَدِّقُوا وَمِنْهُ، فَاسْمَعُوا، فَهَلْ تَعْلَمُ أَنَّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِخْوَةً غَيْرَ وُلْدِ إِسْمَاعِيلَ، إِنْ كُنْتَ تَعْرِفُ قَرَابَةَ إِسْرَائِيلَ مِنْ إِسْمَاعِيلَ وَالنَّسَبَ الَّذِي بَيْنَهُمَا مِنْ قِبَلِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَأْسُ الْجَالُوتِ: هَذَا قَوْلُ مُوسَى لَا نَدْفَعُهُ». كما نرى في النصّ أعلاه أنّ الإمام يجيء بالبراهين والأدلة النقلية للوصول إلى هدفه المنشود الذي يختصر في إثبات نبوة النبيّ الأكرم، ويقول لرأس الجالوت باعتباره أحد طرفي المناظرة الكلامية، وذلك لإقناعه واستمالته عن رأيه: إنَّ موسى يوصي في خطبه التي يخاطب بها قومه بني إسرائيل، ويبشّرهم بمجيء نبيّ هو من سلالة إبراهيم وإسماعيل والنسب الذي بينهما لقرابتهما من بني إسرائيل، وهذا النسب هو المحور الأساس لإثبات نبوة النبيّ الأكرم؛ لأنّ النبي الأكرم له قرابة من إبراهيم وإسماعيل (C). نرى أنّ رأس الجالوت يردّ بالقول، "فَقالَ رَأْسُ الجَالُوتِ هَذَا قَوْلُ مُوسَى لَا نَدْفُعُهُ". وهذه الجملة تعدّ علامة على انتصار الإمام وإقناع رأس الجالوت باعتباره أحد الكبار عند اليهود في ما يتعلق بشأن إثبات نبوة النبيّ الأكرم. نرى أيضا خلال المناظرة أنّ الإمام قد وظّف الأدات اللغوية المتمثّلة في "أَنَّ"؛ لِأنّها تحظى بالقوة الإقناعية عند المتلقّي وتترك أثرا إيجابيا في نفسه وتؤكّد على محتوى الكلام الباثّ فيما تريد إبلاغه إلى متلقّيه وتزيل التردّد عنده. فالإمام عالم بعلم البلاغة وعارف بها، حیث وظّفها بشكل جيّد في كلامه واستخدم قطف ثمرتها في إقناع رأس الجالوت وإفحامه. ومثال آخر ما جاء سابقا: «وَفِي الْإِنْجِيلِ مَكْتُوبٌ إِنَّ ابْنَ الْبَرَّةِ ذَاهِبٌ وَالْفَارَقَلِيطَا جَاءٍ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الَّذِي يُخَفِّفُ الآصَارَ وَيُفَسِّرُ لَكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيَشْهَدُ لِي، كَمَا شَهِدْتُ لَهُ أَنَا جِئْتُكُمْ بِالْأَمْثَالِ، وَهُوَ يَأْتِيكُمْ بِالتَّأْوِيل، أَتُؤْمِنُ بِهَذَا فِي الْإِنْجِيلِ؟ قَال: نَعَمْ لَا أُنْكِرُهُ». نلاحظ في المثال المذكور أنّ الإمام عند إتيانه بالأدلة والبراهين، يضمّن كلامه بما هو مكتوب في الإنجيل باعتبارها تقنية لإقناع رأس الجالوت بشأن نبوة النبي الأكرم ويشرح له أنّه مكتوب في الإنجيل الذي ـ كما أشرنا سابقا ـ يحظى بالأهمية عند اليهود ويعدّ المصدر إلهام عندهم بعد التوراة، وهذا كافٍ للتأثير على رأس الجالوت باعتباره أحد طرفي المناظرة الكلامية المقامة بشأن إثبات نبوة النبيّ الأكرم، بأنّ ابن البرَّة ينتهي فترة إبلاغ رسالته ويأتي دور فارقليطا لإبلاغ رسالته المؤكلة عليه من جانبه تعالى، وفارقليطا هو محمّد النبي، ثم يعدّد الإمام خصائص هذا النبيّ بأنّه هو الذي يخفّف الآصار ويفسّر لَكُم كلّ شيء ويأتيكم بالتأويل. هذة الحجج المذكورة تأتي مع توظيف "إِنَّ" المتجلّية في "إِنَّ ابنَ الْبَرَّة ذاهبٌ"، مما يمنح الكلام التأكيد ويؤدي إلى إزالة التردّد عند رأس الجالوت بسبب القوة الإقناعية التي يتمتّع بها في التخاطب، فهو كافٍ لإسكاته وإمالته عن رأيه. بذلك، الإتيان بهذا القول من هذا المصدر الديني المذكور مع توظيف الإمام الأدات اللغوية المذكورة آنفاً، يثمر النتائج المتوقّعة من جانبه، وهي تختصر في إقناع رأس الجالوت وإفحامه بشأن إثبات نبوة النبيّ الأكرم نتيجة لِما ورده الإمام في كلامه لهدفه المذكور. زد على ذلك، نرى أنّه يقول: "نَعَم لَا أُنْكِرُه"، فذلك علامة على انتصار الإمام في حججه مع توظيفه الأدات اللغوية المتمثّلة في "أَنَّ" التي قد ساهمت في إقناع رأس الجالوت بشكل ملحوظ وأدّت دورها الحجاجيّ عند المناظرة. 4ـ2. التقنيات البلاغية إن القصر تخصيص شيء بشيء عن طريق مخصوص (عباس، ١٩٩٧م، ص ٣٨٥). وهذا التخصيص يفيد التوكيد وتمكين الكلام وتقريره في الذهن لما فيه من قوة ومبالغة في الحكم (السامرائي، ٢٠٠٠م، ص ٢١٣). وهو أسلوب يلبّي حاجة المتكلّم في التوكيد وإلزام الخصم الحجة على سبيل الإقناع، دون اللجوء إلى الإكراه خاصة في مواجهة إنكار الخصم ورفضه. ـ المثال الأول: «لَسْتُ أَقْبَلُ مِنْكَ حُجَّةً إِلَّا مِنَ التَّوْرَاةِ أَوْ مِنَ الْإِنْجِيلِ أَوْ مِنْ زَبُورِ دَاوُدَ أَوْ مِمَّا فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، فَقَالَ الرِّضَا: لَا تَقْبَلْ مِنِّي حُجَّةً إِلَّا بِمَا تَنْطِقُ بِهِ التَّوْرَاةُ عَلَى لِسَانِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَالْإِنْجِيلُ عَلَى لِسَانِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَالزَّبُورُ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ». نرى في النصّ أعلاه، أنّ رأس الجالوت يطلب من الإمام أنْ يأتي بالحجج والبراهين من التوراة والإنجيل والزبور لإقناعه باعتباره متلقّياً يجب أنْ يراعي الباثّ ظروفه وأحواله عند الاتصال ويؤطّر كلامه ليقطف ثمرة اتصاله به، وهي الإقناع والتأثير فيه؛ لذلك نرى أنّ الإمام يردّ عليه مباشرة دون أيّ مماطلة، يقول: "لَا تَقْبَلْ مِنِّي حُجَّةً إِلَّا بِمَا تَنْطِقُ بِهِ التَّوْرَاةُ عَلَى لِسَانِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَالْإِنْجِيلُ عَلَى لِسَانِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَالزَّبُورُ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ. وفي هذا الكلام، نلاحظ أنّه قد وظّف أسلوب الحصر المتمثّل في "لا" و"إلاّ". يقوي هذا الأسلوب كلام الباثّ ويؤكّده عند إتيانه بالأدلة ولا يدع أيّ مجال للشك في نفس المتلقّي، كما ينبغي علينا القول بأنّ الإمام عند استخدامه أسلوب الحصر، قد ضمّن كلامه بالمصادر الموثوقة عند رأس الجالوت. فهذا التضمين الكلامي مع توظيفه الأسلوب المذكور آنفاً، يؤثر تأثيرا إيجابيّاً في عملية إقناع الطرف الآخر للمناظرة دون أيّ إكراه، مما يُبدي مدى إلمام الإمام (ع) بالبلاغة الكلامية في رعاية ظروف المتلقّي ومعتقداته التي رسّخت في ذهنه. نستلخص من ذلك أنّ المتلقّي بهذه الضروب من التوكيد، لا يستطيع أنْ يعترض على الكلام بقوله "ليس صحيحا"، أو "لا أوافق"؛ إذ ليس له إلاّ أنْ يوافق على القضية المطروحة عليه معقباً على الأمثلة بقوله: "هو كذلك، أوافق". هنا عمل كلامي يأتيه المتكلّم ويجعل عمل الخصم الكلامي يسير في الاتجاه الذي يرسم له ذلك المتكلّم. توظيف أسلوب التقديم والتأخير من الأساليب اللافتة لانتباه المتلقي، حيث يعمد المتكلّم إلى العدول عن المألوف، ويرتّب الكلام على حسب الغرض الذي يريد إيصاله إلى المتلقّي. أما هدف التقديم والتأخير، فهو ـ كما يقول الجرجاني ـ التخصيص والاهتمام (١٩٨٤م، ص ١٠٧)، أو يقول التفتازاني: يؤدي استخدام هذا الأسلوب إلى بحث المخاطب عن المعاني، بالإضافة إلی توكيد معان وإثباتها؛ نحو التحقير والتعظيم والمدح والذمّ واكتساب المتلقّي اللذة مع رؤية عاطفية (١٣٧٧ه.ش، ص ٨١). ـ المثال الثاني: «وَفِي الْإِنْجِيلِ مَكْتُوبٌ إِنَّ ابْنَ الْبَرَّةِ ذَاهِبٌ وَالْفَارَقَلِيطَا جَاءٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ الَّذِي يُخَفِّفُ الْآصَارَ وَيُفَسِّرُ لَكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيَشْهَدُ لِي، كَمَا شَهِدْتُ لَهُ أَنَا جِئْتُكُمْ بِالْأَمْثَالِ، وَهُوَ يَأْتِيكُمْ بِالتَّأْوِيلِ، أَتُؤْمِنُ بِهَذَا فِي الْإِنْجِيلِ؟ قَالَ: نَعَمْ، لَا أُنْكِرُهُ». نلاحظ في المثال المذكور أنّ الإمام عند إتيانه بالأدلة والبراهين، يضمّن كلامه بما هو مكتوب في الإنجيل باعتبارها تقنية لإقناع رأس الجالوت بشأن نبوة النبي الأكرم ويشرح له أنّه مكتوب فيه أنّ ابن البرَّة ينتهي فترة إبلاغ رسالته ويأتي دور فارقليطا لإبلاغ رسالته المؤكلة عليه من جانبه تعالى. وفارقليطا ـ كما قلنا ـ هو محمّد النبي. يعدّد الإمام خصائص هذا النبيّ بأنّه الذي يخفّف الآصار ويفسّر لَكُم كلّ شيء ويأتيكم بالتأويل. وهذة الحجج المذكورة تواكب توظيفه (j) أسلوب التقديم والتأخير المتجلّي في تقديم الخبر "في الإنجيل" على المبتدأ "مكتوب". فتقديم "في الإنجيل" يعظّم الأمر ويُلفت نظر رأس الجالوت؛ لأنَّ هذا المصدر الديني يعدّ من المصادر التي تحظى بالأهمية عنده؛ لذلك ليس أمامه إلاّ الإقناع بما أتاه الإمام. نلاحظ في هذا السياق، أنّه يردّ على الإمام، قائلا: "نَعَمْ لَا أُنْكِرُهُ" إقناعاً وإفحاماً نتيجة لأدلته الدامغة. ـ المثال الثالث: «مِنْ آيَاتِهِ أَنَّهُ كَانَ يَتِيماً فَقِيراً رَاعِياً أَجِيراً لَمْ يَتَعَلَّمْ كِتَاباً وَلَمْ يَخْتَلِفْ إِلَى مُعَلِّمٍ، ثُمَّ جَاءَ بِالْقُرْآنِ الَّذِي فِيهِ قِصَصُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَخْبَارُهُم». فنرى في هذا المثال، أنّ الإمام قد لجأ إلى البراهين والحجج العقلية. وأما الأدلة العقلية العقلية التي قد ضمّنها في كلامه لإثبات نبوة النبيّ الأكرم، فهي معجزاته؛ فتلك تتجلى في "مِنْ آيَاتِهِ أَنَّهُ كَانَ يَتِيماً فَقِيراً رَاعِياً أَجِيراً لَمْ يَتَعَلَّمْ كِتَاباً وَلَمْ يَخْتَلِفْ إِلَى مُعَلِّمٍ ثُمَّ جَاءَ بِالْقُرْآنِ الَّذِي فِيهِ قِصَصُ الْأَنْبِيَاءِ". فهذة المعجزات المذكورة كانت بإذنه تعالى وقد زوّده تعالى بها لتكون دليلاً على بعثه نبيّاً من جانبه ليتذكر الناس بيوم القيامة وينذرهم من جزائهم حسب ما تكسب أيديهم في الدنيا الفانية. فنرى أنه تعالى قد نصّ على هذا الأمر، وهو متعلّق بمعجزة النبي الأكرم، وذلك في سورة النمل المباركة: «وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍª (النمل ۲۷: ۶). ففي هذا السياق، نلاحظ أنَّ الإمام قد وظّف عند إيمانه بالأدلة والحجج العقلية، أسلوب التقديم والتأخير المتجلّي في تقديم "فيه" التي تلعب دور الخبر في هذة الجملة، على "قصصُ الأنبياء"، وهي مبتدأ. وهذا العدول عن المألوف له سبب، وهو أن أسلوب التقديم والتأخير، يعظّم القضيةَ عند متلقّيه ويُلفت نظره وتُبلغه باهتمام الأمر عند الإمام ويساهم في إقناعه وإفحامه بشكل ملحوظ. نرى هذة الأدلة قد أتتْ أكلها مع توظيفه الأسلوب المذكور بسبب الأهمية التي يحظى بها في الاتصال بالطرف الآخر؛ وذلك لإقناعه وإفحامه. فنهايةً، رأس الجالوت تأثّر بما جاء الإمام به لإثبات ما كان بصدد، فاقتنع. أسلوب الاستفهام من الظواهر الأسلوبية. ويعني «طلب علم بشيء لم يكن معلوماً من قبل بأداة خاصة» (عتيق، ١٩٨٥م، ص ٨٨). الاستفهام ـ كما هو واضح ـ بنية حجاجية تقوم على طرح القضية المخصوصة وتلعب دوراً بارزاً في الإقناع وخاصة في العملية الحجاجيّة، نظراً لما يسترعي انتباه المتلقّي وجلبه إلى فعل الاستدلال، بحيث إنّه يشركه بحكم قوة الاستفهام وخصائصه التي تخدم مقاصد الخطاب ويلعب دوراً أساسياً في الإقناع بالحجة (البنعلي، ٢٠٠٣م، ص ٢١٤؛ عيسى، ٢٠٠٦م، ص ٤٣). ـ المثال الرابع: «فَقَالَ لَهُ الرِّضَا: هَلْ تُنْكِرُ أَنَّ التَّوْرَاةَ تَقُولُ لَكُمْ جَاءَ النُّورُ مِنْ جَبَلِ طُورِ سَيْنَاءَ وَأَضَاءَ لَنَا مِنْ جَبَلِ سَاعِيرَ وَاسْتَعْلَنَ عَلَيْنَا مِنْ جَبَلِ فَارَانَ؟ قَالَ رَأْسُ الْجَالُوتِ: أَعْرِفُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَمَا أَعْرِفُ تَفْسِيرَهَا». إنّ القضية المعروضة للاستفهام هي نزول الوحي على موسى بن عمران في جبل طور سيناء وعلى موسى بن عمران في جبل ساعير وعلى محمّد النبيّ الأكرم في فاران، كما يبيّن الإمام لرأس الجالوت خلال المناظرة تلك القضايا. وأما غرض الإمام من هذة القضايا المطروحة المذكورة. فليس السؤال من رأس الجالوت حول اختبار علمه بالقضايا؛ لأنّه يعرف تماماً أنّه عالمٌ بالقضايا؛ لأنَّها واردة في المصدر الذي هو يعدّ هوية دينية راسخة في ذهن اليهوديين، وخاصة رأس الجالوت العالم الكبير اليهودي، بل الهدف الذي يسعى وراءه الإمام، يتمثّل في أخذ بالإقرار من متلقّيه، وهذا يعتبر تقنية في حدّ ذاتها، ويفيد منها الإمام تماماً لإثبات نبوة هؤلاء الأنبياء ولاسيّما النبيّ الأكرم، وينجح في الذي هو بصدده من خلال طرح هذة الأسئلة، وهو إقرار رأس الجالوت. ودليلنا على هذا، أننا نلاحظ في هذا المثال، أنّه يردّ على الإمام: "قَالَ رَأْسُ الْجَالُوتِ أَعْرِفُ هذة الْكَلِمَاتِ وَمَا أَعْرِفُ تَفْسِيرَهَا". وعند ذلك، فإنَّ الإمام يقوم بتفسير هذة الكلمات ويشرح له بأنَّ الغرض من "جاء النور من جبل طور سَيْناء" هو نزول الوحي على موسى بن عمران وبعثه نبيّاً لليهود. وأما المقصود من "أضاء لنا من جبل ساعير" فهو نزول الوحي على عيسى بن مريم في هذا الجبل ووضع إبلاغ الرسالة للمسيح على عاتقه. وفي الأخير الثالث، أن الهدف من "استعلن علينا من جبل فاران" أن يختصر في نزول الوحي على محمّد النبيّ الأكرم في هذا الجبل. وجاء ذلك الشرح، لإثبات نبوة هؤلاء الأنبياء المرسلَين من جانبه تعالى وخاصة نبيّ الأكرم الذي أقامت هذة المناظرة الكلامية بشأنه (-). نلاحظ أنّ هذا الشرح يُظهر مدى اطلاع الإمام وعلمه بعلم التفسير ويؤدّي إلى إقناع رأس الجالوت وإفحامه تماماً. يمكن تمثيل الحوار الاستفهامي بالشكل التالي: ـ الإمام: أَلَمْ يُذكر في التوراة أنَّ النور جاء من جبل طور سيناء؟ ـ الإمام: أَلَمْ يُصرّح في التوراة أنَّ النور أضاء لنا من جبل ساعير؟ ـ الإمام: أَلَمْ ينصّ في التوراة على أنَّ النور قد استعلن علينا من جبل فاران؟ فأما إجابة رأس الجالوت عن الأسئة فهي: نعم هو ليس غيره. ـ المثال الخامس: «قَالَ شَعْيَا النَّبِيُّ فِيمَا تَقُولُ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ فِي التَّوْرَاةِ رَأَيْتُ رَاكِبَيْنِ أَضَاءَ لَهُمَا الْأَرْضُ أَحَدُهُمَا رَاكبٌ عَلَى حِمَارٍ وَالآخَرُ عَلَى جَمَلٍ، فَمَنْ رَاكِبُ الْحِمَارِ وَمَنْ رَاكِب الْجَمَلِ، قَالَ رَأْسُ الْجَالُوتِ: لَا أَعْرِفُهُمَا، فَخَبِّرْنِي بِهِمَا، قَالَ: أَمَّا رَاكِبُ الْحِمَارِ فَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَأَمَّا رَاكِبُ الْجَمَلِ فَمُحَمَّدٌ، أَ تُنْكِرُ هَذَا مِنَ التَّوْرَاةِ، قَالَ: لَا مَا أُنْكِرُهُ». کما نشاهد في النصّ أعلاه، أنَّ الإمام قد جاء بالحجج والبراهين النقلية للوصول إلى ما هو بصدده، وهو إثبات نبوة النبيّ الأكرم في مناظرته مع رأس الجالوت الذي هو من كبار اليهود. فالإمام ينقل قول شعيا أحد أنبياء اليهود، والذي بشّر بالنبيّ الأكرم وعيسى بن مريم، وهو يشير إلى المكانة السامية لهذين الكريمين عند اللّٰه تعالى. ودليلنا على هذا هو قوله: "أضاء لهما الأرض". وإضاءة الأرض تصلنا إلى المكانة العالية للنبي الأكرم وعيسى بن مريم؛ لأنّهما قد كلّفهما اللّٰه تعالى إبلاغ الرسالة الإلهية وإكمالها، كما قال اللّٰه في سورة المائدة المباركة: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللّٰه غَفُورٌ رَحِيمٌª (المائدة 5: 3). وهذا يظهر مدى الأهمية للرسالة الموكّلة عليهما. وإضاءة الأرض تعني أنّهما يبدّدان الظلام السائدة على عصريهما؛ مثلا نرى أن النبيّ الأكرم كافح الكفار الذين كانوا يسيرون على منهج آبائهم ويعبدون الأصنام المصنوعة بأيديهم بدلاً من اللّٰه تعالى، فعمل النبي الأكرم على إبلاغ رسالته بشكل ملحوظ، كما فعل ذلك عيسى بن مريم. ويستمر الإمام في نقله، يقول: إنَّ شعيا النبيّ قال: "رأيتُ راكبين أحدهما راكب على الحمار والآخر على الجمل"، ويسأل رأس الجالوت عن هوية الراكبين. ومن الطريف أنّه يردّ بالقول: "قالَ رَأْسُ الجالُوتِ لَا أَعْرِفُهُمَا فَخَبِّرْنِي بِهِمَا". فإنّه (j) يفسّر له ما نقله له من قول شعيا النبي ويقول: إنّ المقصود بـ"الراكب على الحمار" هو عيسى بن مريم الذي كان يبلغ رسالته راكباً الحمار متنقلاً من مدينة إلى أخرى لِما كلّفه اللّٰه تعالى لإرشاد الناس إلى طريق الحقّ الذي قد بعث اللّٰه تعالى رسله لحثِّهم على السير فيه وتحذيرهم من الاجتناب من طريق الباطل؛ وأمّا المقصود بـ"الراكب على الجمل" هو النبيّ الأكرم، بحيثُ إنّه (-) كان يركب الجمل للوظيفة الموكّلة عليه في سبيل تنوير الأذهان في الفترة الجاهلية لإقناعهم عن الكفّ عن عبادة الأصنام المصنوعة بأيديهم والإقبال على عبادة اللّٰه تعالى الذين أنعمهم النعم الكثيرة لا تحصى، وكان يتنقّل من مدينة إلى أخرى بالجمل لِما على عاتقه، وكان يكابد المعاناة الكثيرة في هذا السبيل الإلهي الذي نجح فيه بعون اللّٰه تعالى في اللحظات الحاسمة. هذا يُبدي مدى إلمام الإمام ومعرفته بالأمر. نرى ممّا سبق ذكره أنَّ الإمام عند مناظرة رأس الجالوت حول نبوة النبيّ الأكرم ينقل أوّلاً قول شعيا النبي ويفسّر ما قاله باعتباره الركيزة الأساسية لإقناع متقليّه لما هو بصدده في إثبات نبوة النبيّ الأكرم. وأما في الخطوة التالية، فإنّه (j) يقول: إنّ هذا النقل من شعيا النبيّ هو الوارد في التوراة التي تعدّ من المصادر الموثوقة عند اليهود، حيث قد رسّختْ مفاهميه في ذهنهم. فنرى أنَّه وظّف هذا المصدر الديني عند اليهود ورأس الجالوت ويسأله سؤالاً تقريريّاً باستخدامه همزة الاستفهام "أ" في: "أَتُنْكِرُ هذا مِنَ التوراة"؛ ودليلنا على أنَّ همزة الاستفهام "أ" هي للتقرير للمتلقّي والخارجة من وظيفتها الرئيسة، وهي السؤال عما لا يعلم المتكلّم، هو أنه مطلع كلّ الاطلاع على أنَّ متلقيه عارف كلّ العرفان بالهذا المصدر الديني عند اليهود. بذلك، نرى أنَّ الإمام يقطع السبيل لرأس الجالوت لما هو يبذل الجهد له، وهو إثبات نبوة النبيّ الأكرم ويصل إلى هدفه المذكور ويُميله عن رأيه بقوله: "قالَ لَا مَا أُنْكِرُهُ". ـ المثال السادس: «ثُمَّ قَالَ الرِّضَا: هَلْ تَعْرِفُ حيقوقَ النَّبِيَ؟، قَالَ نَعَمْ إِنِّي بِهِ لَعَارِفٌ، قَالَ: فَإِنَّهُ قَالَ وَكِتَابُكُمْ يَنْطِقُ بِهِ جَاءَ اللّٰه بِالْبَيَانِ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ وَامْتَلَأَتِ السَّمَاوَاتُ مِنْ تَسْبِيحِ أَحْمَدَ وَأُمَّتِهِ يَحْمِلُ خَيْلَهُ فِي الْبَحْرِ، كَمَا يَحْمِلُ فِي الْبَرِّ يَأْتِينَا بِكِتَابٍ جَدِيدٍ بَعْدَ خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَعْنِي بِالْكِتَابِ الْقُرْآنَ، أَتَعْرِفُ هَذَا وَتُؤْمِنُ بِهِ؟ قَالَ رَأْسُ الْجَالُوتِ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ حَيْقُوقُ وَلَا نُنْكِرُ قَوْلَهُ». في النصّ أعلاه، نلاحظ أنَّ الإمام يجيء بالبراهين النقليّة ويعقبها بـ"هل" الاستفهاميّة، للقوة الإقناعية التي تتمتّع بها لإفحام متلقّيه. فإنّه يطرح سؤالاً لرأس الجالوت "هل تعرف حيقوق النبيّ"، وهو أحد من أنبياء اليهود الذين يحظون بالمكانة السامية والعالية والدينية عندهم. وهذا السؤال يملك جانباً إقراريّاً؛ لأنه (j) يعلم كلّ العلم أنّه يعرف حيقوق النبيّ، وهو المبلّغ لدين اليهود من جانبه تعالى. يخرج هذا الاستفهام عن غرضه الرئيس، وهو السؤال عمّا لا يعلمه المتكلّم بالسبب الذي تمّ ذكره. فنشاهد أنه (j) ينجح في الخطوة الأولى في إقناع متلقيّه، فيردّ رأس الجالوت بالقول مباشراً: "فَقالَ إِنّي به لَعارفٌ". وهذا الإقناع يتوقّعه الإمام ويسهّل ما يسعى إليه أيضاً في إدامة مناظراته، وهو إثبات نبوة النبيّ الأكرم ويخطّط في المرحلة التالية لمناظرته. نرى أنّه يجيء بما نقله حيقوق النبيّ مزوّداً كلامه بالاستناد إلى التوراة "كتابكم ينطق به"؛ وذلك للتأثير الذي يتركه هذا المصدر الديني على رأس الجالوت، ويقول: إنّه بيّن أنّ "البيان" والمقصود به هو القرآن الكريم، قد جاء من "جبل فاران"، وهو الجبل الذي قد أوحي النبيّ الأكرم فيه بأنّه بُعِث نبيّاً وأنزل القرآن الكريم إليه؛ وذلك لترويج المفاهيم الإسلامية وإزالة الجهل والكفر والحثّ على عبادة اللّٰه تعالى وليس الأصنام، وإن حيقوق النبي بيّن أنه قد امتلأت السماوات والأرض بما فيها من الصلاة والتسيبح والدعاء للنبيّ الأكرم لِما قد قام به لهداية الخلق والإيمان بالتوحيد والمعاد واليوم الآخر. وهذة المفاهيم المذكورة التي تمّ تبليغها من جانب النبيّ الأكرم، قد أثّرت تأثيرا إيجابيّاً على نفوسهم؛ وذلك بالطريقة التي قد اتخذّها النبيّ الأكرم في إبلاغها المكلّف من جانبه تعالى. وتحظى أمّته بالهذا الثناء؛ لِأنّها قد أطاعت نبيّها الأكرم فيما قد أمرها به، وهو العبادة للّٰه تعالى والقيام بما واجب عليها وأتى بالكتاب الجديد وهو القرآن الكريم الذي فيه التعاليم الإسلامية التي تساعد الإنسان على العيش بشكل أفضل ويتذكّرهم باليوم الآخر الذي يُحاسَب الإنسان فيه على ما قدّمتْ أيديها في الحياة الدنيا وتحثّهم على تزويد أنفسهم بالأعمال الحسنة والصالحة للفوز بالجنة ونعيمها، وقد نصّتْ الآیات المنوّرة للقرآن الکریم علی ذلك، وهي تتمثّل في الآیة: «والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيمª، وهذا قد نصّت عليه الآيات المباركة. وبعد هذة الحجج النقليّة المذكورة لإقناع رأس الجالوت، فإنّ الإمام يزوّد كلامه الملقى عليه بالهمزة الاستفهاميّة ويسأله: "أتعرف هذا وتؤمن به"؛ وغرضه ليس سؤالاً، بل إقراراً من متلقيه لتسهيل إقناعه وإفحامه للذي هو يختزل في إثبات نبوة النبيّ الأكرم. نلاحظ أن الإمام بالهذة الطريقة التي قد سار فيها، نجح كلّ النجاح في الوصول إلى هدفه؛ ودليلنا على هذا ما أقرّ به رأس الجالوت، وهو بصفته طرفي المناظرة، وهو "قال رأس الجالوت قد قال ذلك حيقوق ولا ننكر قوله". ونلاحظ أنه بأدلته الدامغة والطريقة المتّخذة، وهي الهمزة الاستفهاميّة الإقراريّة، يقطف ثمرة كلامه ويقنعه تماماً بشأن نبوة النبيّ الأكرم ويحقّق مبتغاه من هذة المناظرة الكلامية. فنستنتج ممّا جاء ذكره سابقاً، أنَّ الاستفهام هنا يعدّ باعتباره الحجج ذاتها، كما أنّه يمثّل فعلاً حجاجيّاً بالقصد المضمر فيه وفق ما يقتضيه السياق (الشهري، ٢٠٠٤م، ص ٤٨٥). ونجد أنّه يؤدي إلى إقرار المتلقّي بالترتيب الذي يتمخّض عن تسليمه والتنازل عن معتقداته السابقة شيئاً فشيئاً وإقناعه بالكامل. تنمي الآليات البلاغيّة قدرة المتخاطبين على الإقناع. ولتحقيق هذا الغرض، يجب أنْ تكون عملية الإقناع بطريقة منسجمة، يستجمع فيها المتكلّم من أدوات بلاغية مختلفة للتأثير في الآخرين وأفكارهم وعقائدهم، بحيث يجعلهم يقبلون وجهة النظر وتتعيّن مراعاة فن القول حين التكلّم لتصل إلى قلب المتلقي وعقله؛ وهنا تتولّد عنه الوظيفة الإفهاميّة الإقناعية. ومن الأدوات التي يتوسل بها للتحقيق الإقناعي هي الكناية. فهي فنّ بلاغي لا يستعمل في معناه الأول، بل يستعمل في المعنى الآخر الذي يتبعه أو يردفه وينوّه بمعنى آخر عن طريق المعنى الأوّل ويجعل المعنى الظاهري رمزاً المعنى الباطني (الجرجاني، ١٩٨٤م، ص ٦٦). ـ المثال السابع: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّهُ كَانَ يَتِيماً فَقِيراً رَاعِياً أَجِيراً لَمْ يَتَعَلَّمْ كِتَاباً وَلَمْ يَخْتَلِفْ إِلَى مُعَلِّمٍ، ثُمَّ جَاءَ بِالْقُرْآنِ الَّذِي فِيهِ قِصَصُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَخْبَارُهُمْ حَرْفاً حَرْفاً وَأَخْبارُ مَنْ مَضَى وَمَنْ بَقِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ كَانَ يُخْبِرُهُمْ بِأَسْرَارِهِمْ وَمَا يَعْمَلُونَ فِي بُيُوتِهِمْ وَجَاءَ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ لَا تُحْصَى». نلاحظ أنَّ الإمام عند إتيانه بالأدلة والبراهين لإثبات نبوة النبيّ الأكرم، قد لجأ إلى البراهين العقلية التي أوردها في كلامه عندما عدّ رأس الجالوت أدلته لإثبات نبوة موسى بن عمران باعتباره الأدلة معجزات قد صدرت عن نبيّهم فحسب وليس عن نبيّ آخر. وبهذة الحجج العقلية التي تعتبر معجزات للنبيّ الأكرم فحسب، فهو يقابله بالمثل. فنرى أنّه قد وظّف في كلامه أعلاه، وذلك لإقناع رأس الجالوت. والكناية تتمثّل في "ثُمَّ كَانَ يُخْبِرُهُمْ بِأَسْرَارِهِمْ وَمَا يَعْمَلُونَ فِي بُيُوتِهِمْ وَجَاءَ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ لَا تُحْصَى"، ويهدف الإمام من الجملة "يخبرهم بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم" عند مناظرته الكلاميّة، إلى المعنى الدفين فيها، وهو يتجلّى في معجزة "علم الغيب" للنبيّ الأكرم ويثبت بهذة الطريقة نبوة النبي ويقنع رأس الجالوت بحجته العقلية المذكورة ويُميله عن رأيه وينجح في هدفه؛ لذلك نرى أنّ هذة الكناية تمثّل دورها الحجاجيّ أحسن تمثيل في العملية الإقناعية. 4ـ3. الحجاج المنطقي إنَّ هذا الحجاج ینطوي علی الحجج النقلية والعقلیة. فوقفا لهذه المناظرة، نرى أن الإمام يورد البراهين والأدلة النقلية لإثبات نبوة النبيّ الأكرم؛ وذلك استناداً إلى المصادر الموثوقة عند رأس الجالوت، فيأتي بحججه النقلية من التوراة والإنجيل والزبور وينقل أقوال أنبياء بني إسرائيل لرأس الجالوت، ليقوّي كلامه ويزيد في تأثيره على متلقّيه ويقنعه نتيجةً لذلك. ومن أمثلة ذلك كما يلي: ـ المثال الأول: «قَالَ الرِّضَا: هَلْ تَعْلَمُ يَا يَهُودِيُّ أَنَّ مُوسَى أَوْصَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ نَبِيٌّ هُوَ مِنْ إِخْوَتِكُمْ فَبِهِ فَصَدِّقُوا، وَمِنْهُ فَاسْمَعُوا، فَهَلْ تَعْلَمُ أَنَّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِخْوَةً غَيْرَ وُلْدِ إِسْمَاعِيلَ إِنْ كُنْتَ تَعْرِفُ قَرَابَةَ إِسْرَائِيلَ مِنْ إِسْمَاعِيلَ وَالنَّسَبَ الَّذِي بَيْنَهُمَا مِنْ قِبَلِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَأْسُ الْجَالُوتِ: هَذَا قَوْلُ مُوسَى لَا نَدْفَعُهُ، فَقَالَ لَهُ الرِّضَا: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ إِخْوَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيٌّ غَيْرُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: لَا، قَالَ الرِّضَا: أَوَلَيْسَ قَدْ صَحَّ هَذَا عِنْدَكُمْ، قَالَ: نَعَمْ». إنّنا نلاحظ في النصّ أعلاه، أنَّ الإمام في كلامه، ينقل قول موسى بن عمران لقومه بني إسرائيل، عند مناظرته مع رأس الجالوت؛ لأنه عالمٌ بمدى تأثيره في متلقّيه، حيث يقول له: إنَّ موسى بن عمران بشّر قومه بمجيء نبيّ يكون من إخوتهم بسبب القرابة التي تُوجد بينه وبين أولاد بني إسرائيل، بحيث تعود سلالة بني إسرائيل إلى إسماعيل الذي هو ذُريّة إبراهيم الذي قد بنا الكعبة بيت اللّٰه بأمره تعالى. فبهذا الاستناد النقلي، ينجح الإمام في المرحلة الأولى من مناظرته، بحيث إنَّه يأخذ الإقرار لرأس الجالوت الذي هو يردّ عليه بهذا النحو: "فَقَالَ رَأْسُ الْجَالُوتِ: هَذَا قَوْلُ مُوسَى لَا نَدْفَعُهُ". نلاحظ أنَّ الخطة الحجاجية التي رسمها الإمام بإتيانه الحجج النقلية تثمر وتعطي النتائج الجيدة، وذلك بالكلام المذكور من رأس الجالوت عند المناظرة. وبعد ذلك، يتبع الإمام خطته الثانية ويسعى وراء الأخذ بالإقرار حول مجيء نبيّ من إخوة بني إسرائيل ويطرح سؤاله عليه ثانية بهذا الشكل: "قال الرِّضَا: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ إِخْوَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيٌّ غَيْرُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: لَا، قَالَ الرِّضَا: أَوَلَيْسَ قَدْ صَحَّ هَذَا عِنْدَكُمْ، قَالَ: نَعَمْ". نلاحظ أنَّ رأس الجالوت يقرّ من جديد والإمام يصل إلى ما يريده من هذا السؤال؛ لأنّه عالم تماماً بالأمر ويسعى وراء الأخذ بالإقرار فحسب، وذلك بالأدلة والبراهين النقلية التي تمّ ذكرها. فنرى أنّ الإمام يقنع رأس الجالوت ويُفحمه بشأن الهدف الذي هو بصدده، وهو يختزل في إثبات نبوة النبيّ الأكرم. بما أنّ رأس الجالوت كان قد اقتنع نظراً لما نقله عن موسى بن عمران، غيرَ أنّه طالب الإمام بتقييد كلامه بالتوراة الذي هو يعدّ مصدرا دينيا عند اليهود ويقوم الإمام بنقل ما ورد فيه؛ وذلك بسبب علمه بالقضية والمصدر، فهو كما يلي: ـ المثال الثاني: «فَقَالَ لَهُ الرِّضَا: هَلْ تُنْكِرُ أَنَّ التَّوْرَاةَ تَقُولُ لَكُمْ جَاءَ النُّورُ مِنْ جَبَلِ طُورِ سَيْنَاءَ وَأَضَاءَ لَنَا مِنْ جَبَلِ سَاعِيرَ وَاسْتَعْلَنَ عَلَيْنَا مِنْ جَبَلِ فَارَانَ؟ قَالَ رَأْسُ الْجَالُوتِ: أَعْرِفُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَمَا أَعْرِفُ تَفْسِيرَهَ». فنرى أن الإمام يقوم بنقل ما ورد في نصّ التوراة، بحيث يطرح على رأس الجالوت ما ذُكر فيه ويقول: هل أنتَ منكرٌ بأنّ التوراة تنصّ على أنّه: "جَاءَ النُّورُ مِنْ جَبَلِ طُورِ سَيْنَاءَ وَأَضَاءَ لَنَا مِنْ جَبَلِ سَاعِيرَ وَاسْتَعْلَنَ عَلَيْنَا مِنْ جَبَلِ فَارَانَ قَالَ رَأْسُ الْجَالُوتِ أَعْرِفُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ". نلاحظ أنَّ رأس الجالوت يردّ على الإمام قائلا: إنّي أعرف ما جاء في التوراة، وهذا خير دليل على أنّ الإمام قد قطف ثمرة ما يسعى وراءه، وهو الأخذ بالإقرار منه بواسطة الحجج والبراهين النقليّة الدامغة المذكورة. ينجح الإمام في الوهلة الأولي من مناظرته الكلامية بسبب سعة علمه بالمصدر؛ وفي الوهلة الثانية، يقوم بتفسير ما ورد فيه؛ وذلك عندما يقول رأس الجالوت: "قَالَ رَأْسُ الْجَالُوتِ: أَعْرِفُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَمَا أَعْرِفُ تَفْسِيرَهَا"، ويفسّر له بأنَّ الجملة الأولى الغرض منها أنَّ الوحي نُزل على موسى بن عمران في جبل طور سَيْناء وبُعث نبيّاً لقوم يهود لإبلاغ الرسالة عليهم؛ وأنَّ الثانية منها، فالمقصودة بها أنَّ الوحي نُزل على عيسى بن مريم في جبل ساعير وبُعث نبيّاً لقوم مسيح لِيُخبرهم بما وضعه اللّٰه تعالى على عاتقه لإرشادهم إلى طريق الحقّ وتحذيرهم من السير في طريق الباطل؛ وأنَّ الثالثة منها، فالهدف منها أنَّ الوحي نُزل على محمّد النبيّ الأكرم وبُعث نبيّاً لإكمال دين اللّٰه تعالى وتفسير ما يصعب من الآيات القرآنية؛ فبذلك يقنع رأس الجالوت بتفسيره الجمل له ويُفحمه ويثبت نبوة هؤلاء الأنبياء المرسلَين، ولاسيّما النبيّ الأكرم. ينقل الإمام في مناظرته من الزبور لداود (j) ويأتي بحججه في إطار الإقناع الشامل لرأس الجالوت، وهو كالتالي: ـ المثال الثالث: «قَالَ الرِّضَا: وَقَدْ قَالَ دَاوُدُ فِي زَبُورِهِ، وَأَنْتَ تَقْرَأُ اللَّهُمَّ ابْعَثْ مُقِيمَ السُّنَّةِ بَعْدَ الْفَتْرَةِ، فَهَلْ تَعْرِفُ نَبِيّاً أَقَامَ السُّنَّةَ بَعْدَ الْفَتْرَةِ غَيْرَ مُحَمَّدٍ؟ قالَ: هذا قَوْلُ داوُدَ نَعْرِفُه وَلا نُنْكِرُهُ». نلاحظ أنَّ الإمام يتبع خطته السابقة، وهي الإتيان بالأدلة النقلية، ويسعى مجاهداً إلى تحقيق هدفه ولنْ يألو عن جهد لهذا القضية ويقوم بالسير في الطريق الذي قد خطا فيه بشكل جيّد وبإتقان لكي يصل إلى ما يبتغي، وهو إقناع متلقّيه. وهذه الاستنادات تنمّ عن مدى معرفته بموقف متلقّيه ومعتقداته وكلّ ما يدور حول هذة القضية. فنرى أنّ الإمام ينقل ما هو آتٍ في زبور داود، وهو من المصدر الذي يحظى بأهمية عند اليهود؛ لأنّهم يقرؤونه، كما هو المعلوم من النصّ أعلاه. فإنّ الإمام عالم بهذا الموضوع ويضع نقاط حروفه على ذلك في سياق إثبات نبوة النبي الأكرم ويخاطِب متلقيّه قائلا: "وأنتَ تقرأ اللهم ابْعَثْ مُقيم السُّنَّة بعد الفترة"، ويقول له: يا رأس الجالوت، هل أنتَ تعرف نبيّاً غير محمّد الذي ذكره داود في كتابه، وهو أقام السُّنة بعد الفترة التي ضُعفت فيها المبادئ الدينية والتزام الناس بها وبعثَ اللّٰه تعالى محمّد النبي لانتهائها، فوضع هذة المسؤلية على عاتقها، وهو خرج مشرئب الرأس بالجهود التي بذلها لإبلاغ رسالته السماوية والمعاناة الذي تحمّلها في هذة الطريق. فإنّه يجيب عن الإمام قائلاً: إنَّه "قالَ هذا قَوْلُ داوُدَ نَعْرِفُه وَلا نُنْكِرُهُ". فنرى بهذة الأدلة المذكورة أنَّ الإمام يقنع رأس الجالوت ويميله عن رأيه ويفحمه بشكل جيّد، وهذا يبدي مدى براعة الإمام في إحكام كلامه الذي يترك الأثر الإيجابي على نفسية متلقّيه. والأدلة والبراهين الأخرى للإمام في سياق إثبات نبوة النبي الأكرم وإقناع رأس الجالوت بشأن هذة القضية الهامّة تتمثّل في الكتاب الموثوق عند متلقّيه، وهو الإنجيل الذي ينقل منه الكلام التالي: ـ المثال الرابع: «وَفِي الْإِنْجِيلِ مَكْتُوبٌ إِنَّ ابْنَ الْبَرَّةِ ذَاهِبٌ وَالْفَارَقَلِيطَا جَاءٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ الَّذِي يُخَفِّفُ الآصَارَ وَيُفَسِّرُ لَكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيَشْهَدُ لِي، كَمَا شَهِدْتُ لَهُ أَنَا جِئْتُكُمْ بِالْأَمْثَالِ، وَهُوَ يَأْتِيكُمْ بِالتَّأْوِيلِ، أَتُؤْمِنُ بِهَذَا فِي الْإِنْجِيلِ، قَالَ: نَعَمْ، لَا أُنْكِرُهُ». نلاحظ في المثال المذكور أنّ الإمام عند إتيانه بالأدلة والبراهين، يضمّن كلامه بما هو مكتوب في الإنجيل باعتبارها تقنية لإقناع رأس الجالوت بشأن نبوة النبي الأكرم ويشرح له أنّه المكتوب فيه بأنّ ابن البرَّة ينتهي فترة إبلاغ رسالته ويأتي دور فارقليطا لإبلاغ رسالته المؤكلة عليه من جانبه تعالى. وفارقليطا ـ كما تقدم ذكره ـ هو محمّد النبيّ الذي يعدّ الإمام (ع) الخصائص المذكورة له قائلا: إنه هو الذي يخفّف الآصار ويفسّر لَكُم كلّ شيء ويأتيكم بالتأويل. فإنّا نرى أنَّ رأس الجالوت عند سؤال الإمام عنه بشأن إيمانه بما ورد في الإنجيل، يصرّح بالقول: "قَالَ: نَعَمْ لَا أُنْكِرُهُ". فهذا يدل على إقناع رأس الجالوت باعتباره الطرف الآخر للمناظرة بشأن إثبات نبوة النبيّ الأكرم، بسبب ما ورده الإمام من الأدلة الدامغة التي يدعم بها كلامه ليحقّق ما هو يستهدفه من مناظرته، وهو يختزل في الإقناع والإفحام معاً. ـ المثال الخامس: «قَدْ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ، فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّٰه». نلاحظ أن الإمام قد جاء بالبراهين العقلية التي تكون دامغة بشأن إثبات معجزات الأنبياء الذين بعثهم اللّٰه تعالى من جانبه، ليرشدوا الناس إلى طريق الحقّ وزوّدهم تعالى بالمعجزات لتكون هي علامةً على قدرته على خلقه. لا يفوتنا أن هذة المعجزات المتمثلة في "إحياء الموتى، وإبراء الأكمة والأبرص، وخلق الطير من الطين"، تكون خاصة بعيسى بن مريم. فذكرها الإمام أوّلاً ليخبر رأس الجالوت بأنّها ليست حكراً على موسى بن عمران، كما صرّح بها بشأن إثبات نبوته أثناء مناظرته تلك؛ وثانياً لإثبات نبوة عيسى بن مريم، كما جعلها رأس الجالوت دليلاً على أحقية نبوة نبيّهم. فنرى أن الإمام يعامله بالمثل، فيضعها حججاً وبراهين عقلية يستند إليها في إمالة متلقّيه عن رأيه، حيث يقنع تماماً العالم اليهودي بسبب الأمثلة التي قد اعتمد عليها الإمام للهدف الذي قد حاول مجاهداً الوصول إليه، وهو إثبات نبوة عيسى بن مريم مستعيناً بمعجزاته المذكورة التي قد أتتْ أكلها وأعطتْ نتائج إيجابية، كما توقّعها الإمام حسب ما خطّط له. ـ المثال السادس: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّهُ كَانَ يَتِيماً فَقِيراً رَاعِياً أَجِيراً لَمْ يَتَعَلَّمْ كِتَاباً وَلَمْ يَخْتَلِفْ إِلَى مُعَلِّمٍ، ثُمَّ جَاءَ بِالْقُرْآنِ الَّذِي فِيهِ قِصَصُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَخْبَارُهُمْ حَرْفاً حَرْفاً وَأَخْبارُ مَنْ مَضَى وَمَنْ بَقِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ كَانَ يُخْبِرُهُمْ بِأَسْرَارِهِمْ وَمَا يَعْمَلُونَ فِي بُيُوتِهِمْ وَجَاءَ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ لَا تُحْصَى». فنرى في هذا المثال أن الإمام قد لجأ إلى البراهين والحجج العقلية ثانية؛ ولكن استخدمها هذة المرة لإثبات نبوة النبيّ الأكرم الذي قد أُقيمت هذة المناظرة الكلاميّة بشأنه. ومن الجدير بالذكر أنّ الإمام قد وضع المعجزات المذكورة آنفاً لعيسى بن مريم حجر الأساس لإثبات نبوته؛ وبذلك قد مهّد الطريق لإثبات نبوة النبيّ الأكرم. ويعدّ ذلك تقنية قد وظّفها الإمام للوصول إلى منشوده وهو إقناع رأس الجالوت فيما يتعلّق بالموضوع هذا من جهة. وأما الأدلة العقلية التي تكون معجزات النبيّ الأكرم، فهي تتجلى في إتيانه بالقرآن الكريم في حال عدم تعلّمه (-) الكتاب وعدم تدريبه من جانب معلّم وحظه من علم الغيب. هذة المعجزات المذكورة كانت بإذنه تعالى، فزوّده تعالى بها لتكون دليلاً على بعثه نبيّاً من جانبه ليتذكر الناس بيوم القيامة وينذرهم من جزاءهم حسب ما تكسب أيديهم في الدنيا الفانية. وهذة الأدلة قد أتتْ أكلها، بحيث إنّ رأس الجالوت تأثّر بما جاء الإمام به لإثبات ما كان بصدده فاقتنع. في ختام التحاليل، يمكننا القول إنّ الإمام كان ناجحاً في مناظرته الكلامية، بحيث راعى معتقدات الطرف الآخر للمناظرة ولمْ ينل منها، وهذا يعدّ من أصول المناظرة التي التزم الإمام بها في الوهلة الألى؛ فالطريف أنّ الإمام أقنع متلقّيه وأفحمه معتمداً على المعتقدات نفسها وجعلها باعتبارها الحجج والبراهين سواء أكانت نقلية أم عقلية في إطار ما سعى وراءه، وهو يتجلّى في إثبات نبوة النبيّ الأكرم في الوهلة الثانية؛ وأما الأخير والآخر فإنّ توظيف الإمام هذة المعتقدات وشرح بعضها لمتلقّيه مما يظهر مدى إلمامه بثقافات الأمم الأخرى، وهذا الأمر قد ساعده كثيراً فيما أراد. |الخاتمة توصلت المقالة إلى ما يلي: ـ تمثل تقنيات الإقناع المتمثلة في الوسائل اللغوية والبلاغية دورا أساسيا وبارزا في النصّ الحجاجي؛ ومن خلال دراستنا للنماذج السابقة، استنتجنا القيمة التي أدّتها هذه الأدوات لعرض الأفكار والنتائج المعبر عنها ودورها الأساسي في الصيرورة العملية الإقناعيّة بشكل صحيح. ـ استنتجنا من كلّ ما مضى أنّ الآليّات الحجاجية برزت في مناظرة الإمام مع رأس الجالوت، وهي الآليات اللغوية والبلاغية؛ وتلك تأتي لإثبات نبوة النبي الأكرم. ـ الآليات البلاغية التي وظّفها الإمام في المناظرة هي الكناية، وأساليب التقديم والتأخير، والاستفهام، والقصر. لقد تركت هذة التقنيات البلاغية المذكورة أثرها الحجاجي في نفسية المتلقّي وساهمت في إقناعه. ـ استنتجنا من خلال تحليل نص المناظرة أنّ الإمام قد وظّف الأسلوب البلاغي المتمثّل في أسلوب الاستفهام في مناظراته مع رأس الجالوت، وتبيّن لنا أنّ الأسلوب المذكور قد خرج عن غرضه الرئيس، وهو السؤال عمّا لا يعلمه المتكلّم، إلى الغرض التقريري؛ وذلك بسبب ما تتطلبّه عملية الإقناع، مما ساهم في إفحام رأس الجالوت بشأن الإقرار بنبوة النبيّ الأكرم بشكل ملحوظ. ـ استكشفنا عند التحليل الذي تمّ في نصّ المناظرة، أنَّ الإمام قد وظّف الأسلوب البلاغي الآخر المتجلّي في أسلوب التقديم والتأخير عند إلقائه الكلام على طرف الآخر للمناظرة، وهو رأس الجالوت؛ وذلك لإثبات نبوة النبيّ الأكرم، وتبيّن لنا أنّ هذا الأسلوب قد أتى أكله بسبب القوة الإقناعية التي تمنح للكلام؛ وذلك بتأكيده وتضخيمه وإلفات نظر المتلقّي. ـ استنبطنا من نصّ المناظرة أنَّ الإمام قد وظّف في مناظرته مع رأس الجالوت، أسلوب الحصر والكناية؛ ذلك لأنّ هذين الأسلوبين يحظيان بدورهما الحجاجي في عملية الإفحام لمتلقّيه بسبب التأكيد والاختصاص والتأثير الذي يعطيانه للكلام، مما ساعد الإمام في تسهيل عملية الإقناع. ـ استنتجنا وفق التحليل لنصّ المناظرة، أنّ الإمام قد وظّف التقنيات اللغوية الحجاجية للوصول إلى منشوده الكلامي، وهو إثبات نبوة النبيّ الأكرم؛ وهذة التقنيات تتمثّل في الترابطات الكلامية المساهمة في اتصال العلاقة بين الحجج ورصفها بشكل جيّد، وهي "واو" العاطفة و"ثمّ". ـ عند تحليلنا لنصّ المناظرة الكلامية للإمام مع رأس الجالوت، تبيّن لنا أنّ الإمام قد وظّف الأدات اللغوية "إنَّ" و"أنَّ" بسبب القوة الإقناعية التي تحظى بها في التخاطب وإفحام الطرف الآخر، وهو رأس الجالوت، وترسيخ الكلام في نفسه وإزالة تردده. ـ إنّ الإمام قد وظّف الحجج النقلية والعلقية في مناظرته الكلامية مع رأس الجالوت لإثبات نبوة النبيّ الأكرم، الحجج التي لها قوة تأثيرية مضاعفة في عملية الإقناع لمتلقيّه. ـ إنّ الإمام قد راعى ظروف الكلام ومتلقيّه بطريقة كاملة؛ وهذا يعكس مدى إلمامه ببلاغة الكلام؛ من دون شك أن هذا الأمر قد ساهم في إقناع متلقّيه وإفحامه بشكل ملحوظ بشأن ما كان بصدده.
[1]. Pearlman [2]. Tita [3]. Dicro | ||
مراجع | ||
* القرآن الكريم. أـ العربية ابن فارس، أبو الحسين أحمد. (د.ت). معجم مقاييس اللغة. د.م: د.ن. ابن منظور، أبو الفضل محمد بن مكرم. (١٣٠٠ه.ش). لسان العرب. القاهرة: الطبعة المصرية. البنعلي، أمن. (٢٠٠٣م). «الإقناع الممنهج الأمثل للتواصل والحوار نماذج من القرآن والحديث». الثراث العربي. ج ٢٣. ع ٨٩. ص 115 ـ 135. التفتازاني، سعد الدين مسعود بن عمر. (١٣٧٧ه.ش). مختصر المعاني. قم: دار الفكر. الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر. (١٩٦٨م). البيان والتبيين. بيروت: دار صعب. الجرجاني، أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن. (١٩٨٤م). دلائل الإعجاز. تحقيق: محمود محمد شاكر. القاهرة: مكتبة الخانجي. الحباشة، الصابر. (٢٠٠٨م). التداولية والحجاج مداخل ونصوص. دمشق: صفحات للدراسة والنشر. حشاني، عباس. (٢٠١٣م). «الحجاج، بواعثه وتقنياته». المخبر. ع ٩. ص 86 ـ 101. الدريدي، سامية. (2001م). الحجاج في الشعر العربي القديم. ط ٤. إربد: عالم الكتب الحديث. الراضي، رشيد. (٢٠١٥م). «الحجاجيات اللسانيّة عند انسكومبر وديكرو». عالم الفكر.. ج ٣٤. ع ١. ص 122 ـ 145. رجبى، فاطمه؛ واعظم مطهرى. (١٣٩٤ه.ش). «أسلوبية المناظرات الكلامية للإمام الرضا عليه السلام». الدراسات الاعتقادية – الكلامية. س 5. ع ١٩. ص 120 ـ 136. رحيم پور، مهناز. (١٣٩٤ه.ش). «دراسة منهجية لمناظرات الإمام الرضا (ع)». مجلة بينات (مؤسسة المعارف الإسلامية للإمام الرضا «ع»). ع 68 ـ 78. ص 117 ـ 134. زارع، معصومه؛ ومحمد رنجبر حسينى. (١٣٩٥ه.ش). «المنطق الحاكم على مناظرة الإمام الرضا (ع) مع أصحاب الأديان». انديشه وحديث. ع ٢٢. ص 125 ـ 142. الزمخشري، أبو قاسم محمود بن عمرو. (١٣٢٣ه.ش). المفصل في علم العربية. مصر: التقدم. السامرائي، فاضل. (٢٠٠٠م). الجملة العربية والمعنى. بيروت: دار ابن حزم. الشهري، عبد الهادي بن الظافر. (٢٠٠٤م). إستراتيجيات الخطاب مقاربة لغوية تداوليّة. بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة. الشيخ الصدوق، محمد بن علي. (١٣٧٨ه.ش). عيون أخبار الرضا. تحقيق وتصحيح: مهدي لاجوردي. تهران: جهان. صولة، عبد اللّٰه. (٢٠٠٧م). الحجاج في القرآن من خلال أهم خصائصه الأسلوبية. ط ٢. بيروت: دار الفارابي. عباس، فضل حسن. (١٩٩٧م). البلاغة: فنونها وأفانينها. ط ٤. عمان: دار الفرقان. عبد الرحمن، طه. (د.ت). التواصل والحجاج. الرباط: مطبعة المعارف الجديدة. عتيق، عبد العزيز. (١٩٨٥م). علم المعاني. بيروت: دار النهضة العربية. العزاوي، أبو بكر. (٢٠٠٦م). اللغة والحجاج. د.م: د.ن. عيسى، عبد الحليم. (٢٠٠٦م). «البيان الحجاجي في إعجاز القرآن الكريم سورة الأنبياء نموذجاً». التراث العربي. ع ١٠٢. ص 95 ـ 116. مجيدى، حسن. (١٣٩٢ه.ش). «التحليل الكلامي لمناظرات الإمام الرضا (ع)». فرهنگ رضوی. س . ع ۲. ص 85 ـ 100. مدقن، هاجر. (٢٠٠٦م). «آليات تشكّل الخطاب الحجاجيّ بين نظرية البيان ونظرية البرهان». الآداب واللغات. ع ١٤. ص 190 ـ 199. ميرحسينى، يحيى؛ ومحمود كريمى. (١٣٩٢ه.ش). «أساليب مواجهات الإمام الرضا (ع) لأنصار الأديان، الفرق والمذاهب الإسلامية». مطالعات فرهنگ ـ ارتباطات. س 14، ع ٢٣. ص 115 ـ 131. ناجح، عز الدين. (٢٠١١م). العوامل الحجاجية في اللغة العربية. تونس: مكتبة علاء الدين للنشر والتوزيع. | ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 379 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 94 |