تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,673 |
تعداد مقالات | 13,654 |
تعداد مشاهده مقاله | 31,575,686 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 12,474,031 |
الاستعارة المفهومية في ديوان لا ماء في النهر لناصر البدري علی ضوء نظرية جونسون ولايكوف | ||||
بحوث في اللغة العربية | ||||
مقاله 6، دوره 15، شماره 29، دی 2023، صفحه 69-86 اصل مقاله (1.13 M) | ||||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | ||||
شناسه دیجیتال (DOI): 10.22108/rall.2022.135077.1434 | ||||
نویسندگان | ||||
إلهام اكبري1؛ علی خضری* 2؛ سید حیدر فرع شیرازی2 | ||||
1طالبة الماجستير في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة خليج فارس، بوشهر، إيران | ||||
2أستاذ مشارك في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة خليج فارس، بوشهر، إيران | ||||
چکیده | ||||
إن اللغة بنفسها مجرد أصوات ورموز تعبر عما يجول في خاطر الإنسان وتعكس أفكاره وخبايا ذهنه؛ ولكن ليس لديها فاعلية لتكون مؤهلة للارتباط بالعالم الفيزيائي، إن لم يتم ربطها بالمعاني الذهنية لإنتاج الخطاب. إن الأشكال التي نوظفها في تركيب وإنتاج الخطابات اللغوية، تتميز باحتوائها على أساليب وأدوات كثيرة، مما تمنح البیان جمالية خاصة. والاستعارة المفهومية هي إحدى الأساليب اللغوية الحديثة التي أبدعها المنظران الأوروبيان لایکوف وجونسون، فهی تبرز في أحاديثنا اليومية، وذلك للتعبير عما يدور في خلدنا ويوجد في خفايا أفكارنا. فهي مبنية على التصور الاستعاري الذي يبنی في أذهاننا علی أساس المخططات الذهنية، وتتيح لنا أسلوباً سلسا لإدراك المفاهیم الذهنية والانتزاعية. إن هذه الظاهرة الحديثة قد شغلت مساحة وافرة من أشعار الشعراء المحدثين، ومن بينهم الشاعر العماني، ناصر البدري، الذي استمد من هذا الأسلوب بجانب الأساليب الجمالية الأخرى للافتنان في التعبير وإحكام الصنعة فيما يقول. وفي هذا البحث الذي أجريناه اعتماداً على المنهج الوصفي ـ التحلیلی، سنبين أن الشاعر قد قام برسم لوحات من الحزن الذي يخيم عليه من خلال الاستعارة المفهومية، مما أعطى ذلك خصوبة لبيانه؛ وأن الشاعر جنح إلى استخدام الاستعارة المفهومية وذلك ليجدد اللغة ويبث الحياة في الكلمات التي تدل على آلامه ومآسيه. لقد لجأ الشاعر في هذا الديوان إلى استخدام الاستعارة الاتجاهية والأنطولوجية والبنيوية، وباستخدامه لهذه الاستعارات أعطى الكلمات معاني جديدة وجعل لبيانه قوة، مما ميزه عن سائر الكلام. وأخيرا، معظم الاستعارات جاءت لتسليط الضوء على المفاهيم التي تحمل معاني الحزن والأسى وإثبات المعنى في ذهن المتلقي وإقناعه. | ||||
کلیدواژهها | ||||
الشعر العربي المعاصر؛ الاستعارة المفهومية؛ نظرية جونسون ولایکوف؛ ناصر البدري؛ ديوان لا ماء في النهر | ||||
اصل مقاله | ||||
اللغة أداة لكشف بنية النظام المعرفي البشري، والاستعارة من وجهة نظر اللغويين المعرفيين ظاهرة معرفية، فتبيين أي من المفاهيم الانتزاعية عبر تقديمها بإطار ملموس ومحسوس يعتبر استعارة. کانت الاستعارة فيما مضى تعتبر من إحدى المحسنات البديعية والمألوفة بین الشعراء دون العامة من الناس، وتنصب على ألفاظهم؛ وذلك لأن نفس الشاعر تميل دوماً إلى تقديم ما هو أجمل للمتلقی، فتقوم بزيادة معاني الألفاظ بواسطة المحسنات، لتمييزها عما تتداوله ألسنة العامة؛ ولكن بعدما نظر اللغويون حول الاستعارة المفهومية، تغيرت معاني الاستعارة، وتوسعت أنماطها، وخرجت من دائرة الأدب، لتصبح رکیزتها الأهم، هی الفكرة والنسق التصوري بدلا من اللغة. ومع طرح نظريات لايكوف وجونسون[1] في كتابهما الموسوم بالاستعارات التي نحيا بها، اتسع نطاق الاستعارة، فهما أثبتا أن تعابيرنا اليومية مليئة بالاستعارات، وهي متجذرة في تجربتنا وثقافتنا، وأن الجزء الأكبر من نسقنا التصوري العادي استعاري من حيث طبيعته. و«فتصوراتنا تُبنين ما ندركه وتبنين الطريقة التي نتعامل بواسطتها مع العالم، كما تبنين كيفية ارتباطنا بالناس. وبهذا، يلعب نسقنا التصوري دوراً مركزيا في تحديد حقائقنا اليومية. وإذا كان صحيحا أن نسقنا التصوري، في جزء كبير منه، ذو طبيعة استعارية، فإن كيفية تفكيرنا وتعاملنا وسلوكنا في كل يوم، ترتبط بشكل وثيق بالاستعارة» (لایکوف وجونسون، 2009م، ص 21). من بعد ما ارتسمت تعاريف جديدة للاستعارة الكلاسيكية، ازدادت البحوث والدراسات في هذا المجال. وفي الآونة الأخيرة، رسمت الدراسات اللغوية طبيعة جديدة للاستعارة، وبناءا على هذه التعريفات، فإن الاستعارة تتجاوز كونها أصلاً أدبياً لتحسين الكلام، وهي ذات أهمية في النظام المعرفي البشري. يستخدم ناصر البدري، الشاعر العماني المعاصر، الاستعارات التي تتوافق مع تعريفات الاستعارة المفهومية؛ لأن الديوان تمحور حول المفاهيم الانتزاعية والمجردة، كاليأس، والأمل، والحرية وغير ذلك. فكانت الاستعارة المفهومية المخرج القويم لتقديم هذه المفاهيم بصورة ملموسة، لیتفاعل معها المتلقي وليبلغ الشاعر غايته. والغرض من هذا البحث هو بيان الاستعارات المفهومية المستخدمة في الديوان وكيفية تجليها في شعر الشاعر. 1ـ1. أسئلة البحثتسعى هذه الدراسة إلى الإجابة عن السؤالين: ـ كيف تبلورت الاستعارات المفهومية في ديوان لاماء في النهر؟ ـ كيف تجلت شخصية الشاعر ونهجه العام في الاستعارات المفهومية التي وضعها؟ 1ـ2. فرضيات البحثـ استخدم البدري مخططات الاتجاه، والمادة والظرف والتشخيص في شعره. ويبدو أن مخطط التشخيص هو أكثر المخططات بروزا بين المخططات الأخرى؛ وبلورة الحقول المبدئية للاستعارات المفهومية في الديوان تمحورت حول الإنسان أكثر من أي حقل آخر. ـ توظيف الاستعارات المفهومية في الديوان يشير إلى نبوغ الشاعر، وتتبع دلالات توظيفها سيقودنا إلى الكشف عن إيدئولوجية الشاعر وتبيين كيفية رؤيته لمجتمعه والبيئة المحيطة به. 1ـ3. خلفية البحث لقد اهتم كثير من الباحثين في الآونة الأخيرة بدراسة نظرية الاستعارة المفهومية، وتناولوها في عدة دواوين؛ ولكن ناصر البدري من الشعراء الذين لم يتطرق أحد إلى دراسة هذه النظرية وتطبيقها على دواوينه، فلم نعثر على أية دراسة أكاديمية حول أشعاره؛ ولكن هناك عدة دراسات تمت حول الموضوع، ومنها: كتاب بعنوان دراسات في الاستعارة المفهومية، لعبد اللّٰه الحراصي (2002م)؛ فقدم الكاتب النظرية المفهومية للاستعارة باستعراض معالم تطورها في الفكر الغربي، ومن بعدها قام بتطبيق الاستعارات علی الحياة والفكر العربي. وكتاب الاستعارات التي نحيا بها (2009م)، للكاتبين لايكوف وجونسون؛ فهما أثبتا في هذا الكتاب أن الاستعارة تتبلور في حياتنا اليومية، وهي موجودة أيضا في تفكيرنا وأعمالنا، والنسق التصوري الذي تنبني عليه أفكارنا وسلوكنا له طبيعة استعارية بالأساس. بحث بعنوان دلالات الاستعارة في شعر محمد عفيفي مطر: ملامح من الوجه الأمبیذ واقلیسي أنموذجا، لسورية مجادي (2010م)، تطرقت الباحثة إلى الاستعارة والبلاغة، حيث اعتمدت على آراء الجرجاني، ثم تناولت الاستعارة والفلسفة، ثم تطرقت إلى تحولات اللغة الشعرية واستعاريتها والاستعارة في الشعر المعاصر، وختمت بحثها بتناول دلالات الاستعارة في الصيغ والخطابات والشخصيات والرموز. بحث آخر بعنوان الاستعارة في ظل النظرية التفاعلية: لماذا ترکت الحصان وحیدا لمحمود درویش أنموذجا، لجميلة كرتوس (2011م)؛ لقد اشتملت هذه الرسالة على مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة. فتطرقت الباحثة في الفصل الأول إلى الاستعارة والنظرية المعرفية، وفي الفصل الثاني، تعرضت للاستعارة والانسجام، ثم تطرقت إلى شرح الاستعارات الاتجاهية والأنطولوجية والبنيوية. وبحث آخر بعنوان جمالية الاستعارات المفهومية في ديوان أثر الفراشة لمحمود درويش، لناصر زارع، ورسول بلاوي وعلي عندليب (2020م). لقد قام الباحثون بدراسة الاستعارات المفهومية في ديوان "أثر الفراشة" على إطار نظرية لايكوف وجانسون. ومن أهم ما توصل إليه الباحثون هو أن درويش اتخذ من الاستعارات مسلكا ليرسم المقاومة الفلسطينية، ويري المخاطب بؤرة الحرب الصامتة في فلسطين، وأن أكثر المفاهيم الذهنية التي وردت في الديوان، كانت من مصاديق الحركة والحياة والإنسانية. مهما يكن من شيء، يكون ناصر البدري[2] من فحول الشعر العماني. فقد نشر الشاعر مجموعات من القصائد، مثل ملائكة الظل، وهل، ولا ماء في النهر، وعلى الرغم من أهمية مجموعاته الشعرية وموقعيته المرموقة في عمان، لا يزال ناصر البدري مجهولا في إيران، حيث لم يتطرق أحد إلى يومنا هذا إلى دراسة أشعاره. 2. القسم النظري2ـ1. الاستعارة المفهوميةتُعتبر الاستعارة من أهم مظاهر جماليات اللغة الشعرية؛ وذلك لأن الكلمة عندما تُستخدم استخداما مجازيا، تكتسب قوة لا يمكن لنا أن نتصورها من دون ذلك. يعتقد تيرنس هوكس[3] أن ظهور الاستعارة يرتبط بثلاثة عناصر: اللغة والزمن والمجتمع. «فإن الاستعارة توجد فحسب؛ لأنها تعمل وذات أثر. وتوجد الاستعارات عندما تظهر بالفعل في اللغة وفي المجتمع وفي الزمن. وليس أي من هذه العناصر الثلاثة ذا صفة ثابتة. وبتعبير آخر، فإن فكرة الاستعارة نفسها تتشكل في أي وقت عبر ضغوط لغوية ومجتمعية، وتكون بالإضافة إلى ذلك محكومة بزمنها الخاص. فالاستعارة ليس لها شكل نقي دائم» (هوكس، 2016م، ص 15). يعرف لايكوف وجونسون[4] الاستعارة المفهومية بقولهما: «إن الاستعارة حاضرة في كل مجالات حياتنا اليومية. إنها ليست مقتصرة على اللغة، بل توجد في تفكيرنا وفي الأعمال التي نقوم بها أيضا. إن النسق التصوري العادي الذي يسير تفكيرنا وسلوكنا له طبيعة استعارية بالأساس» (2009م، ص 21). مع طرح نظريات لايكوف وجونسون، اتسعت دائرة الاستعارة، فهما أثبتا أن الاستعارة حاضرة في شتى مجالات الحياة، وأنها ليست خاصية لغوية، كما يظنها البعض، بل هي توجد في تفكيرنا وأعمالنا اليومية التي نقوم بها، وهي مبنية على التصور الاستعاري الذي يبنی علی أساس المخططات الذهنية. ولفهم الاستعارة المفهومية، يجب علينا معرفة حقل المبدأ والمقصد؛ لأن «كل حقل مفهومي يحتوي علی مجموعة منسجمة من التجارب ويشتمل حقل المبدأ علی مفاهيم فيزيائية ومحسوسة تُدرك بها مفاهيم حقل المقصد، وهي انتزاعية في أغلبها» (كوچش، 1399ﻫ.ش، ص 47). هناك ثلاثة أقسام للاستعارة المفهومية حسب قول لايكوف وجونسون: «الاستعارة الاتجاهية والتي ترتكز على التجارب الفيزيائية والثقافية وتعطي للتصورات اتجاها فضائيا، وتنبع هذه الاتجاهات الفضائية من كون أجسادنا لها هذا الشكل الذي عليه» (2009م، ص 33)، و«الاستعارة الأنطلوجية التي نعتبر التصورات الذهنية فيها أوعية» (المصدر نفسه، ص 45)؛ إذ إننا نجعل تصوراتنا تتبلور في الأشياء والكيانات والمواد، و«الاستعارة البنيوية وهی التي تستعين بتصورات سهلة مفهومة لدى الإنسان لإقامة تصور آخر» (المصدر نفسه، ص 81)؛ لأن المفاهيم الذهنية غالباً من الصعب يتم فهمها، إلا إذا ما التمسنا لها طريقة محسوسة وقريبة من الإدراك، فهذه الاستعارة بدورها تقرب المعاني والمفاهيم باقامة تصور سهل يمكننا دركه واستيعابه بسهولة تامة.
3. القسم التطبيقي3ـ1. الاستعارة المفهومية في شعر ناصر البدريأكثر البدري من توظيف الاستعارة المفهومية في مجموعته الشعرية لا ماء في النهر، فهي قد أضفت على شعره جمالا ورونقا خاصاً، وصارت برهانا جليا على نبوغ الشاعر. ومن الاستعارات المفهومية التي شهدت حضورا حافلاً في الديوان، هي الاستعارة الاتجاهية والبنيوية والأنطلوجية. 3ـ1ـ1. الاستعارة الاتجاهيةإن الإنسان دائماً ما يلجأ في حديثه اليومي للاستعارات الاتجاهية، كقولك: "أحس أنني اليوم في القمة" أو "لقد سقطت من التعب". فيسمي لايكوف وجونسون هذا النوع «الاستعارة الاتجاهية[5]؛ إذ إن أغلبها يرتبط بالاتجاه الفضائي: عال ـ مستفل، وداخل ـ خارج، أمام ـ وراء، فوق ـ تحت، عميق ـ سطحي، مركزي ـ هامشي. تنبع هذه الاتجاهات الفضائية من كون أجسادنا لها هذا الشكل الذي هي عليه، وكونها تشتغل بهذا الشكل الذي تشتغل به في محيطنا الفيزيائي. هذه الاستعارات الاتجاهية تعطي للتصورات توجهاً فضائيا، كما في التصور التالي: السعادة فوق» (المصدر نفسه، ص 33). أشعار البدري مليئة بالانزياحات الاستعارية؛ وكثيراً ما نشأت من بيئته وثقافته العمانية. «إن الاستعارات الاتجاهية ليست اعتباطية، وتوجد مرتكزاتها في تجربتنا الفيزيائية والثقافية. ورغم أن التقابلات الثنائية بين فوق وتحت، أو بين داخل وخارج ... إلخ، لها طبيعة فيزيائية فإن الاستعارات الاتجاهية التي تنبني عليها قد تختلف من ثقافة لأخرى» (المصدر نفسه، ص 33). ومن الاستعارات الاتجاهية التي وظفها البدري في شعره ليبين اتساع رحمة اللّٰه، قوله: «أبحرْ / فعينُ اللّٰه واسعةٌ / وأنتَ تظنها في "وادي الجفْنينِ" / حتما لَمْ تَركْ .. / ما أجهلكْ» (2016م، ص 19). الشاعر في هذا الشاهد، يبدأ كلامه بصيغة الأمر؛ وذلك لما تحمله هذه الصيغة من معاني الحث وبث الرغبة في جوفها، ومن بعدها يصف أعين اللّٰه بأنها واسعة ويخاطب نفسه بأنْ يحزم ما تبقى منه ويُبحر في رحمته. ومن خلال هذه الاستعارة، نرى الشاعر يخطئ نفسه؛ لأنه ظن أن عين اللّٰه لم تقع عليه في ذلك الوادي. الشاعر يرى أن عيون اللّٰه رحبة؛ وهذا الاتساع والرحابة والفضاء الذي يتصوره الشاعر يأتي تحت عنوان الاستعارة المفهومية، حيث إنه صور لنا نوعاً من الاتجاهات التي تنشأ من الأعلى إلى الأسفل، ليوضح تلك النظرة والرحمة التي ينظر الرب بها لعبده ويجعله في كنفه. فلفظة "واسعة" تأتي لترمز إلى الجهة من حيث السماء إلى الأرض. إن إعطاء الجهة لنظرة ورحمة اللّٰه تعتبر استعارة. والشاعر علاوة على هذا، لتبيين هذا الاتساع، أشار إلى "وادي الجفنين" الذي يقع في ولاية السيب، وهي إحدى ولايات محافظة مسقط في سلطنة عمان. فالشاعر بهذه الموازنة أراد أن يصور لمخاطبيه هذا الاتساع. اختار البدري هذا الوادي من بين أودية عمان؛ وذلك ليرمز إلى ولاية السيب التي تتميز بتاريخ عريق وثقافة عالية. وفي استعارة أخرى، نرى البدري يصف شغفه بحبيبته قائلاً: «أنتِ / للحائرينَ هُدى / تجيزين للبوحِ / ما لا يجازُ من الحب / آمنتُ أن لا شفاه سواكِ / أذوبُ خلالهما» (المصدر نفسه، ص 108). جاءت جمالية الاستعارة الاتجاهية من تصوير الشاعر الود بينه وبين حبيبته، فهو يتغزل بها وينعت محاسنها، ويفرغ ذهنه في هواها ولا يتمثل في هاجسه سواها. فالبدري صور نفسه أنه يذوب في هوى حبيبته، لإثبات ما يضمر في جوفه. وفي الحقيقة، لا يوجد ذوبان، وإنما وظف البدري الاستعارة الاتجاهية في لفظة "أذوب" التي ترمز من جهة الأعلى إلى الأسفل ليصور أن دنياه لا تستقيم إلا بوجود حبيبته، وأنه لا يريد الحياة إذا انقطعت أسباب دنياه عن دنياها. فيعتقد كل من لايكوف وجونسون أن «المرتکزات الفيزيائية لهذا التصور: ترتبط وضعية السقوط بالشقاء والانهيار، وترتبط وضعية الانتصاب بحالة عاطفية إيجابية» (2009م، ص 34). والشاعر في مكان آخر من الديوان يتكلم عن ذبول ليله وإعيائه ويعتبر نقض العهد نوعاً من السقوط: «إذِ الليلُ ذابلْ / على أي بُرجٍ / إذاً أنتَ يا أيها الوعدُ نازلْ؟ / فيا أيها الوعدُ / كل العيونِ تغازلُ دمعي / وترهقُنِي كل هذي العيون / فما أنتَ فاعلْ؟» (2016م، ص 108). في هذا الشاهد، يبين البدري سوء أحواله وتقلب دهره الذي لم يصف له يوماً. والليل محطة السكون والهدوء وراحة البال؛ ولكن الشاعر باستخدامه للاستعاره الاتجاهية، بين أن ليله عكس ذلك وأنه لا يلقى فيه راحة ولا يأمل ببزوغ الفجر من بعده وهو في حالة ذبول وأفول، والوعد عنده في حالة نزول. فهو صور لنا نوعا من الاتجاهات التي تنشأ من الأعلى إلى الأسفل. فالبدري في هذا الليل المدلهم، يكشف عن نقاب سرائره ويعرب عن باطنه ويبوح بها وتسيل دموعه، ويخاطب الوعد وكأنه قطع عهداً أن يأخذ بيديه؛ ولكن الآن نقض العهد. استخدم البدري الاستعاره الاتجاهية ليبين نقض العهد وسقوطه. فهذه الاستعارة الاتجاهية جاءت كالسابقة من الأعلى للأسفل. وفي مكان آخر من الديوان، يعكس لنا الشاعر ضعف أمله ورجائه قائلاً: «آآآآآهِ / كمْ مُرةٌ / كلُ هذي القُبَلْ / وِجهَةٌ ... / أو أقلْ / في زمانِ الوجَلْ / ربما هَيأَتْ / قطرةً مِنْ أمَلْ» (المصدر نفسه، ص 111). في رأي الشاعر، أن الحياة من غير أمل لا تعني شيئاً، وأن الإنسان يعيش على الأمل وبأمل التغيير والحياة التي يعنيها وينتظرها الشاعر؛ ولكن رغم صبره، إلا أنه يشتكي فقدان محبوبته وكيف أن فراقها قد جعل زمانه موجلاً وأنّ أمله قد أصبح هشيما وذرته الرياح. فهو يبحث عن الحياة من جديد ويخاطب حبيبته ويطالبها بأن تعطيه قطرة من أمل من أجل أن يتمسك بالحياة، فهو شبه أمله بوصال حبيبته كقطرة الماء التي تنحدر من السماء (الأعلى) إلى الأرض (الأسفل) لتسقي روحه وتبث فيه الحياة من جديد. فالشاعر في هذا الشاهد باستخدامه للاستعارة، ميز كلامه وأعطاه منزلة رفيعة في الفصاحة. يقول علي بن عبد العزيز الجرجاني: «فأما الاستعارة، فهي أحد أعمدة الكلام، وعليها المعول في التوسع والتصرف، وبها يتوصل إلى تزيين اللفظ وتحسين النظم والنثر» (2008م، 428). كما يقول عبد القاهر الجرجاني: «أزهرتُ / من لي برائحة من زجاجة عطر الأنوثة / أشتمها من خلال العباءةِ» (1988م، ص 130). الازدهار يرمز للأمل والتفاؤل، وطبيعة الورد هي أن ينبت من تحت الرمال (الأسفل)، ويسمو نحو السماء (الأعلى). الشاعر باستخدامه للاستعارة المفهومية، استخدم اتجاهاً ليبين حالته الروحية ما بين أمل ويأس، وخوف واطمئنان. إن استخدام الاستعارات الاتجاهية في أحاديثنا اليومية ليس اعتباطيا، وإنما تنشأ من تجاربنا الثقافية والإجتماعية، بيد أن التماسك الذي يوجد في صلب هذا الكون هو الذي يحدد استخدام او عدم استخدام هذه الاستعارات. لقد شهدنا في ديوان لا ماء في النهر، أن الشاعر استخدم هذه الاستعارات وأبدع في توظيفها، حيث إنه ألحق تجاربه الشخصية والإبداعية بها. إن جل تصوراتنا الأساسية منظمة تبعاً لاستعارة ذات التوجيه الفضائي؛ فأغلب الاستعارات التي وظفها البدري كانت ذات توجيه فضائي وأسس فيزيائية مختلفة. ويظهر لنا أن انسجام النسق الشامل كان الأصل في اختيار الاستعارات. فمثلاً عندما استعار الذوبان للحب، فقد ارتبط شقى الحب فيزيائيا بنحول الجسد والهلع وخور القوة. وعلى هذا المنوال، قد تشكلت أسس الاستعارة الاتجاهية في الديوان.
3ـ1ـ2. الاستعارات الأنطولوجيةمع أن الاستعارات الاتجاهية غنية الاستعمال؛ ولكنها لا تعطينا خصائص أكثر من الاتجاه، ولا تُصور لنا المفاهيم. فإن الاستعارات الأنطولوجية تصور الأحداث والأعمال استعاريا باعتبارها أشياء وتجعل تجاربنا ومفاهيمنا في إطار صفات المادة، وتخصص الشيء الفيزيائي كما لو كان شخصا. «فتجربتنا مع الأشياء الفيزيائية والمواد تعطينا أساساً إضافيا للفهم، وهو أساس قد يتعدى الاتجاه البسيط. إن فهم تجاربنا عن طريق الأشياء والمواد يسمح لنا باختيار عناصر تجربتنا ومعالجتها باعتبارها كيانات معزولة أو باعتبارها مواد من نوع واحد. وحين نتمكن من تعيين[6] تجاربنا باعتبارها كيانات أو مواد فإنه يصبح بوسعنا الإحالة عليها ومقولتها[7] وتجميعها وتكميمها، وبهذا نعتبرها أشياء تنتمي إلى منطقنا» (لایکوف وجونسون، 2009م، ص 45).ويمكن تقسيم الاستعارة الأنطولوجية إلى ثلاثة أقسام على النحو التالي: أ. المادة (الشيء) : هذه الاستعارة تصور لنا المفاهيم الانتزاعية عبر المادة، نحو "خذ العتاب"؛ ب. الظرف: في هذه الاستعارة، تعتبر المفاهيم أوعية ذات حدود، نحو: "نام في جهله"؛ ج. التشخيص: «هذه الاستعارات تسمح لنا بفهم عدد كبير ومتنوع من التجارب المتعلقة بكيانات غير بشرية عن طريق الحوافز والخصائص والأنشطة البشرية» (المصدر نفسه، ص 51)، نحو: "شاخ الكلام". الشاعر استخدم الاستعارات الأنطولوجية لكي يبين حالاته الروحية، والخوف من المستقبل، والخوف من الفقدان. ونحن في هذا القسم من المقال، سندرس كيفية تصوير هذه المفاهيم الانتزاعية لدى البدري عبر استخدامه لهذه الاستعارة. 3ـ1ـ2ـ1. الاستعارة الأنطولوجية ـ المادة (الشيء)من الصعب استيعاب المفاهيم الانتزاعية، إذا لم يتم تصويرها كمفاهيم فيزيائية. إن الوسيلة الوحيدة لإعطاء المعنى للمفاهيم الانتزاعية، أن ينظر الإنسان لها بإطار المادة وما هو بشري. فبهذه الطريقة، تكسب هذه المفاهيم لدينا سلطة تفسيرية. «الاستعارة الأنطولوجية ـ المادة ـ كونت وحدة معرفية، فهي تتضمن كيفية رؤية الكاتب إلى مجال المقصد عبر صفات المادة، وهي في غاية الأهمية في تحليل النص، فكل استعارة لغوية تشير إلى جانب من جوانب الاستعارة المفهومية "المفهوم شيء"، فتم تصوير المفاهيم من خلال استعارات مترابطة كلها تشير إلى خصائص المادة» (سعدي، 2019م، ص 156). إن هذه الاستعارة لا تتناول قضايا عميقة، بل تدور حول خصائص وصفات المادة، وتتطرق إلى قضايا كالحجم والوزن و.... فهي تعتبر أقوى من الاستعارة الاتجاهية وأضعف من البنيوية؛ ولكن دراستها لا تخلو من الفائدة، فهي كغيرها من الاستعارات تخدم مجموعة محدودة من الحاجات، وهي تفتح لنا مجالاً لفهم المفاهيم الانتزاعية. في نموذج من نماذج الاستعارات الأنطولوجية، نرى البدري يتكلم عن أحواله وأموره المتقلبة قائلاً: «تسوءُ الأمورُ كثيراً، / كعادتِها / كلما اقتربَ القلبُ من حافة الأمنياتِ / لقد زل عمري عن النُذُرِ / الأبجدياتِ» (2016م، ص 107). (الإسقاط بين مجال المبدأ: المادة ومجال المقصد: الأمنيات)، إن تصور وجود الحوافي للأمنيات في هذا المقطع، جعلها تأخذ حالة الشيئية؛ لأن الحافة لا تكون إلا للأشياء المحسوسة، فالبدري صور أمنياته كشيء له حواف وكلما اقترب من هذه الحواف ساءت أموره. في هذا المقطع من القصيدة، بين الشاعر سوء أحواله وتقلب زمانه، حيث إنه كلما اقترب من أمنياته التي رسمها في خياله واجتهد لينال منها وطراً لم يحالفه الحظ. فالشاعر باستخدامه للاستعارة الانطولوجية، بين ذلك المستقبل الذي لا يرى لنفسه مكاناً فيه. يعد مفهوم الحزن واليأس من المفاهيم الشاسعة الاستعمال عند الشاعر؛ فنلاحظ أن ناصر البدري أتى بهما في إطار الاستعارة المعرفية، كقوله: «لِمَن وزع الوردُ جمرَ القُبلْ؟ / لتلكَ الوحيدة في الليلِ / تنظرُ يأتي / ولكنهُ / في خضم الأمل / بخرَ "الحوجري" عباءتَها ... / فاشتعلْ» (المصدر نفسه، ص 24). (الإسقاط بين مجال المبدأ: المادة ومجال المقصد: الأمل)، إن استعمال فعل "خضم" لمفهوم "الأمل" جعله يأخذ الحالة الشيئية، حيث إن هذا الفعل يُستعمل للمفاهيم المحسوسة، كالأكل والمال و.... فالبدري بهذا التجسيد أراد أن يجسد لنا الأمل بصورة قابلة للادراك. فإن هذه التصورات تتصل بتجاربنا، يقول لايكوف وجونسون: الأنساق الحيوية تُمقول. بما أننا كائنات عصبية، فمقولاتنا تتكون عبر تجسدنا. ويعني هذا أن المقولات التي نكونها جزءٌ من تجربتنا! إنها البنيات التي تُميز بين مظاهر من تجربتنا وتحولها إلى أنواع قابلة لأنها تُدرك. ولذلك فالمقولة ليست مسألة فكرية خالصة، تظهر بعد قيام التجربة. إنها جزء مما تنخرط فيه أجسادنا وأدمغتنا باستمرار. ليس بإمكاننا، كما تقترح بعض التقاليد المبنية على التأمل، أن "نضع أنفسنا فوق" مقولاتنا فتكون لنا تجربة غير مُمقولة وغير مبنية تصوريا (2016م، ص 56 ـ 57). البدري من الذين نرى جل تجاربه وثقافته متبلورة في شعره، فهو يعتز بثقافته وهويته العمانية. ففي هذا الشاهد، أشار لإحدى المظاهر الثقافية في بلده، ألا وهو "اللبان الحوجري". فمن هذا اللبان، قامت مدن وحضارات على مر العصور، وامتدت عبره جسور التواصل مع الحضارات القديمة. يكاد لا يخلو أي بيت عماني من اللبان نظراً لرائحته الطيبة واستخداماته الطبية. وفي مكان آخر من الديوان، يعاتب حبيبته ويرى تلك الأيام الخوالي لم تك سوى طيفاً مراً بخاطره وأن مشاعر حبيبته اتجاهه لم تك سوى ضباباً، فيطالبها بأن تقصر الحديث معه وتأخذ الملام والعتاب معها: «لا ماءكَ الجاري أريدُ / ولا لذيذَ الأمسِ طابا / فاقصرْ علي / من الحديثِ / وخذْ ملامكَ والعِتَابا» (2016م، ص 214). (الإسقاط بين مجال المبدأ: ومجال المقصد: الملامة والعتاب)، أخذ الشيء عملية تجري على الأمور الفيزيائية والمحسوسة؛ لأن الأخذ لا يتم إلا بواسطة اليد واليد لا تستطيع أخذ المفاهيم الانتزاعية، إلا أن في هذا التصوير يتم استيعاب ألم ومشاعر الشاعر عبر مفهوم المادة والشيء، وذلك عبر تركيب فعل "خُذ" والمفهوم المجرد أي "الملامة والعتاب". لقد جعل البدري التصورات والفكر كيانات مجسدة، ونعني بذلك أن «أنسقتنا التصورية وقدرتنا على التفكير مشكلة من خلال طبيعة أدمغتنا وأجسادنا وتفاعلاتنا الجسدية. لا وجود لذهن منفصل أو معزول عن الجسد ومستقل عنه، ولا وجود لتفكير مستقل عن الأجساد والأدمغة» (لایکوف وجونسون، 2016، ص 359). وها هو يقول الشاعر في موضع آخر: «يتفجرُ فيضٌ من الغيضِ في داخلي / إنما، / بهدوءِ المُلمُ بأشيائِه / أستعيد رباطة جأِشيَ / أغلقُ نافذتيْ / وأعيدُ يديْ حيثُ كانتْ!» (2016م، ص 208). (الإسقاط بين مجال المبدأ: ومجال المقصد: الغيض)، صور لنا ناصر البدري من خلال هذا الشاهد، نفسه كشخص ملم بأشيائه فهو يستاء من كل شيء حوله، فهو يرى راحته باعتزال الناس؛ ولكن هناك أشياء تضايقه دوماً وتجعل الغضب والغيض يتفجر في داخله. وفي الحقيقة، أن عملية التفجير لا تقوم إلا على الأشياء المادية؛ ولكن فهمنا للأنشطة الذهنية يصاغ استعارياً انطلاقا من الأنشطة المادية. أراد الشاعر بهذا التصوير أن يوائم ما بين تفجير المفخخة وأضرارها في الواقع وتفجير الغيض في داخله وما يتسبب له من دمار وخراب في روحه. نستنتج من الشواهد المذكورة أن البدري استعان بخصائص المادة كالوزن والحجم والمقدار والفاصلة وغيرها ليصور المفاهيم الانتزاعية، ويكسيها لباساً ملموساً، فقد استطاع أن يصور هذه المفاهيم، بحيث كانت مفهومة ومنسجمة مع فهم وإدراك الإنسان وقد وقع إثرها بشكل أقوى على خلد الإنسان. 3ـ1ـ2ـ2. الاستعارة الأنطولوجية ـ الظرففي هذه الاستعارة، نتصور أن للحالات والمقولات الانتزاعية أوعية ونستطيع أن نحشي جوفها بأشياء شتى. يمكننا أن نعبر فيها عن المفهوم من خلال خصائص وصفات المترابطة في الظرف. إن الاستعارات اللغوية التي تصور هذه المفاهيم عبر اللغة كلها راجعة إلى تلك الاستعارة المفهومية وتعد انعكاس زواياها في النص. «عندما نبني تصوراتنا للمقولات بهذه الطريقة، غالباً ما نعيها باستعمال استعارة فضائية، فننظر إليها على أنها أوعية، لها داخل وخارج وحدود. وعندما نتصور المقولات أوعية، نفرض أنسقة سلمية معقدة عليها، فنتصور بعض الأوعية ـ المقولات داخل أوعية ـ مقولات أخرى، إن تصور المقولات أوعية يحجب مقدارا هائلا من بنية المقولة. إنه يحجب النماذج النمطية التصورية، والبنيات المتدرجة للمقولات، وضبابية حدود المقولة» (لايكوف وجونسون، 2016م، ص 57 ـ 58). ومن نماذج توظيف البدري لهذه الاستعارة، نشيده حول الغربة وما يعاني فيها قائلاً: «في الغُربةِ / اجتمعَ الوحيدُ بذاتِه، / ثم افترقْ / ولقد رآها / ثم حاورَها / ولانَ ... فَلَمْ تَرِقْ» (البدري، 2016م، ص 15). في هذا الشاهد، جاء الشاعر بالتصور الحجمي وتطبيق التجربة الفيزيائية علی مفهوم الغربة الذي يُعد مفهوماً انتزاعياً. دائماً ما نرى بأن هلع وجزع الغربة يعتري الشاعر في قصائده؛ ولهذا يلجأ في شعره إلى رسم صور من الحنين والغصة التي لا تبرأ إلا بالرجوع. وهذا المقطع الذي جاء من قصيدة تحمل عنوان الغربة، جسد البدري تيهانه في الغربة وكيف أن الدنيا ضاقت به ذرعاً وكيف تكاثرت عليه الخطوب الموجعة والهموم المفظعة. فهو صور لنا الغربة كوعاء جمعت ما بين وحدته وذاته التي صورها كأنها حبيبه يرجو وصلها وهي تمتنع عليه، حيث إنهما تحاورا فشكا لها وتذلل لها وأدلى لها بحججه التي أدت به للهجران؛ ولكنها لم ترق له ولم تغفر له. ومن الأمثلة التي جسد فيها المفهوم الانتزاعي بصورة وعاء قوله: «حتى إذا أكملَ الحظ دورتَهُ/ ونامَتْ ملائكةُ الحل والعقدِ / في جهلِها / واحتفَى المستشارونَ صفا بأرجائها / واستقرَ اللصوصُ / وعاثَ الفسادُ / سَارَعَ السادنُ المتملقُ جدا إلى الشعبِ / يمتص دمَهْ!» (المصدر نفسه، ص 10). البدري من الذين إذا قرأنا أشعاره، يتبين لنا مكنون الجوى عنده، فلا شيء عنده يعدل حزنه على وطنه الذي يراه ينهار أمامه يوماً بعد يوم. يصف لنا الشاعر في هذا الشاهد الإخفاقات السياسية والأوضاع الاجتماعية السيئة في بلده، فهو استخدم التهكم في هذا المقطع، حيث إنه عبر عن مسؤولي الدولة بالملائكة. كثيراً ما نرى بأن الشاعر يستخدم هذه التهكمات عندما يتعلق الكلام عن الوطن والمسؤولين، والتي تأتي بالعلاقة الضديه. لقد وظف البدري الاستعارة المفهومية في هذا الشاهد بطريقة مبدعة، حيث إنه عبر عن الملائكة التي سبق ذكرها بأنها نائمة في الجهل، فهو رسم لنا من المفهوم الانتزاعي "الجهل" مفهوماً فيزيائيا. وصور لنا الجهل كوعاء ذي حجم وبعد، وأن الملائكة التي من وظائفها حل العقد نائمة فيه. ومن بعدها يتكلم الشاعر حول التقاليد السائدة في بلده والتي جاءت في قصيدة بعنوان "مزج": «هو ... / الخانقُ رغبَتَهُ / الغارقُ في لُجةِ العُرْفِ / السارقُ أجزاءَهُ باحترافٍ / لأنفاسِهِ انبجاسُ الرنينِ عنِ الصوتِ» (المصدر نفسه، ص 99 ـ 100). كم قتل العرف فينا من أحلام وأماني وكم ضيق علينا دنيانا التي شرحها اللّٰه لنا. فالشاعر افتتح قصيدته بضمير "هو " الغائب وأراد بذلك "أنت" القارئ الذي خنقت رغباتك ومحيت حلمك من خيالك وذلك بما نسجه العرف لك من قوانين، إنْ انسلخت من دائرتها تصبح ذلك الإنسان الذي لا يتقبله المجتمع وخاصة أهله. البدري من الذين ثاروا وأدانو تلك العادات والتقاليد السامة التي لا محل لها من الإعراب. صور لنا البدري العادات والتقاليد في هذا المقطع كالبحر الذي له وجود خارجي وله حجم، ويسحب إلى أعماقه الذين لا يتدبرون ولا يتفكرون ويأخذون نهج آبائهم مسلكاً لحياتهم. الشاعر أتى بهذا التركيب "الخانق رغبته" ليبين أن الذي يغرق في لجة العرف والتقاليد هو نفسه الذي يخنق رغبته لتعلم الحقائق لكي يغوص في عمق جهله. فأراد البدري باستخدامه للاستعارة المفهومية للعرف في هذا الشاهد، أن يلبسها لباساً ملموساً ويكسبها معنى أقوى ويقربها للأذهان. وفي نموذج آخر، ينشد البدري عن الفقد قائلاً: «تعالَي ... / لقد كَبُرَ الفقدُ / ما بينَنا ... واسْتَحالْ / عيوناً تُمزقُ أحْدَاقَ شَهْوتها» (المصدر نفسه، ص 122). لقد أنشد الشعراء القدامى والمحدثون حول البين والفراق، مما أخذ مساحة وافرة من شعرهم؛ وذلك لما ينتج الفراق من حزن وأسف. يقول ابن حزم الأندلسي في كتابه طوق الحمامة في الألفة والألاف: «وما شيء من دواهي الدنيا يعدل الافتراق، ولو سالت الأرواح به، فضلاً عن الدموع، كان قليلاً. وسمع بعض الحكماء قائلاً يقول: الفراق أخو الموت، فقال: بل الموت أخو الفراق» (2014م، ص 95). والبدري لم يكن بمعزل عن بقية الشعراء، فهو رسم أشواقه وأوجاعه في شعره. في هذا الشاهد، بين الشاعر لنا الفقدان بصورة استعارية وجاء به كمفهوم فيزيائي له حجم، حيث إنه يكبر يوماً بعد يوم، فكلما كبر هذا الفقد، زاد تألم الشاعر. إن المادة تتميز في حالتها الصلبة بشكلها وحجمها المحددين وبطبعها، إذا تعرضت للضغط والحرارة، فإن ترابط جزئياتها ينهار، وتبعاً للانصهار يزداد حجم المادة. فالبدري واءم بين تعرض المادة للضغط وتغيير حجمها والفقد الذي كلما زاد حجمه انهار صاحبه. البدري غالباً ما يوظف الاستعارة المفهومية في ديوانه لبيان حالاته العاطفية والأوضاع السيئة السائدة في بلده. وفي نموذج آخر، يرسم لنا صورة رجوع المسافر من الحزن بواسطة الاستعارة المفهومية قائلاً: «طاوع الدربَ قلبي / قريباً يعودُ المسافرُ مِن حُزنه / ما لعينيكَ لا تلتقي بشفاهي / وددتكَ يوماً شمالاً توسعت / ها أشتهيك / فعد لي ... وعُد بي / كما كنتَ / روحاً لهذا الجسد» (2016م، ص 103). فـ"الحزن" من الألفاظ التي وظفها البدري بكثرة في ديوانه وتنوع في استخدامها ما بين حزنه على وطنه وحزنه في الغربة وحزن البين والفراق .... فالبدري حريص على أن يعطي كل لفظٍ وكل معنى حقه ويبرزه بأحسن صورة؛ ومن الصور التي استخدمها البدري لإيصال المفهوم كانت الاستعارة المفهومية. يشيد ناصف زيتون بالدور الذي تؤديه الاستعارة في أي مجال من مجالاتها، ويقول: هي ليست عنصرا إضافيا أو زخرفياً، بل هي المخرج الوحيد لشيء لا ينال بغيرها ... وهي وسيلة لتجديد اللغة وبث الحياة فيها ...؛ فإذا حاول الشاعر أن يكون دقيقا، فعليه أن ينهج سبيل الاستعارة، فهي تعطي للشاعر مايشاء لخياله من خصوبة وامتياز حقيقيین (شبایک، 2005م: ص 7). فالشاعر عندما أراد أن يبين حزنه وأسفه على روحه التي فارقته وأصبح شخصاً ثانياً يملأه الحزن، لم يجد شيئاً يعبر به عن عمق حزنه سوى الاستعارة المفهومية، إذ إنه رسم للحزن مكاناً أوى إليه وآن وقت رجوعه. فهو بهذا التطبيق بين المفهوم الانتزاعي والمفهوم الفيزيائي أعطى لمفهوم "الحزن" خصوبة وامتيازاً حقيقياً. البدري في مقطع آخر من قصيدة جاءت بعنوان "مناجاة"، يرى أن الفقدان كبير وأن القلوب ضيقة: «إلهي ... / لقد كبُرَ الفقدُ / واتسعَ الجُرحُ / والقلبُ ضاقْ / أغثني برحمتك اللاترد / فإني على قاب قوسِكَ / فَرْدٌ طلاقْ» (2016م، ص 137). الشاعر في هذا الشاهد يناجي ربه، فتفيض به المشاعر ويعبر عما يجول بخاطره. فهو باستخدامه للاستعارة بين أن الفقدان كبير، وأن الجروح وسيعة، والقلوب ضيقة. فهو رسم لكل من المفاهيم الثلاثة السابقة حجما، حيث إن هذه الأحجام ازدادت ولم يعد بالشاعر تحمل كل هذا الحجم من الألم. فهو علاوة على الاستعارة استخدم التناص القرآني مع هذه الآية: «فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىª (النجم 53: 9). فالشاعر في هذا الشاهد لم يبدع في توظيفه للاستعارة المفهومية كما في بقية الديوان؛ إذ إن هذه الاستعارة تُستخدم في كلام عامة الناس؛ كقولك: "كيف حالك؟" فأرد عليك بـ"أني لست بخير، وقلبي ضائق". 3ـ1ـ2ـ3. الاستعارة الأنطولوجية_ التشخيصفي هذه الاستعارة، نستطيع فهم المعاني المجردة والمقولات عن طريق ما هو بشري؛ إذ إننا نتصور المفاهيم عبر صفات وأفعال الإنسان. وفي الحقيقة أننا لا نحيل هذه الصفات والأفعال على كائنات بشرية واقعية. «ربما تكون الاستعارات الأنطولوجية الأبدية هي تلك الاستعارات التي نخصص فيها الشيء الفيزيائي، كما لو كان شخصاً. هذه الاستعارات تسمح لنا بفهم عدد كبير ومتنوع من التجارب المتعلقة بكيانات غير بشرية عن طريق الحوافز والخصائص والأنشطة البشرية» (لايكوف وجونسون، 2009م، ص 51). إن هذه الاستعارة تختلف من جهتين عن الاستعارات التي ذكرناها سابقاً، فهي تتحلى بخصائص بشرية، وفيها حيوية وديناميکية بخلاف الاستعارات السابقة التي تتمحور على الشيئية وتأخذ صفاتها. نجد ديوان البدري حافلاً بهذه الاستعارة التي أبدع في توظيفها وإليكم نماذج من هذا المستوى: «شاخ الكلامُ / على رصيفِ حروفِه / فالحالُ مملكةٌ من الكلماتِ» (2016م، ص 38). (مجال المبدأ: الإنسان ومجال المقصد: الكلام)، تصور الشيخوخة لمفهوم الكلام جعله یتسم بصفة من صفات الإنسان. فالانسان هو الكائن الوحيد الذي يمر بهذا التغيير عبر حياته. فالبدري في هذه القصيدة التي تدعى كُنْ أنتَ، يخاطب نفسه ومخاطبيه بصيغة الأمر، ويحث على الاتكاء على النفس والتجرد من الخرافات والعادات والتقاليد والفتاوى الدينية، وينبه ألا يكونوا كالزورق الذي تلهو به المياه. الشاعر بتوظيفه مصطلح "الشيخوخة" للکلام، رسم لنا كيف أن كل كلامه وتوجيهاته أصبح كالشيخ الأعجف المهزول والموهون، الذي رُد إلى أرذل العمر ولا أحد يأخذ بنصائحه لأن العقيدة أرست مراسيها في البلد وبات السكان في يدها وأخذت زمام التعقل من الشعب. إن مقولة " الشيخوخة" مؤهلة؛ لتكون استعارة تشخيصية؛ لأن الشيخوخة مرحلة من مراحل النمو وتملك بطبيعة الحال الحركة، وهذه الفاعلية تؤهلها، لكي تكون صاحبة الفعل البشري عبر الاستعارة الأنطولوجية (التشخيص). بما أننا في التشخيص نسقط بين الإنسان والمفهوم، فآثار التشخيص وحيويته تظهر فی کیان الجملة، كما للإنسان أثر وحيوية على أرض الواقع. ففي هذا التعبير، نرى انهیـار الشيخوخة وانكسارها يخيم على النص. فالشاعر أتى بحرفي الجر "على" و"منْ" ، ورجّع على الكلمات من بعدها إيقاع الكسر، فجاء الاستواء بين الكلمات والإيقاع منسجماً. وفي نهاية المقطع، يصف حاله بمملكة من الكلمات التي شاخت وأراد بذلك تبيين ضعفه وانكساره. وفي موضع آخر من قصيدة انسحبْ، يقول البدري: «غَدَاً، عِنْدَ مَا يُعْلِنُ الخَصْمُ خُطتَهُ / والعَذَارَى تُلَيفُ أكْبَادَهُن الموَاعِيْدُ / والذل يَهْرَمُ فينا كَشَيْخِ القَبيْلَةِ / والأغْنَيَاتُ تُوضبُ ألحَانَها للرَحِيلِ مَسَاءً / عِنْدَها تَسْحَبُ الروحُ مِنا مَكَاتِيْبَها / وأولَى بِنَا، إذْ ضَوى الليلُ / أنْ نَنْسَحِبْ!» (المصدر نفسه، ص 144ـ 145). (مجال المبدأ: الإنسان ومجال المقصد: الذلُ والأغنية)، تضمن هذا الشاهد عدة استعارات تشخيصية. فالشاعر في هذه القصيدة يأمر نفسه بأن ينسحب قبل أن يشرب الغيم من أحداقه فما عادت وطنه تضمه بأكنافها مثل قبل، وأن حرثه سمل فيها وتعرت سماؤه جوعاً وأن كل شيء في بلده بات في حالة انهيار وعدم انسجام. فالبدري صور الهرم لمفهوم "الذل" والتوضيب لـ"الأغنية"، وبهذا التصوير كسا كلا من الذل والأغنية حيوية وديناميكية. وكأن "الذل" كان موجوداً منذ الأزل، فهو كبر وهرم معهم وأن الأغاني التي هي غذاء الروح باتت غير قادرة على البقاء في هذا البلد وتختار المساء لتحزم ما تبقى منها وتغادر وكأنها سجينة تخطط للهرب. والغرض من هذه الاستعارات التشخيصية هو بيان الواقع الأليم والأوضاع الحالكة في بلد الشاعر. وفي موقع آخر، يواصل البدري وصف الأوضاع السيئة السائدة في بلده قائلاً: «وغصتْ بفتوى القُضاةِ النصوصُ / وعاثَ الفسادُ / وأدركَ سادِنُها أنها أفلسَتْ، / كبرميلِ نفطٍ تعفنَ في وجهِ دولتهِ» (المصدر نفسه، ص 10). (مجال المبدأ: الإنسان ومجال المقصد: النصوص)، شن ناصر البدري هجوماً على الشرذمة المفتية بغير علم بدين اللّٰه وتروج الفتاوى وتنشر الفساد، ويعقبها موج من الجماعات التي تتبعهم من دون فكر ووعي. الشاعر وظف فعل "غصت" للنصوص وجعلها كالإنسان الذي اعترض في حلقه شيء من الماء أو الطعام وجعله غير قادر على التنفس. لقد جاء فعل "غصت" ليوائم ما بين اختناق الانسان في الحقيقة وكتم الحقائق وإحشاء جوفها بالفتاوي المزيفة. وهذا ما جعل منها استعارة تشخيصية تناسب المعنى. وفي مكان آخر، يتكلم البدري عن حظه السيء والعاثر، حيث نراه يقول: «يا أيها الحظ / من أهداكَ محبرتيْ؟ / وصفحتيْ هامشٌ يستعطفُ السطرَا» (المصدر نفسه، ص 43). (مجال المبدأ: الإنسان ومجال المقصد: الحظ)، الشاعر في هذا المقطع من القصيدة يبين أن صفحة حياته مطوية ومرمية على الهامش وصور مقولة "الحظ" كإنسان غاضب عليه وقد أساء تقدير حياته؛ لهذا نراه يتساءل من أهداه محبرته ليرسم له هذا المستقبل الشنيع؟ ولماذا رسمه له بهذه الصورة؟ في هذا المقطع، يتبين لنا أن الشاعر يثور على المعتقدات الدينية، فالحظ هو القضاء والقدر الذي كتبه اللّٰه ـ عز وجل ـ على عباده، وهو من أركان الإيمان، الذي لا يكتمل إيماننا من دون الإيمان به. إن الاستعارة التشخيصية أتاحت لنا فهم عدد كبير من التجارب المتعلقة بكيانات غير بشرية، وذلك عن طريق إسباغ صفات البشر للجماد. سعى البدري في ديوانه لا ماء في النهر إلى تصوير حالاته النفسية للمخاطب على لسان الجماد وأعطى المفاهيم حيوية وديناميكية مما جعلها أوقع على النفوس والعقول. 3ـ1ـ3. الاستعارات البنيويةالاستعارات البنيوية «تسمح لنا بأن نقوم بأكثر من وضع تصورات اتجاهية، أو الإحالة عليها، أو تكميمها ... إلخ، كما رأينا في الاستعارات الاتجاهية البسيطة والاستعارات الأنطولوجية. إنها تسمح بالإضافة إلى ذلك، باستعمال تصور جد مبنين وجد واضح في بنينة تصور آخر» (لايكوف وجونسون، 2009م، ص 81). يقول كوچش:
في هذا النوع من الاستعارة، حقل المبدأ بنية معرفية غنية نسبياً للإدراك ومعرفة حقل المقصد. بعبارة أخری، هذا وظيفة معرفية للاستعارات التي تجعل المتكلم بأن يدرك حقل (الف) استخداماً بنية حقل (ب)؛ هذا الإدراك نتيجة الانطباق المفهومي، انطباق عناصر المبدأ علی عناصر المقصد (1399ﻫ.ش، ص 62).يرى لايكوف وجانسون أن هذه الاستعارة تقرب تصورنا المفهومي إلى تجربة فيزيائية؛ ولتوضيح هذه الاستعارة، طرحا استعارة "الجدال العقلي حرب". فتسمح هذه الاستعارة لنا بفهم الجدال العقلي، وذلك باستعانة شيء نفهمه بسهولة أكثر، ألا وهو الصراع الفيزيائية. ففي المعارك الكلامية، يدافع كل من الطرفين عن رأيه ويهاجم رأي الطرف الآخر، وفي النهاية إما أن ينتصر أو يُغلب.3ـ1ـ3ـ1. استعارة «الزمان حركة»إن مقولة "الزمان" ذهنية ومن الصعب استيعاب هذه المقولة إن لم يتم الاستعانة بمفهوم ملموس ومحسوس. «لا يمكن لنا القول بأن استعارة "المكان حركة" استعارة اتجاهية، بل هي بنيوية، حيث إن تصور الزمن قد يفهم بواسطة تصور الحركة، إذاً نحن هنا بإزاء مبدأ تصوري وهو الحركة ومقصد تصوري آخر، وهو الزمن يسير في خط افتراضي له بداية ونهاية، فنرى الإظهار والإخفاء للبناء الإستعاري، حيث يتجلى الجانب البنيوي بوضوح أكثر ويختفي الجانب الفضائي خلف البناء الاستعاري» (زارع وآخرون، 2020م، ص 66). فإن مفاهيم الزمن كلها مفعمة بالنشاط والحركة، وقد لعبت هذه الاستعارة دوراً مهماً في الديوان، مما أسهمت أن تلمس المفاهيم التي استخدمها الشاعر بنان الأذهان والأرواح وتقربها للقارئ وتأخذ بيديه نحو خلد الشاعر. إليك نموذجاً تحت إطار هذه الاستعارة التي تبلور في قصيدة تدعى وطني، حيث يقول: «وطني النخلةُ / والفقرُ قفيرْ / يا ابنَ أميْ / أترع الكاسات فالليلُ قصيْر» (2016م، ص 35). (مجال المبدأ: الحركة ومجال المقصد: الزمان)، منذ أن خلق اللّٰه الليل والنهار، كان كل منهما في حركة وسيرورة إلى يومنا هذا. قال اللّٰه ـ عز وجل ـ في محكم كتابه: «وَهُوَ الذِي خَلَقَ الليْلَ وَالنهَارَ وَالشمْسَ وَالْقَمَرَ كُل فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَª (الأنبياء 21: 33)؛ فبهذه الحركة والسيرورة، نستطيع لمس وفهم مقولتي "الليل والنهار" باعتبارها مفاهيم انتزاعية. الشاعر هنا حدد مقدار الليل وأنه في حركة ولاجرم أنه سيزول ويحل مكانه النهار، فهو أراد بهذا التجسيد يبين أن الظلم زائل لامحالة وأن الحق سيحل مكانه. وفي موضع آخر، يصور لنا الشاعر الليل وقمره في حركة وسيرورة قائلاً: «قمرٌ يعانقُ نخلةً / الليلُ آخرهُ هُنا / مدت له أطرافها / في شهوةٍ / سقط الجنا» (2016م، ص 21 ـ 22). (مجال المبدأ: الحركة ومجال المقصد: الزمان)، في هذا الشاهد، صور لنا الشاعر علاقة القمر بالنخلة وأن احتضان النخلة للقمر يعتبر استعارة بنيوية وظفها الشاعر ليبين شوقه وحنينه لحبيبته. احتضان النخلة استعارة من وصال العاشق للمعشوق. ومن بعدها، يرى أن منتهى ليله ومنتهى غايته هو نيل المنى من الحبيب، فهو صور لليل بداية ونهاية وأنه في حركة وأنه وصل إلى نهاية دربه. «إن الليل والنهار من الوحدات الزمنية، من حيث دخول النهار يعني حركته ووصوله إلى نقطة في مساره يحدث استعارة "الزمن حركة" مع التصميم الحركي، وأما من جانب آخر فعند دخول النهار في قلب الليل يحدث استعارة "الزمن مكان"؛ لأن الشاعر يتصور أن الليل وعاء وتدخل فيه الشمس» (پیرانى شال وآخرون، 1399ﻫ.ش، ص 15). "الحياة" تصور تجلى كثيراً في ديوان ناصر البدري، وذلك لما جرعته الحياة من ألم ونصب. فالشاعر كانت حياته مليئة بالمواقف العصيبة التي مر بها، فهو في ديوانه صب الكثير من المفاهيم الذهنية عنده في إطار "الحياة"، ومنها قوله: «وتمضي الحياةُ / تماماً كما شاءَ قبطانُها» (2016م، ص 9). (مجال المبدأ: الحركة في البحر ومجال المقصد: الحياة)، الحياة تسير كما قدرها اللّٰه، وهي كالدرب الذي له بداية ونهاية؛ وكل منا يمشي على هذا الدرب قاصداً أحلامه. الشاعر تصور لمفهوم "الحياة" بداية ونهاية وأنها في حركة دائمة، فبدايتها الولادة ونهايتها الموت أو الاستشهاد. فمن دون هذا التصور الذي أقامه الشاعر بين المفهوم الفيزيائي والحسي، لم يكن بنا تصور الحياة، وما سيتبقى هو الهيكل الحرفي فقط! 3ـ1ـ3ـ2. استعارة «القدر دربٌ»إن الشاعر يكتب عن قلبه ومشاعره تجاه حبيبته قائلاً: «طاوع الدربَ قلبي / قريباً يعودُ المسافرُ مِن حُزنه / ما لعينيكَ لا تلتقي بشفاهي / وددتكَ يوماً شمالاً توسعت» (المصدر نفسه، ص 103). ففي هذا الشاهد، يتبين لنا أن البدري متمكن البيان ومرهف اللسان وقد استعار للقضاء والقدر، لفظة "الدرب"؛ وبذلك أتاح لنا فرصة بإقامة تصور للمفهوم الذهني "القدر" مستعينين بمفهوم فيزيائي "الدرب"، لكي نفهمها بسهولة. فالقضاء والقدر يفيضان بالحركات التي تفهم عن طريق المحسوسات في قوالب شتى، ومنها: يبكي ويضحك ويدقع وهلم جراً. هذه الاستعارة تبين لنا أن الشاعر رغم ميله وحزنه على حبيبته إلا أنه يسلم نفسه للقضاء والقدر ويرضى بما قدره اللّٰه له ويأمل برجوعها. هذه الاستعارة تلقي الضوء على مظهر الإيمان بالقضاء والقدر في ثقافة الشاعر.نستنتج أن البدري استعان بالاستعارات المفهومية لجعل المفاهيم الانتزاعية والمقولات الذهنية محسوسة وواضحة للقارئ. وعلاوة على هذا، فإن توظيف الاستعارات المفهومية في الديوان بكافة أنواعها أظهر لنا نبوغ الشاعر وبراعته، مما صار برهاناً جلياً على قدراته الفنية دلالياً وتداولياً في التناسق بين المعاني واللغة. جدول الاستعارات في ديوان لا ماء في النهر ما يلي:
إن ناصر البدري عند خلقه لهذا الديوان، فقد التمس كثيراً من الأساليب الشعرية وأتي بها بأبهى وأزكى صورة ليحكم صنعته ويجعلها تامة في التأثير ويجعل المتلقي يفهمها على حقها. والاستعارة المفهومية كانت إحدى هذه الأساليب التي اتخذها البدري في صنعته، فنراه تارة يوظف الاستعارة الاتجاهية، وتارة ينصب تركيزه على الاستعارة الأنطولوجية والاستعارة البنيوية؛ وكل ذلك ليزيد معانيه قوة ووضوحا. فالبدري قد أتى بالمعاني، وهي ذات مزية من الجمال والبيان، وكل ذلك يرجع إلى حسن صياغته للكلام ومعرفته حينما يوظف الاستعارات لكي يخدم نصه. والاستعارات الأنطولوجية من نوع المادة كانت أكثر ظهوراً بالنسبة لبقية الاستعارات، وذلك لانطوائها على خصائص إنسانية واخراجها للمعاني من الضيق وتوسعتها بامتداد النفس الإنسانية وإيصالها المعاني حرة وكاملة إلى المتلقي. والاستعارات المفهومية في هذا الديوان لم تأت تعسفاً ولا تكلفاً، مما جعل ذلك صنعة الشاعر محكمة وذا وقع أكبر على المتلقي وأضحى الديوان مفعماً بالحياة وزاخراً بالمعاني.
الخاتمة على الرغم من وجود الاستعارات المفهومية في اللغة العربية واللهجة العمانية، إلا أن بعض الاستعارات المفهومية المستخدمة في ديوان لا ماء في النهر، فريدة من نوعها، حيث يمكننا تخصيصها للشاعر. فالشاعر ناصر البدري بجانب توظيفه للاستعارات الأدبية الإبداعية، استمد من الاستعارات الشائعة والمتداولة بين عامة الناس، وذلك ليعكس تجاربه الانتزاعية بناءاً على تجارب أكثر واقعية وليقربها للأذهان بصورة بلاغية تخلب القلوب. إن الاستعارات المفهومية في الديوان عكست تجارب واهتمامات الشاعر وثقافته، وكشفت لنا عن كيفية رؤيته لمجتمعه والبيئة المحيطة به؛ لذلك من خلال وصف وشرح الاستعارات وفك الشفرات التي استخدمها الشاعر، تيسر لنا الاطلاع على افكاره ورؤيته للأمور. فالشاعر قد أورد المفاهيم الانتزاعية وتجاربه المريرة في وعاء أتاح لنا إدراكها بصورة فيزيائية ومحسوسة. ولقد توصلنا في هذا البحث إلی أن الشاعر قد استعان بالاستعارة المفهومية بكافة أنواعها البنيوية، والأنطلوجية، والاتجاهية. البدري غالباً ما وظف الاستعارة الأنطولوجية في ديوان لا ماء في النهر، كما يظهر من اسمه لبيان الأوضاع السيئة السائدة في بلده وفقدانه للأمل والشغف في الحياة. ولقد شهدنا توظيف البدري للاستعارات الاتجاهية بكثرة، مما دل ذلك على قدرة ونبوغ الشاعر في تجسيد مفاهيمه الانتزاعية وتصوراته. وفي معظم القصائد التي وردت فيها الاستعارة الاتجاهية، جاءت الاستعارات من الأعلى إلى الأسفل، ويمكن اعتبار هذا الهبوط نتيجة اشمئزاز الشاعر من سياسات الدول الإسلامية وتزلزل ثقافاتها. والاستعارات البنيوية كثيراً ما تجلت عندما شعر الشاعر بالخوف من الفقدان.
[1] .Laykov and Jansson [2]. ناصر بن محمد بن علي البدري، من مواليد عام 1973م. حصل على الدكتوراه في سياسات التطوير والإدارة، وهو ذو شخصية شاعرية وثقافية وفكرية، وله دور ثقافي واجتماعي في عمان والمجتمع العربي خاصة، وهو صاحب دار العرب للنشر والتوزيع. تنوعت دواوينه الشعرية بين العامية والفصحى، ومنها: الليل كله هلوسة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2001م؛ وملائكة الظل، لبنان، مؤسسة الانتشار العربي، 2014م. البدري لم يتوقف عند الشعر، ولكنه أيضاً كان منتجاً لأعمال تلفزيونية ذات مضامين عميقة وجادة، فكان أشهرها مسلسل توين فيلا، والمسلسلين الكرتونيين يوم ويوم، والفرقة 9. حصل البدري على عدة جوائز، منها: حصل على المركز الأول في مسابقة جامعة السلطان قابوس عام 1993م، وأيضاً حصل على المركز الأول على مستوى سلطنة عمان في مسابقة المنتدى الأدبي السادسة (ناصر البدري، د.ت).
[3]. Terence Hawkes [4]. Lakoff & Johnsen [5]. Orientational Metaphors [6]. Identify [7]. Categorize | ||||
مراجع | ||||
* القرآن الكريم. أ. العربية ابن حزم الأندلسي، علي بن أحمد بن سعيد. (2014م). طوق الحمامة في الألفة والألاف. تحقيق محمد يوسف الشيخ محمد وغريد يوسف الشيخ محمد. بيروت: دار الكتاب العربي. البدري، ناصر. (2016م). لا ماء في النهر. بيروت: دار سؤال للنشر. پیرانى شال، على؛ زهره ناعمى؛ وفاطمه خرميان. (1399ﻫ.ش). «استعارة الزمن المفهومية وتصاميمها التصورية في أشعار سعاد صباح: الشعر والنثر لك وحدك أنموذجاً». دراسات الأدب المعاصر. ع 45. ص 95 ـ 124. الجرجاني، عبد القاهر. (1988م). أسرار البلاغة. شرح محمود محمد شاكر. جدة: دار المدني. الجرجاني، علي بن عبد العزيز. (2008م). الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي. القاهرة: مكتبة لسان العرب. الحراصي، عبد اللّٰه. (2002م). دراسات في الاستعارة المفهومية. عمان: مؤسسة عمان للصحافة والأنباء والنشر والإعلان. زارع، ناصر؛ رسول بلاوي، وعلي عندليب. (2020م). «جمالية الاستعارات المفهومية في ديوان أثر الفراشة لمحمود درويش». دراسات في العلوم الإنسانية. ع 3. ص 61 ـ 79. سعدي، محمد. (2019م). «الاستعارة الانطولوجية ودلالاتها في القرآن الكريم». كلية الفقه. ع 30. ص 147 ـ 171. کرتوس، جميلة. (2011م). الاستعارة في ظل النظرية التفاعلية "لماذا تركت الحصان وحيداً " لمحمود درويش أنموذجاً. رسالة الماجستير. جامعة مولود معمري تيزي وزو. لايكوف، جورج؛ ومارك جونسون. (2009م). الاستعارات التي نحيا بها. ترجمة عبد المجيد جحفة. الدار البيضاء: دار توبقال للنشر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــ . (2016م). الفلسفة في الجسد؛ الذهن المتجسد وتحديه للفكر الغربي. ترجمة عبد المجيد جحفة. بنغازي: دار الكتاب الجديد المتحدة. لمجادي، سورية. (2010م). دلالات الاستعارة في شعر محمد عفيفي مطر. رسالة الماجستير. جامعة وهران. محمد شبايك، عيد. (2005م). الاستعارة في الدرس المعاصر "وجهات نظر عربية وغربية". القاهرة: دار حراء للنشر. هوکس، تيرنس. (2016م). الاستعارة. ترجمة عمرو زكريا عبد اللّٰه. القاهرة: المركز القومي للترجمة.
ب. الفارسية كوچش، زلتن. (1399ﻫ.ش). مقدمهای كاربردی بر استعاره. ترجمه ابراهيم شیرینپور. تهران: سمت. هاشمی، زهره. (1389ﻫ.ش). «نظريه استعاره مفهومی از ديدگاه لیکاف و جانسون». ادب پژوهی. ش 12. ص 119 ـ 140.
ج. المواقع الإلكترونية «ناصر البدري». (د.ت). | ||||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 732 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 347 |