تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,673 |
تعداد مقالات | 13,654 |
تعداد مشاهده مقاله | 31,576,096 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 12,474,171 |
نظرية الأفعال الكلامية في آيات الأحكام الزواج أنموذجا | ||
بحوث في اللغة العربية | ||
مقاله 2، دوره 15، شماره 29، دی 2023، صفحه 1-20 اصل مقاله (1.2 M) | ||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | ||
شناسه دیجیتال (DOI): 10.22108/rall.2023.135926.1442 | ||
نویسندگان | ||
زهرا آقاجاني علي شاه1؛ انسيه خزعلي2 | ||
1طالبة الدكتوراه في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الزهراء، طهران، إيران | ||
2أستاذة في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الزهراء، طهران، إيران | ||
چکیده | ||
فتحت التداولية آفاقا واسعة جديدة عبر دراسة استعمال اللغة وعلاقتها بمستعمليها في سياقات محدّدة. وتنحدر منها نظرية الأفعال الكلامية التي تعدّ من أبرز نظريات الفلسفة اللغوية التي أرسى دعائمها أوستن في العشرينيات، وهي تعادل قضية الخبر والإنشاء لدى العلماء العرب. ومن هنا، جاء البحث بالاعتماد على المنهج الوصفي ـ التحليلي، لمعالجة الأبعاد التداولية في الآيات المرتبطة بالزواج. وتبرز أهمية الموضوع في أنّ استيعاب الخطاب القرآني يفتقر إلى منهج یتناول اللغة باعتبار المتكلم والمخاطب والمقام. وأهم ما توصّل إليه البحث أنّ الأفعال الكلامية توزّعت بين المباشرة وغير المباشرة، إلا أنّ الأولى المتمثلة في الأمر والنهي، احتلّت نسبة كبرى من الآيات المدروسة؛ لاعتبار الزواج وما يرتبط به حُكما وتشريعا إلهيا ذا أهمية قصوى في الإسلام، فلا بدّ أن يكون الفعل الكلامي ذا قوة إنجازية تعبيرية إيحائية؛ ليدفع المتلقّي إلى الطاعة والامتثال. أما شروط الملاءمة، فهي توفرت في الأفعال الكلامية: شرط المحتوى القضوي هو الأمر بإيتاء المهر، وتحريم الزواج من أزواج الآباء وتحريم مناكحة المتصفين بالشرك رجالا ونساء حتى يؤمنوا، وعدم التصريح بخطبة المرأة المعتدّة، والأمر بإقامة العدل عند تعدد الزواج وغيرها. وهذه الأفعال مطلوبة من المسلمين والمؤمنين رجالا ونساء؛ أما الشرط التمهيدي فهو تحقق لدى المخاطبين؛ لكونهم قادرين على إنجاز الأفعال المطلوبة، والمتكلم على يقين من قدراتهم. وشرط الإخلاص بديهي تحققّه؛ لأنّ اللّٰه لا ينطق عن لغو وهوى، فيريد حقا من المخاطبين أن يمتثلوا أوامره ونواهيه. والشرط الأساسي تحقق في إرادته التأثير فيهم؛ لينجزوا الأفعال المحدّدة. والفعل التأثيري من الواضح أن يتحقق في المجتمع الإسلامي لاسيّما عند من يلتزم بحدود اللّٰه، فيحاول تطبيق الأمور التكليفية والشرعية على حياته. | ||
کلیدواژهها | ||
القرآن الكريم؛ نظرية الأفعال الكلامية؛ آيات الأحكام؛ الزواج | ||
اصل مقاله | ||
إنّ التداولية شقّت طريقها مع فلاسفة اللغة بجامعة أكسفورد، خاصة بمحاولات جون أوستن[1] وطالبه سيرل[2]، حيث ركّزت على الاستعمال العملي للغة وفتحت آفاقا جديدة أمام الدرس اللساني المعاصر، لاسيّما وأنها عملت على إعادة الاعتبارات والملابسات الخارجية للغة من خلال تبيين المحاور المختلفة كالإشاريات والاستلزام الحواري ونظرية الأفعال الكلامية بتصنيفاتها المختلفة، حيث احتلّت الأخيرة نسبة كبرى من الدراسات الحديثة؛ فاهتم بها العلماء والباحثون المعاصرون وحاولوا تطبيقها على النصوص المختلفة، لاسيما على القرآن الكريم، باعتباره يركّز على المتكلم والمخاطب والكلام كأهمّ عناصره كما هي الحال في التداولية. ومع أنّ التداولية منهج لساني حديث، إلا أنّ لها جذورا في التراث العربي، خاصة في قضية الخبر والإنشاء، والتي تعادل نظرية الأفعال الكلامية عند أوستن، حيث فصّل العلماء الحديث عنها في مؤلفاتهم مع الاهتمام ببعض المصطلحات التداولية كمبدأ القصد والسياق والمتكلم والمخاطب عند سيبويه، ونظرية النظم عند الجرجاني في ربط الألفاظ بالمعاني ومقاصد المتكلمين، ومراعاة حال المخاطبين أو مطابقة الكلام لمقتضى الحال في البلاغة، ... إلخ، مما يدلّ على أنّ القدامى وخاصة الأصوليين كانوا على إلمام بالدروس التداولية بمصطلحاتهم الخاصة، كالمعاني الصريحة والضمنية، والمنطوق والمفهوم، والدلالة الوضعية أو المجازية، مما يعادل الأفعال الكلامية المباشرة وغير المباشرة؛ وفضلا عن ذلك، لم يركّز اهتمامهم على البنيات التركيبية والعلاقات الداخلية فحسب، وإنما قاموا باستنباط الأحكام الشرعية من خلال الاهتمام بجميع جوانب اللغة، كما هي الحال في التداولية. 1ـ1. أسباب اختيار الموضوع أما أسباب اختيار الموضوع، فهي ترجع إلى أنّ القرآن الكريم بحاجة إلى مزيد من الجهود اللسانية لاسيّما التداولية للكشف عن جوانبه الخفية، وإبراز إعجازه للبشرية والحيلولة دون تهميشه في الدراسات المعاصرة، كما يعزو السبب في اختيار الموضوع إلى أنّ أحكام الزواج الواردة في الخطاب القرآني لم تُدرس دراسة تداولية إلا ما ندر. فمن هذا المنطلق، يسعى البحث إلى تبيين ودراسة الأسباب اللسانية والتداولية في تشريع الأحكام والكشف عن كيفية الوصول إلى الوجوب أو الحرمة أو الإكراه أو الاستحباب في الأحكام المرتبطة بالزواج، خلال المؤشرات اللغوية الكامنة في الآيات الكريمة. 1ـ2. أهمية البحث وضرورته تتجلى أهمية البحث وضرورته في أنّ الفهم الدقيق للخطاب القرآني لا يقتصر على التحليلات الصرفية والنحوية، ولا يكون استيعاب الآيات بمعزل عن السياقات المقامية، بل إنّه يفتقر إلى منهج يتجاوز تلك الحدود اللغوية المنحصرة في القواعد والمعاني إلى فهم اللغة باعتبار المتكلم والمخاطب والخطاب والمقام.
1ـ3. أهداف البحث من الأهداف التي يتوخّاها البحث، هو: استثمار التداولية ودروسها، خاصة نظرية الأفعال الكلامية في آيات الأحكام المرتبطة بالزواج، والكشف عن مقاصد المتكلم ومدى تأثيره في المخاطبين والمخاطبات ومدى ملاءمة الأفعال الكلامية لمقتضى الحال من خلال المؤشرات اللغوية الكامنة في الخطاب. 1ـ4. أسئلة البحث يحاول البحث بالاعتماد على المنهج الوصفي ـ التحليلي والاستناد إلى المنهج التداولي، الإجابة عن السؤال الآتي: كيف تجلّت الأفعال الكلامية في آيات الأحكام المتعلّقة بالزواج؟ 1ـ5. خلفية البحث ثمة دراسات قريبة من البحث، قامت بتطبيق الدروس التداولية في الأحاديث النبوية ونهج البلاغة والسور القرآنية، كسورة البقرة وآل عمران والكهف ومريم ولقمان والحجر وغيرها، إلا أنه لم يُعثر على دراسات مكتملة في آيات الأحكام، منها: رسالة الماجستير تحت عنوان أفعال الكلام في نهج البلاغة للإمام علي رضي اللّٰه عنه: دراسة تداولية، لأحلام صولح (2012م). تناولت فيها الباحثة الأفعال الكلامية في خطب الإمام علي (g) ـ 12 خطبة ـ بالتركيز على المرسل والمرسل إليه وموضوع الرسالة والقناة؛ عرضت في كل خطبة أصناف الأفعال الكلامية المتواجدة فيها ضمن الجداول، دون أن تتطرق إلى الشرح والتوضيح. رسالة الماجستير تحت عنوان بررسی کنشهای امری در آیات احکام قرآن کریم بر اساس نظریه کنشگفتار آستین (1962م) وسرل (1979م) (=دراسة الأفعال التوجيهية (الأمر) في آيات الأحكام في القرآن الكريم وفق نظرية الأفعال الكلامية لأوستن (1962م) وسيرل (1979م))، لرقية باج (1396ﻫ.ش)؛ تحاول الباحثة دراسة الأفعال التوجيهية الأمرية، المتمثلة في آيات الأحكام (خمسمئة آية) وفق نظرية الأفعال الكلامية عند أوستن وسيرل؛ وذلك بالاعتماد على ترجمة فولادوند وكتاب احكام قرآنى لخزائلي وتفسير الميزان، وتفسير نمونه، ...إلخ. تنطوي الدراسة على جداول تندرج فيها السورة ورقمها والقوى الإنجازية المباشرة وغير المباشرة للأمريات، إلا أنها لم تعالج الأحكام من المنظور التداولي كما يجب؛ فقد اقتصرت على الإشارة إلى الأفعال الكلامية المباشرة وغير المباشرة مع ترجمة الآيات. أطروحة تحت عنوان الأفعال الكلامية في القرآن الكريم (سورة البقرة): دراسة تداولية (2014م)، لمحمد مدور؛ يرمي بها الباحث إلى توظيف فهم المفسرين لمعاني الأفعال المتضمنة في القول واستخدام الأداة التداولية في الكشف عن الخصائص الخطابية للنص القرآني، وتأثير المفاهيم التداولية في تحليل الخطاب القرآني. أطروحة خطاب المرأة في القرآن الكريم: دراسة تداولية (2018م)، ليحيى أحمد عبد اللّٰه صالح الأحمدي؛ يقف الباحث فيها على التداولية وخصائصها وتطبيق النظرية على خطاب المرأة ومعرفة خصائص هذا الخطاب في القرآن الكريم؛ قد نجد فيها معالجة آيات الأحكام بعضها كأحكام الإرث والطلاق، إلا أنه يقوم بتحليل الآيات المَعنية تحليلا بلاغيا ونحويا أكثر منه إلى التحليل التداولي. مقال الأفعال الكلامية لتعامل المؤمنين في القرآن الكريم في ضوء نظرية تداولية: سورة لقمان نموذجا (2020م) لعزت ملا ابراهيمي؛ تطرقت الباحثة إلى رصد الأفعال الكلامية في السورة، وفق نظرية أوستن وسيرل؛ وذلك من خلال التركيز على المرسل والمرسل إليه والسياق، وكيفية تأثير الفعل الكلامي على نفسية المتلقي، ودور الحجاج وآلياته في خلق الأساليب المؤثرة فيما يرتبط بتعامل المؤمنين. مقال الأفعال الكلامية في سورة الحجر وفق نظرية سيرل: الإخباريات نموذجا دراسة تداولية (2022م)، لرشا محسن؛ قامت فيه الباحثة بدراسة الإخباريات وفق نظرية الأفعال الكلامية في سورة الحجر، للكشف عن الأفعال الكلامية المباشرة وغير المباشرة وأغراضها الإنجازية، وذلك من خلال الإشارة إلى مقام الآية وسياقها دون التركيز على جميع الآيات الكريمة في السورة المدروسة. هذه المحاولات لم تتطرق إلى دراسة آيات الأحكام (الزواج) بشكل مستقل؛ ومن هذا المنطلق، فإنّ هذا البحث يحاول دراسة آيات الأحكام المرتبطة بالزواج من منظور نظرية الأفعال الكلامية عبر التوفيق بين تصنيف أوستن وسيرل، للكشف عن مدى اهتمام القرآن الكريم بالاستعمال العملي والتواصلي للأفعال الكلامية وإنجازيتها ودور السياق والملابسات الخارجية في فهم مقاصد المتكلم، كما يرمي البحث إلى جهود الأصوليين في التركيز على قضية الخبر والإنشاء التي تعادل نظرية الأفعال الكلامية عند أوستن وسيرل.
انتقى العلماء والباحثون العرب مصطلحات مختلفة لكلمة (Pragmatics)، منها: التداولية والذرائعية والبراجماتية، وعلم الاستعمال، وعلم التخاطب وما إلى ذلك؛ ولكن يظهر أنّ التداولية أنسب تعريب للمصطلح الإنجليزي؛ لما فيها معنى التفاعل والتواصل. وأول من استخدم مصطلح التداولية في اللغة العربية، هو طه عبد الرحمن، قائلا: «وقد وقع اختيارنا منذ 1970م على مصطلح "التداوليات" مقابلًا للمصطلح الغربي «براغماتيقا»؛ لأنه يوفي المطلوب حقه، باعتبار دلالته على معنى الاستعمال والتفاعل معا» (2000م، ص 28). 2ـ1. التداولية لغة ورد في مقاييس اللغة أنّ أصل التداولية للمعنيين: «أحدهما يدل على تحوّل شيء من مكان إلى مكان، فيقال: اندال القوم، إذا تحوّلوا من مكان إلى مكان، وكذلك تداوَلَ القومُ الشيءَ بينهم، إذا صار من بعضهم إلى بعض» (2008م، ج 2، ص 314)، كما جاء في اللسان: «الدَّوْلةُ والدُّولةُ: العُقْبة في المال والحَرْب سَواء»، و«دَالَت الأَيامُ أَي دارت، واللّٰه يُداوِلها بين الناس. وتَداوَلَتْهُ الأَيدي: أَخذته هذه مرة وهذه مرة» (1414ﻫ، ج 11، ص 252). 2ـ2. التداولية اصطلاحا تعتبر التداولية فرعا من علم اللغة، وهي حلقة وصل بين علم النفس المعرفي والفلسفة التحليلية وعلوم التواصل (صحراوي، 2005م، ص 26)، كما أنّ التداولية تتصل بالعلوم الأخرى لعلم الدلالة وتحليل الخطاب وعلم الاجتماع وغيرها؛ ونتيجة لهذا التداخل، لم يُتفق بعد على تعريف جامع ومانع. رغم كل هذا، يمكن القول: إنّ التداولية «تدرس اللغة عند استعمالها في الطبقات المقامية المختلفة، أي باعتبارها كلاما محدّدا صادرا من متكلم محدّد وموجِّها إلى مخاطب محدّد في مقام تواصلي محدّد لتحقيق غرض تواصلي محدد» (المصدر نفسه، ص 26)؛ وقد عرض محمود نحلة تعريفا موجزا للتداولية، يؤكد على تعريف صحراوي: «هو دراسة اللغة في الاستعمال أو في التواصل؛ لأنه يشير إلى أنّ المعنى ليس متأصلا في الكلمات وحدها، ولايرتبط بالمتكلم وحده، ولا السامع وحده، فصناعة المعنى هي تداول اللغة بين المتكلم والسامع في سياق محدّد (مادي، واجتماعي، ولغوي) وصولا إلى المعنى الكامن في كلام ما» (2002م، ص 14). وبهذه التعاريف، يتضح أنّ التداولية هي الاستعمال الذي يهدف إلى التواصل والتفاعل في اللغة الإنسانية عبر دراسة علاقة العلامات بمؤوليها ومفسريها ضمن الظروف والسياقات المحدّدة.
تُعدّ هذه النظرية من أهم النظريات في الفلسفة اللغوية التي أرسى دعائمها الفيلسوف اللغوي الانجليزي، جون أوستن، سنتي 1952 و1954م من خلال محاضراته، خاصة «الكلمات والأفعال». انطلقت نظريته بإحدى المسلمات الفلسفية التي أطلق عليها «المغالطة الخبرية»، مؤكّدا على أنّ ثمة مقولات تشبه الخبريه أو التقريرية، ولكن لا يقصد بها الإخبار أو وصف الواقع والتصريح بحقيقة معيّنة، كما لا يحكم عليها بمعيار الصدق والكذب، بل تحاول هذه المقولات تغيير الواقع حين النطق بها، فسمّاها «المقولات الإنجازية» أو الإنجازيات (المصدر نفسه)، التي تعادل الإنشائيات في التراث العربي. لقد تطوّرت رؤية أوستن في الأفعال الإنجازية، وقد ساقته إلى مفهوم جديد، وهو مفهوم الأعمال اللغوية التي ميّز فيها أوستن ثلاثة أنواع؛ حيث أكد على أننا حين نتفوّه بجملة ما، فإننا نقوم بثلاثة أعمال: «العمل الأول هو العمل القولي، والمراد به إطلاق الألفاظ في جمل مفيدة ذات بناء نحوي سليم وذات دلالة» (المصدر نفسه، ص 41)؛ وأما الثاني فهو العمل المتضمن في القول (الفعل الإنجازي)، الذي يتحقق بقولنا شيء محدد، وسمّاه أوستن "القوة الإنجازية" (روبول وموشلار، 2003م، ص 32)؛ والثالث هو عمل التأثير بالقول (الفعل التأثيري)، الذي يتحقق من جرّاء قولنا شيءٌ ما، أي الكلام يؤدي إلى التأثير في مشاعر المتلقي وأفكاره (المصدر نفسه، ص 31؛ صحراوي، 2005م، ص 41 ـ 42)؛ فعلى سبيل المثال: «ناولْني الکتاب»، هذه الجملة نطق بها المتكلم بأسلوب نحوي وصرفي سليم ذات دلالة ومعنى (فعل التلفظ)، يطلب بها من المخاطب مناولة الكتاب له (الفعل المتضمن في القول)، فإن تأثّر المخاطب بالفعل الكلامي، لبّى طلب المتكلم (الفعل التأثيري) بعبارة أخرى هذه الجملة فعل كلامي بصيغة الأمر، قوته الإنجازية المباشرة هي الطلب. هذا والفعل المتضمن في القول متصل بالمرسل أو المتكلم، والفعل التأثيري يمتّ بصلة إلى المرسل إليه أو المتلقي. قام سيرل بتعديل التقسيم الذي قدّمه أوستن، فيه مضاعفات مفصلة لا يسع المقال ذكرها. 3ـ1. تصنيف الأفعال الكلامية عند أوستن عمد أوستن إلى تصنيف الأفعال الكلامية على أساس ما سمّاه "قوتها الإنجازية، خمسة أصناف، منها:
يبدو أنّ هذا التصنيف لم يكتمل عند أوستن، كما صرّح به العلماء والباحثون؛ فيفتقر إلى إضفاء أفعال كلامية أخرى؛ وفضلا عن ذلك، اختلطت أفعال الحكم بالتنفيذيات، يكاد يصعب التمييز بينهما. قام سيرل بتصنيف آخر يختلف قليلا عما صنّفه أوستن كالتالي: الإخباريات، والطلبيات، والوعديات، والتعبيريات، والإعلانيات أو التصريحيات (بلانشيه، 2007م، ص 66). 3ـ2. شروط الملاءمة ثمّة شروط تتحق بها الأفعال الكلامية، أطلق عليها أوستن "شروط الملاءمة"، وحصرها في أربعة أنماط: 1ـ ينبغي أن يكون هناك إجراء عرفي مقبول، وهو يتطلب كلمات محددة من قبل أشخاص محددين في ظروف محددة. فإذا لم يوجد إجراء عرفي مقبول أو لم تنطق الكلمات بشكل صحيح أو أن يكون الشخص ليست لديه أهلية للقيام به أو تكون الظروف غير ملاءمة، لا يمكن إنجاز الفعل وأداؤه (نحلة، 2002م، ص 64)؛ 2ـ أن يكون الأشخاص مناسبين لهذا الإجراء المحدد، وأن تكون الظروف مناسبة أيضًا، وذلك عبر الأداء الصحيح والتجنب عن استعمال العبارات الغامضة وغيرها؛ 3ـ ينبغي أن يؤدي جميع المشاركين هذا الإجراء أداء صحيحا كاملا (المصدر نفسه)؛ 4ـ على المشاركين أن يتصفوا بصدق المشاعر والإخلاص في هذا الإجراء (المصدر نفسه). ولقد أضفى عليها سيرل شروطا أخرى، وهي ما يلي: «1ـ شرط المحتوى القضوي: فعل في المستقبل مطلوب من المخاطب؛ 2ـ الشرط التمهيدي: المخاطب قادر على إنجاز الفعل، والمتكلم على يقين من قدرة المخاطب على إنجاز الفعل ...؛ 3ـ الشرط الأساسي: محاولة المتكلم التأثير في المخاطب لينجز الفعل» (حجي الصرّاف، 2010م، ص 52 ـ 53؛ نحلة، 2002م، ص 74 ـ 75).
في هذا المبحث، یقوم البحث بتطبيق نظرية الأفعال الكلامية على الآيات الكريمة المرتبطة بالزواج. هذه الآيات يمكن إدراجها تحت تصنيف الحكميات عند أوستن، وتحت تصنيف الإعلانيات أو التصريحيات؛ وفضلا عن ذلك، قد تندرج هذه الآيات تحت الأفعال التوجيهية؛ لما تحمل في طياتها أمرا أو نهيا أو نداء وما إلى ذلك، وهي أفعال كلامية يهدف المتكلم من خلالها إلى إحداث تغيير في الوضع القائم بمجرد التلفظ بها، وغرضها الإنجازي هو محاولة التأثير في المخاطب ودفعه إلى إنجاز فعل ما. وإليك نماذج من الآيات الكريمة: ومن قوله تعالى في تعدد الأزواج: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَٱنْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلّا تَعُولُواª (النساء 4: 3). هذه الآية في النكاح والزواج من اليتيمات، يخاطب اللّٰه فيها الرجال مشيرا إلى أهم الأحكام، أي إنّكم «إن خفتم تزويج اليتامى ألا تقسطوا في صداقهن فتعدلوا فيه، وتبلغوا بصداقهن صدقات أمثالهن، فلا تنكحوهن؛ ولكن انكِحوا غيرهن من الغرائب اللواتي أحلّهن اللّٰه لكم وطيبهن من واحدة إلى أربع، وإن خفتم أن تجوروا إذا نكحتم من الغرائب أكثر من واحدة، فلا تعدلوا، فٱنكحوا منهن واحدة، أو ما ملكت أيمانكم» (الطبري، 1412ﻫ، ج 4، ص 155). لقد تضاربت الآراء في سبب نزول هذه الآية وتفسيرها على ستة أقوال: ـ «نزلت في اليتيمة التي تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها، ويريد أن ينكحها بدون صداق مثلها، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لها صداق مهر مثلها، وأمروا أن ينكحوا ما طاب مما سواهن من النساء إلى الأربع». ـ «إنّ الرجل منهم كان يتزوج الأربع والخمس والست والعشر ويقول ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان فإذا فنى ماله مال على مال اليتيم فأنفقه، فنهاهم اللّٰه تعالى عن أن يتجاوزوا بالأربع إن خافوا على مال اليتيم وإن خافوا من الأربع أيضاً أن يقتصروا على واحدة». ـ «كانوا يشددون في أمر اليتامى ولا يشددون في النساء، ينكح أحدهم النسوة فلا يعدل بينهن، فقال اللّٰه تعالى كما تخافون ألا تعدلوا في اليتامي فخافوا في النساء، فٱنكحوا واحدة إلى الأربع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة» ـ «إن تحرجتم من ولاية اليتامى وأكل أموالهم إيمانا وتصديقا، فكذلك تحرجوا من الزنا، وٱنكحوا النكاح المباح من واحدة إلى أربع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة». ـ «إن خفتم ألا تقسطوا في اليتيمة المرباة في حجركم فٱنكحوا ما طاب لكم من النساء، مما أحل لكم من يتامى قراباتكم مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة، أو ما ملكت ايمانكم». ـ «المعنى إن كنتم تتحرجون من مؤاكلة اليتامى فٱحرجوا من جمعكم بين اليتامى، ثم لا تعدلون بينهن» (الطوسي، د.ت، ج 3، ص 103 ـ 104). ـ بنية الفعل الكلامي تتضمن هذه الآية أفعالا كلامية مباشرة وغيرمباشرة كالتالي: ـ الأمر: في العبارة «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَٱنْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَª، فعل كلامي مباشر تكمن قوته الإنجازية المباشرة في الأمر بنكاح النساء غير اليتامى خوفا من عدم إقامة العدل عند التعدد، ويستدل عليها بقرينة بنيوية هي صيغة الأمر "افعلوا"؛ لأنّ العرب الجاهلية بعضهم كان يطمع في يتامى النساء؛ إذا كانت ذات مال وجمال، فيتزوج منها، ويخلط أمواله بأموالها، فعندما كان ينتهي مالها، يتركها بلا مال وبلا مأوى، ثم يتزوج من أخرى (الآلوسي، 1415ﻫ، ج 2، ص 400). مما جدير ذكره، أنّ صيغة الأمر عند الأصوليين تدلّ أصلا على طلب الفعل على سبيل العلو والاستعلاء، وقد تخرج عن الدلالة الأصلية إلى دلالات خارجة عن إطار الجملة، كالإرشاد والتهديد والوعيد والوعد والتهكّم، ... إلخ، كما أنها تتفاوت دلالتها بين الوجوب والحرمة والإباحة والكراهة، وغير ذلك. وما يحدّد نوع الأحكام المستنبطة من الآية، هو تطبيق القاعدة الكلية على الحكم، أي «كل أمر يفيد وجوب المأمور به على المكلف» (جلال، د.ت، ص 30). ـ النهي / التحذير: فعلان كلاميان غير مباشرين. يخاطب اللّٰه سبحانه أولئك الذين لم يراعوا حق اليتامى في النساء، فوقعوا في الظلم؛ حيث إنهم تزوّجوا من اليتامى طمعا في مالهنّ وجمالهنّ، ثم تركوهنّ بلا صداق وبلا مأوى. فلم يحاولوا إعطاء حقوقهنّ كما يجب؛ مما يدل على ذلك هو: أسباب نزول الآية الكريمة والظروف السائدة في عصر النبي (2). فنهاهم اللّٰه بهذه الآية الكريمة ألا ينكحوا اليتامى إن أحسّوا بأنهم لا يقدرون على إعطاء حقوقهنّ، كما أمرهم أن يختاروا من النساء دون اليتامى مثنى وثلاث ورباع إن أقاموا العدل والإنصاف بينهنّ، وإلّا يجب أن يكتفوا بالزواج من واحدة أو ما ملكت أيمانهم. ليس المقصود بالعدل هنا الأمور المادية فحسب، وإنما يكون في المعاملة الطيّبة والمعاشرة الزوجية أيضا؛ كما قال صاحب جامع لأحكام القرآن في العدل: إنه «يكون: في الميل، والمحبة، والجماع، والعشرة ...» (القرطبي، 1364 ﻫ.ش، ج 5، ص 20). ـ التنبيه / التوجيه / الوعظ: تتضمن العبارة مجموعة من الأفعال الكلامية غير المباشرة، ويمكن القول إنها موجّهة إلى من لم يقع في هذا الإثم الكبير، فلم يظلم النساء اليتامى، واللّٰه يريد أن ينبّهه على أنه إن أراد أن يتزوج من اليتامى، فيعتريه الخوف من الظلم وعدم الإقساط، فعليه أن يختار من النساء ما طاب له مثنى وثلاث ورباع. فالقوة الإنجازية غير الحرفية تتجلّى في التنبيه والتوجيه والوعظ للمخاطبين في ذلك العصر والعصر الراهن؛ وهكذا يلاحَظ إعجاز القرآن الكريم أنه لا يقتصر على عصر وزمان خاص، وإنما يتجاوز عن حدوده إلى عصرنا هذا؛ ليهدي الناس إلى طريق الرشد والهدى. وأما العبارة «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْª، فهي تتضمن أفعالا كلامية غير مباشرة كما مرّ في العبارة المسبقة. وأما الفعل الكلامي المباشر، فهو يعادل مصطلح المنطوق عند الأصوليين، مما يوحي لنا تداولية الفكر الأصولي في التراث العربي؛ فقد دلّت الآية بمنطوقها على المعاني التالية: أ. إباحة الزواج وحلّه ومشروعيته عند اللّٰه.
ج. الاكتفاء بزوجة واحدة أو ما ملكت أيمانهم عند خوف الظلم والجور وعدم إقامة العدل. كما صرّح بذلك عبد الوهاب خلاف في كتابه: «يفهم من عبارة هذا النص ثلاثة معان: إباحة ما طاب من النساء، وتحديد أقصى عدد الزوجات بأربع، وإيجاب الاقتصار على واحدة إذا خيف الجور حال تعدد الزوجات؛ لأنّ كل هذه المعاني تدل عليها ألفاظ النص دلالة ظاهرة، وكلها مقصودة من سياقه، ولكن المعنى الأول مقصود تبعا، والثاني والثالث مقصودان أصالة» (1996م، ص 137). والفعل الكلامي غير المباشر الذي يعادل المفهوم في أصول الفقه، كالتالي: أ. تحريم الزواج من اليتامى عند الخوف من الظلم والجور وعدم العدالة. ب. النهي وتحريم الجمع بين أربع النساء عند الظلم والجور وعدم العدالة. ويكون الحكم المستنبط حسب مفهوم الشرط كالتالي: إباحة الزواج من الأربع بشرط إقامة العدل؛ لأنّ العدل في الحقوق الزوجية فرض وواجب، لكنّ التعدد ليس بفرض. ولتقوية الأفعال الكلامية في الآية، وردت في القرآن الكريم مجموعة من المؤشرات اللغوية، منها: أ. التكرار: يلاحَظ أنّ أسلوب الشرط يتكرر في الآية: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَٱنْكِحُوا ما طابَ لَكُم مِنَ النّساءِª و«فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْª؛ للتذكير وتنبيه الغافلين وتأكيد وتثبيت الحكم وتمكينه في نفوس المخاطبين؛ حتى يشعروا بمدى أهمية إقامة العدل بين اليتامى أو غيرهنّ من النساء، وإلّا كان يمكن أن يجمع اللّٰه مسألتين في عبارة واحدة. ب. التذييل: ومن المؤشرات اللغوية الأخرى الجملة التذييلية «ذلِكَ أَدْنى أَلّا تَعُولُواª، بمعنى أنّه «أحقّ وأعون على أن لا تعولوا ... فيكون قوله: أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا في معنى قوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا، فيفيد زيادة تأكيد كراهية الجور» (ابن عاشور، د.ت، ج 4، ص 21)؛ إذن إنّ هذه الجملة جاءت لتأكيد الحكم السابق وتثبيته عند المخاطبين؛ ليعرفوا مدى أهمية الأمر. مما جدير ذكره الآن أنّ المفسرين المختلفين تضاربت آراؤهم فيما يرتبط بمعنى «ألّا تعولوا»؛ فهو يعني «ألّا تفتقروا أو ألّا تظلموا أو ألا تُكثروا عيالكم». وإن أخذنا المعنى الثالث، يكون كناية عن الجور والظلم؛ إذ إنّ كثرة العيال يؤدي إلى الميل إلى الجور. ولتعديل القوة الإنجازية، استخدمت أداة الشرط "إن" في المعنى المحتمل الوقوع والمشكوك في حصوله، أي الخوف؛ فهو حالة قد يحدث لشخص ما دون الآخر؛ لذلك تمّ اختيار "إنْ" دون "إذا"، التي «تكون للمقطوع بحصوله وللكثير الوقع» (السامرائي، 2010م، ج 4، ص 61)؛ وفضلا عن ذلك، وظّف في الخطاب القرآني إيجاز الحذف؛ فحذف الفعل في قراءة النصب لكلمة "واحدة" بتقدير فعل "انكحوا"، مناسبة للأمر الذي سبق. وفي هذه القراءة، زيادة الفائدة أكثر من غيرها؛ إذ إنّ الأمر يتكرر وذلك للتأكيد على أهمية وضرورة الاكتفاء بالزوجة الواحدة إن خيف الظلم والجور في حال التعدّد. فالحذف هنا يوحي لنا فصاحة القرآن وبلاغته؛ فهو استطاع به أن يُشعر المخاطبين بالطاعة وقبول الحكم الصادر عن السلطة الإلهية. ـ شروط الملاءمة يؤكّد سيرل على أهم الشروط التي لا بد من توافرها في الفعل الكلامي لتكون العملية التواصلية ناجحة وإلا يعتريها الإخفاق والفشل. واستنادا على ذلك، يمكن القول إنّ هذه الشروط توافرت في الآية الكريمة كالتالي: شرط المحتوى القضوي هو الأمر بنكاح النساء غير اليتامى إن لم يقسطوا، وكذلك نكاح النساء واحدة منهن إن خافوا من الظلم. وهذه الأفعال مطلوبة من المخاطبين في المستقبل من قبل اللّٰه، ويتوافر ذلك وفق الشرط التمهيدي، وهو أن يكون المخاطبون قادرين على إنجاز الفعل المطلوب، والمتكلم على يقين من قدراتهم على إنجاز الفعل المحدّد؛ لأنّ المتكلم هو اللّٰه خالق البشر؛ فإنه يعلم ما يسرّون وما يعلنون. أما شرط الإخلاص والشرط الأساسي ـ وهما مرتبطان بالمتكلم ـ فيما يرتبط باللّٰه، فمن البديهي أن يتحققا؛ فلا غرو أنّه تعالى يريد التأثير في المخاطبين؛ لكي يمتثلوا أوامره في هذا الحكم الشرعي. ومن قوله تعالى في الصَّداق (المهر): «وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاًª (النساء 4: 4). هذه الآية تشير إلى إيتاء مهور النساء، إلّا أنّ ثمّةَ خلافًا بين العلماء فيمن يوجّه الخطاب إليه: ـ القول الأول: «إنّ هذا خطاب لأولياء النساء، وذلك لأنّ العرب كانت في الجاهلية لا تعطي النساء من مهورهن شيئا؛ ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت: هنيئا لك النافجة، ومعناه أنك تأخذ مهرها إبلًا فتضمها إلى إبلك فتنفج مالك، أي تعظمه، وقال ابن الأعرابي: النافجة ما يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته، فنهى اللّٰه عن ذلك، وأمر بدفع الحق إلى أهله» (فخر الرازي، 1420ﻫ، ج 9، ص 491). ـ القول الثاني: «إنّ الخطاب للأزواج أمروا بإيتاء النساء مهورهن ...؛ لأنه لا ذكر للأولياء هاهنا، وما قبل هذا خطاب للناكحين وهم الأزواج» (المصدر نفسه). ويشير ابن عاشور إلى أنّ الخطاب موجّه إلى عموم الأمّة من الأزواج والأولياء وولاة الأمور قائلا: والمقصود بالخطاب ابتداء هم الأزواج، لكيلا يتذرّعوا بحياء النساء وضعفهنّ وطلبهنّ مرضاتهم إلى غمص حقوقهنّ في أكل مهورهنّ، أو يجعلوا حاجتهنّ للتزوّج لأجل إيجاد كافل لهنّ ذريعة لإسقاط المهر في النكاح، فهذا ما يمكن في أكل مهورهنّ، وإلّا فلهنّ أولياء يطالبون الأزواج بتعيين المهور، ولكن دون الوصول إلى ولاة الأمور متاعب وكلف قد يملّها صاحب بالحقّ فيترك طلبه، وخاصّة النساء ذوات الأزواج (د.ت، ج 4، ص 21). وبناء على ما سبق، أنه يمكن القول إنّ الخطاب موجّه إلى الأزواج أكثر من غيرهم؛ ومردّ ذلك العبارة التي تليها: «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاًª. ـ بنية الفعل الكلامي تتمظهر الأفعال الكلامية المباشرة وغير المباشرة فيما يلي: ـ الأمر: فعل كلامي مباشر في العبارة «وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةًª هو الأمر على سبيل العلوّ والاستعلاء، وتدلّ عليه قرينة بنيوية، أي صيغة الأمر، فتتجلّى قوتها الإنجازية المباشرة التي تُدرك مقاليا في إيتاء النساء مهورهنّ. وبما أنّ هذا الفعل الكلامي صادر عن السلطة ربّ العالمين، فالمخاطب مأمور بالطاعة وامتثال ما أمره تعالى من إيتاء المهر. ولتقوية القوة الإنجازية، وردت كلمة "نَحلة"، فيها تأكيد على وجوب إيتاء النساء مهورهنّ، حيث يصرّح به صاحب تفسير آلاء الرحمن مشيرا إلى «أنّ الوجه في إعطاء الصداق هو انتفاع الزوجة به وليس هو مجرد وسيلة لاستخلاصها ممن يلي أمرها كثمن الشاة مثلا» (1420ﻫ، ج 2، ص 11)؛ وفضلا عن ذلك، جاءت الجملة: «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاًª، مما يدلّ على أنّ الأمر هنا يقتضيه وجوب إيتاء المهر، أي وجوب الامتثال فيما يتعلّق دفع المهر للمرأة. أما الفعل الكلامي في العبارة: «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوه هَنِيئاً مَرِيئاًª، فقوته الإنجازية المباشرة في الأمر، تدلّ عليها قرينة بنيوية، أي صيغة الأمر، وما يستلزم مقاميا هو إجازة التصرف في المهر وإباحته، كما يشاء الزوج إن وهبت المرأة وسمحت له. هذا، ويدلّ منطوق الآية على التالي: أ. وجوب إيتاء النساء مهورهنّ، فلايجوز للزوج أن يمتنع من دفع المهر ويأكله ظلما وجورا.
أما الأفعال الكلامية غير المباشرة، فهي كالتالي: ـ النهي والردع: فعل كلامي غير مباشر يُدرك مقاميا؛ حيث ينهى اللّٰه الأزواج عن ظلم الزوجات، فيما يرتبط بإيتاء مهورهنّ، وكذلك فيه ردع عن العادة الجاهلية التي كان الزوج يدفع المهر لوليّ المرأة، وهو يأكله ظلما وجورا، ويشير النجفي في تفسيره إلى معنى الردع أيضا (المصدر نفسه). ـ الإباحة: وهو فعل كلامي غير مباشر يمكن استيعابه من العبارة: «كُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاًª، فإن رضين بإعطاء المهر عن طيب الخاطر دون عسر وحرج، فمباحٌ لكم أن تأكلوه وتستفيدوا منه دون أي مانع؛ فيمكن القول: إنّ في الأمر هنا استعارة، والأكل جاء بمعنى الاستفادة، حيث يشير صاحب التحرير والتنوير إلى أنّ «الأكل هنا في معنى الانتفاع الذي لا رجوع فيه لصاحب الشيء المنتفع به، أي في معنى تمام التملّك. وأصل الأكل في كلامهم يستعار للاستيلاء على مال الغير استيلاء لا رجوع فيه؛ لأنّ الأكل أشدّ أنواع الانتفاع حائلا بين الشيء وبين رجوعه إلى مستحقّه؛ ولكنّه أطلق هنا على الانتفاع لأجل المشاكلة» (د.ت، ج 4، ص 24). وبالتالي يشير المفهوم إلى ما يلي: أ. النهي وتحريم عدم إيتاء النساء مهورهنّ، على سبيل العلو والاستعلاء؛ إذ إنّ الفعل الكلامي صادر عن السلطة أي اللّٰه، فيجب الامتثال لما أمر ونهى عنه. ب. منع الانتفاع بمهورهنّ، إن لم يرضين بعطائها عن طيب الخاطر؛ فلهنّ الخيار في أخذ المهر أو سماحه. وثمّة مؤشرات لغوية جاءت في الآية الكريمة لتقوية القوة الإنجازية في الفعلين الكلاميين، منها: أ. العدول من (العطاء / الإعطاء) إلى (الإيتاء): فالأول فيه معنى التفضّل والإكرام؛ والثاني يعني الوجوب والالتزام، مما يوحي إلى أنّ إيتاء المهر فريضة لازمة، فلا بد من الالتزام بدفعه بالمعروف، خلافا للعطاء؛ فقد يعطي الشخص شيئا من المال كرما وجودا وقد لا يعطي بخسا وبخلا. وبناء على ذلك، فإنّ صيغة الأمر ومادة "الإيتاء" من أبرز الداعمات اللغوية لتقوية القوة الإنجازية (وجوب الأمر) في الفعل الكلامي المتمثل في «وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةًª. ب. العدول من (الهبة / العطية) إلى (النحلة): وفيها تأكيد على وجوب إيتاء النساء مهورهنّ؛ لأنّ «الهبة لا تكون واجبة والنحلة تكون واجبة وغير واجبة، وأصلها العطية من غير معارضة، ومنه النحلة الديانة لأنها كالنحلة التي هي العطية»؛ وبعبارة أخرى، النحلة تدلّ على«ما يعطيه الانسان بطيب نفس» أو «أن تعطيه بلا استعراض ومنه قولهم نحل الوالد ولده» (العسكري، 1400ﻫ، ص 612). وبالإضافة إلى ذلك تحمل النحلة معنى الفريضة والشريعة، مما يؤكد على وجوب إيتاء المهر بلا شكّ كأنّها دين وشريعة ومذهب يجب الالتزام بها. ج. الإضافة: يلاحظ أنّ لفظ "صدقات" أضيفَ إلى الضمير "هنّ" دون (هم)؛ ليُشعر اللّٰه أنّ الصداق مختصّ بهنّ كحقّ شرعي ومنسوب إليهنّ، فلا يكون كعطية مجانية؛ فالإضافة هنا من أبرز المؤشرات اللغوية لوجوب الأمر (إيتاء المهر للمرأة)؛ وبناء على ذلك، يشير صاحب تفسير الفرقان إلى أنّ «في إضافة الصدقات إليهن لمحة أخرى بذلك الاختصاص، فلم يقل "صدقاتكم" كيلا يخيل إليهم أنها تجاف عن حقوق لهم دونما بديل كسائر الصدقات، وإنما "صدقاتهن" الخاصة بهن كحق أصيل في حقل الزواج، وليست بديلة عن البضع» (1365ﻫ.ش، ج 6، ص 210). ـ شروط الملاءمة يبدو أنّ شروط الملاءمة المتمثلة في الفعلين الكلامين توفرّت كالتالي: شرط المحتوى القضوي بديهي لدى المتكلم تعالى؛ لأنه يريد فعلا من المخاطبين لينجزوه في المستقبل عاجلا أو آجلا، هو إيتاء النساء مهورهنّ كعطية لازمة دون أي منٍّ وأذى، وكذلك انتفاع الرجال بمهورهنّ، إن رضين بعطائهن عن طيب الخاطر بدون أي حرج وإكراه. أما الشرط التمهيدي، فهو قد يتحقق لدى المخاطبين بشرط أن يكون حدّ المهر على قدر الاستطاعة يتمكّن الزوج من إيتائه الزوجة؛ فلا يصح المغالاة فيه؛ لأنّ اللّٰه أمر الناس بالاقتصاد وعدم المغالاة في المهور للنهي الشديد عن التبذير والإسراف؛ ليكون الزواج زواجا مباركا سهلا بأقل تكلفة. ويتمثّل شرط الإخلاص في أنّ المتكلم، أي اللّٰه جادّ في إنجاز الفعل، وهذا الشرط بديهي لا ريب فيه؛ فيريد حقا من المخاطبين أن يعملوا بما أمرهم؛ أما الشرط الأساسي فهو يتمثل في توجيه المخاطبين ومحاولة التأثير فيهم؛ لينجزوا الفعل المطلوب، فيلاحظ أنه توفّر في الآية الكريمة من خلال المؤشرات اللغوية تقوية القوة الإنجازية في الفعل الكلامي. ومنه قوله تعالى في عدم التصريح بخطبة النساء: «وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللّٰه أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّٰه يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّٰه غَفُورٌ حَلِيمٌª (البقرة 1: 235) والآية باعتبار ما سلف من ذكر العدة والنساء الموظفات بها في الآية الكريمة (234) إشارة إلى أنه لا يجوز التصريح بالنكاح للمرأة المعتدة إن كان الطلاق بائنا؛ ولكنه إن كان طلاقا رجعيا، فلا يجوز التعرض لها بكل لون؛ لأنها بحكم الزوجة أمّا البائنة، فإنه يجوز التلويح لها، كقوله لها: «إننى في حاجة إلى امرأة من وصفها كذا وكذا بما ينطبق عليها»، كما يجوز له الإكنان في نفسه، فلا يُمنَع أن ينوي في ضميره أنّ فلانة إذا انتهت عدتها فإنه يتزوجها (كرمي حويزي، 1402ﻫ، ج 1، ص 313)، إلا أنه لا يجوز من مواعدتهن سرّا في فترة العدّة؛ فالاختلاء بها مظنة للريبة والكلام بصراحة معها خيانة؛ إذ إنه يؤدي إلى ارتكاب المعاصي (المصدر نفسه). وبناء على ذلك، فإنّ الآية فعل كلامي كلي موجّهٌ لجميع الناس وخاصة لمن يريد الزواج من المعتدّة، تتضمن قوته الإنجازية في تحريم الزواج من النساء والتصريح به قبل انقضاء العدّة. ـ بنية الفعل الكلامي تتضمن العبارة الكريمة «وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْª أفعالا كلامية مباشرة وغير مباشرة كالإخبار والنهي أو الزجر كالتالي: ـ الإخبار: فعل كلامي مباشر، إن ما اعتبرنا العبارة موجهّةً إلى المخاطب الجاهل وخالي الذهن؛ إذ إنّ الأصل في الخبر أن يُلقى لغرض إفادة المخاطب الحكمَ الذي لم يكن يعرفه قطّ؛ فعلى هذا الأساس يمكن، اعتبار بعض الناس أنهم ليس لديهم علم بتحريم الزواج في العدّة، فيخبرهم اللّٰه أنّه لا ذنب لهم إن قاموا بتعريض خطبة النساء دون التصريح به لهنّ أو إكنان الزواج في قلوبهم قبل انتهاء فترة العدّة. ـ الإباحة: فعل كلامي غير مباشر في العبارة السالفة ذكرها، أي أنه يبوح ويجوز لكم التعريض بالخطبة أو إكنان الزواج في أنفسكم قبل انتهاء العدّة. ـ الزجر والنهي: فعل كلامي غير مباشر ورد في العبارة، أي نهى اللّٰه الزواج من المرأة المعتّدة والتصريح به قبل مضي فترة العدّة اجتنابا عن التورط في المعاصي والزنا، كما صّرح به محمد مدور في أطروحته مشيرا إلى أنّ العرب كانوا يتسابقون إلى خطبة النساء ومواعدتهنّ بالزواج قبل انتهاء العدّة؛ وهكذا بينّت الشريعة تحريم ذلك (2014م، ص 253). تتضمن العبارة الكريمة «وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاًª فعلا كلاميا مباشرا، أي النهي عن مواعدة النساء المعتدات في السرّ والخلوة خوفا من الوقوع فيما يستهجن. فثمّة آراء مختلفة في تفسير معنى "سرًّا"؛ فيقال: إنه بمعنى السرّ أو بمعنى النكاح، أي لا تواعدوهنّ نكاحا؛ والسرّ هنا «كناية عن النكاح الذي هو الوطء»، كما أشار إليه صاحب الكشّاف (1407ﻫ، ج 1، ص 282). من الملاحظ أنّ العبارة تتضمن أسلوب الاستثناء المنقطع ـ لاتواعدوهنّ الزواج سرًّا إلا قولا معروفا ـ مما يقوم بتقوية الفعل الكلامي (النهي)؛ لكيلا يواعد الرجل بالنكاح المرأةَ المعتدّة في السرّ إلا أن تكون المواعدة بالتعريض والتلويح ابتعادا عن الوقوع في العصيان. وقوله تعالى: «وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُª فعل كلامي تكمن قوته الإنجازية المباشرة في النهي، أي لاتقطعوا بأمر النكاح ولاتصمموا عليه إلّا بعد مضيّ فترة العدّة. ومن المؤشرات اللغوية لتقوية النهي الصادر عن السلطة الإلهية هو انتقاء فعل "العزم" دون كلمة أخرى؛ فإنها تدل على «إرادة يقطع بها المريد رويته في الإقدام على الفعل أو الإحجام عنه ويختص بإرادة المريد لفعل نفسه؛ لأنه لا يجوز أن يعزم على فعل غيره» (العسکری، 1400ﻫ، ص 118). والآية «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّٰه يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُª تتضمن فعلين كلامين غير مباشرين هما التحذير أو التنبيه والتهديد. يلاحظ أنّ صيغة الأمر في الفعل الكلامي "اعْلَمُوا" خرجت عن دلالتها الأصلية إلى التحذير والتنبيه، فلا يأمر اللّٰه المخاطب إلى المعرفة فيما يختصّ بالعزم وغيره؛ لأنّ الحكم المقصود تبيّن فيما سبق، بل المراد أنِ اعلموا أنّ اللّٰه عليم بما في أنفسكم من العزم على عقدة النكاح قبل انقضاء العدّة، فاحذروه وتجنّبوه (الآلوسي، 1415ﻫ، ج 1، ص 545). والفعل الكلامي "فَاحْذَرُوهُ" أشد تحذيرا وتهديدا فيما يرتبط بالابتعاد عن الزواج في فترة العدّة، كما صرّح به القرطبي: «هذا نهاية التحذير من الوقوع فيما نهى عنه» (1364ﻫ.ش، ج 3، ص 196). ومن المؤشرات اللغوية لتقوية الأفعال الكلامية، ما يلاحَظ في العبارة "اعْلَمُوا" باعتبارها نتيجة ومحصّلة لما سبق ذكره ـ عدم التصريح بالخطبة في فترة العدّة ـ كأنها تأكيد على الحكم المشار إليه. والابتداء بصيغة الأمر ومادة العلم يوحي للمتلقي مدى القطع والجزم في الحكم الشرعي، حيث لا يمكن التساهل فيه أبدا، كما أشار صاحب التحرير والتنوير إليه قائلا: «ابتدئ الخطاب باعلموا لما أريد قطع هواجس التساهل والتأول في هذا الشأن؛ ليأتي الناس ما شرع اللّٰه لهم عن صفاء سريرة من كل دخل وحيلة» (د.ت، ج 2، ص 435). ومن المؤشرات الأخرى لتقوية الفعل الكلامي الجملة التذييلية «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّٰه غَفُورٌ حَلِيمٌª في نهاية الآية الكريمة تأكيد وتنبيه على أنّ اللّٰه غفور حليم؛ يغفر لكم ذنوبكم ويتجاوز عن سيئاتكم. ومن قوله تعالى في استبدال الزوجة: «وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً ! وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاًª (النساء 4: 20 ـ 21). والآية الكريمة تشير إلى أنّ الرجل إن أراد واشتهى تطليق الزوجة الأولى واستبدالها بأخرى بدون أي سبب وداعٍ للأمر، لاينبغي له أن يُرجع فيما آتاها من المهر والصداق وغيره، وإن أعطاها مالا كثيرا، ولايجوز له أن يأخذ منها المهر بالبهتان والتهمة؛ لأنها إثم كبير. ـ بنية الفعل الكلامي تتضمن الآية الكريمة فعلا كلاميا مباشرا، وهو النهي / التحذير: «فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاًª ورد في الآية الكريمة بأسلوب الشرط. وهو النهي الذي دلّت عليه القوة الإنجازية الحرفية والصيغة البنيوية، ومضمونه النهي عن أخذ المهر من المرأة ببهتان إن أردتم استبدالها بزوجة أخرى. أما منطوق الآية، فهو يتجلى في النهي وتحريم أخذ المهر من المرأة مهما يكن كثيرا، على سبيل العلو والاستعلاء؛ لأنّ هذا الفعل الكلامي صادر عن السلطة أي اللّٰه، فيجب الامتثال لما نهى عنه. والمفهوم إشارة إلى ما يلي: ـ النهي وتحريم أخذ المهر ولو مالا قليلا. ـ النهي وتحريم البهتان والظلم للمرأة لاسترداد المهر. ـ إباحة وجواز المغالاة في المهر. ـ إباحة وجواز الزواج من المرأة الأخرى. ولتقوية القوة الإنجازية في الفعل الكلامي (النهي)، استعان السياق القرآني بما يلي: أ. التذييل: الذي يتمثل في فعل كلامي توجيهي (الاستفهام): «أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناًª، وهو فعل كلامي تتجلى قوته الإنجازية المباشرة في السؤال وطلب الفهم والمعرفة، إلا أنه في الآية الكريمة مسوق مساق الإنكار التوبيخي، ويقصد به النهي أو التحذير والتأكيد على النهي السابق. وما يجدر ذكره، أنّ الجملة التذييلية هنا تضمنت قوة حجاجية على مضمون العبارة السابقة والتأكيد وتقرير المعنى في نفوس المخاطبين.
ج. العدول من الجملة الخبرية إلى الإنشائية: الاستراتيجية الاستفهامية هي الأكثر والأشد تأثيرا على المخاطب منه إلى الجملة الخبرية، وخاصة عندما تخرج عن غرضها الأصلى إلى معان مجازية يقتضيها مقام الخطاب. د. الوصل: تلاحظ بلاغة الوصل في الآية (20) الكريمة: «وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍª للتأكيد على شدة التنفير والتكريه في البهتان، أي «كيف يستسيغون أخذ ذلك منهنّ بعد أن تأكدت الرابطة بين الزوجين بأقوى رباط حيويّ بين البشر، ولابس كل منهما الآخر حتى صار أحدهما من الآخر بمنزلة الجزء المتمم لوجوده، فبعد أن أفضى كل منهما إلى الآخر إفضاء ولابسه ملابسة يتكون منها الولد، يقطع تلك الصلة العظيمة ويطمع في مالها وهي المظلومة الضعيفة، وهو القادر على اكتساب المال بسائر الوسائل التي هدى اللّٰه إليها البشر» (المراغي، د.ت، ج 4، ص 215 ـ 216). وبناء على ما مر ذكره، فإنّ الفعل الكلامي في الآية الكريمة يتجلى في الاستفهام الذي خرج عن دلالته الإصلية، وصارت قوته الإنجازية غير المباشرة مقاميا تتمثل في الإنكار التوبيخي والتعجّب مما فعل بعض الناس فيما يرتبط بمهر النساء ظلما وزورا. ه. المبالغة: في انتقاء لفظ «القنطار» في العبارة «وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراًª للدلالة على المال الكثير. هناك قولان في تفسير العبارة: الأول: إنها تدل على إباحة المغالاة في المهر(النيسابوري، 1416ﻫ، ج 2، ص 377)؛ والثاني: «ذكر إيتاء القنطار وارد على سبيل المبالغة والفرض لا الرخصة» (المصدر نفسه). يبدو أنه قد يجوز المغالاة في المهر بشرط إمكانية الرجل وتمليكه المال، وإن دلّت الأحاديث والروايات على قلّة المهر للتيسير في الزواج. و. اختیار «البهتان» بدلا من «الزور / الكذب»: فالكذب يطلق على «الخبر الذي لا مخبر له على ما هو به، وهو يكون في إنكار وغير إنكار»؛ أما الزور فهو «الكذب الذي قد سوي وحسن في الظاهر ليحسب أنه صدق»؛ لكنّ البهتان هو «الباطل الذي يُتَحَيَّرُ من بُطْلانه» (العسكري، 1400ﻫ، ص 37 ـ 38). فالبهتان أكثر وأقوى دلالة من غيرها؛ لما تحمل في طيّاتها الكذب والزور والحيرة والتعجّب أيضا. ـ شروط الملاءمة في هذه الآية، ارتبط شرط المحتوى القضوي بفعل في المستقبل مطلوب من المخاطب هو: عدم إرجاع المهر وأخذه من المرأة ببهتان وحجّة واهية؛ ويقوي هذا المحتوى الشرطُ التمهيدي في كون المخاطبين، وهو المسلمون والمؤمنون ـ قادرين على إنجاز الفعل المطلوب. والمتكلم اللّٰه على يقين أنهم يتمكّنون من إنجاز الفعل المحدّد. ويتأكّد الفعل الطلبي «فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاًª بشرط الإخلاص لدى المتكلم باعتباره يريد حقّا أن ينجز المخاطب الفعل المطلوب. وهكذا يتحقق الشرط الأساسي في إرادة المتكلم وهو التأثير في المخاطب ليقوم بفعل ما. وقال اللّٰه في نكاح أزواج الآباء: «وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاًª (النساء 4: 22). وفي الآية أربعة أقوال: ـ «إنها نزلت في قوم كانوا يحلفون الآباء على نسائهم، فجاء الإسلام بتحريم ذلك، وعفا عما كان منهم في الجاهلية أن يؤاخذوا به إذا اجتنبوه في الإسلام». ـ «لا تنكحوا كنكاح آبائكم في الجاهلية على الوجه الفاسد، إلا ما سلف منكم في جاهليتكم، فإنه معفو عنه إذا كان مما يجوز الإقرار عليه». ـ «لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز، إلا ما قد سلف منهم بالزنى والسفاح، فإن نكاحهن حلال لكم؛ لأنهن لم يكنّ حلالا، وإنما كان نكاحهن فاحشة ومقتا وساء سبيلا». ـ «إلا ما قد سلف فدعوه فإنكم تؤاخذون به» (الماوردي، د.ت، ج 1، ص 468). ـ بنية الفعل الكلامي تتضمن الآية فعلا كلاميا مباشرا، النهي والتحذير؛ تدل عليه صيغة النهي "لا تَنْكِحُوا"، أي لا تتزوجوا من النساء اللاتي تزوج منهنّ آباؤكم ولا تطؤوا من وطئه آباؤكم؛ لكن ما قد حدث فيما سبق عفا اللّٰه عنه. ولتقوية الفعل الكلامي، استعان السياق القرآني بفعل كلامي مباشر (الإخبار): «إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاًª، تتمثل قوته الإنجازية غير المباشرة في الذمّ، وخاصة إنه جملة تعليلية وجواب لسؤال مقدر، وكذلك جاء فعل كلامي مباشر «ساءَ سَبِيلاًª الذي يتجلى في الذمّ؛ بعبارة أخرى، جاءت جملتان تذييليتان إيذانا بأنّ هذا النوع من الزواج لَمقت وفاحشة كبيرة لا تُغفر. يتجلى المنطوق في النهي وتحريم الزواج من اللاتي نكحهنّ الآباء، ويتمثل المفهوم في الزواج من غير أزواج الآباء احتراما لهم واجتنابا من المقت والقبح. ـ شروط الملاءمة شرط المحتوى القضوي هو النهي عن الزواج من أزواج الآباء، إلا ما قد سلف في الجاهلية معفو عنه. وهذا الفعل مطلوب من المسلمين والمؤمنين في المستقبل، ويتأسس ذلك وفق الشرط التمهيدي باعتبار المخاطبين قادرين على إنجازه، واللّٰه كونه متكلما على يقين أنهم قادرون على إنجاز الفعل المطلوب، ويتأكد ذلك مع شرط الإخلاص. أما الشرط الأساسي فهو تحقق في إرادة المتكلم التأثير في المخاطبين لينجزوا الفعل المطلوب. والمخاطبون هم المسؤولون عن إحداث المطابقة بين العالَم والقول. وبناء على ما سبق، يمكن القول إنّ هذه الشروط توافرت في الآية الكريمة؛ لتكون العملية التواصلية ناجحة. ومن قوله تعالى في عدم الزواج من المشركين والمشركات: «وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّٰه يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَª (البقرة 1: 221). وهناك قولان في سبب نزول الآية الكريمة: ـ الأول: إنها نزلت في أبي مرثد الغنوي الذي استأذن رسول اللّٰه (2) أن يتزوج من مشركة كانت ذات حظ كثير من الجمال؛ لأنه كان معجبا بها، فأنزل اللّٰه هذه الآية (السيوطي، 1416ﻫ، ج 1، ص 256)، ونهى بها عن مناكحة المشركات والمشركين إلا أن يؤمنوا؛ ـ والثاني: «إنّ عبد اللّٰه بن رَواحة كانت له أمة سوداء، غضب عليها فلطمها، ثم فزع، فأتى النبيّ، فأخبره خبرها؛ فقال له النبي: «وما هي يا عبد اللّٰه»؟ فقال: يا رسول اللّٰه، هي تصوم وتصلّي وتحسن الوضوء، وتشهد أنّ لا إله إلّا اللّٰه، وأنك رسول اللّٰه، فقال: «يا عبد اللّٰه، هذه مؤمنة». فقال: والذي بعثك بالحق لأعتقنّها ولأتزوّجنّها ففعل، فعابه ناس من المسلمين، وقالوا: أنكح أمة، وكانوا يرغبون في نكاح المشركات رغبة في أحسابهن، فنزلت هذه الآية» (ابن الجوزي، 1422ﻫ، ج 1، ص 187). ـ بنية الفعل الكلامي الآية المباركة موجّهة إلى فريقين من الناس: الرجال والنساء؛ وأما العبارات الموجهّة للفريقين، فهي تضمنت مجموعة من الأفعال الكلامية المباشرة وغير المباشرة، منها ما يلي: ـ النهي / التحريم / التحذير: فعل كلامي مباشر تدل عليها القوة الإنجازية الحرفية بصيغة النهي: «وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّª، والنهي موجّهٌ للمسلمين والمؤمنين صادر عن السلطة ربّ العالمين على جهة العلوّ والاستعلاء، أي لا تتزوجوا النساء المشركات والكافرات حتى يؤمنّ باللّٰه ورسوله؛ فيجب الامتثال لأمره تعالى. ولما لم يجز اللّٰه زواج المسلم من المشركة، كذلك لا يجوز زواج المسلمة من المشرك ولو كانت معجبة به: «وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواª؛ لأنّ هؤلاء من مغريات الحياة الدنيا وزينتها، يدعون الناس إلى نار جهنّم، ويدعو اللّٰه إلى جنّته الخالدة؛ فعلى المؤمنين والمؤمنات أن يكونوا حذرين عما يضرّهم في الآخرة. ـ الترغيب / الحثّ / التنبيه: فعل كلامي غير مباشر في قوله تعالى: «وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْª. تتضمن العبارة فعلا كلاميا مباشرا: الإخبار، يدل عليه سياق الكلام، ولكن تكمن في طياتها أفعالا كلاميا غير مباشرة نستدركه مقاميا خارج نطاق الكلام، هي: التنبيه أو الحث أو الترغيب في المخالطة الشرعية وفي الزواج من أمة مؤمنة باعتبارها خيرا من مشركة وإن أُعجب بها الرجل. ولتقوية الفعل الكلامي، وردت في العبارة جملة اسمية مع لام الابتدائية المؤكدة؛ لتفيد أنّ الأمة المملوكة أفضل وأشرف من المشركة الحرّة الجميلة. يشير صاحب التحرير والتنوير إلى أنّ هذا الفعل الكلامي «تنبيه على دناءة المشركات وتحذير من تزوجهن ومن الاغترار بما يكون للمشركة من حسب أو جمال أو مال وهذه طرائق الإعجاب في المرأة المبالغ عليه بقوله: وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ وأن من لم يستطع تزوج حرة مؤمنة، فليتزوج أمة مؤمنة خير له من أن يتزوج حرة مشركة» (ابن عاشور، د.ت، ج 2، ص 345). وكذلك الحال فيما يرتبط بعبد مملوك مؤمن: «وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْª. وكذلك قوله تعالى: «وَاللّٰه يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِª يكمن فيه فعل كلامي غير مباشر، هو الحث والترغيب في طاعة اللّٰه وحسن امتثاله فيما يرتبط بحرمة الزواج من المشركين والمشركات؛ لأنّ اللّٰه يدعو الناس إلى منافع أخروية تسوقهم إلى الجنة والمغفرة، بيد أنّ الزواج من المشركين والمشركات فيه منافع دنيوية تبعدهم عن الجنة؛ لأنهم لا يوحدون اللّٰه ولا يؤمنون بالرسل، وبالتالي يصبح الشقاق والمسافة بينهم وبين المسلمين في الدين بعيدا للغاية، فلا يجمعهم شيء يتفقون عليه؛ لذلك فإنّ اللّٰه لا يبيح مخالطتهم بالزواج (ابن عاشور، د.ت، ج 2، ص 344). ومعنى الدعاء إلى النار ـ كما صرّح به ابن عاشور ـ هو الدعاء إلى أسبابها، فإسناد الدعاء إليهم حقيقة عقلية، ولفظ النار مجاز مرسل أطلق على أسباب الدخول إلى النار؛ لكنّ الزواج حبّ ومودّة بين المؤمن والمؤمنة؛ فإنّ كليهما تتضافر جهودهما في استمرار الحياة الزوجية بأمن وسلام (المصدر نفسه، ج 2، ص 344)، وكذلك قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَª فعل كلامي غير مباشر يسعى إلى ترغيب الناس في امتثال الحكم الإلهي، وذلك من خلال التذكر واكتساب العلم والمعرفة. ـ التحذير / التنبيه: يتضمن قوله تعالى: «أولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِª فعلا كلاميا مباشرا هو الإخبار، ويتضمن فعلا كلاميا غير مباشر يستلزمه مقاميا، أي التحذير والتنبيه؛ ليكون المؤمنون والمؤمنات على حذر من المشركين والمؤمنات، لكيلا يسوقوهم إلى النار؛ لأنهم المتصفون بالشرك رجالا ونساءً يدعون من يعاشرهم إلى ما يؤدي به إلى النار، واللّٰه يدعو عباده إلى ما يوصلهم إلى الجنة والمغفرة بإذنه. ـ التقرير: فعل كلامي غير مباشر في قوله تعالى: «وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِª؛ لتقرير وتبيين الحكم الوارد في الآية الكريمة. ويدل منطوق الآية الكريمة على التالي: ـ تحريم زواج المسلمين من المشركات، ولو كانوا معجبين بهنّ إلا أن يؤمنّ باللّٰه والرسل. ـ تحريم زواج المسلمات من المشركين، ولو أعجبن بهم إلا أن يوحدّوا اللّٰه ويؤمنوا باللّٰه والرسل. أما مفهوم المخالفة، فهو يدل على انتفاء الحكم بنفي الغاية، أي حرمة مناكحة المشركين والمشركات إلى أن يعتنقوا الإسلام ويؤمنوا باللّٰه والرسول؛ لأنّ "حتّى" هنا تفيد الغاية. وتأسيسا على ذلك، يكون المفهوم كالتالي: ـ إباحة زواج المسلمين من المشركات بعد أن آمنَّ باللّٰه ورسله. ـ إباحة زواج المسلمات من المشركين بعد أن آمنوا باللّٰه والرسل. ومن المؤشرات الموجودة لتقوية الفعل الكلامي، استعان بها السياق القرآني توظيف الجمل التعليلية؛ للتأكيد على الحكم الشرعي "حرمة الزواج من المشركين والمشركات"، جاء قوله تعالى: «وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْª، و«وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْª؛ إذ إنهما تعليل للنهى عن مواصلة المتصفين بالشرك رجالا ونساء ومعاشرتهم، والترغيب فى مواصلة المؤمنين والمؤمنات ومخالطتهم. واقتران المبتدأ بلام الابتداء الشبيهة إفادة التأكيد ومبالغة في الانزجار (أبو السعود، د.ت، ج 1، ص 220)؛ وكذلك العبارتان «أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِª، و«وَاللّٰه يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِª تعليل وإشعار بأنّ مخالطتهم ومعاشرتهم يؤدي بالمؤمنين والمؤمنات إلى النار، بيد أنّ اللّٰه يدعو عباده إلى التوبة والمغفرة المؤدية إلى الجنّة الخالدة.
الخاتمة قام البحث بدراسة ظاهرة الأفعال الكلامية المتجلية في الآيات المرتبطة بأحكام الزواج كتعدد الأزواج، وإيتاء المهر، وعدم التصريح بخطبة المرأة المعتدّة، وعدم الزواج من أزواج الآباء، وعدم مناكحة المشركين والمشركات. ولم يعتمد البحث في التحليل التداولي على الأدوات التداولية فحسب، بل عوّل على النحو والصرف والبلاغة وخاصة الفقه وأسباب النزول. وبعد استخراج وتحليل الأفعال الكلامية وقوتها الإنجازية، توصّل البحث إلى جملة من نتائج: ـ توزّعت الأفعال الكلامية في الآيات المرتبطة بأحكام الزواج بين الأفعال الكلامية المباشرة وغير المباشرة، إلا أنّ الأولى احتلّت نسبة كبرى في الآيات المدروسة في البحث؛ ويعزو السبب فيها إلى أنّ الزواج حُكم وتشريع إلهي ذو أهمّية قصوى في الإسلام، فيقتضي المقام أن تكون الأفعال الكلامية المباشرة أكثر استعمالا في الخطاب القرآني. ـ ومن الأفعال الكلامية المباشرة التي وردت أكثر توظيفا، هي الأفعال التوجيهية المتمثلة في فعلين: الأمر والنهي؛ لما لهما قوة وتأثير أقوى في نفوس المخاطبين، لصريح الدلالة وخاصة أنهما صادران عن اللّٰه، ولاسيما الزواج وما يرتبط به يعتبر من الأمور ذات الأهمية الكبرى؛ ولذلك لا غرو أن يكون الفعل الكلامي ذا قوة إنجازية شديدة، ليدفع المتلقي إلى امتثال أمر المتكلم. ـ يبدو أنّ الآيات المرتبطة بالأحكام يمكن إدراجها تحت تصنيف الحكميات عند أوستن، والتي تتمثل في الأحكام المختلفة التي يصدرها القاضي أو الحاكم، كما هو الحال في الآيات الكريمة الصادرة عن رب العالمين. أما عند سيرل فهي تندرج تحت الإعلانيات أو التصريحيات؛ وقد تندرج هذه الآيات تحت الأفعال التوجيهية؛ لما تحمل في طياتها أمرا أو نهيا أو نداء ... إلخ، وهي أفعال كلامية انتقاها اللّٰه بهدف إحداث تغيير في الوضع القائم، ليؤثر في نفس المخاطب حتى ينجز فعلا مطلوبا في المستقبل، وتكون القوة الإنجازية أو درجة الشدة مختلفة وفقا لأهمية الفعل الكلامي. ـ لقد توفّرت شروط الملاءمة في الأفعال الكلامية المرتبطة بالزواج، وخاصة أنها صادرة عن ربّ العالمين، فيجب امتثال أوامره، كما تحققت الشروط عبر المؤشرات اللغوية التي عملت على تقوية القوة الإنجازية في الأفعال الكلامية، مما أدى إلى نجاح العملية التخاطبية بين المتكلم والمخاطب، كالتالي: شرط المحتوى القضوي في الآيات الكريمة هو الأمر بإيتاء المهر، وتحريم الزواج من أزواج الآباء وتحريم مناكحة المتصفين بالشرك رجالا ونساء حتى يؤمنوا، وعدم التصريح بخطبة المرأة المعتدّة، والأمر بإقامة العدل فيما يرتبط بتعدد الزواج وما إلى ذلك. وهذه الأفعال مطلوبة من المسلمين والمؤمنين رجالا ونساء في المستقبل أكانت عاجلة أم آجلة؛ أما الشرط التمهيدي، فهو قد تحقق لدى المخاطبين؛ لكونهم قادرين على إنجاز الأفعال المطلوبة المحدّدة، والمتكلم على يقين من قدراتهم على إنجازها. وتأكد ذلك مع شرط الإخلاص، وهو بديهي تحققّه؛ فإنّ اللّٰه جادّ في إنجاز هذه الأفعال، فلا يتحدث عن لغو وعبث، وبالتالي يريد حقا من المخاطبين أن يمتثلوا ما أمرهم به وما نهاهم عنه. أما الشرط الأساسي، فهو تحقق في إرادة المتكلم التأثير في المخاطبين لينجزوا الأفعال المحدّدة. والمخاطبون هم المسؤولون عن إحداث المطابقة بين العالَم والقول. ـ أما الفعل الناتج عن القول (الفعل التأثيري)، فهو يظهر أثره في خضوع المؤمنين الصادقين لأوامر اللّٰه، وامتثالهم لها فيما يتعلق بإقامة العدل بين الأزواج، وإيتاء النساء مهورهنّ، وعدم التصريح بخطبة المرأة المعتدّة، ... إلخ؛ فمن الواضح أن يتحقق هذا الفعل في المجتمع الإسلامي خاصة عند المؤمنين المخلصين الذين يلتزمون بما أمره اللّٰه، محاولين تطبيق الأمور التكليفية والشرعية على حياتهم اليومية.
[2]. John Searle | ||
مراجع | ||
* القرآن الكريم. أ. العربية ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي. (1422ﻫ). زاد المسير في علم التفسير. بيروت: دار الكتاب العربي. ابن عاشور، محمّد الطاهر بن محمد. (د.ت). التّحرير والتّنوير. بيروت: مؤسسة التاريخ. ابن فارس، أبو الحسين أحمد بن فارس. (2007م). معجم مقاييس اللغة. بيروت: دار إحياء التراث العربي. ابن منظور، محمّد بن مكرم. (د.ت). لسان العرب. ط 3. بيروت: دار صادر. أبو السعود، محمد بن محمد. (د.ت). إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم. بيروت: دار إحياء التراث العربي. الأحمدي، يحيى أحمد عبد اللّٰه صالح. (2018م). خطاب المرأة في القرآن الكريم: دراسة تداولية. أطروحة الدكتوراه. جامعة النيلين. كلية الآداب قسم اللغة العربية. الآلوسي، أبو الثناء شهاب الدين محمود. (1415ﻫ). روح المعاني في تفسير القرآن العظيم. بيروت: دار الكتب العلمية. أوستن، جون لانكشو. (1991م). نظرية أفعال الكلام العامة كيف ننجز الأشياء بالكلام. ترجمة عبد القادر قنيني. المغرب: أفريقيا الشرق. البلاغي النجفي، محمد جواد. (1420ﻫ). آلاء الرحمن في تفسير القرآن. قم المقدسة: بنياد بعثت. بلانشيه، فيليب. (2007م). التداولية من أوستن إلى غوفمان. ترجمة صابر الحباشة. دمشق: دار الحوار للنشر والتوزيع. جلال، محمد سعاد. (د.ت). مقدمة في التعريف بعلم أصول الفقه والفقه. د.م: مطبوعات الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية. حجي الصرّاف، علي محمود. (2010م). في البراجماتية، الأفعال الإنجازية في العربية المعاصرة: دراسة دلالية ومعجم سياقي. القاهرة: مكتبة الآداب. خلاف، عبد الوهاب. (1996م). علم أصول الفقه وخلاصة تاريخ التشريع الإسلامي. القاهرة: دار الفكر العربي. روبول، آن؛ وجاك موشلار. (2003م). التداولية اليوم علم جديد في التواصل. ترجمة سيف الدين دغفوس ومحمد الشيباني. بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر. الزمخشري، جار اللّٰه محمود بن عمر. (1407ﻫ). الكشّاف عن حقائق غوامض التّنزيل. ط 3. بيروت: دار الكتاب العربي. السامرائي، فاضل صالح. (2019م). معاني النحو. قم المقدسة: مؤسسة الصادق للطباعة والنشر. السّيوطي، جلال الدّين عبد الرحمن بن أبي بكر. (1416ﻫ). تفسير الجلالين. بيروت: مؤسسة النور للمطبوعات. الصادقي الطهراني، محمد. (1365ﻫ.ش). الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن. ط 2. قم: الثقافة الإسلامية. صحراوي، مسعود. (2005م). التداولية عند علماء العرب تداولية لظاهرة الأفعال الكلامية في التراث اللساني العربي. بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر. صولح، أحلام. (2012م). أفعال الكلام في نهج البلاغة للإمام علي رضي اللّٰه عنه: دراسة تداولية. رسالة الماجستير. جامعة الحاج لخضر باتنه. الطبري، عبد الرحمن بن أبي بكر. (1412ﻫ). جامع البيان في تفسير القرآن. ط 2. بيروت: دار المعرفة. الطوسي، أبو جعفر محمد بن الحسن. (د.ت). التبيان في تفسير القرآن. بيروت: دار إحياء التراث العربي. عبد الرحمن، طه. (2000م). في أصول الحوار وتجديد علم الكلام. ط 2. بيروت: المركز الثقافي العربي. فخر الرازي، أبو عبد اللّٰه محمد بن عمر. (1420ﻫ). مفاتيح الغيب. ط 2. بيروت: دار إحياء التراث العربي. القرطبي، محمد بن أحمد. (1364ﻫ.ش). الجامع لأحكام القرآن. طهران: ناصر خسرو. كرمي حويزي، محمد. (1402ﻫ). التفسير لكتاب اللّٰه المنير. قم: المطبعة العلمية. الماوردي، علي بن محمد. (د.ت). النكت والعيون. بيروت: دار الكتب العلمية. محسن، رشا. (2022م). «الأفعال الكلامية في سورة الحجر وفق نظرية سيرل: الإخباريات نموذجا ـ دراسة تداولية». مجلة اللغة العربية وآدابها. ع 3. ص 405 ـ 420. مدور، محمد. (2014م). الأفعال الكلامية في القرآن الكريم (سورة البقرة): دراسة تداولية. أطروحة الدكتوراة. جامعة الحاج لخضر باتنه. المراغي، أحمد بن مصطفى. (د.ت). تفسير المراغي. بيروت: دار إحياء التراث العربي. ملا ابراهيمى، عزت. (2021م). «الأفعال الكلامية لتعامل المؤمنين في القرآن الكريم في ضوء نظرية تداولية: سورة لقمان نموذجا». بحوث في اللغة العربية. ع 24. ص 52 ـ 74. نحلة، محمود أحمد. (2002م). آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر. د.م: دار المعرفة الجامعية. النيسابوري، نظام الدين حسن بن محمّد. (1416ﻫ). تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان. بيروت: دار الكتب العلمية.
ب. الفارسية باج، رقيه. (1396ﻫ.ش). بررسى كنشهاى امرى در آيات احكام قرآن كريم بر اساس نظريه كنش گفتار آستین (1962) و سرل (1979). كارشناسى ارشد، دانشگاه سیستان و بلوچستان، دانشکده زبانهای خارجه. | ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 1,199 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 571 |