تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,682 |
تعداد مقالات | 13,774 |
تعداد مشاهده مقاله | 32,263,904 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 12,763,530 |
المعجم الذهني والصوغ القياسي بين العامية والفصحى | ||||||||||
بحوث في اللغة العربية | ||||||||||
مقاله 12، دوره 14، شماره 26، تیر 2022، صفحه 153-170 اصل مقاله (1019.5 K) | ||||||||||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | ||||||||||
شناسه دیجیتال (DOI): 10.22108/rall.2021.121380.1261 | ||||||||||
نویسنده | ||||||||||
احمد محمود آل حسين* | ||||||||||
محاضر في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة بصرة، بصرة، العراق | ||||||||||
چکیده | ||||||||||
السليقة اللغوية حصيلة لازمة في اللهجة العامية في جميع اللغات؛ والبحث هنا يختص بالعربية. فالمعجم الذهني الذي يرتضعه الطفل، يؤدي به ذلك إلى أمية الابتعاد والانحراف والغربة تماما عن القرآن وإرث العربية أو يوقع المتعلم في البيئة المدرسية في تبعات الازدواج اللغوي الذي يجعله يكابد التصويب اللغوي في جميع مراحل التعليم. وهذا الخضوع يهدد منذرا بموت الفصحى بين طبقات مختلفة من البيئة اللغوية العربية؛ بسبب انحرافها عن الإرث اللغوي للفصحى، وعن عربية القرآن نطقا ودلالة؛ لذلك جاء التنبيه على التنشئة البيتية والإعداد المدرسي في بناء وعي لغوي سليم ينأى بالطفل عن مكابدة الازدواج اللغوي في مراحل تأهيله الثقافي، بما يغرس لديه القدرة التوليدية على المستوى الصوابي في الصوغ القياسي؛ وقد نبه البحث على الاختلاف بين العامية والفصحى على مستويات صوتية، وصرفية، ونحوية ودلالية، وأشار إلى علاقة المعجم الذهني بالقدرة التوليدية، ثم عرض إستراتيجيات تعين على استيعاب الحصيلة اللغوية، وعرض لجهود علماء العربية في بيان علاقة السليقة اللغوية بالصوغ القياسي، وختم في نتائج البحث ومقترحاته بالإشارة إلى دلالة الوعي الحضاري في العربية الفصحى، وإلى دور معطياتها في استنهاض الوعي الحضاري. | ||||||||||
کلیدواژهها | ||||||||||
المعجم الذهني؛ الصوغ القياسي؛ العامية؛ الفصحى | ||||||||||
اصل مقاله | ||||||||||
يعنى علم اللغة التطبيقي بمعالجة ظاهرة الازدواج اللغوي التي يعدها الوصفيون تطورا واقعيا، ويراها البحث خطرا لسانيا؛ لأن جميع النصوص المحلية المبنية بمفردات هجينة وغريبة وغامضة بالنسبة للغرباء عنها وبأفعال لها أصول وجذور اشتقاقية مختلفة وأدوات ذات معان محولة، فضلا عن تداخل أساليب القول وخفاء التراكيب بسبب الغموض المعجمي. كل ذلك مدعاة لتمزق اللسان إلى ملكات من اللهجات المحلية تزداد، مع تطاول الزمان والمكان، بعدا عن اللغة الأم وإغراقا في الغرابة. فيترسخ الصوغ القياسي بالعامية في جميع مناحي الكلام أصواتا وأبنية وتراكيب، على الرغم مما يظن الكثيرون أنه قد انحسر بمحاولات محو الأمية. وفي الحقيقة، لقد تفشت عامية خفية بين المثقفين على أعلى المستويات تخلفا وابتعادا عن الصواب اللغوي بتأثير عوامل الانحراف في أمية اللسان المتداول. ولكون اللغة ظاهرة اجتماعية تجري في دماء متكلميها وتنطلق من الروح الجماعية، فيكون التواصل ميدان الاستعمال، والاستعمال ميدان الوعي، والوعي ميدان الحضور. أما الثراء العقلي، فحصيلة على مستويات مختلفة على المستويين الفردي والجماعي، مما يعني أن بناء الملكة الفردية في اللغة يتجذر بشكل قهري، سلبا أو إيجابا، بحسب النسق الاجتماعي والتوجيه الثقافي في حالة الازدواجية في اللغة. 1ـ1. أسئلة البحث تكشف هذه المقاربة خطر خضوع الألسن لسنن اللهجة العامية الدارجة في بناء وترسيخ معجم ذهني يشكل قواعد توليدية لوعي لغوي ودلالي يجعل من يحمل قاموس العامية بهجنة مفرداتها، وهشاشة تراكيبها، وضعف بنيتها مناطا لازما لصوغها القياسي بوصفه السليقة اللغوية للمتكلمين. ويستشرف في البحث عن دور الإعداد البيتي والإعداد المدرسي في تصحيح الانحراف السليقي وصناعة سليقة بديلة لصوغ قياسي جديد عبر إستراتيجيات التي تعين الذهن على الاستيعاب اللغوي. 1ـ2. خلفية البحث لم يتح للباحث ـ بقدر اطلاعه المتواضع ـ الإفادة من مقاربة تقدم ربطا مباشر بين المعجم الذهني والسليقة اللغوية الأولى من جهة، وبين القدرة التوليدية التي تتضمنها ظاهرة الصوغ القياسي، غير أن هذه الظواهر بتفرقها مألوفة العرض والدرس في مباحث فقه اللغة. 1ـ3. أهداف البحث يهدف البحث إلى التنبيه على خطر الركون إلى العامية، بوصفها الداء الذي نشب في جسد العربية. وإن إهمال معالجته سوف يؤدي ـ لا محالة ـ إلى قتلها، فنحن لا نتكلم اللسان العربي المبين، بل اللسان المستعرب الهجين، وهو داء مزق كلتا وحدتي اللسان والإنسان في أمة العرب. 1ـ4. منهج البحث ينتمي هذا البحث المتواضع الى معالجات الازدواج اللغوي، وهي من مباحث فقه اللغة. وقد طرح عنواناته إشعارا بطبيعة المعالجة المعرفية لكل مبحث. فالنقش في الحجر يشير إلى البناء القبلي الذي يمثل أساس الوعي التداولي للإشارة اللغوية، خاضعة لعوامل التأثير والتأثر. أما معطيات العامية والصوغ المتداول، فيتعرض للعوامل الفاعلة في اللهجة العامية وعلاقتها بالبناء الفكري، والقدرة اللسانية. أما مبحث القدرة التوليدية والمعجم الذهني، فيحلل مفهوم عملية التوليد ودورها في صناعة المستوى الصوابي، والوعي اللغوي بالحصيلة المعجمية. أما مبحث الإستراتيجيات التي تعين الذهن على الاستيعاب اللغوي، فهو مبحث يقدم آليات تطبيقية تعين على إثراء الاستعمال اللساني، والوعي المعرفي في آن معا. ويعرض مبحث السليقة اللغوية والصوغ القياسي إلى جوهر المشكلة التي يدور حولها البحث في علاقة السليقة ومصطلحاتها بعملية الصوغ القياسي، ويحذر من عوامل الهدم في العامية التي تهدد وجود العربية. وجاء مبحث العربية والوعي الحضاري ليرفع مؤشرات الأمل في إمكانية أن يعيد أبناء العربية بوعيهم إلى أمهم ثراءها الحضاري ومجدها الأول. ولابد لكل بحث من نتائج تحصيلية أردفناها بمقترحات إثرائية.
لا يمكن التغاضي عن البناء القبلي للمتعلم؛ لأن الاقتران الأول في نفس الطفل بين اللهجة العامية التي يدرج عليها وبين هويته الأسرية بمشاعرها وتقاليدها، يجعله يستمد منها أحاسيسه بالتوازن مع محيطه وشعوره بالانتماء إلى بيئته بعاداتها وتكوينها العاطفي والروحي. وفي الحقيقة، فإن التواصل الاجتماعي هو المنبع الذي يستمد منه الطفل لبنات تعبيره عن الذات في بنى وعيه اللغوي. ويكون ذلك بحسب مدركاته هو وبمساعدة من حوله؛ لذلك تمثل اللغة في محيط الأسرة القدرة التعبيرية الواعية التي لا بد أن يتواصل جميع أفرادها فيما بينهم برموزها التداولية على الرغم من اختلاف آليات طرائق تواصلهم؛ يقول ترابلز: «نحن نفكر باللغة التي نعرفها والأولاد الصغار يفكرون بلهجتهم» (سبيني، 2001م، ص 80). إن تمييز عالم اللسانيات، فرديناند دي سوسير، بين اللغة وبين الكلام بأن اللغة ظاهرة تجريدية اجتماعية مستقرة في الذات الجماعية اللغوية تتداولها بوصفها مجموعة قواعد ومعايير للسلوك اللغوي، وأن الكلام هو الصورة العملية المتحققة لهذه اللغة بالاستعمال الفردي على ما هو عليه من خصائص شخصية تظهر بها محدودية وفرادة ذلك الاستعمال في التواصل مع الآخرين بعملية التخاطب، أي أن الكلام نشاط فردي. أما اللغة فروح جماعية؛ أقول: إن هذا التمييز أفضل عملية كشف سريري لمرض اللهجات العامية التي أصيبت بها العربية وكادت أن تُقتل به، لولا القرآن الكريم والإرث اللساني للإسلام. ففي تفريقنا بين الفصحى بوصفها الإرث الثقافي الحضاري وبين العامية بوصفها الكلام الفردي المباشر، مع الاعتذار بأنه يمثل انتقالا من التزامنية إلى التعاقبية. نرى أن متكلم العامية يجد فيها البيان الشافي لمراده، بل إن نسق الخطاب في العامية أصبح أداء تلقائيا وإفصاحا عفويا عن المشاعر الذاتية، بما يمثل كفاية لغوية يميز الخطأ فيها ويجعلها أكثر مطابقة لمقتضى الحال؛ وبذلك يظهر الفارق بينهما كالفارق بين صواب ضائع، وخطأ شائع. وما دامت البيئة حاضنة مهنية منتجه لقاموس الطفل الذهني وموجهة لنشاطه الاجتماعي، فإن كل تخطيط تربوي حتى على مستوى الأسرة يفترض فيه أن يكون تصورا واعيا إيجابيا في توجيه برامج التعليم وإعدادها، وتنفيذها؛ يقول ليبنتز: «إن اللغات أفضل مرايا للعقل الإنساني» (تشومسكي، 1993م، ص 81). ولعل الاصطلاح بـ"اللاشعور" أقرب إلى الدقة من الاصطلاح بـ"اللاوعي" في وصف الذات الإنسانية الداخلية؛ لأن في دلالة الوعي الاحتواء ولا تخلو النفس ـ بوصفها عالمة من القيم الباطنية لا يمكن تفسيرها على أسس فسيولوجية فحسب ـ من احتوائها على ما لا يمكن الشعور به، على الرغم من احتوائها عليه. وفي دلالة "الشعور" لغويا، يحلل حسن المصطفوي مادة "شَعَر" بقوله: «هو ما دق أو رق في محيط لشيء محصلا منه أو متعلقا به .... وإحساسات دقيقة للنفس وذوقيات لطيفة لها» (د.ت، ج 6، ص 89). ومن هنا يظهر الدور الخطير لاستعمال اللغة؛ لأن كل كلمة ستكون جزءا لا يتجزأ من حياة الإنسان في أول وعيه شأنها شأن عناصر الغذاء والتنفس، وآليات وظيفية كالمشي والحركة بوصفها جميعا نقشا في البنية الذاتية، أي أن النشاط الفكري والتنمية المعرفية رهن بالفعل الاجتماعي الواعي للوفاء بمتطلبات الثقافة؛ لذلك يبرز الأثر البرغماتي للكلام أو الجانب التداولي للغة في البيت والمدرسة، بوصفهما أهم فاعلين في التأهيل اللغوي ولاسيما، أننا نعيش معضلة الفجوة المعرفية بين لغة الاستعمال اليومي بالعامية الدارجة وبين لغة الكتاب والثقافة الأكاديمية التي نلتقي بها في قاعة الدرس. الإعداد المدرسي نقلة مهمة منوط بها التمييز بين تربية الحاضنة الأولى، أي الإعداد البيتي وبين حاضنة تأهيلية جديدة تتولى غرس بذور الوعي المعرفي السليم في أرض خصبة؛ وبذلك تأتي المدرسة مكملة وموجهة ومقومة للجهد الذي بدأت به الأسرة متمثلا بالبرنامج التعليمي المناسب لكل مرحلة من مراحل الإعداد المعرفي. يقول التربوي سرجيو سبيني: «إن الاعتماد على اللغة العامية واستخدامها بصورة كبيرة يدعم العنصر الشخصي على العنصر المنطقي، كما انها تحد من إمكانية التعامل والتعلم، كما تؤثر على ردود الفعل والإدراك نتيجة لهذا الاستخدام الطاغي للغة العامية» (سبيني، 2001م، ص 75). وعليه فإن معاناة الانسلاخ من العامية لغة النظام الداخلي للحياة الأولى والترجمة منها إلى نظام نصي للغة وبنية مفارقة يحتاج إلى تمثّل أحاسيس مغايرة، بقدر الفوارق بين النظامين على المستوى الدلالي والتركيبي أو على المستوى الأسلوبي والنظمي، وكلاهما اقتران رمزي ـ صوتي؛ وبذلك فجميع المؤثرات العاطفية التي اقترنت بها الإشارات الأولى ستكون مكبوتة تحت نسخة أخرى تحاول الوفاء بالترجمة عنها في التعبير. ونظرا لكون اللهجة لغة السماع الأول لتلقي الطفل بما حفزت في ذاكرته، فهي لا تختفي حتى عندما يتعلم كيف يفكر بلغة أخرى (المصدر نفسه، ص 80)؛ إذ تقترن العامية بالذاكرة طويلة المدى، فهي أقوى من اللغة المدرسية المتلقاة بذاكرة قصيرة المدى غايتها تحقيق النجاح في نهاية العام الدراسي ثم إلقائها في سلة النسيان. إن السن التي ينبغي فيها التخلص من الفجوة بين اللغة الفصحى واللهجة العامية هي بين الثانية والسابعة من عمر الطفل (المصدر نفسه، ص 76 ـ 77)؛ وذلك بإعداده لغويا؛ لذلك فمعوقات الفهم النحوي بعدئذ ترجع إلى إهمال الأسرة والمدرسة تعليم الطفل الأداء اللغوي بالجمل والعبارات المنتمية إلى اللغة الفصحى بشكل سليم. ولا يتأتى هذا إلا لأبوين نالا نصيبا من الثقافة اللغوية واعتنيا بأدائها مزدانة قدرا من النصوص التراثية، بل ينبغي أن يكونا متواصلين بها استعمالا يوميا وعاملين على توجيه الأبناء في تلقيها كذلك من برامج ثقافية مناسبة. وفي الحقيقة، تبدو علاقة العامية بالفصحى ـ كما يصورها أحد المفكرين ـ متمثلة بترجمة الأفكار في نفس صاحب اللهجة من عاميته إلى الفصحى، بما يصل أحيانا إلى ترجمة مفردات نص يضاهي ترجمة نص من لغة إلى لغة أخرى في بعض المفردات والتراكيب اللغوية، يقول: «والعامية إذا ليست صفة من صفات العربية كاللهجة؛ ولكنها لغة ثانية تعيش على حساب الفصحى وتزاحمها، احتلت مكانها على ألسن الكثيرين» (المبارك، 1979م، ص 41). وإذا تذكّرنا أن الطفل تنفتح أول مدركاته على عالمه الجديد بين أبويه، فإنه يتلقى حوارا متصلا من الأصوات والمشاعر يتفاعل معها بخضوع لا يشعر معه بأنه خضوع مرفوض؛ لأنه يتساوق مع خضوعه الفسلجي لأبويه. وبصرف النظر عن الجانب النفسي، نقرأ في فلسفة اللغة؛ فنجد المفكر، يوري ليتمان، يرى أن الفعل الأولي للفكر هو الترجمة وأن الآلية الأولية للترجمة هي الحوار؛ ويلحظ ليتمان من جانب آخر أن الطفل حتى في مهده الأول يكون «في وضعية البحث عن لغة مشتركة، كل واحد من المشتركين يحاول أن يستعمل لغة الآخر: الأم تنتج أصواتا تشبه ثغثغة رضيع، ما هو أكثر غرابة أيضا، تعبير وجه الطفل، بعد تصويرها وعرضها ببطء، تبين أنه، هو أيضا، يحاول أن يقلد تعابير أمه، أي أن يتبنى لغتها» (ليتمان، 2011م، ص 64)، أي أن التواصل بين الأطراف اللغوية تفاعل عميق عمق النفس الناطقة بإدراكاتها. وبغية بيان الأثر القاهر للبيئة اللغوية وانطلاقا من العرف اللغوي والسياق الاجتماعي للهجة العامية، سأعرض حوارا تخيلييا تستعمل فيه مفردات عامية من اللهجة البصرية بين أفراد أسرة على مرأى ومسمع من طفلين لم يبلغ أحدهما مرحلة النضج اللغوي والآخر في مرحلة المدرسة الابتدائية استدلالا على خطورة التلقي المباشر في التواصل الاجتماعي. ـ الأب (مخاطباً زوجته): جيبي التشريبْ، والخاشوكةْ، وناوشيني الخاوليْ؛ خلّي أوكّل (عبوسي). ـ الأم: أكو بزّونةْ جوّه العربانةْ بالمشّايْ ما أدري منين جايبه جلافيط، تلّفتْ الزولية خاف تلبد جوّه القنفه. ـ الأب: هاي شلون طركاعة يمته دخلت؟ هسّه أكسّحها، آنه ملتاص ومخبوص وراي كومة بلاوي، سوّي لفّه لـ"قاسم"، وحضّري جنطته. ما عنده مقطاطة رتبي، كوشته امخربط ومبرطم ماد بوزه شبرين. لا حاجة إلى ترجمة النص أعلاه؛ بلحاظ هدفين أولهما لفت نظر القارئ الكريم من غير أبناء اللهجة البصرية إلى عمق الهوة الفاصلة بين اللهجات المحلية، فيما بينها من جهة وبينها وبين العربية الفصيحة من جهة أخرى، بما يجده من غرابة في مفردات النص؛ وثانيهما لا قيمة لتفاصيله، فيما يتناوله البحث سوى أن المفردات العامية الدارجة بما فيها من لهجات محلية تشكل البيئة اللغوية التي يعايشها الطفل منذ إدراكه الأول، فيختزنها قاموسا استعماليا في جميع علاقاته الدلالية، وهو أمر لا محيص عنه؛ فيصدق قول القائل بأن: «كل طفل يحمل محفظته ويذهب إلى المدرسة ... يشكّل تحديا حقيقيا للغة أبويه وغرائزهما الكلامية» (قباني، د.ت، ص 51)، بل تحديا لغريزته الأولى هو في الكلام. أقول: إن السليقة التي يكتسبها الطفل من لهجته المحلية، تجعله يهتدي بمقياس صوابي خاص بها يحدده عرفها اللغوي؛ فإذا انتقل إلى المدرسة، فسيكون لزاما عليه ـ إذا وجد التزاما باللغة الفصحى ـ تكوين واكتساب سليقة لغوية جديدة، كما لو أنها لغة أخرى متطفلة على لهجته العامية وسيجد نفسه مطالبا بمستوى صوابي مغاير للمعيارية التي نشأ عليها، إنه يظل يعاني من عبور هوة معرفية ولا ينجح في اجتيازها، إلا حين «يقابل لهجتة باللغة القومية يجتاز الواقعية اللفظية ويدرك أن الكلمة لا تخرج عن كونها رمزا للأشياء» (سبيني، 2001م، ص 84)؛ لذلك فالتعقيد الذي يعاني منه طالب المدرسة هو في الحقيقة تجاوز لصعوبتين الأولى انسلاخه من عرفه اللغوي ودخوله في عرف لغوي آخر؛ والثانية اصطدامه ـ بعدئذٍ ـ بتعقيد في القواعد اللغوية التي صيغ به النحو العربي في مراحل متقدمة من المدرسة.
يمثل انتقال المتعلم من البيئة الشعبية باللسان العامي إلى البيئة المدرسية بغرض التعلم انتقالا من نظام معرفي يشحن القيم الأنثروبولوجية من عادات وتقاليد وسلوك اجتماعي بها الرمز اللغوي مادة استعمالية للهجة الدارجة في البيئة المحلية إلى نظام آخر مغاير من القيم المعرفية التي يكتشفها الطفل في البيئة المدرسية بوصفها نظاما للقواعد يجعل من النحو أداة جديدة للإنتاج الدلالي؛ لذلك فالفرق بين الاستعمال اللغوي للعامية وبين الاستعمال اللغوي للفصحى هو فرق بين شفاهية الخطاب العفوي وبين معيارية الخطاب النفعي. لملاحظ منها أن سليقة العامية تنشأ في الطفل من دون تكلف جهد منه، بل ترتبط بشكل وثيق بحوافز ومنبهات وروادع نفسية وسلوكية تعزز ثباتها بالاستعمال «وبما أن اللهجات تختلف في ما بينها، فلا بد أن يكون هناك احتمالات للاختلاف يسمح بها الإعداد الفطري الثابت، حيث تحل هذه الاحتمالات عن طريق التجربة، ويصدق الشيء نفسه بصورة عامة على اللغات» (تشومسكي، 1993م، ص 41). لذلك فالعامية أقرب إلى عفوية التلقي بوصفها الملكة الفاعلة الحاضرة في ميدان التداول، المحققة لغايات المقاصد بين المتواصلين من غير عناء الترجمة ومعاناة اللبس، بخلاف لغة الفصحى الرصينة الأصيلة في مفرداتها بجدّتها على من لم يتداولها، والمنهجية في تراكيبها وأقيستها النحوية والصرفية، فحين تصبح درسا واجب التكليف في المدرسة فإنها تتطلب التنبه الإرادي المقصود الذي «يحدث بصورة تامّة عندما يستقبل الطفل النتائج على هيئة مشكلات أو أسئلة يطلب حلّها بنفسه» (ديوي، 1978م، ص 140)؛ لذلك يعاني الطلبة، في الغالب، من الجديد ويصرون على طلب النمطي الذي لا يقتضيهم جهدا في التفكير، وهو ما يمثل صوغا نمطيا في القياس. إن معاناة الطفل العربي، على الرغم من عروبته، من درس العربية ولاسيما من إدراكه لأنظمتها الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية معاناة واضحة في جميع مراحل دراسته، فهو يحمل صوغا قياسيا مغايرا تماما لصوغها، وهو أمر يدركه جميع أبناء العربية في يومنا هذا كل بحسب لهجته المحلية وبقدر ابتعاد عاميتهم عن أنظمة الفصحى القياسية. ولعل ما يأتي توضيح بالأمثلة لبعض الفوارق اللغوية التي تجعل للعامية في اللهجة البصرية العراقية صوغا قياسيا مغايرا للفصحى: 1ـ الفوارق الصوتية والفونيتيكية، فمن مظاهر الفرادة اللهجية أن كل لهجة تعرب عن موطنها وبيئتها اللغوية. فاللهجة دليل صوتي نطقي على الناطقين بها، فيجري الطلبة صوغ عاميتهم على الفصحى، ولا سيما في الرسم الكتابي؛ فمعظمهم يكتب كما ينطق؛ لذلك يكتب الف المد ظاهرة في الإشاريات "هذا، وهذه، وهذان، وهؤلاء، وذلك، وكذلك، وذلكم، وأولئك"، وفي الأسماء "الرحمن، وإله، ولكن، وطه". ولا يلتفت إلى حرف الألف في الأفعال المسندة إلى ضمير الجماعة، مثل الفعل الماضي وفعل الأمر والفعل المضارع المنصوب والمجزوم ويكتب التنوين نونا. ونلحظ قديما شيوع الاستنطاء بتحويل عين أعطى الساكنة نونا، إذا جاورت الطاء ورسوخه حتى الآن نطقا في لهجة جنوب العراق، وكذلك ترك الهمز في مثل الأفعال: "أبطأ، وهنّأ، وتوضّأ، واتّكأ، وهدأ، وانكفأ"، فترد على ألسن العوام "بطا، وهنّا، وتوضّا، وانتجا، وهدا، وانجفا"، ويقلبون المد المؤتلف من الهمزة المتبوعة بالألف واوا، كما في "آسى، وآخذ، وآكل"، فيقال: "واسى، وواخذ، وواكل". أما عدم التفريق بين الضاد والظاء، وهي مشكلة قديمة، فقد أصبحت شبه معضلة بالنسبة للعامية؛ إذ إن نسبة كبيرة من الطلبة ولاسيما في اللهجة العراقية لا يميزون بين الحرفين كتابيا لعدم التفريق بينهما نطقيا، ونلحظ اختفاء التنوين من العامية والاستعاضة عنة بكلمة "فد" بمعنى "ثمة"، إلا في حكمة متداولة على نطاق محدود هي "لابو جثير مَلَكْ لا بو جليل هَلَكْ"، أي "صاحب الكثير من المال لم يبق مالكا له وصاحب القليل لم يمت جوعا"؛ 2ـ الانحراف عن بنية الصرف العربي، وهي مظاهر من الاختلاف في المباني والمغايرة في الاشتقاق بما يعاني منه الطلبة حتى في مرحلة الإعدادية، فيظهر في كتابة التعبير؛ ومن أمثلة ذلك غلبة لجوء العامية إلى جمع التكسير، مثل: "عمّال، وعلاّم، وطلاب، وجَهَلَة، وكَسَبَة، وعقّال، وأهالي ..."، أما ما يجمع جمع مذكر سالما، فيكون بالياء والنون في جميع الأحوال الإعرابية، وكثيرا ما يخلط الطلبة ما بين حرف الجر"مِنْ" والاسم الموصول "مَنْ" لعدم وجود الأخير في العامية الدارجة وخلو النصوص الكتابية من حركة الميم. وفي الحقيقة، فإن العامية لم تترك حجرا على حجر. فأداة التعريف "ال" المفتوحة في أول الكلام ترد مكسورة في العامية والضمائر: "أنا، ونحن، وأنتم، وهم" ـ على سبيل المثال لا الاستقصاء ـ جرى نسخها في العامية العراقية بـ"آنه، وإحنه، وإنتو، وهُمَّا"؛ وأسماء الإشارة "هذه، وتلك، وهؤلاء، وأولئك" صار في العامية "هاي، وذيج، وهذولي، وذكول"؛ والصيغ الفعلية "فَعَلَ، ويَفْعلُ، وافْعَلْ" أصبحت في العامية "فِعَلْ، ويِفْعلْ، وافْعلْ"؛ وصيغة المبني للمجهول استعيض عنها بصيغة انفعل وشاع إدخال "ال" الموصولية بديلا عن جميع الأسماء الموصولة "الذي، واللذان، والذين" على الأفعال، كما في المثل البصري: "التّهَدَّه ما عِثَرْ"، أي "الذي يتروى لا يزلّ"؛ وقولهم: "ماتَوِ لْيستحون"، أي "مات الذين يستحيون". ويلحظ في العامية أن المثنى في الغالب يعامل معاملة الجمع، مثل: "عيون اثنين"، و"إجوا اثنين نسوان واثنين زلم"، أي "جاء امرأتان ورجلان"؛ وفي العامية، يتم تحويل الألف الممدودة في الفعل الناقص إلى ياء، مثل: "دعا، يدعي"، و"بدا يبدي"، و"جثا يجثي"، و"جفا يجفي"، و"لغا يلغي"، و"عفا يعفي". وهذا الصوغ القياسي كثيرا ما يقع فيه طالب المدرسة مستغربا من تحويل الألف إلى واو. أما كتابة الألف، فكثيرا ما يقع الطلبة في خطأ عدم التفريق منها بين الممدودة والمقصورة. إن الانتقال من الصوغ بالعامية إلى الصوغ بالفصحى يقتضي الانسلاخ من المهارات القبلية في الفهم والتحليل والادراك والتطبيق، ولا يكون ذلك إلا باسترجاع المعارف والتحكم بها وتصنيفها في عملية إحلال قسري؛ 3ـ إهمال العامية قرينة العلامة الإعرابية، فيقول القائل: "عندي كْتابْ، واشتِريتْ كْتابْ، وانعِجَبِتْ بالكْتابْ"، فيقتصر على السكون في نهايات معظم مفردات اللغة، وهو أمر عم جميع المحليات من العاميات في التخلي عن حركة الإعراب واختارت العامية الفتحة في جميع حالات الإضافة، مثل: "كِتابَكْ جِديدْ، وانطيني كْتابَكْ، وباوعِ([1]) لْكتابَكْ". وكما يلحظ فإن حركة حرف الكاف تكون ساكنة في درج القول ومتحركة في بدء الكلام. ومن المعلوم أن الحركة والسكون عنصران بنائيان لهما دور خطير في مقاطع الكلام. وكذلك فإن ألفاظ العقود جميعا منصوبة بالياء والنون في جميع تراكيب الكلام، وهي معربة بين الياء والواو بوصفها ملحقة بجمع المذكر السالم. إن الدلالة الاعرابية للحركات التي جعلها النحاة أعظم القرائن النحوية مفقودة في العامية، مما يعني أن طالب المدرسة لا يعلم قبل دخولها وقراءة الكتب التعليمية دلالة تغير التركيب النحوي بتغير العلامة الاعرابية في قرينة التعليق. أما قرائن التعليق اللفظية والمعنوية فتتضمنها تراكيب الجملة من دون قرينة إعراب في آخر الكلمة. 4ـ الفوارق الاستبدالية وتمثل عمليات النحت والقلب المكاني والحذف والزيادة والتحويل، وكلها عمليات طرأت على مفردات الفصحى بتعاقب التغيرات في الأزمنة والأمكنة التي عانت فيها العربية من تأثيرات التلاقح وحرية المسخ اللهجي في البيئات اللغوية المختلفة. فنجد ـ على سبيل المثال ـ مفردة بعينها مثل "الآن" في العربية الفصحى ترد في العاميات العربية بصيغ مختلفة، مثل: "هسّة إسّا، وهسّا، وهسّعيّات هلأ، وهلّق، وهلكيت، وهلئيت، وهلحين، ودي الوقتِ، وتوّا" في عاميات الوطن العربي. وفي اللهجة البصرية، تشيع كلمات متداولة نلتقط منها جزافا كلمة "شمدريني" بمعنى "لا أعلم"، وأصلها، أي "شيء يُدريني"؛ وكلمة "هَمْ" بمعنى "أيضا"، وربما أصلها "أم"، وانصرف استعمالها من دلالة العطف إلى المفعولية المطلقة؛ وكلمة "أشو" صيغة "ربما" أصلها "أيش هو؟" وتنوسيت استفهاميتها؛ إذ اشربت بأسلوب التعجب والاستنتاج، ومثال استعمالها قول من يبحث عن شيء في مكان يتوقع وجوده فيه، فلا يراه، فيقول متعجبا ومستنكرا: "أشو ماكو" ...! أي "عجبا لا يوجد". للغة البشرية ثلاثة جوانب متناظرة: جانب المعرفة، وجانب الوجدان، وجانب النزوع. فجانب المعرفة مدخله الإدراك الحسي ويتجلى في الفهم والتذكر، مما يترتب عليه حل المشكلات والابتكار؛ أما الجانب الوجداني فيظهر في صور الانفعالات من لذة وألم؛ والجانب النزوعي يتجلى في الإرادة والنوايا الذاتية وما يصدر عنها من الأعمال والمواقف. وبلحاظ أن من أهم الوظائف النحوية للصوغ تكوين الجمل، بحيث تطابق النماذج التركيبية المعترف بها؛ فإن المعرفة اللغوية المبنية على تداول المصطلحات المستعملة تقترن بالمدركات الحسية التي عُرفت بها. فإذا أبهم معنى كلالة وقرء وعضين على من عاصر العربية الفصحى ونشأ عليها، فما بالك بمن لم يسمع بها البتة، وهي مصطلحات قرآنية لا بد للعربي أن يفهمها ليعلمها تفسيرا وعملا. أما بعض ألفاظ الإفصاح، مثل: "شتان، وويْ، وصهْ، ومهْ"، على سبيل المثال فقد استعيض عنها بالعامية العراقية بالأصوات على التوالي: "أوهوه، وأيباه، وإش، وبس". أما الأعمال اللغوية التي تصدر عن النوايا، فترتبط بالأداء، ونلحظ مثلا ثمة هوة عميقة بين عربية المعري وعربية عريان السيد خلف مع اجتماعهما على مائدة الشعر.
مفهوم "التوليد" لغة واصطلاحا: «يقال ولَّد الرجل غَنَمه توليدا، كما يقال نَتَّجَ إِبله ... والمُوَلَّد المُحْدَثُ من كل شيء» (ابن منظور، د.ت، ج 3، ص 467). أما التوليد اصطلاحا فيعني القياس الاستعمالي في توظيف كلمات جديدة قياسا على صيغ معروفة مع مراعاة الأنظمة والقواعد الخاصة بهذه اللغة لسد الحاجة اليومية من المفردات؛ وبذلك ينشأ الوعي اللغوي من توظيف الكلام في اللغة، والأداء في التعبير، والتمثيل في المحاكاة، والتمييز في الملاحظة، والإدراك في الاستيعاب؛ وكلها تبدأ بعفوية التلقي وتنتهي بقصدية الاستعمال. فاللغة بحر من الرموز والكلام نشاط حي يبرز في استعمالها. يقول جويدوبتر موضحا قيمة الكلمة ودورها في وعي الطفل بواقعه: «لا شك في أن اكتساب لغة الكلام له أثر في نمو النشاط التمثيلي، ففهم لغة الكلام عند الكبار يعني فهم الكلمات التي تدل على أجزاء أو ملامح مفهومة للواقع، فالكلمات لها القدرة على إثارة الصورة الذهنية لحقيقة معينة عندما تكون هذه الحقيقة غير حاضرة في الذهن، وفي مرحلة ثانية تؤدي الكلمة إلى تحليل هذه الحقيقة وأوجه الشبه بينها وبين الأشياء التي يتضمنها نفس اللفظ [كذا] العام» (سبيني، 2001م، ص 21)؛ أي أن النشاط اللغوي بقدر ما يكون قابلا في تمثل الواقع، يكون في دوره الثاني فاعلا في تحليله؛ فيكون علامة على النمو المعرفي ودليلا على الفهم في الوقت نفسه. ولعل الكلمة المسموعة أعظم خطرا؛ لأنها تحمل سمة المحفز على تنبيه الوعي الوجودي، وهذا الأخير سابق على الكلام كسبق الاستدلال على الدليل: "أنا أفكر فأنا موجود"، وهو منهج فطري في المعرفة يقود إلى جعل اللغة مسلكا عمليا في التوليد الذهني ولا تخلو أي كلمة من علاقات تنظيمية على جميع مستويات اللغة في المباني والمعاني، أي أن «الإمكانية القاموسية أو إمكانية المفردات بشكل عام ـ كما يرى همبولدت ـ قد بنيت "على مبادئ تنظيمية توليدية معينة يمكن أن تنتج إمكانيات مفرداتية في مناسبات محددة» (مور، 1998م، ص 172)؛ لذلك ينبه علماء التربية بقوة ووضوح مؤكدين على ضرورة الالتفات إلى تقديم نماذج متداولة من الأداء الشفهي للطفل الذي يعاني من الضعف اللغوي لمساعدته على تصويب أخطائه بطريقة سلسة ومستمرة حتى يدرك حالة عدم النضج التي يجب عليه تجاوزها، فيكون تنبهه الفاعل ذاتياً وتصويبه موضوعياً. فبهذا الإجراء التحريضي، يملك حينئذ قدرة ذاتية على التوليد اللغوي والنقد التصويبي والتحويل الإدراكي. وبخلاف ذلك، ففي التنشئة اللغوية الفاشلة، يقتصر الطفل على أساليب وإشارات الردع والتحذير والإحباط، مما يؤدي به إلى امتلاك روادع نفسية بدلا عن الثروة اللغوية المفيدة في التعايش الاجتماعي والتحصيل الدراسي فيما بعد. إن البناء المعرفي السليم يمثل أساسا يرتكز عليه الإبداع في الإتيان بأفكار تتناسب في تنوعها مع خصوبة المواضيع التي تم غرسها في قريحته المعرفية، مع تغيير الزاوية الذهنية في النظر إلى الموضوع مما يجعل الناشئ ينظر إلى المستجدات من أكثر من زاوية مع قدرة على الإتيان بأفكار جديدة تدل على تحكمه بالأنشطة الإبداعية. وهذا مظهر من مظاهر الذكاء والتفوق لا يتأتى إلا بالإعداد اللغوي الناجح؛ لذلك يؤكد المنظرون «أن نمو الذكاء يتم على قدم المساواة مع النضج اللغوي، وبتحديد أكثر؛ فإن الكلمة هي عامل مؤثر جدا في التربية العقلية، فلغة الكلام تحفز وتبلور القدرة على الملاحظة والتحليل والمقارنة والتصنيف والاستنتاج وتمثيل الماضي والتنبؤ بالمستقبل؛ وأخيراً فإن الكلمة تساعد على عملية المعايشة في المجتمع» (سبيني، 2001م، ص 9 ـ 10). والطفل الذي ينجح محيطه في تغذيته بحصيلة لغوية، ترتفع قدراته الذاتية في النضج العقلي والنفسي لامتلاكه أدوات التواصل من جهة ولثراء قاموسه الذهني الذي يشكل محفزاً لنموه النفسي والمعرفي. فالوعي اللغوي أساس كل وعي آخر والثقافة السمعية تمثل المقدمة اللازمة لجميع صور الثقافة، بوصفها قراءة في صيغة الذات وتأتي بعدها الثقافة الكتابية؛ وكلا الرافدين متكاملان يتعاوران التكامل طيلة سنوات العمر؛ لذلك سنلقي نظرة على آليات تنمية الحصيلة من المفردات بوصفها المظهر القياسي للمستوى المعرفي.
لا توجد لغة قياسية تخلو من لهجات عامية؛ ولكن تبقى اللغة المشتركة معيارا أساسا تبنى عليه الأصول الفكرية التي تنماز بالشمول والتكامل، وحتى يتجاوز الطالب سليقته في اللهجة العامية إلى تكوين سليقة بالفصحى، فيجب على منظري المناهج المدرسية إعانته، لا بالأساليب التقليدية فحسب، ولكن بالأساليب والطرائق الحديثة. فلا يقتصر نجاحه في اعتماد المهارات اللغوية على مهارات الكتابة والقراءة، بل على مهارة الاستماع ومهارة الكلام لتكونا ظهيرا يعطي الطالب عفوية تحويل التلقي إلى الإبداع عبر آليات تستعمل ومواقف تتخذ. ومن الحقائق المعروفة أن الوعي يميل إلى تقليل الجهد وتوفير الطاقة والوصول إلى الغاية بأيسر الوسائل وأسرعها، وأقلها عناءا؛ وهذه الآليات لها تطبيقات متنوعة مختلفة، ومنها نشاط الذاكرة السمعية والذاكرة البصرية في توظيفها بوسائل تعليمية يجمعها مصطلح الإستراتيجية ويعني خطة تقنية لتنشيط الوسائل التعليمية لتحقيق أفضل هدف ممكن. وفيما يأتي ثمة إستراتيجيات نراها تعين على تنشيط الوعي في عملية الاستظهار والتذكر منها:
5ـ1. إستراتيجية الربط وتعتمد آلية الاقتران الذي يعين على تذكر المعلومة بلحاظ ارتباطها بشيء أو بحدث يجمع بين دلالتين حسيتين أو معنويتين؛ وجميع الكلمات لها اقتران إيحائي واحد أو أكثر بحسب الدلالة الوظيفية والاستعمالية، مثل ارتباط كلمتي "الخسوف والكسوف" بالقمر والشمس دون غيرهما أو بتاريخ كدلالة اقتران كلمة يوم عند العرب بواقعة من وقائع الحروب قد تطول أياما، أو شهورا، أو سنوات أو باسم معين، مثل ربط حرف القاف بين كلمتي "قتل وقابيل" بوصفه قاتل أخيه، وكل ميدان استعمالي سواء أكان جماعيا أم فرديا له إستراتيجية ربط من معطياته. 5ـ2. إستراتيجية التكرار إن تكرار العنصر اللغوي يساعد على سهولة الاسترجاع، فكما يقال في الإعادة إفادة؛ لأن «التكرار المستمر يساعد على طبع المعلومة في الذاكرة ... وبقائها حية في الذهن» (الظاهر، 2008م، ص 266)، وهو علاج كمي للفروق الفردية في مستويات التلقي، يقول ابن خلدون: «إن اللسان ملكة من الملكات في النطق يحاول تحصيلها بتكرارها على اللسان حتى تحصل» (2001م، ج 1، ص 372). ومن الجدير بالذكر أن للتكرار جانبا سلبيا هو التكرار غير الهادف. أما التكرار الهادف الذي يثبت المعنى ويزيده قوة وثراء متجددين، فهو ما نجد في القرآن الكريم الذي وصفه رسول اللّٰه (-): «لاَ تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسِنَةُ وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ وَلاَ يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ وَلاَ تَنْقَضِى عَجَائِبُهُ» (الترمذي، د.ت، ج 11، ص 93). 5ـ3. إستراتيجية التجميع ويكون بوضع المعلومات في نظام أو تأليف ذي معنى؛ لأن الذاكرة تلجأ إلى المختصرات ذات الطبيعة الترميزية أو التنغيمية للاستدلال على استحضار علاقات أكبر. ومن ذلك تأليف كلمات من أحرف لها قيمة وظيفية، مثل" "ابغ حجك وخف عقيمه"، للأحرف القمرية في اللغة العربية وما نظم من قواعد اقترانا بالوزن الشعري، وهو كثير في النظم التعليمي؛ ومن أمثلته ألفية ابن مالك في النحو، ومن أبياتها المتداولة على الألسن تجميع الأفعال الناقصة "كان وأخواتها" في ثلاثة أبيات شعرية من النظم:
5ـ4. إستراتيجية الفئات العامة وجميع معارفنا تنتمي إلى فئات تصنيفية نسترشد منها إلى اختيار كلمة تمثل القيمة الدلالية التي تقود الذاكرة إلى ما تحيل إليه؛ ومن ذلك عنوانات تصانيف العلوم والآداب، مثل كلمة نحو بربطها بمعنى الاتجاه وكلمة قواعد بربطها بدلالة أصول ثابتة تستند عليها الأشياء، أو الكلمات التي تملك مساحة إيحائية واسعة في الدلالة على مشتركات في حقول مختلفة، مثل كلمة رموز وعلامات ودلالة وغيرها. 5ـ5. إستراتيجية الاستدلال بالحرف الأول اختيار كلمة أو كلمات تحمل دلالة مدخل لتذكر معلومات ترتبط بها صوتيا أو دلاليا، مثل كلمة "رسم" اختصارا لبدء أسماء عظيمات الأذن الوسطى، أي "ركاب ـ سندان ـ مطرقة"؛ ومثل المختصر أوبك OPEC اختصارا بالإنجليزية منظمة الدول المصدرة للبترول (Organization of the Petroleum Exporting Countries). ومن ذلك أيضا رموز المرتبة العلمية وجميع ما يستعمل من بدايات الأسماء في شتى العلوم البحتة والإنسانية ويجري فيه تخصيص بدايات المفردات لتكون دليلا اقترانيا يقود الذهن بغية الاستيعاب. 5ـ6. إستراتيجية القصص القصص هي عوالم خبرة جاهزة للمتلقي يقتنصها عن طريق الخيال، فتصاغ له بهيئة وقائع؛ لأن الحياة الواقعية تحمل كثيرا من المواقف وما دام شغف المعرفة مرتبطا باختزان وامتلاك الخبرة بأيسر السبل؛ لذلك يعد هذا النشاط التخيلي حافزا ذهنيا ومدخلا للتربية الخلقية والاجتماعية والنفسية والثقافية. وخطورة الثقافة البصرية أصبحت في عالمنا الحديث قاهرة وآسرة. وفي الحقيقة، فإن «الصورة الذهنية وسيلة من أهم الوسائل التي يستخدمها الوعي في تنظيم الخبرة والتعامل مع الوجود الخارجي؛ وذلك لأن الوعي لا يستطيع الإحاطة بالعالم الذي نعيش فيه عن طريق الحواس وحدها؛ لذلك يحتاج إلى القياس إلى جانب الحدس والخيال ... إن حاجة الوعي الماسة إلى الصور الذهنية تجعله يشكل صورا مبسطة مختصرة لما يرغب في التعامل معه» (بكار، 2000م، ص 11 ـ 12). والحكاية بمفرداتها وطريقة عرضها أداءا صوتيا يراعي التشويق والعرض الأسلوبي والتنغيم تصنع الجو المناسب لتلقي الطفل والاستمتاع والتفاعل مع أبنيتها اللغوية وأحداثها وشخوصها، ولاسيما إذا كان الراوي يجيد أساليب الإثارة ولفت انتباه الطفل إلى جماليات التعبير والقيم الأخلاقية العالية؛ وكل ذلك يكون بحسن صياغة العبارات، فيكتسب الطفل مهارات مختلفة ومفردات متنوعة تثري حصيلته المعرفية وتزداد بها قدرته على التعبير بالطلاقة اللغوية. إن الرصيد المختزن من الخيال القصصي يكون ميدانا لتفاعل مشاعر الطفل مع محيطه، وهي عناصر تدخل في بناء عالمه الأخلاقي وشخصيته المستقبلية؛ لذلك ينبغي التنبه للقيمة الاخلاقية، أو ما يسمى بالعبرة في القصة؛ لأنها تمثل ثمرة ناضجة يتمثلها الطفل رصيدا إدراكيا، فينبغي الحذر من تشويه مرتكزاته النفسية بخرافات تزرع فيه الخوف من الطبيعة أو من الناس. 5ـ7. إستراتيجية العصف الذهني إن طرح أسئلة تحريضية يعين على التفكر والتبصر والبحث عن حلول أو إجابات ويكون بإعطاء فرصة مناسبة من الصمت والتفكير للوصول إلى نتائج معينة عن طريق العصف الذهني؛ وبالتوصل إلى الجواب المناسب، يزداد وعي المتعلم عبر اختياره أحد البدائل من بين الأقرب إلى الصواب. 5ـ8. إستراتيجية الإيحاء التفاعلي وتتناول اكتشاف العلاقات الإيحائية التي يثيرها تلاقح المفردات التعليمية والنشاطات المتنوعة لعملية الاستبدال المعجمي على المستوى الصوتي "درأ، ودرب، ودرج، درس"، أو الدلالي "رأى، ورمق، ولحظ، ونظر"، بوصفه لعبا تعليميا يزخر به الاشتقاق في العربية، وثمة روافد من الإبداع تصب في سبيل واحد وتتكامل في بناء عضوي يؤدي إلى بناء الملكة اللغوية. فالنشاط القرائي والكتابي في درس العربية يتعاوران الثقافة البصرية والسمعية ولا غنى لأحدهما عن الآخر.
يمثل الكلام أبرز مظاهر اللغة الإشارية الرمزية؛ لأن جهاز النطق والسمع لدى الانسان أعظم معطى فسلجي هيأه الخالق جل وعلا وظيفيا للقيام بمهمة التعبير والتواصل. فهذان الجهازان يتكاملان مع عمل القشرة الدماغية في إنتاج اللغة بكل مظاهرها ونشاطاتها وتنمو الخبرة الوظيفية لدى الطفل معززة بالحصيلة المعرفية متفاعلا مع محيطه، فيستطيع التكلم بلغته الأم، كما قال إبراهيم أنيس: «بسهولة ويسر دون تكلف أو تعسف، فلا يكاد يخطر المعنى بباله حتى ينطق بما يعبّر عن ذلك المعنى ... بصورة آلية دون شعور بخصائصه ...، بل يرسل القول على سجيته، وبحسب ما تعود في صغره، فإذا تم له هذا تمت له السليقة اللغوية» (1966م، ص 30). فالخبرة المتراكمة إذن كفيلة بتحويل التطبع إلى طبيعة يقول تشومسكي: «إننا في الحقيقة لا نتعلم اللغة، وإنما قواعد اللغة هي التي تنمو في عقولنا» (مور، 1998م، ص 132). ونلحظ الضمير "هي" في هذا النص بوصفها إشارة إلى فعل كامن كلي، لا بد من إنجازه يصبغنا بإيحاءاته ويجعل من منطقنا ذا معنى أن للسليقة دورا في وعينا اللغوي. وحين نرجع إلى علماء العربية، نجدهم يتحدثون بعقول سبقت عصرها في التأهيل المعرفي، فيحلل ابن جني مصطلح السليقة مستوحيا دلالتها المعرفية من دلالتها الصرفية "فعيلة" بوصفها تشير إلى جذر وجودي هو الخليقة، يقول: وقد كثرت فعِيلة في هذا الموضع، وهو قولهم" "الطبيعة"، وهي من طبعت الشيء، أي قرّرته، على أمر ثبت عليه ... ومنها "الغريزة"، وهي فعيلة من غَرَزت ...، ومنها "السجية" هي فَعيلة من سجا يسجو، إذا سكن ومنه طَرْف ساجٍ وليل ساجٍ، ومنها "الطريقة" من طَرَّقت الشيء، أي وطّأتة وذلّلته، وهذا هو معنى ضربته ونقبته وغرزته ونحتَّه؛ لأن هذه كلها رياضات وتدريب واعتمادات وتهذيب ...، ومنها "السَلِيقة" وهي من قولهم: فلان يقرأ بالسليقية، أي بالطبيعة ... فأعجبْ للطف صنع الباري سبحانه في أن طبع الناس على هذا وأمكنهم من ترتيبه وتنزيله وهداهم للتواضع عليه وتقريره (1952م، ج 2، ص 114 ـ 117). هذا القول دليل على أن ابن جني وسواه من علمائنا لم يكونوا يرون السليقة صفة فسلجية، بل قابلية فطرية تدخل في بناء جميع اللغات (حسان، 2006م، ص 222). أصبح من المسلمات في علم اللغة التفريق بين اللغة بوصفها الحصيلة التجريدية التي تمثل المخزون اللغوي من معجم وقواعد يتداولها مجتمع ما بوصفها أداة للتواصل، وبين الكلام الذي يمثل النشاط اللغوي الفردي لكل فرد من أفراد ذلك المجتمع، محكوما بسماته الشخصية وبحصيلته من مفرداتها وبقدرته على توظيفها؛ لذلك يرى تمام حسان أن ظاهرتي الارتجال والتوليد مستمرتان تقفان دون الإحاطة بالكلمات المرتجلة والمولدة، التي هي في طريقها إلى الشيوع العرفي (2004م، ص 315). ويبرز دور المجتمع خطيرا في تكوين الوعي اللغوي بالتلقين والإيحاء ثم بالتوليد. وفي ربطه بين الخليقة والسليقة، يرى تمام حسان أن الخليقة، بوصفها الطبيعة، تدفع إلى السليقة بوصف الأولى جميع ما يولد به الإنسان من طبائع؛ أما الثانية، فجميع ما يكتسبه من عادات وتقاليد، ومعلومات يتدرب عليها؛ فتكون جزءا من شخصيته (حسان، 2006م، ص 225). وهكذا، فالتدريب والمران مقياس كمي يقود إلى ترسيخ الوعي في السليقة اللغوية. وقد لحظه ابن خلدون فأكد عليه؛ إذ كان يقيس ما يسميه بالملكة اللغوية بمقياس الخبرة، فيعرّف اللغة في مقدمته بوصفها فعلا قصديا غايته الإفادة، وهي ذات سمة وظيفية توليدية فطرية ومكتسبة في الوقت نفسه، وهي اجتماعية يتوارثها الأجيال؛ يقول ابن خلدون: «اعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده؛ وتلك العبارة فعل لساني ناشئ، عن القصد بإفادة الكلام، فلا بد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها، وهو اللسان. وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم» (2001م، ج 1، ص 352). ولو لم نعلم أن هذا القول لرجل عاش في القرن الثامن الهجري، لقلنا أنه كلام عالم لسانيات معاصر. بهذا الفهم، يطرح لنا علم اللغة الحديث تعريف اللغة، يقول دي سوسير: «اللغة نتاج اجتماعي لملكة اللسان ومجموعة التقاليد الضرورية التي تبناها مجتمع ما ليساعد أفراده على ممارسة هذه الملكة» (1985م، ص 27). ومن الجدير بالإشارة إليه أن مصطلح الملكة صار في الفكر اللساني الحديث يطلق على نظام العقل، الدماغ بوصفها: «المبادئ الفطرية المحددة بيولوجيا، أو المساعدة على اكتساب اللغة» (البهنساوي، 2004م، ص 20)، أي أن ارتكاز اللغة بفعل بداءة التلقي يجعل من هذا التحصيل الاكتسابي سليقة لغوية تتيح للطفل في وعيه اللغوي، تبني جذور الصوغ القياسي حين يجد الطفل نفسه يتكلم لهجة أبويه تماما سواء في المفردات أم في اللغة الانفعالية، من تنغيم، وأداء، وتعبير، أم في العادات اللغوية، والاسلوب، بعفوية من دون تكلف، كما يقول ابن منظور: «اللغة التي يسترسل فيها المتكلم على سليقته، أي سجيته وطبيعته» (د.ت، ج 10، ص 159). وإذا أردنا توضيح ظاهره الصوغ القياسي ودورها التعبير عن المعجم الذهني، فهي عملية معيارية، كما قیل: «تبدأ عند الفرد في طفولته وتبقى مادام الفرد يستعمل من الصيغ ما لم يرد على لسانه من قبل، فإذا كانت الصيغة التي يستعملها قياسية في اللغة إذا صاغ كلمته على قاعدة معينه وكان المرجع في اللغة السماع الذي ورد لهذه الكلمة، رأينا الفرق واضحا بين الصوغ القياسي وبين السماع في الاستعمال ... ويجري الصوغ القياسي في صورة معادلة تجري على غير وعي من المتكلم وتكوينه الصيغة المستعملة هي نتيجه هذه المعادلة» (حسان، 2000م، ص 39). وهذا يعني أن سماع الاضطراب والخطأ اللغوي في بدء تلقي الطفل، بما يؤدي إلى فساد ملكته ولاسيما في لهجته العامية، سيكون ممهدا ومسوغا لصوغ قياسي يتنكب فيه عن الصواب ويضطره فيما بعد إلى مجاهدة التصحيح؛ لذلك نجد الطفل الذي ينشأ في أحضان ثقافة القرآن ووعي العربية الأصيلة يكون أقرب إلى روحها في الوعي والفهم وفي التأليف والتوليد. يؤكد لويجي ستيفانيني أن «تعليم الطفل التحدث صغيرا ما هو إلا تعليمه التفكير جيدا» (سبيني، 2001م، ص 21). وبهذا الوعي، استطاع أفذاذ علمائنا الأوائل، حتى غير العرب منهم في إدخال أولادهم الناشئين حلقات درس كبار العلماء، غرس بيان القرآن وروحه وسليقة العربية وعلومها وملكة التفكير وآلياتها في الطفل، ولمّا يخرج من عالم لعب الطفولة وبراءتها الأولى. ونظرا لأن واقعنا اللغوي هو تكريس للعامية في مناحي الحياة بشكل عام، فهي تدخل وعي الطفل بغير تعليم ممنهج وتحمل عوامل سريعة في التوليد والاندثار والتغير والتحول، وهي متعددة بتعدد بيئاتها. وبلحاظه فإن الطفل ينشأ على سليقة اللهجة العامية، بما تحمله من سمات ومظاهر صوتية ودلالات معجمية وتركيبية تمثل ازدواجا استعماليا ملحا؛ لذلك فهي تبدو أكثر انتشارا من اللغة الفصحى للأسباب الآتية: ـ خلوها من قيود الإعراب بقرائنه المختلفة لإعراضها عن دلالة الحركات في الفصحى؛ ـ مرونتها في استقبال الألفاظ الأجنبية بصيغها الأعجمية لضعفها الثقافي أمام الوافد؛ ـ مغايرتها لكثير من ألفاظ الفصحى في الصوت والدلالة لضعف تداولها الموروث الثقافي؛ ـ خلوها من بعض الصيغ الصرفية والتركيبية ذات الدلالة في الفصحى؛ ـ ميلها إلى اطلاق القياس في الاشتقاق اللغوي والتوسع فيه؛ ـ اشتمالها على أصوات وصيغ صرفية لا توجد في العربية الفصحى؛ ـ كثرة دورانها على الألسن، بما جعلنا نألفها بوعي شعوري وغير شعوري. من هنا وبلحاظ هذه الجذور المطلوب نسخها واستبدالها بالبديل المطلوب، نجد عملية القلع والغرس البديل تحمل جهودا ومعطيات، منها: ـ مجيء الفصحى بعد رسوخ العامية ولا سيما بأقيسة الأولى وعمق دلالاتها وإعرابها وتراكيبها يجعل عملية نسخ الثانية بالأولى، مثل إقامة بناء جديد ومتين ومعقد الأشكال والمزايا فوق بناء آخر يختلف عنه في أسسه وقواعده وهيكله وخريطته ومرافق استعماله، أي أن وجود العامية حية محكية يدفع حلول الفصحى محلها، إذا لم تكن ثمة حوافز أثيرة تجعل الذات تبتهج بالطريف الرصين وتأنف من التليد المهين؛ ـ ربط المسكوكات اللغوية بالمعاملات اليومية النفعية والأعمال التجارية ولاسيما في الدوائر والمؤسسات التي يمكن إخضاع عملها إلى ضوابط التوجيه. وفي الحقيقة فإن المجتمعات تستهويها القوالب اللغوية الجاهزة التي تخدم سيرورة العواطف والمصالح والحاجات الاستعمالية اليومية، وبخاصة إذا كان التوجه فيها رسميا وواجبا يشارك الناس في أدائه تزجية لمصالحهم؛ ـ الظروف الموضوعية لانحراف الفصحى نحو العاميات في تاريخ الأمة كانت قهرية بسبب التحولات السياسية والاجتماعية، وقد حاول علماء العربية من العرب وغير العرب الدفاع عن المستوى الصوابي بجهود فردية لم تستطع إلا تشخيص الداء؛ أما الدواء فيتطلب تدابير حصيفة للتدخل المباشر شعوريا وغير المباشر في إدخال المأثور الأدبي والديني ولاسيما المسكوكات بالفصحى في اللغة العامية المحكية عبر برامج تهم الشرائح الشعبية لاستدراجهم الى التفاصح؛ ـ النسبية اللغوية مبدأ عام ينطبق تماما على اللغات، واللهجات بأقدار مختلفة، والنسبية تمثل لازمة من لوازم الكلام حتى في اللغة الواحدة؛ لذلك نجد الصعوبة بالغة في التصدي للهجات العامية؛ لأنها لغات محكية تخدم الأغراض اليومية؛ أما الفصحى فهي غريبة في وطنها غربة الأب الذي هجره أبناؤه والإجراء الأمثل يكون بإعادة التواصل التداولي الحميم معها بتنشيط التداول الاجتماعي العفوي اليومي باللسان المتفاصح.
يظهر الفكر الإنساني وسائله المعرفية بأشكال رمزية عبر مختلف أشكال التعبير، ومنها اللغات والفنون. ولا يمكن حصول الوعي اللغوي إلا بعد اكتشاف الدلالة الاستعمالية للرمز تواصليا، وهذا ينطبق تماما على الطفل الذي يسمع الكلمة للمرة الأولى، كما ينطبق على الكبير الذي يسمعها من لغة مغايرة للغته الأم، ولا تتحقق فضلى مراتب التواصل إلا بمطابقة المقال لمقتضى الحال. وإذا كان الكلام صادرا من غير تكلف مطبوعا بتفنن الخطاب ومستنا بسنن الصواب، فذاك دليل على كمال طبيعته وأصالة سجيته. فهو ينهل من معين يسمى القريحة، وهي التي يمتاح منها المبدعون كلّ بحسب فنه كالوعاء لا يفيض حتى يمتلئ. وقد عرف ابن خلدون ذلك تماما في تبريره تخلف قريحته في الشعر يقول: أجد استصعابا علي في نظم الشعر متى رمته، مع بصري به وحفظي للجيد من الكلام، من القرآن والحديث وفنون من كلام العرب، وإن كان محفوظي قليلا؛ وإنما أتيت ـ واللّٰه أعلم بحقيقة الحال ـ من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية والقوانين التأليفية؛ فإني حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى والصغرى في القراءات والرسم واستظهرتهما، وتدارست كتابي ابن الحاجب في الفقه والأصول وجمل الخونجي في المنطق وبعض كتاب التسهيل، وكثيرا من قوانين التعليم في المجالس، فامتلأ محفوظي من ذلك، وخدش وجه الملكة التي استدعيت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن والحديث وكلام العرب، فعاق القريحة عن بلوغها (2001م، ج 1، ص 373). وأبادر في الاعتذار لطول المقتبس، فالصبغة العلمية للمطالب والعلوم العقلية التي ذكرها ابن خلدون، تجفف الينابيع الأولى لروعة الصور وبداهة العلاقات وإيحاء الكلمات وطرافة التجديد، وهي من مقتضيات الإبداع الشعري ولوازمه؛ وبهذه الرؤية الفاحصة في اكتناه التخلف الوظيفي للملكة، يكشف ابن خلدون التأثير القاهر لهوية المعجم الذهني في توجيه القدرة التوليدية واصطباغ المعطيات اللسانية بعلاقاتها الإيحائية، فيسميه إعاقة مستصعبة حالت دون المراد ويعني بنظم الشعر ملكة الإبداع فيه، وليس مجرد النظم المتكلف، وهو يعني بالقريحة تشبيها لها بماء البئر العذب الذي ينهل منه الناهلون ويقرر قائلا: «فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء ويجف ويغرر بالترك والإهمال» (المصدر نفسه، ص 371)، إشارة حصيفة إلى دور الاستعمال في كفاءة التوليد. إن اللغة العربية ذات مزايا جمة في الفصاحة وذات موروث باذخ في الخطاب، يجدر استثماره في المؤسسات التعليمية. ومن المعروف أن العامية لا تستطيع أن ترتفع بمفرداتها وتراكيبها إلى مستوى الفصحى في مجال الإبداع الفكري لما في الأخيرة من موروث ثقافي وخزين تراثي ضخم، فضلا عن أن العامية بوصفها لغة الاستعمال تقع تحت تأثيرات الألسن الوافدة والثقافات الدخيلة، مما يجعلها أكثر ابتعادا عن اللغة الفصيحة؛ لذلك فمن عوامل التسريع في اكتساب سليقة العربية الفصحى: ـ التواصل مع تراث الأمة العربية من دراسة نصوص بلغائها وعلمائها ومفكريها بحفظ النصوص الدروس واتخاذها آليات لصناعة الملكات ومنارات في القدوة الصالحة واختيار نصوص كل مرحلة تعليمية، بما يحقق المعجم الملائم للفئة العمرية في الألفاظ والمعاني والأساليب؛ ـ توظيف وسائل الإعلام في بث الفصحى وغرسها في حافظة الناشئة غرسا أريبا بطريقي الإقناع والامتاع وجعل التعليم المدرسي وغير المدرسي مرتعا لمشاركة الطلبة في اكتشاف الواقع باللغة؛ ـ توفير فرص محو أمية التعبير الشفاهي بإشاعة المحادثة في مجالات مدرسية للطلبة وعامة للمنتديات الثقافية والاجتماعية لإشاعة حلاوة اللسان العربي وتشجيع ثقافة الارتجال بالفصحى في شتى المجالات؛ ـ التأكيد على الالتزام باللغة الفصحى من قبل جميع المدرسين في شتى التخصصات في قاعة الدرس، وإن كان الأجدر التواصل بها حتى خارج نطاق الدرس؛ لأن انتقال المبدأ الثقافي في مدارس أوربا من التوجيه "يجب أن تتكلم كما تكتب" إلى التوجيه "يجب أن تكتب كما تتكلم" شجع احتضان فكرة غلبة الفصحى الموحدة على العامية؛ ـ اتخاذ المبدأ الأساس في الوحدة العربية بوصفه دافعا وطنيا ودينيا في الحفاظ على فصحى نقية لا تبتعد عن القرآن والعودة إلى المنبع القائم على الهوية والنظر إلى الفصحى على أنها وليدة ضمائرنا وأداة معرفتنا؛ إذ لا نجد على مساحة التاريخ لغة مثل العربية حملت كلام المطلق العظيم بنصه وبعمقه وأعجازه، وسموّه فالقرآن رب الكلام، وإن روح الفصحى المتمثلة بعلاقتها بالقرآن تجعل من العربي على جليل من المسؤولية الخطيرة لاتصاله المباشر بالقرآن، وتجعله في قبال ذلك ناظرا بازدراء إلى لهجته العامية بما انحدرت إليه اللهجات المحلية. لقد ازداد العربي غربة أمام الانسلاخ الروحي الذي خلع به رداء تراثه الأصيل وتردى عقوق العامية ولاسيما إضلاله بشبهات يروجها صرير أقلام غير مسؤولة في تبني العامية كتابيا وثقافيا بديلا عن الفصحى؛ فإن «الدعوة إلى العامية ـ من الوجهة الإسلامية ـ دعوة إلى هجر لغة القرآن وإنشاء جيل مسلم من غير قرآن، وعربي من غير عربية» (المبارك، 1979م، ص 47). فالوعي الذاتي ـ ولا أقول القومي ـ إذن، بلحاظ نتائجه يمكن أن يكون إيجابيا، إذا استيقظناه بالوعي اللغوي في كل مجال من مجالات الحياة.
ومن المقترحات في هذا الصدد ما يلي: ـ الإفادة من المأثور الديني قرآنا، وحديثا وأدبيات ببثها مسابقات بين طبقات الناس بشتى مشاربهم وبرصد مكافأة لمن يحفظ قدرا معينا من النصوص، بل وتخصيص راتب لمن ينجز حفظ القرآن الكريم، ثم الانتفاع من علمه بتعيينه معلما للقرآن. ـ التأكيد على شريحة المعلمين بقصر السنتهم على الفصحى في تعليم الأطفال المحادثة والتعبير ومشاركتهم وتوجيههم في الألعاب باللسان الفصيح إمتاعا يشعرهم بالأنس والسعادة مع الفصحى مع رصد محفزات للمبدعين من الفئتين تجعل المنافسة في النشاط اللغوي مناطا للتكريم. ـ اشتراط حصول أي متقدم لعمل أو مرتبة علمية أو فنية أو وظيفية على شهادة تخرج من دورة النشاط اللغوي وتتعهد جميع الوزارات بإجرائها أسوة بالوثائق المطلوبة للترشيح.
الخاتمة ليست النتائج المستخلصة من كل بحث مجموعة بالضرورة في ختامه؛ فللقارئ الكريم أن يقتنص من متن البحث ما تثيره فيه فقرات بذاتها من تحريض على الاستجابة وما يلتفت اليه من المحصول؛ ولكن أعرض فيما يأتي بعضا من المعطيات التي أرى لها دورا في استنهاض الوعي اللغوي في لغتنا العربية: ـ اللغة وسيلة للتواصل التاريخي والفكري بين الأجيال المحدثة وما سبقها من أجيال عبر عصور التاريخ العربي، يقال: وليست العربية وسيلة مقتصرة على التفاهم فحسب، بل هي نظام معرفي يصلح لبناء حضاري متكامل. ـ اللغة وجه الفكر الناطق، فبها صاغ الأجداد أفكارهم ومثلهم، وبها عبروا عن ثمرات عقولهم وخلجات نفوسهم؛ و لذلك لا تقدر أي لهجة عامية تصطنع أو لغة أجنبية تستورد أن تحل محلها في تقديم هذا الوجه ناصعا متشربا ملامح الأصالة؛ لأن العامية حدث منقطع والفصحى هي التاريخ الذي يجب أن ننتمي إليه. ـ اللغة العربية الفصحى كانت وما زالت دعامة كبرى لتحقيق الوحدة ولا سيما على الصعيد الثقافي، فضلا عن الصعيد السياسي والاجتماعي، أي أنها سياج وطن جامع مجموع في آن واحد. ـ إن الحصيلة العربية سبيل إلى ابراز النهضة العلمية والفكرية العربية مصطبغة بالصبغة العالمية مبرءة من التبعية وذوبان الشخصية وضياع الهوية؛ لأن الذوبان والضياع علامتان على الموت. ـ اللغة العربية الفصحى جزء من تكوين جميع أبنائها المعبرين عن روحها على اختلاف اتجاهاتهم واختصاصاتهم؛ لذلك وجب أن تكون في موضع الاهتمام لدى هؤلاء جميعا، فليست العناية بالعربية مقتصرة على أصحاب الاختصاص ولا على المؤسسات الثقافية أو مجامع اللغة، دون سائر الناس من الناطقين بالعربية. ـ جميع القوى في العالم تسوقها نظرية القوة والنجاح لا العدالة والخير، وقد جعل اتساع سلطة الاتصالات، في ظل العولمة، الإنسان مهددا بفقدان انتمائه بشكل غير واع إلى مفاهيم الوطن واللغة والدين أكثر من شعوره الواعي بهذه المفاهيم؛ لذلك فالرجوع إلى الإسلام مفتاح التحرر والعودة من العامية إلى الفصحى مفتاح الوعي. ـ الثقافة الإسلامية تحمل تاريخ الهوية العربية، بوصفها مسؤولية تكليف لا امتياز وتشريف؛ قد دافع علماء الإسلام بمختلف قومياتهم عن العربية بصدق وبسالة؛ لذلك حري بنا حمل الثقافة الإسلامية بلحاظ مسؤولية لا بلحاظ هوية فحسب. ـ لكل لغة معطيات ترميزية تمثل السمات السيميائية لعلاقة الدوال بالمدلولات، يشعر بذلك من يجمع بين اللغات الأخرى مع لغته الأم، وهذا الشعور في الثنائية يبدو أقل حدة في الازدواجية، وهو أمر إيجابي يمثل مدخلا طيبا للتفاصح مع العاميات.
[1]. بمعنى أنظروا أصله اللغوي مقايسة الطول بالبوع، وهي مسافة ما بين الكفين ونقلتها الكناية من بسط الجسم وانفتاح العينين إلى ضبط القياس وإلى الملاحظة بالعينين والنظر بهما. | ||||||||||
مراجع | ||||||||||
ابن جني، أبو الفتح عثمان. (1952م). الخصائص. تحقيق محمد علي النجار. القاهرة: دار الكتب المصرية. ابن خلدون، عبد الرحمن. (د.ت). تاريخ ابن خلدون. بيروت: دار إحياء التراث العربي. ـــــــــــــــــــــــــــ . (2001م). المقدمة. بيروت: دار الفكر. ابن منظور، محمد بن مكرم. (د.ت). لسان العرب. القاهرة: دار المعارف. أنيس، إبراهيم. (1966م). من أسرار اللغة. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية. بكار، عبد الكريم. (2000م). تجديد الوعي. دمشق: دار القلم. البهنساوي، حسام. (2004م). نظرية النحو الكلي والتراكيب اللغوية العربية. القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية. الترمذي، محمد بن عيسى. (د.ت). الجامع الصحيح سنن الترمذي. بيروت: دار إحياء التراث العربي. تشومسكي، نعوم. (1990م). اللغة ومشكلات المعرفة. د.م: الدار البيضاء. ـــــــــــــــــ . (1993م). المعرفة اللغوية طبيعتها وأصولها واستخدامها. القاهرة: دار الفكر. حسان، تمام. (2000م). اللغة بين المعيارية والوصفية. القاهرة: عالم الكتب. ـــــــــــــ . (2004م). اللغة العربية: معناها ومبناها. القاهرة: عالم الكتب. ـــــــــــــ . (2006م). مقالات في اللغة والأدب. القاهرة: عالم الكتب. دي سوسير، فردينان. (1985م). علم اللغة العام. ترجمة يوئيل يوسف عزيز. بغداد: سلسة آفاق العربية. ديوي، جون. (1978م). المدرسة والمجتمع. ترجمة أحمد حسن الرحيم. بيروت: مكتبة دار الحياة. سبيني، سرجيو. (2001م). التربية اللغوية للطفل. ترجمة فوزي عيسى وعبد الفتاح حسن. القاهرة: دار الفكر العربي. الظاهر، قحطان أحمد. (2008م). مدخل إلى التربية الخاصة. إربد: دار وائل للنشر. قباني، نزار. (د.ت). قصتي مع الشعر. د.م: د.ن. ليتمان، يوري. (2011م). سيمياء الكون. ترجمة عبد المجيد نوسي. بيروت: المركز الثقافي العربي. المبارك، مازن. (1979م). نحو وعي لغوي. بيروت: مؤسسة الرسالة. المصطفوي، حسن. (د.ت). التحقيق في كلمات القرآن الكريم. بيروت: دار الكتب العلمية. مور، تيرينس موور كريستين كارلنغ. (1998م). فهم اللغة: نحو علم لغة لما بعد مرحلة تشومسكي. ترجمة حامد حسين الحجاج. بغداد: دار الشؤون الثقافية. | ||||||||||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 2,095 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 611 |