تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,674 |
تعداد مقالات | 13,665 |
تعداد مشاهده مقاله | 31,655,417 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 12,503,200 |
البنیة الشعریة ومقاربة الخطيئة وفق قراءة جدیدة للنظریة الشکلیّة قصیدة "حوار" لأدونيس نموذجا | ||
بحوث في اللغة العربية | ||
مقاله 6، دوره 14، شماره 27، دی 2022، صفحه 57-68 اصل مقاله (897.91 K) | ||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | ||
شناسه دیجیتال (DOI): 10.22108/rall.2021.127009.1349 | ||
نویسندگان | ||
رجاء أبوعلي1؛ قاسم عزیزىمراد* 2 | ||
1أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة العلامة الطباطبائي، طهران، إيران | ||
2أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة طهران، طهران، إيران | ||
چکیده | ||
البنیة الشعریة، باعتبارها توظیفا جدیدا للغة، تهدف إلی تأسیس علاقات جدیدة بین الكلمات، لتبتكر لغة جدیدة تحتضن التنافر والاختلاف. من هذا المنطلق، فإن أدونیس في النص الشعري بشكل عام، وفي قصیدة حوار بشكل خاص، یفرغ الكلمة من دلالتها الراسخة في المنظور المعجمي، ثم یشحنها بدلالة جدیدة عبر تأسیس علاقات جدیدة. بناء علی ذلك، یحاول الأدیب جراء كل ذلك، أن ینتهك مرجعیة المخاطب، سعیا إلی استبدالها بمرجعیات نصیة أخری. من هنا، یأتي الانزیاح الدلالي الذي یمارس الأدیب من خلاله تغییر المرجعیات المعرفیة السائدة؛ وعلی ذلك، فإن النص الأدبي باختراقه للمرجعیات، یتقارب من الخطیئة، وفق المنظور المستعمل یومیا للدلالة. تسعی هذه المقالة إلی دراسة النص الأدونيسي لتلقي الضوء علی أن قصيدة حوار تشكل مدخلا أساسيا لتفجیر الدلالة وشحن المفردة بدلالات جدیدة تكتسبها الكلمة من السیاق، ولیس من المنظور الوضعي المسبق. وتطرقت المقالة إلى دراسة هذا الموضوع حسب المنهج الوصفي ـ التحلیلي، انطلاقا من النظریة الشکلیة، لتكون اللغة هي نقطة الانطلاق لدراسة النص. ومن النتائج التي توصل إلیها البحث هي أن القصیدة تسعی إلی تأسیس نسق معرفي ینطلق من الحیرة بمركزیة السؤال لترفض ثنائیة الاختیار المتوقف علی"الخیر / الشر" المهیمنة علی وعي الإنسان العربي، فحاول الأدیب أن یغیّر بؤرة الرؤیة إلی الأشیاء من خلال اختراق نمطیة اللغة / المعرفة. | ||
کلیدواژهها | ||
البنیة الشعریة؛ النظریة الشكلیة؛ أدونیس؛ قصیدة حوار | ||
اصل مقاله | ||
البنیة الشعریة عند أدونیس باعتبارها انزیاحا لغویا تمارس عنفا منظما علی اللغة، وتدعو إلی تأسیس علاقات جدیدة لا تمكن دراستها وفق المنظور الوضعي، وإنما لا بد في معالجة التوظیف اللغوي في النص الشعري، من الانطلاق من مصدره اللغوي، حیث ینطوي علی إقامة علاقة تجاوریة تحتضن التنافر والاختلاف. ومن هنا، تأتي هشاشة المنظور الوضعي في دراسة النص الشعري؛ إذ إنه یدرس اللغة من خلال ما هو سائد؛ ولكن أدونیس لا یسعی في النص الشعري إلی النهوض من المرجعیات السائدة المألوفة، بل یحاول تغییر المرجعیات واستبدالها بأخری انطلاقا من النظریة الشكلیة التي تدعو إلی «تحطیم النظام الطبیعي وإعادة بنائه بشكل إرادي» (فضل، 1998م، ص 38)؛ ولذلك، نلاحظ أن الشكلانیین اهتموا بمفاهیم الخرق والانزیاح، أي الانحراف عن التصورات التقلیدیة لأجل تغییر هذه التصورات والمعاییر. (المناصرة، 2006م، ص 303). وبناء علی هذا، یجوز القول بأن النص الشعري، أي قصیدة حوار لیس تمثیلا للواقع وانعكاسا للمرجعیات السائدة، وإنما هو إقامة علاقة جدلیة مع هذه المرجعیات، لینطلق منها من أجل تأسیس مرجعیات جدیدة. وبهذا، یقیم النص الشعري صراعا مع مرجعیات المخاطب، ویحاول باختراقه لنمطیة اللغة أن یمارس اختراقا لنمطیة المعرفة لیغیّر بؤرة الرؤیة إلی الأشیاء؛ ولذلك نلاحظ أن جاكوبسن[1] یقول في هذا المجال: «إن الأثر الشعري لا یهیمن ضمن مجموع القیم الاجتماعیة، ولا تكون له الحظوة علی باقي القیم؛ ولكنه لا یكون أقل من المنظم الأساسي للإیدیولوجیة الموجه دوما نحو غایته؛ إن الشعر هو الذي یحمینا ضد الصدأ الذي یحدد تصورنا للحب والكراهیة والتمرد والتصالح والإیمان والجحود» (1988م، ص 20). وبناء علی هذا، فإن النص الشعري عند أدونيس، باعتباره فنا لغویا، یمكنه أن یعید تشكیل الرؤیة إلی العالم، ویكسر توقع المخاطب انطلاقا من تأسیس مرجعیة جدیدة. 1ـ1. أسئلة البحث هذه المقالة تسعی إلی دراسة هیمنة المقدس في قصیدة حوار، للإجابة عن السؤالین: ـ كیف یبني أدونیس نصه في قصیدة حوار علی تغییب دلالات سائدة للمفردات ویشحنها بدلالات جدیدة؟ ـ هل اختراق المقدس في النص الأدونيسي مقولة تنطوي علی التقارب من الخطیئة أو هو مقولة استهدفها الأدیب ضمن الوعي الثقافي المهیمن علی ذهن الإنسان العربي؟ 1ـ2. فرضيات البحث للإجابة عن هذین السؤالین، یمكن الاستعانة بهاتین الفرضیتین: ـ هناك ممارسة مستمرة لإفراغ الكلمة من دلالتها الراسخة في المعجم، وفق المنظور الوضعي، ثم شحنها بدلالة جدیدة عبر تقنیة "علاقة التجاور" ضمن النظریة الشكلیة؛ ـ هیمنة حقل المقدس علی الوعي الثقافي للإنسان العربي دفعت الأدیب أن یقترب من هذا الحقل لیستطیع اختراقه ویزیل عنه الصدأ الذي یحول دون الإدراك الحقیقي.
1ـ3. أهمية البحث تكمن أهمیة هذا البحث وأهدافه في الالتفات إلی الكشف عن هشاشة المنظور الوضعي للدلالة في دراسة النص الشعري، ومن جهة أخری یساهم هذا البحث في إبراز فاعلیة النص الأدبي في خرق المرجعیات المعرفیة السائدة وتأسیس علاقات جدیدة. وبناء علی ذلك، فإن القصیدة انطلقت من رفض ثنائیة الاختیار "الخیر / الشر" التي هیمنت علیها العادة، فجعلت الوعي لا ینطلق من السؤال، بل یمتلك الجواب مسبقا. 1ـ4. خلفیة البحث هناك أبحاث تطرقت إلی موضوع التقارب من الخطیئة في النص الشعري وهناك من صب اهتمامه علی قصیدة حوار؛ ومن هذه الدراسات یمكن ذكرما یلي: كتاب الشعر والوجود، لعادل ضاهر (2000م)؛ تناول الباحث في هذه الدراسة النص الأدونیسي انطلاقا من التوجه الفلسفي، مما یؤدي إلی طرح أسئلة فلسفیة متفرقة حول قضایا الحیاة والوجود للكشف عن العوامل التي ساعدت علی تكوین الشخصیة الفكریة. وقد نری الاهتمام بالبنیات اللغوية قلیلا أو لنقل منعدما ـ إن صح التعبیر ـ في دراسته للنصوص المقتطفة. ویكون جلّ الاهتمام منصبا علی دراسة الفكر، كما یشیر إلیه عنوان الكتاب، ولم یعر أي اهتمام بالبنیات اللغویة ضمن المنظور اللساني؛ وبالتالي یعتبر هذا الحقل المقدس ومن ضمنه قصیدة حوار نماذج یتعلق فیها المعنی، فیصبح النسق تأسیسا للعدمیة والفوضی انطلاقا من لغة نیتشویة خالصة، غیر أن البحث الحاضر لا یذهب إلی هذا الرأي ویسلك اتجاها آخر لیسبر البنیة النصیة أكثر من أن یصب فكرة نیتشه[2] علی القصیدة. كتاب الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها، لسعید الغامدي (2003م)؛ قام الباحث بدراسة ما یدخل ضمن حقل المقدس في النص الشعري، وقد عالج مقتطفات من النص الأدونیسي انطلاقا من الإیدیولوجیا الدینیة التقلیدیة، ومن ثمّ إسباغها علی النص الشعري، دون أن یلتفت إلی السیاق النصي والبنیة اللغویة؛ ولذلك اعتبر هذه المقتطفات، ومن ضمنها قصیدة حوار شعرا كفریا عفِنا، فكأنه ینطلق من أسبقیة المعنی علی البناء النصي ویحكم القصیدة من المنظور الدیني لا اللغوي. كتاب أعلام وأقزام في ميزان الإسلام، لحسین العفاني (2004م)؛ قد اقتطف الباحث في هذا الكتاب نماذج مختلفة من الأدباء والكتّاب وانطلق من التوجه الدیني لدراسة هذه النماذج؛ فالمسلك الذي اتخذه الكاتب مركبا للدراسة یتشابه كثیرا مع مسلك سعید الغامدي في كتابه السابق الذكر؛ ولذلك یعتبر هذا الحقل حقلا كفریا عفنا كما حكم علیه الغامدي، ولم یعر أيّ اهتمام بدراسة النص، وإنما أسبغ الفكرة الدینیة علی النص فحكم علیه مسبقا. كتاب السؤال الدیني عند أدونيس، لجان نعوم طنوس (2012م)؛ ونوّه الكاتب فیه إلی مقتطفات من آثار أدونيس، حیث یبرز في دراسته هیمنة الحقل الدیني في النص الأدونيسي، ویحاول أن یجیب أن الاقتراب من هذا الحقل لا یعد خطیئة؛ ولكنه لم یصب اهتمامه علی دراسة النص الشعري، انطلاقا من مصدره اللغوي، بل سعی إلی دراسة المقتطفات، وفق المنظور التحلیلي للمعنی وابتعد عن النظر إلی البنی اللغویة. أما المختلف في البحث الحاضر فهو أنه ركز علی فاعلیة البنیة اللغویة في الإنتاج الأدبي، وانطلق منها لتكون هي الركیزة الرئیسة في دراسة النص، ومن ثمّ حاول، قدر المستطاع، أن یبتعد عن إسباغ الإیدیولوجیا علی النص قبل أن یدرس البنیة النحویة للنص الشعري، فأصبحت البنیة النصیة أداة للكشف عن الدلالة الشعریة.
یقال: الفن ینبع من الإثم، عبارة ینقلها الأستاذ محمدرضا شفیعى كدكنى في كتابه این كیمیای هستى، ویفسرها تفسیرا قائما علی الانزیاح الدلالي، حیث یقول: «من وجهة نظري فإن هذا القول لا یعني إلا أن نجاح كل أثر فني یتوقف علی مقدار انتهاكه لمرجعیات المجتمع» (1397ﻫ.ش، ج 1، ص 192)؛ انطلاقا من هنا، فإنه قد یجوز لنا القول بأن النص الإبداعي هو التجاوز المستمر للقیم السائدة التي لاحركیة فیها، بل لا تتجاوز أن تكون هیكلا تنظیميا یهیمن علیه الیقین التام. فلا یدخله أي انفتاح للتشویق إلی تحصیل الكمال، بل هناك یقین له نهایة، وعلی العكس، النص الإبداعي بتجاوزه للقیم السائدة، حیث ینفتح علی عوالم أخری ویتضمّن «بعد اللانهایة، في مجال التعبیر، الذي یستجیب لبعد اللانهایة في مجال المعرفة» (أدونيس، 1989م، ص 77)؛ ومن هنا، فإن البنیة الشعریة بتوظیف تقنیة الانزیاح علی المستوی الدلالي، لا تعبر عن القیم السائدة، بل تتجاوز ذلك إلی تأسیس قیم أخری تخترق التراث علی كافة المستویات، فالنص في هذه الرؤیة الانزیاحیة لا یتحرك عبر مسار التراث، وإنّما یخرج علیه لتأسیس نسق معرفي جدید. وهذا الجدید قد یفسره البعض بالخطیئة والإلحاد والزندقة (العفاني، 2004م، ج 2، ص 12 ـ 13؛ العفاني، د.ت، ص 319 - 320)، وذلك نظرا لما یتم من دراسة النص الشعري القائم علی المجاز، من وجهة نظر الدلالة الوضعیة للكلمات والبنیات، وعلی الرغم من أن اللغة «لیست ملك الشاعر: لیست لغته إلا بمقدار ما یغسلها من آثار غیره، ویفرغها من ملك الذین امتلكوها في الماضي ... اللغة دائما تخص زمانا، بنیة اجتماعیة ما، إنها تجيء من الماضي، حین یأخذها الشاعر كما هي، كما تجیئه لا یكتب، بل ینسخ ... اللغة الشعریة لا تتكلم إلا حین تنفصل عما تكلمته: تتخلص من تعبها، تقتلع نفسها من نفسها. فاللغة الشعریة دائما ابتداء» (أدونيس، 1978م ب، ص78)، فالمعاني المعبأة في المفردات والبنیات لا یمكن إسباغها علی النص الشعري؛ إذ إن الأدیب لا ینسخ الكلمات من الماضي، وإنما یبتكرها ابتكارا جدیدا؛ ولكن هذا الابتكار لا یعني إسباغ المعنی الجدید علی المفردة دون أي نظام، وإنما یكون ذلك نابعا من التراث، ولكن علی نسق مختلف. فخرق التراث علی مستوی الدلالة لا یعني الانقطاع عنه، بل علی العكس تماما، یهدف إلی قراءة جدیدة للتراث، فـ«دلالة التجدید الأولی في الشعر هي طاقة التغییر التي یمارسها بالنسبة إلی ما قبله وما بعده، إلی طاقة الخروج علی الماضي من جهة، وطاقة استحضان المستقبل من جهة ثانیة» (جحا، 1999م، ص403)؛ وانطلاقا من هنا، فالنص الشعري هو نص يتسم بالتغییر والخروج علی الماضي؛ ولذلك رأینا أن شفیعى كدكنى اعتبر نجاح الأثر الفني متوقفا علی مدی انتهاكه لمرجعیات المجتمع؛ ومن هنا، یلاحظ اقتراب بنیة النص الإبداعي من الخطیئة؛ إذ إن من یخرج علی التراث، فهو إما مجنون بالمعنی المبتذل، وإما متآمر (سعید، 1986م، ص 93)؛ ولكن الأمر لیس علی هذه الشاكلة، بل لا بد من دراسة النص الشعري انطلاقا من سیاقه اللغوي، ولیس من إسباغ المعاني المعبأة في المفردات من صدأ الماضي علیه ابتداء. ومن هذه الوجهة، فالنص الشعري عند أدونیس لیس نسخة عن التراث، وإنما هو خروج علیه؛ ولكن ذلك الخروج لا یعني الانقطاع عنه، كما أسلفنا في القول. النص الأدونیسي موقف رافض لصدأ القیم السائدة انطلاقا من النظریة الشكلیة التي تعترف بأن الانزیاح عن المعیار هو ما یمثل أساس الإدراك الجمالي (المناصرة، 2006م، ص 291)؛ ولذلك نلاحظ أن أدونيس یعلن رفضه للتصورات القدیمة التي تم لصوقها بصدأ العادة، فكأنه یرید تأسیس نسق معرفي قائم علی الحیرة وهاجس السؤال لیعید تشكیل التصورات من جدید، ولاسیّما فیما یتعلق بالتصورات الدینية؛ ولیس ذلك إلّا لأن المجتمع العربي یتحرك عبر المسار التقلیدي للتصورات الدینیة، فأصبحت ممارستها اعتیادیة، دون أن یمسها هاجس السؤال؛ ومن هنا، أصبح الدین مجالا معرفیا لأدونیس یتلقی منه تجربته الصوفیة، ویعلن رفضه لممارستها الاعتیادیة في المجتمع العربي، فهو لا یرفض الدین، وإنما یرفض التصورات السائدة علی الفكر العربي؛ ومن هنا، ندخل في دراسة قصیدة حوار عبر قراءة جدیدة للنظریة الشكلیة.
حِوار مَن أنتَ؟ مَن تَختار یا مَهیار؟ أنّی اتَّجهتَ، اللّٰهُ أو هاویةُ الشَّیْطانِ هاویةٌ تَذْهبُ أو هاويةٌ تَجيءُ وَالعالمُ اختیارٌ. لا اللّٰه أختار ولا الشیطانُ كلاهُما جِدارٌ كلاهُما یَغْلق لي عینيّ ـ هَل أُبدِّل الجِدارَ بِالجِدارِ وَحِیرتي حِیرةُ مَن یًضيءُ حِیرةُ مَن یَعرِفُ كلَّ شَيءٍ ... (1996م، ص 177). تشكل هذه القصیدة المحور الأساس فیما یتعلق بحقل "المقدّس" في النص الأدونيسي. وحقل المقدس یهیمن بسلطته علی النص الأدونیسي ویستدعي كلمات تكوّن القوة المهیمنة لهذا الحقل منها: "اللّٰه / الشیطان / الصلاة / العهد الجدید / التكایا و..."؛ ولكن النص الإبداعي عند أدونيس لا یعامل هذه الكلمات انطلاقا من دلالتها الراسخة في النص الدیني، بل تقف إبداعیة النص الأدونیسي لتسائل كل هذه الدلالات والمفردات أو لنقل بالأحری إنها تسائل المؤسسات الدینیة والتقالید الاجتماعیة التي أصبحت لها سلطة مثل سلطة اللّٰه (منصور، 2004م، ص 52). ففي هذا الحقل، تتجرّد المفردات من دلالتها الراسخة في الوعي، وتأخذ دلالات جدیدة تكتسبها من السیاق والأسلوب. فلا یمكن للمتلقي دراسة القصیدة من منطلق إسباغ الدلالات القدیمة أو هیمنة الإیدیولوجیا الدینیة علی النص؛ إذ إن الشعر كما عرّفه جاكبسون[3] «فن لفظي، وإذن فهو یستلزم، قبل كل شيء، استعمالا خاصا للغة» (1988م، ص 77)، وبالتالي فلا یمكن دراسة النص الشعري انطلاقا من دلالة المفردات المعجمیة، وإنما تنطلق القراءة من السیاق النصي. فلا یمكن القول بأن مفردة "اللّٰه" تعني الوجود الواحد الذي تم شحنها بهذه الدلالة في النص القرآني؛ لأن الشعر لیس انعكاسا لما قبله، بل هو تأسیس جدید علی المستوی اللغوي والدلالي؛ وذلك لأن «الخلق الشعري یعتمد القدرة الفائقة لدی الشاعر؛ لأنه سیكفل إعادة تسمیة الأشیاء دون اعتماده الواقع الحرفي» (یحیاوي، 2008م، ص 19)؛ ومن هنا، یتخلی النص الإبداعي عن اعتماده علی الدلالات الطبیعیة ویفجر الكلمة بشحنها لدلالات جدیدة. وهذا الشحن یستبطن الدلالة نحو التحرر من سلطة القدیم من جهة، ومن جهة أخری یؤدي إلی تنشیط المتلقي في عملیة القراءة باحثا عن المعنی الجدید ضمن السیاق النصي. من هذا المنطلق، قد یجوز لنا القول بأن النص الشعري لیس انعكاسا لما قبله، ولا یعني ذلك انقطاعا عن التاریخ، بل إن الشعر بنیة تأسیسیة تعید قراءة التأریخ وتؤوله تأویلا یقترب من عالم الشاعر (بومسهولي، 1998م، ص 86)؛ ومن هنا، فإن القصیدة السابقة تنهض من بنیتها المتحركة فتسیر نحو اللاثابت الألیف. النص یستهل عتبته بهاجس السؤال موجها به إلی المخاطب "من أنت ؟"، فكأن هذا السؤال هو المركزیة الأولی بالنسبة إلی النص، وهو الذي یكوّن هویة النسق الذي یتحرك النص عبره لیؤسس ما یرید؛ ولكن الأمر لا یقف علی هذا الحد، بل إن الأدیب یصعّد من وتیرة الأمر عندما یشحن نصه بالأسئلة بتوظیف "من تختار؟ / هل أبدّل الجدار بالجدار؟"؛ وبناء علی هذه البنیة التساؤلیة في شعر أدونیس، يلاحظ أن "أسیمة درويش" تعترف بأن «شعر أدونيس مسكون أبدا بالسؤال وساكن به» (1992م، ص 130)، حتی وصل الأمر بالأدیب في بعض القصائد إلی أن سأل: ماذا أری؟ أری وَرقا قِیل استَراحتْ فِیه الحِضارات (هل تَعرِفُ نارا تَبكي؟) أری المئةَ اثنینِ أری المسجدَ الكنيسةَ سیّافین والأرضَ وردةً (1988م، ص 28). فإن بنیة "ماذا أری" التساؤلیة لا نظیر لها في اللغة الواصفة؛ إذ إن الإنسان «لا یسأل عادة عما یراه إلا إذا كان مشرفا علی منظر تتعذر رؤیته علی الآخرین» (درویش، 1992م، ص133)، فهو لا یری مثل ما یراه الإنسان العربي، وإنما یری أن المجتمع العربي مجتمع لا حركي یهیمن علیه القدیم بكل مكوناته، فیوقفه من عناء السعي إلی المزید. وانطلاقا من هنا، فإن النص الأدونیسي یرید أن یشكل نسقا معرفیا یهیمن علیه هاجس السؤال الذي قد یمكن أن یوصف بأنه الأساس لكل تأسیس ورؤیة جدیدة. ومن هنا، نسترجع البصر إلی قصیدة حوار لنقول بأن البنیة التساؤلیة في النص لا تؤشر ولا تدل إلی بنیة شكلیة حسیة، وإنما تستبطن الدلالة باتجاه فعل إرادي أعمق للكشف عن الهویة، فهي بدایة تثیر العصف الذهني للمتلقي، وقد تكون الغایة منها هي استدعاء المتلقي ولفت انتباهه منذ مستهل النص، لیكشف له الستار عن البنیة المعرفیة التي تتأسس فيه؛ إذ إن «السؤال لیس إلّا فعلا أعمق للكشف عن الأشكال التي تتمظهر بها البنیة المعرفیة التي یعیش في إطارها الإنسان؛ إذ یسیطر علیها نوع من التجانس في فهم الأشیاء والذات، أو المعنی بمفهومه الشامل» (بلعلي، 2001م، ص 126). وانطلاقا من هنا، فإن البنیة التساؤلیة المطروحة في مستهل النص تمثل دورا مهما في إحداث الخلخلة والمشاكسة لهوية المخاطب، فكأن ذلك بمثابة قنبلة تفجر الهویة التي یعیش في كنفها المجتمع العربي. فالفكر العربي تكون في كنف الهویة التي تهیمن علیه ثنائیة "الخیر والشر"؛ فالمكونات التي تتعالق بهذا الفكر تنحصر في هذه الثنائیة. وبالتالي، فإن الإنسان العربي مشدود لاشعوریا إلی أحد طرفي هذه الثنائیة؛ ولذلك نلاحظ أن الأدیب یأتي ببنیة نصیة لتعبر عن النسق القائم علی الفكر العربي، وذلك یتمثل في الجملة التالية: "أنّی اتجهت، اللّٰه أو هاویة الشیطان / هاویةٌ تذهبُ أو هاویة تجيء". فإن توظیف حرف العطف "أو" لم یأت من الفراغ، وإنما یستبطن الدلالة إلی الثنائیة القائمة علی النسق المعرفي للإنسان العربي، فكأنّه متعالق بأحد طرفي هذه الثنائیة ـ شاء أم أبی ـ مما یسلب منه حق الاختیار والعالم اختیار؛ وذلك لأن حرف "أو" العاطفة موضوعة لأحد الشیئین (ابن هشام، 1997م، ص 421)، فهي بمثابة التخییر القسري الذي یهیمن علی النسق المعرفي. وبالتالي، فلا یمكن للإنسان العربي أن یخرج من هذه الهویة، ولو اتجه أقصی المسالك وابتعد عن مكانه؛ وذلك لأن الأدیب بتوظیف "أنّی" ذهب إلی تأسیس بنیة تؤشر إلی عمق رسوخ هذه الثنائیة في أنحاء المجتمع العربي؛ إذ إن "أنّی" ظرف للمكان یستبطن الدلالة إلی الشرط، ومن جهة أخری یفید العموم المطلق، وذلك متأت من أن الكلمة لا بد من التقارب لها بین المعنی والمبنی؛ ومن هنا، فإن هناك فرقا شاسعا بین "أنّی" و"أین"، وذلك أن الأوّل {أنّی} أكثر عموما؛ إذ «إن إطلاق الألف قد یدل علی سعة المكان فیها» (السامرائي، 2000م، ج 4، ص 81)؛ ومن هنا، یجوز لنا القول بأن مدّة الألف في "أنّی" تؤشر إلی إطلاق المكان إطلاقا بعیدا وامتدادا شاسعا. وبناء علی هذا، فإن توظیف "أنّی" یدل علی أن المجتمع العربي في كل أنحائه تهیمن علیه هذه الثنائیة؛ ثنائیة الخیر والشر ـ التي تم تأسیسها في الماضي، ولاتزال تحكم مهیمنة علی النسق الفكري للإنسان العربي. فهو تخییر قسري لا یغلق علی الإنسان رؤیة المعرفة فحسب، وإنما یرمي به إلی الهاویة. فالأدیب یدعو إلی التحرر من هذا التخییر القسري الذي یتمثّل في الثقافة السلطویة القدیمة المهیمنة علی الفكر العربي. فالنص الأدونیسي لا یدعو إلی إنكار وجود الله كما ذهب إلیه البعض تعلیقا علی قصیدة حوار، فاعتبروها من نماذج شعره الكفري العفن (العفاني، 2004م، ج 2، ص 12 ـ 13؛ العفاني، د.ت، ص 319 - 320)؛ وذلك انطلاقا من إسباغ الإیدئولوجیا الدینیة علی النص، كما كانت الماركسیة تنظر إلی النص الأدبي من رؤية نظریة الانعكاس؛ ولكن الأمر لیس علی هذه الشاكلة؛ إذ إن المفردة لا تكتسب دلالتها من اللغة الاعتیادیة أو اللغة المعجمیة، وإنما الدلالة في النص الشعري نابعة من السیاق والعلاقات المضمرة بین النص والنصوص الأدبیة الأخری. فـ«النقد الذي یقف عند ظاهر الكلمات، ومدلولها الحرفي العادي، قد یكون نقدا للعلم أو الفلسفة؛ لكنه لیس نقدا شعریا» (أدونيس، 1978م أ، ج 1، ص 211 ـ 212)، فالنظرة النموذجیة المعجمیة إلی النص الشعري لا بد لها من الإدلاء بالرأي عن كثیر من النصوص بأنها كفریة عفنة، كما ذهب إلیه حسین العفاني في كتابيه عن النص الأدونيسي (2004م، ج2، ص 12 ـ 13؛ د.ت، ص 319 - 320). فإن الدعوة إلی التحرر من التخییر القسري في قصیدة حوار لیست دعوة كفریة لإنكار وجود اللّٰه أو رفضه، بل هي علی العكس تماما دعوة للكشف الواعي القائم علی البحث والاكتشاف. فإن مفردة "اللّٰه" في بنیة "لا اللّٰه أختار ولا الشیطان"، لا تعني اللّٰه الواحد الصمد في النص القرآني؛ إذ إن النص الإبداعي لیس تقلیدا، وإنما تأسیس وابتداء جدید، فهي تعني اللّٰه الذي تمّ تصنیعه من قبل المؤسسات والأعراف والتقالید الدینیة، أو لنقل بالأحری إنه اللّٰه الذي تم تصنیعه من قبل التصورات المهیمنة علی الوعي الثقافي للإنسان العربي، فأصبحت تصورات اعتیادیة لا تدخل ضمن الإدراك المعرفي؛ ولذلك نلاحظ أن النظریة الشكلیة تعترف بأن الحرب قائمة بین العادة والإدراك الحقیقي؛ إذ إن صدأ العادة علی المفردات یحول دون الإدراك الحقیقي لمعناها (قنادان، 1391ﻫ.ش، ص 45). فإن التصورات الاعتیادیة المنبعثة من الماضي حالت دون الإدراك للإنسان العربي في حقل "اللّٰه" فأصبحت المعرفة بـ"اللّٰه" معرفة اعتیادیة لا تمثّل أي حقل من الإدراك، وإنما تمثل هیمنة القدیم علی ذهن الإنسان العربي. ومن هنا، فالنص یدعو إلی عدم اختیار هذا النسق المعرفي الناهض من هیمنة القدیم، وهذا ما یتم عبر إنشاء خلافات مقدسة جدیدة تخلف اللّٰه، حیث تحلّ محله وتتحدث باسمه كما یحلو لها، وكما تراه یحقق أهدافها ویخدم مصالحها السیاسیة الدینیة، فتغلو في الدین وتسلب حق الاختیار والفكر الإیدیولوجي من غیرها، وتحكم علیه بالموت والإعدام وتقع هي في هاویة الشیطان باسم الحق والإله المقدس، كما فعلت فرقة "داعش" المتطرفة أو غیرها، وسُلبت حیرة الضوء هنا وتحل حیرة الظلام. ولذلك نلاحظه یقول في موضع آخر: أنا سیّدُ الضوءِ لكنني كَي ألامِسُ أقصی المسافاتِ أَخلَعُ نَفسِي حِینا وَأَخرجُ مِن خُطُواتي (1988م، ص 131). فالمسألة لیست هي إنكار وجود الله لنعتبره شعرا كفریا، كما ذهب إلیه حسین العفاني (2004م، ج 2، ص 12 ـ 13)، والغامدي (2003م، ص 351)، وإنما القصد هو الخروج من الخطوات المعتادة، أو لنقل بالأحری التحرر من التأریخ للبدء من جدید. فـ"الخارج" النصي الذي أسلفنا القول فیه، فهو كل یحیط به ثنائیة "الخیر والشر" أو "الأبیض والأسود" في المجتمع العربي ویسمیها النص "جدارا". ومن هنا، یعلن أن العالم "اختیار"، ولیس القصد من الاختیار هو الحریة والانتخاب، بل هو تخییر قسري لا یمكن للإنسان أن یكون فیه مختارا. فهو یرفض هذه الثنائیة ـ اللّٰه أو الشیطان ـ رفضا لا یؤدي إلی الكفر، كما ذهب إلیه الغامدي واعتبر القصیدة من نماذج الكفر البواح (2003م، ص 351)، بل إن البنیة اللغویة في القصیدة تكونت علی أساس المهیمنتین: ـ الاختیار: ثنائیة اللّٰه ـ الشیطان = الخارج الحاضر في النص؛ ـ الحیرة: صیرورة المعنی ـ خلق الحیرة = الداخل التأسیسي في النص. القوة المهیمنة الأولیأ والاختیار هي تمثیل للمجتمع أو الواقع الذي یعیش في كنفه الإنسان العربي، وتنطلق من هیمنة التصورات القدیمة. فالإنسان یعیش ضمن حقل التخییر القسري لأحد طرفي هذه الثنائیة، ومن ثمّ یصبح النسق المعرفي نسقا قائما علی التصور التقلیدي الناهض من التراث دون أي وعي إدراكي. فالاختیار هنا لا یمثل فعلا إدراكیا إیجابیا، وإنما یمثل تقلیدا سلبیا؛ وذلك لأجل العلاقة التجاوریة التي تم فیها التعالق بین "الاختیار" و"الهاویة"، فالنسق المعرفي یتأرجح بین الهاویتین اللّٰه / الشیطان، فالمختار أیا كان فهو الهاویة. وبناء علی هذا، فالاختیار یخرج من طبیعته المعجمیة ویكسب دلالته من السیاق اللغوي ضمن العلاقة التجاوریة، فیصبح فعلا سلبیا یتخبط الإنسان فیه تخبطا عشوائیا. ومن جهة أخری، فإن الأدیب یصعّد من حدة هذا التأرجح بین الهاویتین، عندما یحذف المبتدأ من بنیة "اللّٰه أو هاویة الشیطان"؛ إذ إن الأصل لهذه البنیة هو "أنّی اتجهت فهو اللّٰه أو هاویة الشیطان". ومن هنا، فإن هذا الحذف یؤدي دورا مهما في إبراز ثنائیة الخیر والشر ومدی فاعلیتها في ذهنیة الإنسان العربي، حیث لا توجد غیر هذه الثنائیة. فلم یعد هناك أي مكان لغیرها. فالإنسان العربي أینما اتجه عبر مسافاته البعیدة، فیواجه هذه الثنائیة التي لا بد له من اختیار أحد طرفیها، دون أي سؤال، فكأن المجتمع العربي مجتمع یشكل اللون الأسود الشیطاني والأبیض الإلهي فیه حدود الهوية (خیربك، 1986م، ص 188 ـ 189)، أي الهویة الثابتة علی مر العصور، فیتابع الإنسان تكرارها دون فكر أو تدبر، فیعبد المتأخر ما عبده المتقدم دون أي موقف منها. ولذلك نلاحظ أن النص یعبّر عن هذه الثنائیة بـ"الجدار"، وهو مفهوم لاحركي ثابت یمنع من الصیرورة والتقدم، كأن الإنسان یختار سدا یرتطم به، فیقف عنده لیتحول هو إلی جدار مثله، هذا ما یحققه من عدم الاختیار، إذا تساوی الاختیار بین الاثنین، فیتلخص الاختیار بین قوتین ثنائیتین لا توسط بینهما مما ینفي الحریة الحقیقیة التي فطر علیها الإنسان، فتصبح القوة المهیمنة علی ذهن الإنسان العربي علی صعید الرؤیة كالنسق التالي: ثنائیة اللّٰه ـ الشیطان {الأبیض / الأسود ـ الخیر/ الشرّ} = الهاویتان: (ثمّ) الاختیار القسري من هاتین الهاویتین{أو الاختیار الجداري: دون أي إثارة للعصف الذهني، بل انطلاقا من التصور التقلیدي}. وأما القوة المهیمنة الثانیة أو صیرورة المعنی، فإنها تتمثل في الحیرة، فیتم التعالق بین حیرة الضوء وحیرة المعرفة انطلاقا من العلاقة التجاوریة في البنیة اللغویة، ومن جهة أخری بین الحیرة والعرفان، فلیس هذا التعالق بنیة لغویة حسیة، وإنما تمثل هذه البنیة شبكة مفهومیة في غایة الأهمیة، فلیست الحیرة وحدها هي الغایة من "الداخل التأسیسي" للنص، بل إن علاقة تجاورها مع فعلَي "یضيء ویعرف" تُخرِجُها من حقلِ دلالتها السلبیة الراسخة في المعجم من تیه وضلال: «حار بصره یَحارُ حیرَة وحَیراً، وذلك إذا نظرت إلی الشيء فغشي بصرك، وهو حیران تائه، والجمیع حَيَاری ... والطریق المستحیر: الذي یأخذ في عرض مفازة لایدري أین منفذه» (الفراهیدي، 1409ﻫ، ج 3، ص 288)؛ و«حار: لم یهتد لسبیله، وهو حائرٌ وحیرانُ، من قومٍ حیاری، والأنثی حیری» (ابن سیده، 1421ﻫ، ج 3، ص 453)؛ ومنه رجل حائر بائر: «متحیّرٌ في أمره لا یدري كیف یهتدي فیه» (ابن الأثیر، 1367ﻫ، ج 1، ص 466). ومن ثم تُدخِلها إلی حقل دلالي متضاد مع الدلالة المعجمیة فتصبح الحیرة طریقا للإبداع بعد أن كانت طریقا للتیه والضلال في المعجم. ولذلك نلاحظ أن كمال خیربك یقول عن هذه القصیدة: إنه (= أدونيس) «یری في اللاتیقن والحیرة مصدر ضوء ومعرفة للإنسان المنقذ والخلاق» (1986م، ص 188)، فلیست القوة المهیمنة لـ"الداخل التأسیسي" تقف بجانب التیه والضلال، وإنما تكسب دلالتها من السیاق، فـ«النص الشعري أو الفني كیان حي، أو نسیج متواشج متفاعل تأخذ عناصره أهمیتها ودلالتها من موقعها وحضورها في شبكة العلاقات النصیة» (سعید، 2014م، ص 15)، فلا بد لـ"الحیرة" من أن تكون دلالتها مفهوما مخالفا مع "الجدار"، ومن جهة ثانیة لا بد من تحدید الدلالة من قبل علاقتها التجاوریة مع "یضيء ویعرف". فیصبح النسق التأسیسي القائم علی الحیرة نسقا حركیا یخلخل النسق الیقیني الثابت، فیستدعي من الإنسان أن یتحرك واعیا رافضا التقلید والتحرر من كوابت الثقافة السلطویة، فلیس القصد من تأسیس نسق الحیرة هو الاهتداء إلی غیر السبیل، وإنما القصد هو التحرر من هیمنة التقلید العشوائي دون أن یتخذ موقفا أمامه أو خلق نسق لا یهیمن علیه أي سلطة أخری. فهي نسق الحیرة أو لنقل بالأحری نسق لا یهیمن فیه علی الإنسان سلطة أخری، فتصبح «الحریة هي مرتجی الشاعر، فلا یستطیع أن یرتبط بقوة علیا تسدّ علیه دروب الحریّة، ففي نظره یبطل الإنسان أن یكون إنسانا إذا فقد الحرية» (طنوس، 2012م، ص 30). ومن هنا، فإن المعوّل علیه في "الداخل التأسيسي" هو الانطلاق من الحیرة باعتبارها إثارة للسؤال لإیقاظ التاریخ وفوران أصدائه ودعوة للاختراق والانزیاح في حین أن "الخارج النصي" هو نسق یهیمن علیه الثبات ضمن حالة واحدة هي ثنائیة الخیر ـ الشر المحاطة بالتصورات القدیمة. وبناء علی ذلك، قد یجوز القول إن هناك علاقة جدلیة بین "الخارج" و"الداخل"، حیث یلاحظ أن مسافة التوتر قائمة بینهما؛ فالنص الأدبي لا یعكس البنیة الفوقیة، كما ذهبت إلیه نظریة الانعكاس الماركسیة، وإنما یخلق النص الإبداعي مسافة توتر بین أفق الواقع وأفق الداخل النصي من خلال تقنیة الانزیاح علی كل من مستوی اللغة والتفكیر. فـ «النص الأدبي لیس وثیقة تاریخیة، ولكنه أیضا لاینطلق في التأسیس لمرجعیاته من فراغ، وإنما بقراءة واعیة للتاریخ» (بولكعیبات، 2016م، ص 343). ومن هذا المنطلق، نستطیع أن نفهم الانزیاح الدلالي وتأثیره علی مستوی التفكیر بشكل جید؛ إذ إن الانزیاح في هذا المستوی هو المسافة القائمة بین "الخارج" و"الداخل". وكل ذلك یتم كشفه انطلاقا من التوظیف اللغوي عبر النظریة الشكلیة التي لا تقول بالوظیفة الشعریة للغة فحسب، وإنما تعتبرها وظیفة مهیمنة علی النص، ولا یعني ذلك إلغاء الوظائف الأخری للنص الأدبي؛ ولذلك ألح رائد النظریة الشكلیة، جاكبسون، علی دراسة اللغة الأدبیة في كل وظائفها (بومزبر، 2007م، ص 50)، مواصلا هذه الفكرة قائلا بأن الشعریة لیست هي الوحیدة، وإنّما هي الوظیفة الغالبة فیه (المصدرنفسه، ص 52). وبناء علی ذلك، فتوظیف اللغة في النص الإبداعي لیس نظام مقولات صرفیة أو نحویة مجردة، وإنما یمتلئ هذا التوظیف الانزیاحي للغة بالإیدیولوجیا، كما ذهبت إلیه السوسیونصیة، حیث جمعت بین استقلالیة النص وسیاقه الاجتماعي (بولكعیبات، 2011م، ص 69)، ولا نقصد من الدمج والجمع بین استقلالیة الأدب والإیدیولوجیا ترجمة الإیدیولوجیا فنیا، كما ذهبت إلیه بعض الخطابات النقدیة المعاصرة، وإنما القصد هو أن البنیة التعبیریة في النص الإبداعي تحمل موقفا من العالم وبنائه. فالنسق الذي تم تأسیسه من خلال قصیدة الحوار هو نسق الحیرة الذي یرید الأدیب من خلاله رفض القبول بالتصورات التقلیدیة للمفاهیم، دون أي وعي إدراكي، ویسعی إلی تثبیت أن الحیرة هي مصدر الضوء والمعرفة. فالإنسان العربي لا بد من أن یحتار أمام ما یعبده ویؤمن به، لیس لینكر ما یعبد، أو یكفر بما یؤمن، وإنما لینطلق من السؤال والحیرة لیزیل نفایات العادة من المفاهیم ویراها عبر صورتها الحقیقیة. فتأسیس نسق الحیرة في قصیدة حوار لا یعني رفض نسق "الاختیار"، بل إن ذلك علی العكس تماما. فالنص الإبداعي یقصد تغییر الموقف إلی "الاختیار"؛ إذ إنه یری أن اختیار أحد طرفي الثنائیة لا ینطلق من وعي إدراكي، وإنما ینطلق من تصورات مسبقة تنهض من العادة، فیدخل نسق الحیرة لیؤسس نسقا مختلفا یكون فیه "الاختیار" فعلا إدراكیا ینبع من السؤال والبحث، لا عن التقلید والعادة، فكأنه رفض واختراق لكل مسبق أیا كان.
الخاتمة لقد سعت هذه المقالة إلی إبراز فاعلية البنیة النصیة في الكشف عن الدلالة الشعرية التي أدت إلی هشاشة المنظور الوضعي للدلالة في عملیة الفهم للنص الفني، لتصبح البنیة اللغویة أداة مهمة یشتغل من خلالها المتلقي علی كشف الدلالة. وبالتالي ساهم البحث في تدعیم دور الانزیاح الدلالي الموجود في النص الأدبي عبر اللغة، مما أدی إلی تصعید مسافة التوتر بین أفق المخاطب وأفق النص من خلال دراسة قصیدة حوار لأدونیس كنموذج فني أدبي لیبرز البحث ما اتخذه مركبا یسیر علیه في التنظیر. وتوصل إلی أن القصیدة شكلت محورا مهما في عملیة الخرق المعرفي، فحاول الأدیب من خلال البنیة اللغویة سعیا إلی رفض ثنائیة "الخیر / الشر"، حیث یكون فیها الإنسان ذا اتجاه اختیاري قسري، منحازا إلی أحد طرفي الثنائیة، دون أن یكون هناك أي حركیة معرفية تدعو إلی البحث والسؤال، واخترقت القصیدة هذا النسق المعرفي المهیمن علی الوعي الثقافي للإنسان العربي لیؤسس نسقا معرفیا یختلف عنه، وینطلق من الحیرة باعتبارها مصدرا للضوء والمعرفة؛ إذ إن الحیرة بسبب تعالقها التجاوري تفرغ دلالتها السلبیة وفق المنظور المعجمي وتكتسب دلالات جدیدة في السیاق النصي، فتكون أداة معرفیة لإزالة غبار العادة من التصورات التقلیدیة وتشكل هاجسَ السؤال لیعصف بذهن المتلقي حتی لاتتم هیمنة المعاییر وفق العادة المعرفیة دون أي وعي إدراكي، وإنما يتم تأسیس المرجعیات من خلال نسق الحیرة لتكون خروجا علی سطوة القیم السائدة. فالنسق الذي تتحرك عبره القصیدة هو الخروج علی كل تصور یأتي من العادة، وتأسیس لنسق ینبع من السؤال من البحث انطلاقا من الحیرة أمام السائد المألوف. وحاول الأدیب في القصیدة باختراقه لنمطیة اللغة أن یمارس اختراقا علی نمطية المعرفة لیغیر بؤرة الرؤیة إلی الأشیاء.
[1]. Jakobson [2]. Friedrich Wilhelm Nietzsche [3] .Jakobson | ||
مراجع | ||
أ. العربية ابن الأثیر، المبارك بن محمد. (1367ﻫ.ش). النهایة في غریب الحدیث والأثر. تحقیق محمود محمد الطناحي وطاهر أحمد الزاوي. ط 4. قم: مؤسسه مطبوعاتی اسماعیلیان. ابن سیده، علي بن إسماعیل. (1421ﻫ). المحكم والمحیط الأعظم. تحقیق عبد الحمید الهنداوي. بیروت: دار الكتب العلمیة. ابن هشام الأنصاري، جمال الدين أبو محمد عبد اللّٰه. ( 1997م). المغني. بیروت: دار الفكر. أدونيس. (1996م). أغاني مهيار الدمشقي وقصائد أخری. دمشق: دار المدی للثقافة والنشر. ــــــــ . (1978م). الثابت والمتحول: بحث في الاتباع والإبداع عند العرب. بیروت: دار العودة. ــــــــ . (1989م). الشعریة العربیة. ط 2. بیروت: دار الآداب. ــــــــ . (1978م). زمن الشعر. ط 2. بیروت: دار العودة. ــــــــ . (1988م). المطابقات والأوائل. بیروت: دار الآداب. ــــــــ . (1988م). هذا هو اسمي. بیروت: دار الآداب. بلعلي، أمنة. (2001م). الحركة التواصلیة في الخطاب الصوفي. دمشق: اتحاد الكتاب العرب. بولكعیبات، نعیمة. (2011م). سوسیولوجیا النص: تاریخ المنهج وإجراءاته. جامعة باتنة. كلیة الآداب واللغات. قسم اللغة العربیة وآدابها. ـــــــــــــــــــ . (2016م). المنهج الاجتماعي في النقد العربي المعاصر. جامعة باتنة. كلیة اللغة والأدب العربي والفنون. قسم اللغة العربیة. بومزبر، الطاهر. (2007م). التواصل اللساني والشعریة: مقاربة تحلیلیة لنظریة رومان جاكبسون. الجزيرة: الاختلاف. بومسهولي، عبد العزیز. (1998م). الشعر والتأویل: قراءة في شعر أدونيس. المغرب: أفریقیا الشرق. جحا، میشال خلیل. (1999م). الشعر العربي الحدیث من أحمد شوقي إلی محمود درویش. بیروت: دار العودة. خیربك، كمال. (1986م). حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر. بیروت: دار الفكر. درویش، أسیمة. (1992م). مسار التحولات: قراءة في شعر أدونيس. بیروت: دار الآداب. السامرائي، فاضل صالح. (2000م). معاني النحو. عمان: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزیع. سعید، خالدة. (1986م). حركیة الإبداع: دراسات في الأدب العربي الحدیث. ط 3. بیروت: دار الفكر. ــــــــــــــ . (2014م). فيض المعنی. بیروت: دار الساقي. ضاهر، عادل. (2000م). الشعر والوجود: دراسة فلسفیة في شعر أدونيس. دمشق: دار المدی للثقافة. طنوس، جان نعوم. (2012م). السؤال الدیني في شعر أدونيس. بیروت: دار النهضة العربیة. العفاني، حسین. (2004م). أعلام وأقزام في میزان الإسلام. جدة: دار ماجد عسيري للنشر والتوزیع. ــــــــــــــــ . (د.ت). زهرة البساتین من مواقف العلماء والربانیین. القاهرة: دار العفاني. الغامدي، سعید. (2003م). الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها. جدة: دار الأندلس الخضراء. الفراهيدي، خلیل بن أحمد. (1409ﻫ). العین. قم: دار الهجرة. فضل، صلاح. (1998م). نظریة البنائیة في النقد الأدبي. القاهرة: دار الشروق. المناصرة، عز الدین. (2006م). علم الشعریات: قراءة مونتاجیة في أدبیة الأدب. عمان: دار مجد لاوي للنشر والتوزیع. منصور، أمال. (2004م). بنیة القصیدة في دیوان أغاني مهیار الدمشقي لأدونيس. جامعة خیضر. كلیة الآداب والعلوم الاجتماعیة والإنسانیة. قسم الأدب العربي. یاكبسون، رومان. (1988م). قضایا الشعریة. ترجمة محمد الولي ومبارك حنون. المغرب: الدار البیضاء. یحیاوي، راوية. (2008م). شعر أدونيس: البنیة والدلالة. دمشق: اتحاد الكتاب العرب. ب . الفارسية شفیعی كدكنی، محمدرضا. (1397ﻫ.ش). این كیمیای هستی. تهران: سخن. قنادان، رضا. (1391ﻫ.ش). معنای معنا: نگاهی دیگر. تهران: مهر ویستا. | ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 445 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 277 |