تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,646 |
تعداد مقالات | 13,378 |
تعداد مشاهده مقاله | 30,107,611 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 12,059,664 |
دراسة رواية أهل الحميدية لنجيب الكيلاني علی ضوء منهج البنيوية التکوينية لغولدمان | ||
بحوث في اللغة العربية | ||
مقاله 8، دوره 14، شماره 26، تیر 2022، صفحه 93-104 اصل مقاله (1.24 M) | ||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | ||
شناسه دیجیتال (DOI): 10.22108/rall.2021.127678.1357 | ||
نویسندگان | ||
عیدان جلالي1؛ رسول بلاوي* 2؛ علي خضري2 | ||
1طالب الدکتوراه في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة خليج فارس، بوشهر، إيران | ||
2أستاذ مشارک في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة خليج فارس، بوشهر، إيران | ||
چکیده | ||
يعدّ غولدمان رائد البنيوية التكوينية، أي التوليدية، وهي عنده لا تُفهم بمعزل عن الزمان والمكان، وترتكز على المادية الجدلية والتاريخية، مؤكدة على دور البيئة والخلفية الثقافية والتاريخية في إنشاء أي عمل أو نظرية؛ ويعطي غولدمان التاريخ دورا محوريا في البنيوية التكوينية. بما أن نجيب الكيلاني (1931 ـ 1995م)، الذي اعتمدنا روايته، من أبرز الرواد الذين تناولوا قضايا أمتهم ومجتمعهم في كتاباتهم، ولا سيما رواية أهل الحميدية، فقد رأينا فيها تطابقا للبنيوية التكوينية الغولدمانية التي تحقّق وحدة بين الشكل والمضمون للنص ذي البعد التاريخي مضيفة البعد الاجتماعي والنفسي على مبادئ البنيوية الشكلية. نرى من خلال أحداث الرواية، أن الكاتب اعتمد على الظروف المؤاتية وما يعيشه المجتمع المصري آنذاك من وقائع سياسية واجتماعية. وعلى هذا الأساس، قمنا بدراسة هذه الرواية وفقا للمنهج الوصفي ـ التحليلي، نبين مدی انطباق خطوات المنهج الغولدماني على الرواية. تهدف هذه الدراسة إلى معالجة وتطبيق البنيوية التكوينية الغولدمانية على رواية أهل الحميدية لنجيب الكيلاني؛ ومن هنا يقوم هذا البحث على عدة محاور، منها: رؤية العالم، والطبيعة المفارقاتية، والوعي القائم، والوعي الممكن، والوعي الخاطئ. ومن أهم ما توصلت إليه هذه الدراسة، يمكن الإشارة إلى أن مفاهيم ومرتكزات البنيوية التكوينية الغولدمانية حاضرة في طيات الرواية التي درسناها، فوعي الطبقة الاجتماعية قد يتعارض مع رؤية فئة أخرى، وكذلك أن الرؤية المطروحة ليست رؤية فردية خاصة بالكاتب، وليست رؤية جماعية موحّدة للعالم بأسره، لكنها رؤية جماعية معينة انتمى إليها الكاتب فكريا، كما أن الوعي القائم والممكن والخاطئ مشهود في النص. | ||
کلیدواژهها | ||
الرواية العربية المعاصرة؛ البنيوية التكوينية؛ لوسيان غولدمان؛ نجيب الكيلاني؛ رواية أهل الحميدية | ||
اصل مقاله | ||
ينسب المنهج البنيوي التكويني للناقد والمفكر الفرنسي من أصل روماني لوسيان غولدمان[1]. ظهر هذا المنهج في منتصف القرن العشرين حوالي سنة 1947م، وتقدّم البنيوية التكوينية مدخلا جانبا داخليا وخارجيا لدراسة النص الأدبي. وكان يرى لوسيان غولدمان أن كل بنية لغوية موجودة في النص الأدبي من الداخل تولّدت عن بنية اجتماعية في الخارج؛ ولهذا سميت البنيوية التكوينية التوليدية أيضا. اهتم لوسيان غولدمان بالنسق اللغوي للنص من الداخل على أنه مجموعة بنى، وتكلّم عن كل بنية لغوية بمستوياتها التركيبية والجمالية إلى آخرها، وذهب إلى أن هذه حصيلة بنية خارجية اجتماعية. وعمل غولدمان مراوحة بين الداخل والخارج باحثا عن بنية لغوية داخلية يدرسها بكل مستوياتها ويراها أنها تولدت عن بنية اجتماعية خارجية ويعود ثانية للداخل وتتكرر العملية. وهذا ما لمحناه من منهج بنيوي غولدماني في رواية أهل الحميدية للكيلاني، حيث الفقرات الداخلية للنص متولدة عن بنيات اجتماعية قد تأثّر بها المبدع في كتابة روايته، وهذا المزج بين الداخل والخارج في الرواية كان حاضرا مما جعلنا نتخذه لدراستنا. اعتمد البحث على المنهج الوصفي ـ التحليلي لمعالجة مرتكزات البنيوية التكوينية الغولدمانية ومدى تجلّيها في رواية أهل الحميدية وتبيين مكانة البنيوية التكوينية ومدى أثرها على كتابة هذه الرواية. وكان جليا بروز مفاهيم البنيوية التكوينية كمستويات الوعي في أنماطها الأربعة: الوعي القائم، والوعي الممكن، والوعي الخاطئ، ورؤية العالم، حيث إن النظرة التي كان يتبناها بطل الرواية خاصة بعد رسوبه توحي إلى الوعي القائم والبيئة التي ترعرع فيها "الفرارجي" الذي كان يحاول جاهدا أن يصحح نظرة ولده "عبد المغيث" إلى العالم؛ وهذه النظرة تنم عن وعي ممكن برز لنا في الرواية، كما أن الوعي الخاطئ كان مسيطرا على فكرة "رمضان بن العمدة" وآل به إلى نهاية مأساوية أدت به إلى الانتحار. 1ـ1. أسئلة البحث تسعى هذه الدراسة إلى الإجابة عن السؤالين: ـ كيف تجلت العناصر الغولدمانية في رواية أهل الحميدية؟ ـ ما مدى نجاح نجيب الكيلاني في تفاعله مع النظرية الغولدمانية للبنيوية التكوينية في هذه الرواية؟ 1ـ2. خلفية البحث نظرا إلى مكانة التي حظیت بها البنيوية التكوينية في الأدب عالميا بشكل عام، والأدب العربي بشكل خاص، فقد أخذت حیزا لا بأس فیه من البحوث والأطروحات الجامعية التي قامت بدراسة ومقاربة البنيوية التكوينية على بعض الروايات؛ ولكن في مجال النظرية الغولدمانية، لم تخصص دراسات تعالج النص الروائي العربي بصورة مستقلة. فبداية، نقوم بالإشارة إلى أهم البحوث التي تطرقت إلى البنيوية التكوينية بصورة عامة: كتاب البنيوية التكوينية والنقد الأدبي للوسیان غولدمان وآخرين؛ جاءت فصول الكتاب مشتملة على نظريات أهم المنظرين في علم الاجتماع وغيره؛ وما يهمنا الفصول التي حملت عنوان لوسيان غولدمان وآراءه حول المادة الجدلية، وتاریخ الأدب، والوعي القائم، والوعي الممكن، وما كتبه الآخرون حول البنيوية التكوينية وغولدمان. وكتاب العلوم الإنسانية والفلسفة للوسيان غولدمان؛ قد أضيف إلى الكتاب في طبعته الثانية مقال حول البنيوية التكوينية والإبداع الثقافي وهو يعالج البنيوية التكوينية للإبداع الثقافي عامة، والإبداع الأدبي خاصة. وكتاب البنيوية التكوينية من الأصول الفلسفية إلى الفصول المنهجية لمحمد الأمين بحري؛ يشتمل الكتاب على ثلاثة فصول؛ فتطرق الفصل الأول إلى الأصول الفلسفية في تكوينية الفكر الجدلي يشرح فيه فلسفة جورج هيجل[2]، وماركس[3]، وجورج لوكاتش[4]، وسارتر[5] في منظور البنيوية التكوينية؛ وحمل الفصل الثاني عنوان مستويات الإبستيمولوجية لرؤية العالم، جاء فيها على الطبيعة المأساوية لرؤية العالم في كتاب الإله الخفي للوسيان غولدمان وتأوليلية الأنساق الابستمولوجية للبنيوية التكوينية والمقاربة السوسيولوجية البنيوية؛ وأما الفصل الثالث ـ وهو الأهم في هذا الصدد ـ فقد خصّص للبنيوية التكوينية ومفاهيمها ومبادئها، يبيّن المبادئ الأساسية لمنهجية لوسيان غولدمان في البنيوية التكوينية. أما ما يخص الدراسات التي أجريت على روايات نجيب الكيلاني عامة، ورواية أهل الحميدية خاصة، فيمكننا الإشارة إلى رسالة ماجستير عنوانها سيميائية السرد في روايات نجيب الكيلاني لإسراء حمد مرزوق ماضي، والتي نوقشت في جامعة الأقصی بغزة عام 2017م؛ انتهت الدراسة إلى الإشارة إلى الدلالات الأيديولوجية التي ساهمت في تميز روايات نجيب الكيلاني والطريقة المميزة التي اتخذها في السرد، وقد ركّز الكيلاني على التاريخ في رواياته ليعرّف متلقي اليوم بماضيه الديني، وقد أخذت رواياته طابع التفاؤل والأمل محفزة المخاطب إلى التمسك بالقيم والمبادئ ومناهضة الظلم والفساد والطغيان. وفقا لما سبق من تعاريف، تبين لنا أنه لا توجد أي دراسة تقوم بتطبيق خطوات المنهج الغولدماني على النص الروائي بصورة معمقة، وبالأخص في رواية أهل الحميدية لنجيب الكيلاني، والتي تعدّ من الروايات الريادية في هذا المجال.
تحكي الرواية عن الشاب عبد المغيث الذي درس الطب وعانى ما عاناه من صعاب في نيل الحصول على شهادته، حيث رجع إلى قرية الحميدية في محافظة فيوم مصر، ابتدأت حياته الأسرية بـصراع ما بين المضي قدما وراء المبادئ والالتزام بالمسيرة في مناهضة الظلم والاستبداد والوقوف في وجه ما هو باطل، أو الاندماج في تركيبة المجتمع وترك مصارعة الاستبداد الحكومي لرفيقه راضي وخطيبته السابقة رحاب وأمثالهما. تزوّج عبد المغيث ملكة بنت الحاج متولّي شيخ البلدة المسيطر على الصغير والكبير ذي المكانة المرموقة وعيشه في كنف أهالي الحميدية، لا سيّما والده الفرارجي الفلاح والمؤمن والطيب والمحبوب بين الناس الذي يغتاله رمضان بن العمدة حقدا على عبد المغيث؛ لأنه تزوّج بنت عمه ملكة، فكانت البلدة كلها تنعي الفرارجي الشهيد والمقتول ظلما. وتستمر الروایة في سرد أحداث ما وقعت علی الشخصية الرئيسة، ألا وهي شخصية عبد المغيث الطبيب أنه كيف بقى مردّدا بين الحفاظ على أسرته أو ترك مصر والذهاب إلى الخليج وبين البقاء في البلدة إجابة لرغبة زوجه ملكة. إن الحاج متولّي رغم المخاطر الجمة التي كانت تحيط به بعد أن سُجن عدّة مرّات بتهمة خيانة الوطن ومسايرة الثورية وأطلِق سراحه إثر محاولات الحاج متولّي المتنفذ بمساعدة صديقه درويش بك الذي كان يشغل منصبا في الداخلية. يتطرق الكاتب في الرواية إلى القيم والتقاليد التي كبر وتربّى عليها عبد المغيث في القرية، وكيف أنه قد ضعُف إيمانه وأدّی به إلى الانتحار بعد رسوبه في دراسة الطب. فنری الطابع العام على الرواية هو الصراع بين الخير والشر المتمثل بالفرارجي والد عبد المغيث، والطبقة المضطهدة من أمثاله، ورمضان الشرير، وبطش الحكومة، واستبدادها بالناس، وسجنهم، وقتلهم على الظن والتهمة. ومن اللافت، أن الرواية تذكر أحداث زمن سطوة جمال عبد الناصر وقمعه لإخوان المسلمین وحربه مع إسرائيل وقربه للماركسية والشيوعية المتمثلة بالسوفيتي آنذاك.
لقد صاغ غولدمان هذا المنهج النقدي علی أساس مجموعة من الضوابط، وهي تنبعث ركيزتها من أركان الفلسفة الجدلية الماركسية. فيمكننا القول إن البنيوية تكون امتدادا للاتجاه الفكري والنقد الماركسي والبنيوية التكوينية. والبنيوية «تستند إلى فكرة تقول بأن كل التفكيرات في العلوم الإنسانية لا تحدث من خارج المجتمع، بل تأخذ شكلها من داخله» (نجفى واصلانى، 2020أم، ص 47). إن غولدمان هو الباعث والمصب لزمرة من المناهج التي تؤدي إلی نموذج رؤيوي للعالم، توحده بعض العناصر، كالشمولية والانسجام والتناسق، كما أن غولدمان جعل «من أفكاره ومقولاته وأدواته الإجرائية منهجا نقديا، ومفتاحا لقراءة النصوص» (البياتي والجبوري، 2016م، ص 469). إنّ لآراء جان بياجيه[6] قدراً من التأثير علی آراء غولدمان حول البنيوية، حيث كان يعتقد «أن البنية لهي نسق من التحولات، له قوانينه الخاصة باعتباره نسقا في مقابل الخصائص المميزة للعناصر، دون أن يكون من شأن هذه التحولات أن تخرج عن حدود ذلك النسق، أو أن تهيب بأية عناصر أخرى تكون خارجة عنه» (إبراهيم، 1990م، ص 30). قد اعتمد غولدمان في تأسیس منهجه الجديد على أستاذه لوكاتش، رغم وجود بعض وجوه الاختلاف، ومنها: أهم ما يميّز غولدمان عن أستاذه لوكاتش هو «أن العمل الأدبي له بالتأكيد وظيفة فردية دالة عند صاحبه؛ ولكن هذه الوظيفة لا تتصل اتصالا مباشرا بالبنية التي تحكم العمل» (عصفور، 1981م، ص30)، وأيضا يختلف معه في أن لوكاتش «يعتمد أساسا على التحليل النظري والتأليف بين الأفكار، في حين أن غولدمان، وإن بدا فيلسوفا، إلا أنه انتهى باحثا في علم الاجتماع» (ياسين، 1991م، ص 36). كان غولدمان يضع فارقا بين البنيوية الشكلية والبنيوية التكوينية، ويرى في البنيوية التكوينية دورا أكثر وعيا وشموليا للناقد؛ وما يسميه البنيوية التكوينية هي الفرضية أن «السلوك البشري سلسلة من الأجوبة أو الردود ذات الدلالة على مواقف تواجهها الذات، وتحاول أن تقيم نوعا من التوازن بينها وبين العالم المحيط بها؛ ولكن تلك المواقف تتغير بتغيّر الظروف المحيطة بها مما يدعوها إلى إقامة توازنات جديدة تستجيب للمواقف الطارئة» (خشفة، 1997م، ص 55). 3ـ1. انطباع سوسيولوجية الكاتب على الرواية إن البنيوية التكوينية الغولدمانية تدرس النص الأدبي على المستويين الداخلي والخارجي، وتكشف عن أثر البيئة الاجتماعية والاقتصادية على مبدع النص وتجليها في كتابته. فنقوم ـ في هذا المحور ـ بتبيين أبرز هذه التأثرات المتبلورة في الرواية ونقرأ في سيرة حياة الكاتب نجيب االكيلاني، أنه نشأ في أسرة متواضعة مكونة من الأب الذي یعمل بالزراعة وكانت ولادته في قرية شرشابة بجمهورية مصر العربية. نلاحظ أن بطل الرواية عبد المغيث أيضا من أبناء قرية الحميدية ومن أسرة الفلاحين. وقد كان أبوه الفرارجي فلاحا، فیسأله الأستاذ حين الامتحان الشفهي عن موطنه قائلًا: «أنت لست من سكان المدينة / نعم / تبدو عليك ملامح الفلاحين / هذا صحيح» (2013م، ص 9). فالحياة القروية وبساطتها وفقره الذي تذوّقه كلها حاضر في الروایة ملقيا بثقله على سياق النص، وهذا ما يستشعر به المتلقي عند قراءة الرواية. ثم في مجال الحياة المهنية، نری أن الکاتب قد درس الطب، فنشاهد أن عبد المغيث أيضا كان يدرس الطب، والدراسات في مجال الدين قد خلقت منه مفكرا إسلاميا وحافظا لكتاب اللّه الذي أعطى صبغة إسلامية لكتاباته، فـنشاهد كثيرا من المواضع التي ذكر فيها الكاتب الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة في الرواية كقوله: «أكل وشرب دون شهية، ثم دخل غرفته القليلة الأثاث وأغلق بابها من الداخل، وهو يقول: «إنّي نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسياª (مريم 19: 26)» (2013م، ص 12). بالنسبة إلى انتماء الكاتب لحزب إخوان المسلمين وتأثّره بأفكارهم ومعتقداتهم وتعامل النظام الحاكم معه ومنعه من ممارسة النشاط الحزبي وحتى اعتقاله وسجنه، فقد انعكست هذه الرؤية على عبد المغيث، حيث كان له ولرفیقه وخطیبته رحاب الترنح لهذا الحزب والانخراط فیه، لكن بصورة غير محسوسة، مما أدّی ذلك إلى اعتقاله لأكثر من مرة ومنعه وتحذيره من ممارسة أي نشاط يُحسب عليه. فنری عبد المغيث على طيلة الرواية يسعى جاهدا أن يبرئ ساحته من هذا الاتهام ويبتعد قدر الامكان عن أي شيء يجعله في مظان التهمة والمحاسبة والمراقبة. وما يخص قضية حرب العرب مع إسرائيل وقضية فلسطين، نعلم أن طفولة الكاتب كانت معاصرة لفترة الحرب. فالظروف التي عاشها قد تركت انطباعاتها عليه، كما أن له في فلسطين ومسيرة كفاحه ضد الاحتلال الصهيوني دورا تمثّل في إنشاد قصيدة قد نشرها في مجلة الإخوان المسلمين عام 1948م بعنوان النور في أيادينا. فنشاهد مسيرة بطل الرواية عبد المغيث كيف أنه انتهى به المطاف إلى أن يقوم بدوره كطبيب في معالجة جرحى الحرب، كما نلاحظ رمضان ابن العمدة الذي ولّى هاربا بعد قتله لوالد عبد المغيث ذلك الفلاح المؤمن، وأصبح عميلا لليهود والصهاينة. 3ـ2. المستويات الإبستيمولوجية لرؤية العالم إن نظرية لوسيان غولدمان في رؤية العالم تحوّل صياغة الخلفية التاريخية والواقع الاجتماعي إلى عمل أدبي، أي يتجلّى في هذا العمل تطلعات طبقة اجتماعية تختلف نظرتها مع طبقة اجتماعية أخرى، «ويرى غولدمان بأن الطبقات الاجتماعية هي التي تكوّن البنيات التحتية في الواقع (الرؤية إلى العالم أو العالم الخارجي)، ويمكن للحد الأقصى من الوعي الممكن، لطبقة اجتماعية ذات رؤية سيكولوجية منسجمة للعالم الخارجي أن تعبّر على المستوى البيئي والأدبي» (علوش، 2009م، ص 107)، و«مصطلح رؤية العالم هو أعظم ما أضافه غولدمان، برأي جان دو فينو[7] يفسر الجانب الوثائقي من العمل الأدبي ويميّز القيم الجمالية للنص عن طريق الاستنطاق السوسيولوجي» (هال، 1986م، ص 41). أما بالنسبة للعمل الأدبي الذي يقوم به المبدع، فلا يمكن لنا أن نلتفت لقيمة عمل ما إلا من خلال منهجية الكاتب نفسه و«ليس من الممكن للناقد الأدبي أن يدرك عملية الخلق للعمل الأدبي بغض النظر عن المجتمع الذي هو أساس الإبداع والإلهام للعمل الأدبي» (نجفى واصلانى، 2020بم، ص 209). وعندما يكتب الأديب نصه، فهو يعبّر عن رؤيته للعالم، وهذه الرؤية في الحقيقة رؤية الجماعة التي ينتمي إليها، إذن هي ليست فردية، بل تتميّز بالانسجام. و«رؤية العالم مفهوم أساسي في البنيوية التكوينية، إنه أوسع من رؤية الواقع، فهو مجموع التطلعات والإحساسات والأفكار التي توجد بين أعضاء مجموعة اجتماعية ينتمون إلى طبقة واحدة وتجعلهم في تعارض مع المجموعات الأخرى» (تقار، 2010م، ص 30). وعلى هذا النهج، مشى نجيب الكيلاني في رواية أهل الحميدية، حيث شرح طبقة الفلاحين المضطهدين المتمثلة "بالفرارجي المؤمن"، وهو تلك الشخصية القروية البسيطة التي ترى العالم بعيدا عن الظلم والفساد في وجه الطبقة الشريرة. وعلى هذا النمط، تجلت نظرية غولدمان في هذه الرواية عبر عدة محاور، منها: الطبيعة المفارقاتية، والوعي القائم، والوعي الممكن، والوعي الخاطئ. 3ـ2ـ1. الطبيعة المفارقاتية يراد بالطبيعة المفارقاتية لرؤية العالم هو أن النقد يسلط الضوء على انفعالات الكاتب بالنسبة لنواياه والنص الإبداعي. وفي هذه الحالة، قد يكون «الكاتب إنسان يعثر على شكل ملائم ليخلق ويعبر عن هذا العالم، إلا أنه من الممكن أن يحدث تفاوتا كبيرا أو صغيرا بين النوايا الواعية أو الأفكار الفلسفية والأدبية والسياسية للكاتب، وبين الطريقة التي يرى ويحس بها العالم الذي يخلقه؛ وفي هذه الحالة، كل انتصار للنوايا الواعية للكاتب سيكون مميتا للعمل الأدبي الذي تتوقف قيمته الجمالية على المقياس الذي يعبّر فيه رغم وضد القناعات الواعية للكاتب» (غولدمان، 1985م، ص 17)، كما كان المنحى الذي اتخذه الكاتب يتفق ورؤيته الحزبية السياسية ونظريته الاجتماعية، حيث إنه تجسّد في شخصية بطل الرواية عبد المغيث الطبيب المتعهد لوطنه: «أيها الزملاء ... استمعوا إلى ... إنكم تعلمون أن هناك حالات مرضية مأيوس منها شفائها السوس ينخر في عظام المجتمع والفساد مستشر من القمة حتى القاع ... نحن في مزرعة للذئاب ... إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب: قلتها دائما، ولكن لا تحبون الناجحين» (2013م، ص 20). تتجلى الأفكار السياسية والفلسفية في هذا المقطع، عندما قام عبد المغيث بمخاطبة زملائه الطلاب مستنهضا الهمة في وجدانهم محذرا عن وجود طبقات اجتماعية شريرة تنهش كل طيب القلب دون رحمة، وكأنّه يطلب منهم أن يبقوا يقظين من بيئتهم الاجتماعية المريضة. وهذه النوايا للكاتب تتوافق مع العالم الخارجي الذي تتمحور عليه نظرية غولدمان؛ لذا نرى أنّ الكيلاني هنا لا يقوم بفرض آرائه على المخاطب، بل يضعها أمام الصورة الواقعية لدى المجتمع آنذاك والخطر الذي يترصّد لهم في ظل وجود سلطة تستقوي على الضعيف منهم. ولهذا، يطلب من هم أن يكونوا كالذئاب حتى لا يصيروا ضحية الفساد وأن لا يكونوا مهمشين في وطنهم. ومن ثم، يستمر بشحذ الهمم ونبذ الخمول والركَن، قائلا: «إن الجواسيس الذين يبيعون أسرار بلدنا ليس هم الخونة وحدهم ... الخونة الحقيقيون هم الذين يحتقرون كرامة الإنسان وعرقه، ويستغلون ويختلسون ويرتشون، ويجودون على من لا يستحق ... أيها الناس الصدق أمانة والكذب خيانة ... أيّها الناس ثوروا فلن تخســـروا غير الأغلال ...» (2013م، ص 20). يرسم لنا الروائي طبقتين مختلفتين: طبقة تستغل شريحة الضعفاء وتمتص كرامتهم وتضطهد حقوقهم أمام طبقة قد استولى عليها الخضوع والخنوع وخيمت أجواء الاستسلام على عقولهم فخمدت نار الثورة في عيونهم، وهو يحاول أن يشعلها من جديد، وكما نرى أن الروائي يستحضر لنا مفردات تردع الأفكار التي تبث الرذائل في المجتمع، فيأتي بكلمات متضادة ليبرهن لنا مدى استحقاره للصفات السيئة التي أصبحت تتصدّر على رأس القائمة في المجتمع. تكون الثقافة الإسلامية لدى الكاتب هي السمة البارزة المتجلية في ثنايا الرواية، وبالأخص ما يتعلق بتجسيد رؤية العالم. ومثال آخر جاء على النحو، عندما قام عبد المغيث بمخاطبة نفسه عسى أن يصل إلى كيفية التعامل مع واقعه الاجتماعي: «وقال لنفسه كن عاقلا: يا عبد المغيث ... وتعلّم كيف تخفي نواياك وتناور الطغاة حتى تفلت من مخالبهم، ثم افعل بعد ذلك ما تشاء ... تعلّم ولو لمرّة واحدة حكمة من حكم ميكافيلي ... وتذكّر يا عبد المغيث أن الحرب خدعة، وأن المعركة مستمرة» (المصدر النفسه، ص 135). هنا، يحاول الروائي أن يقترب بشدة من الأفكار الصحيحة المتعلّقة برؤية العالم؛ فلذا نراه يبيّن لنا ما يدور في خوالج نفسه ليكشف عن نواياه، فيقوم بمحادثة نفسه على لسان بطل الرواية مقرّا بضرورة الانصياع للتقية مخافة بطش السلطة والاندماج مع اللون السائد على الطبقات المتواجدة في المجتمع؛ وهذا التذبذب كان خليقة الظروف الراهنة التي جعلت من عبد المغيث ذاك الثوري المتحمس ينقلب إلى الطبيب المسالم الذي لا يهمه إلّا الحفاظ على كيان أسرته وحفظ قوته والتمسك بمهنته التي عانی الكثير للوصول إليها. والأمر الذي استوقفنا في المقطوعة أن الروائي امتثل لرؤية المنظر ميكافيلي الذي تتفق آراؤه مع نظرية غولدمان في رؤية العالم. 3ـ2ـ2. الوعي القائم الوعي القائم كل فكرة تجسدت في ماض أو حاضر لمجتمع ما؛ ولكنها على الأرجح ترجع فقط إلى الماضي، «ويطلق عليه أيضا الوعي الواقع أو الوعي الفعلي الحقيقي، فهو وعي بالحاضر مستندا إلى الماضي من كل جوانبه الاقتصادية والفكرية والتربوية والدينية والوعي البسيط المتداول بين مجموع أفراد الطبقة الاجتماعية الذي يخلق التجانس بين أفراد المجموعة الاجتماعية ويؤكّد إحساسها بأنها تكون وحدة متكاملة في مستويات وجودها المختلفة» (عيلان، 2006م، ص 108). فالوعي القائم ما كان مترسخا في أذهان تلك البيئة الاجتماعية على كافة الصعد الثقافية والاقتصادية وغيرها، فهو «مجموع التصورات التي تملكها جماعة ما عن حياتها ونشاطها الاجتماعي سواء في علاقتها مع الطبيعة أو مع الجماعات الأخرى» (لحمداني، 1990م، ص69)، وهذا ما لمسناه في الرواية، خاصة في بعض ما صدر عن حياة الحاج متولي وبطل الرواية عبد المغيث: «لم يلتفت الحاج متولي لشيء سوى ما يعتمل في داخله ... ليس عيبا أن يخطب الحاج المتولي لابنته الوحيدة، المثل الشعبي، يقول: "أخطب لابنتك ولا تخطب لابنك"» (2013م، ص 48). تتجسد فكرة الوعي القائم من خلال الشاهد الذي ينتمي إلى العادات والتقاليد القديمة، فنعلم حق المعرفة أن المثل هو خلاصة عن واقع اجتماعي مترسخ في بيئة ما وبين جماعة ما وحتى من خلال هذا المثل: "أخطب لابنتك ولا تخطب لابنك"، يمكن أن يعرّف عن مجتمع بأكمله، فعندما أطلق الحاج متولي هذا المثل، أراد أن يوكّد أنه ينتمي إلى تلك الطبقة الاجتماعية المتفهمة لحرص الوالد على إسعاد ابنته وتهيئة الظروف المؤدية إلى خلق حياة سعيدة لها. إن الوعي الفعلي الذي نعيشه يوميا ونمارسه في واقعنا قد تمثّل في طبقات قد مرّ ذكرها في الرواية، منها طبقة الفلاحين من أهل الحميدية التي وجدنا فيها أحيانا نفسا، كأنّها لا تريد التغيير، وهي مستسلمة وسائرة على خطى الماضين. وبما أن الوعي القائم هو إدراك فئة اجتماعية ما لوضعها الراهن، فقد أدرك عبد المغيث ذلك الطالب الذي يمثّل الطبقة المضطهدة المقاومة في وجه الطغاة، فهو إدراك لما نالت إليه الأمور يشير إلى فكرة تدخل ضمن إطار الوعي القائم، وهي أن الظلم والفساد لابد أن يقاوم فنراه يقول: «إن الظلمة والفسقة لا بد وأن يشنقوا على قارعة الطريق حتى يكونوا عبرة لغيرهم هذه فلسفة الحاكمين الطغاة وقد عشنا نحاربهم» (2013م، ص16). نلاحظ أن هذا هو الواقع السائد، حيث الفئة الاجتماعية عندما تجابه بالفسق والظلم، تنتفض كي تقاوم الظلمة المتغطرسين. فيتبين لنا من خلال هذا السطر أن فهم طبقة اجتماعية ما عند ظرف كهذا هو الواقع القائم بذاته حسب تعريف لوسيان غولدمان. لقد تربّى عبد المغيث في بيئة محافظة تتمسّك بطبيعتها عن الموروث الثقافي والتاريخي، وهذا هو الوعي الفعلي أي القائم الذي جعل عبد المغيث يحكم على الظلمة من خلال فهمه من منطلق رسوخ جمعي، الشيء الذي جعل من عبد المغيث ذلك الشاب القروي المنبعث من طبقة الفلاحين الذين رضخوا لوعيهم الفعلي، وهم لا يرجون تغيير هذا الواقع، هو انخراطه في طبقات اجتماعية أخرى وفئات كانت ترى نفسها مؤهلة للوصول إلى الوعي الممكن الأمل من الوعي الفعلي، فهو يتضمّنه. إن عبد المغيث قبل دخوله الطب، كانت نظرته محدودة إلى واقعه الاجتماعي، ولكن بعد أن انخرط في سلك زملائه المتحررين من نیر التبعية كزميله راضي ورحاب، أصبحت رؤيته أوسع إلى الحياة. وكانت العادة أن يحظى أولاد الباشاوات والأشراف بالعناية، فقد أخذت هذه الطريقة منحاها، حيث كأنها أصبحت وعيا قائما تسعى إليه كل مجموعة اجتماعية انطلاقا من ظروفها الاقتصادية والفكرية؛ ووفقا لهذه النظرة السائدة، قال عبد المغيث: «لو كان لي قريب أو أب من علية القوم أو كنت ابنًا لأستاذ لكان موقعي في الصفوف الأولى من المتفوقين» (المصدر نفسه، ص 16). يتطرق عبد المغيث إلى مشكلة من مشاكل الطبقة الاجتماعية، وبالأحرى البيئة الاجتماعية التي يعيشها، وكأنّه يهدف إلى تغيير هذا الوعي الواقع والراهن والرغبة في وضع جديد ضمن مجموعة أخرى. فالاختلاف الطبقاتي الذي أشار إليه عبد المغيث يبرز لنا عن واقع لجماعات دون جماعات أخرى. وفي مقبوس آخر، يظهر لنا أسلوب الوعي القائم بصورة مختلفة عن السابق: «إن الحياة لا يمكن أن تسير حسب ما نهوى ذلك؛ لأن للكون خالقا يدبّره، ومهما حاولنا فلن نغيّر شيئا، نحن يا ولدي نروح ونجيء ونعمل في مساحة محدودة ... بيده سبحانه ملكوت كل شيء ...» (2013م، ص 28). نشهد هنا نموذجا من الوعي القائم بملمح إيديولوجي (ديني وفكري)، عندما يقوم الفرارجي بنصيحة ابنه عبد المغيث الذي كان محبطا، خاصة بعد ما رسب في مادة دراسية أدت به إلى الانتحار في لحظة ضعف إيمانه محاولا رفع معنوياته وتبيين فلسفة الحياة وفق منظاره وما استورثه من موروث ديني، وهو: "يا ولدي نروح ونجيء ونعمل في مساحة محدودة ... بيده سبحانه ملكوت كل شيء. هذا ينمّ عن فكرة الفرارجي التي بظنّه جعلت له إيمانا قويا راسخا يقف في وجه التحديات، وفي هذه اللحظة الصعبة التي يمرّ بها ابنه، أراد أن ينقل له هذه الأفكار الثمينة، أيضا يعبّر المؤلف عن الوعي القائم الذي تبلور في رؤى شيخ البلدة الحاج متولّي، عندما قام باستخدام نفوذه ليخلّص عبد المغيث المُعتقل، حيث قال: «هذا الزمان زمن الوساطة والخواطر والتوصيات وإذا لم تفعل سقطت تحت الأرجل» (المصدر نفسه: ص40). هنا، قد التمس الحاج متولي وسطائه من ذوي المكانة المرموقة كنسيب عائلة زوجة أخيه، ودرويش بك مفتش المباحث في وزارة الداخلة ليخلص عبد المغيث من الورطة التي تورّط فيها، فهو استطاع أن يصل إلى ما يريد بفعل هذا الوعي الواقع والفعلي، ألا وهو أن الواسطات تلعب دورا هاما في تعبيد الطرق الوعرة. والمتلقي من خلال قراءته للنص يدرك أن الوعي الناتج عن الماضي الموروث حاضر في الرواية وسائد في ذهن الجماعة، وعلى رأسها شيخ البلدة بأنّ التوصيات كانت ولازالت هي التي ترسم مسير الطبقة الاجتماعية وتُبرهن عن فهمها للوعي القائم. 3ـ2ـ3. الوعي الممكن حسب ما يرى لوسيان غولدمان أن الوعي المتطور عن الوعي الفعلي أي الواقع هو الوعي الممكن، ففي هذا الوعي، يمكن للفئة الاجتماعية أن تعيد مشروعية طموحاتها، و«هو ذلك الوعي المتطور عن الوعي القائم ذي الملامح السكونية السالبة التابعة لتداعيات أحداث عالم الواقع الراهن المستحكم في سيرورة تفاعل الطبقات الاجتماعية؛ لكن هذا الوعي الممكن يتجاوز في تطلّعه وتعبيره عن مكنون ذلك المستوى السكوني للوعي القائم الذي أتاح وجوده، ليشكل في مستوى أعمق إدراكا أكثر تجريدا وشمولا للتجربة الإنسانية، وتصورا أمثل لمستقبلها يمنح بُعدا آخر لمعالجة الأزمة» (بحري، 2015م، ص161). يعتقد لوكاتش بأبعاد هذا الوعي الممكن، كما شرحه غولدمان، وهو «أقصى درجة من التماثل مع الواقع وعلما بأنه ربما لن يبلغ أبدا هذا الواقع، يمكن أن يبلغه الوعي الجمالي دون أن تضطر الجماعة إلى التخلي عن بنيتها» (شحيد، 1982م، ص22). إن غولدمان يتفق مع جورج لوكاتش حول مصطلح الوعي القائم والوعي الممكن. ولكن غولدمان نفسه وجد صعوبة في تحديد معنى المصطلح، حيث يعتقد «موضوعة الوعي هي بالذات من بين الكلمات الأساسية المستعصية على التحديد الدقيق» (1986م، ص33). بذلك أتى حديث الفرارجي في هذه الرواية متمتما بينه وبين نفسه: «قد تأتي الآفات على الزرع وتقضي عليه قضاء مبرما، حدث ذلك كثيرا؛ لكن كنت أنتظر دائما المحصول القادم، ونحن ولم نمت يوما من الجوع قد ينكفئ الجواد لسبب أو لآخر؛ لكنه ينهض ويُسرع في سيره أكثر من ذي قبل بعد أن ينهض من كبْوَته» (2017م، ص24). إن معتقد الفرارجي هو النهوض بولده عبد المغيث مستيقنا أنه يستطيع أن يغيّر الوعي القائم إلى الوعي الممكن. فعنده الوعي الممكن بنفس المفهوم الذي وصلنا من لوسيان غولدمان، أي أن الوعي الممكن هو المحرّك للإنسان، كي يحرّك التاريخ، فالجماعة تتحرك لكي تحقق هذا الوعي؛ ومن ثم يتحرك التاريخ، وهذا ما كان يطمح إليه الفرارجي أن يبث من خلاله روح الأمل في ولده ويضخّ نَفسَ التغيير فيه. فقد كان عبد المغيث بعد انتحاره الفاشل، يرى الدنيا كأنّها قد انتهت ولا جدوة منها، لكن الفرارجي صاحب الإيمان القوي كعادته يقرّ بوجود الصعاب، إلا أنه ـ في الوقت نفسه ـ يؤمن بتجاوز هذا الوعي الواقع السلبي إلى الوعي الممكن وإمكانية تخطّي المصاعب، «فإن مع العسر يسراª (الشرح 94: 5). فالفرارجي رغم أنه ما كان يعرف الكتابة والقراءة، لكنه كان يسمع للآي الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، وهذا ما جعله صاحب مبدأ يعتقد بالنهوض بعد العسرة، فلا بد من تغيير وعي قائم دخل في ذهن عبد المغيث بعد أن رسب في دراسته وجعله يفقد الأمل بالتغيير إلى وعي ممكن ينهض به من جديد. وفي مقبوس آخر، تجسد هذا الوعي الممكن في مجتمع الصفوة الذي تحدث عنه عبد المغيث لزوجه ملكة قائلا: «ـ أتعرفين شيئا عن مجتمع الصفوة ـ "الحكومة" ـ ضحك قائلا ... ـ أنا أقول الصفوة، لا المستنقع ـ أما الصفوة يا ملكة فهم الأتقياء الأنقياء الذين يُصلحون حينما يفسد الناس» (2013م، ص 169 ـ 170). وهكذا، درس عبد المغيث حياة صديقه راضي وزميلته رحاب، فجعلهما في زمرة الذين يغيرون ما في المجتمع من وعي سلبي بالحاضر ووعي آني لحظي إلى وعي ممكن يجعل للقيم الكفّة الراجحة التي هي أكثر بهاء وجمالًا. وكان عبد المغيث قد نأى بنفسه عن مجتمع الصفوة هذا معتبرا نفسه من عامة الناس أصحاب القيم المحدودة الذين لا يصلحون إلّا لتيسير الأعمال السطحية، فرغم أنّهم يعون مشاكلهم؛ ولكنهم لا يقدرون على مواجهتها وتغييرهم الوعي الفعلي فيها. ونرى في مقطوعة أخرى من النص محاولات من شيخ البلدة كيف أنه سعى لإقناع العمدة، الحاج ماجد العشري بأن الوعي القائم الذي استورثوه من الأسلاف يمكن تغييره إلى الوعي الممكن: «ـ سمعنا أن ابنتك ستتزوج من عبد المغيث ... ـ مجرد تفكير ... ـ حتى التفكير في ذلك جريمة. ـ الزمن غير الزمن يا عمدة» (المصدر نفسه، ص 71 ـ 72). لقد حاول شيخ البلدة أن يشير إلى ذلك الوعي القائم الذي يسلب الخيار من الفتيات ويكرهن على الزواج ملوحا أن هذا الزمان قد ولّى، وهو في صدد الوعي الممكن الذي يعطي البنت الحرية. فالمتلقي هنا يشاهد تصارع الوعيين القائم والممكن في ذهنية شيخ البلدة وعمدة البلدة. 3ـ2ـ4. الوعي الخاطئ الوعي الخاطئ ينجم عن رؤى زائفة قاصرة عن إدراك الواقع، حيث تصوّرها محدود وضبابي ومبهم لا يرقى إلى ما هو المهيمن على المجتمع في بيئته الاجتماعية والاقتصادية. فترى الشخص يلجأ إلى كل ما من شأنه، أي يبعده عن الواقع المرفوض وبالتالي فلا طريق أمامه سوى الهروب منه واللحاق بطموحاته وأحلامه الزائفة وما يتوهّمه من مستحيلات، فينتهي به المطاف إلى هذا الوعي المنحرف عن الصواب الناتج عن سوء فهم للعالم وما يعيشه. «وليس من المفاجئ أن نستنتج بأنه مفهوم استقاه غولدمان من جملة المفاهيم والآراء المتوارثة بطبيعتها عن جورج لوكاتش في تقسيمه لدرجات الوعي» (البحري، 2015م، ص 165). ونظرا لما أبديناه من تعاريف للوعي الخاطئ، فرأينا أن الكيلاني في روايته أهل الحميدية قد ذكر ما يمكننا تطبيقه على هذا المفهوم ومنها ما ورد حول شخصية رمضان. فقد كان ينظر إلى الأمور من منظاره متصورا أنه بإمكانه أن يخيف الحاج متولي بما يفعله حتى يصل إلى غايته، وهي الزواج من بنت عمه ملكة: «ـ أنت لا تريد أن تفهم يا عمدة وأنت لا تريد أن تطرد الشيطان وتحل المشكلة ... وانطلق صوت رمضان كنعيق غراب: ـ أنا أستطيع أن أحل المشكلة بسلاحي هذا ...» (2013م، ص 76). وهكذا، يرسم رمضان خطا زائفا من الأوهام والطموحات ظانّا أن ما يخطط له هو الصواب، في حال أن الواقع كما في الرواية غير ذلك، حيث تنتهي به الأمور إلى نهاية مأساوية؛ إذ هو أصبح منتحرا بعيدا عن وطنه، وكان رمضان لم يفتأ أن يخوض في عنجهيته العبثية على أمل أن ينال ما يريد. فكم كان خاطئا فكره وما ارتكبه، حيث قتل الفرارجي الطيب ليزيح العراقيل بزعمه. ولكن الحقيقة كانت غير ذلك، فقتل الفرارجي كان بداية لمسلسل الانحدار إلى الهاوية. ويستمر هذا الوعي الخاطئ المتمثل في ذهنية رمضان الذي ذهبت به أفكاره الزائفة إلى منحدرات كان يظنها هي الصواب ونراه يقول لأبيه: «لن ترى وجهي اليوم، وستكون بدوني كسير الجناح يستهزء بك الناس، وتنهشك الكلاب ...» (المصدر نفسه، ص 161). ما قرأناه من مواقف لرمضان ذلك البطل المأزوم هو إدراكه لواقع وهمي وزائف ومخالف لمجريات الواقع ومنحرفا عن جادة الصواب، هذا ما جعل المتلقي يشعر بجنوح الوعي في رمضان إلى الزيف والوهم ما يعني الخيبة والفشل في المسعى. وهذا يظهر جليا في حالة فشل عملية تجاوزت الوعي القائم جرّاء سوء فهم الواقع. ونلاحظ من سياق الرواية، ملامح الوعي الخاطئ أن رمضان لم يفلح في رؤية وجه أبيه بعد ذلك اليوم حقا؛ لكن نال ما نال من الغربة والازدراء وعلى قوله مات مرتين: مرّة حينما قتل الفرارجي، أخری عندما حرم من الرجوع إلى وطنه والعيش متنكّرا بعيدا عن كل ما كان عليه. فنرى نهايته الحزينة كما رأتها أمّه أنه قد ضاع حيا وميتا. ففي قوله هذا ثمّ من خلال أحداث الرواية وما انتهت إليه، نرى زيف ما كان يعتقده رمضان أنه ببطشه ومكانته الاجتماعية، يستطيع أن ينال ما يريد بقوّة ساعده. ونرى هذا الوعي قد تجلى عندما شعر عبد المغيث بالخيبة، وهو يحاور زميله راضي: «ـ وماذا يفعل المؤمن إذا عجز عن دفع الظلم والاضطهاد؟ ـ يصبر ... ـ لا ... بل يموت ... ويكون شهيدا. ـ ليس الانتحار استشهادا. ـ لكل فلسفة ...» (2013م، ص 6). من الملاحظ أن بطل الرواية المأزوم قد أخطأ فهم العالم عندما فكّر في الانتحار فسار وراء أوهامه، فكانت الفكرة وليدة حالة اليأس التي أصابته بعد أن أُعلن رسوبه في مادة الجراحة التي كان يتقنها خير الاتقان، فنراه في محاورة مع صديقه راضي كيف يبرّر لوعيه الزائف والخاطئ.
الخاتمة توصّلت المقالة إلى ما يلي: ـ إن منهج البنيوية التكوينية الذي نظّره لوسيان غولدمان وکان منهجا تحليليا، يقوم بعقد تماثل ضمني بين البنية الداخلية والبنية الخارجية للنص، يعني أن الدارس يدرس النص داخليا بحثا عن البنية الدالة الأکثر ترددا في العمل، ثم يفسر تلك البنية في مجالها الأوسع، أي في الإطارات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والتاريخية. فحاولنا أن ندرس رواية أهل الحميدية علی ضوء هذا المنهج النقدي، فكانت الطبيعة المفارقاتية لدى المبدع مشهودة، كما هو الحال في ما يخص الرؤية للعالم المتصفة بالفئات الاجتماعية في الرواية. ـ كانت كتابات الكيلاني ذات نمط إسلامي بصورة عامة مسخرة لمفهوم الطبيعة المفارقاتية. فعلى سبيل المثال، عندما نتصفح رواية أهل الحميدية، نجد أن المبدع كان حريصا على ترك مساحة ذهنية للمتلقي، كي لا يشعر بأن الكاتب يحاول إماتة النص وذهاب جماليته بإسقاط مشربه على النص الروائي. ـ الوعي حالة من حالات العقل المتجلية التي تتمثّل في تلك العملية الذهنية التي تجعلنا ندرك إدراكا كاملا للواقع الذهني الذي نعيشه بكافة معطياته وأبعاده والحقائق المقرونة بذلك من حولنا، سواء كان هذا الواقع ملموسا أو محسوسا، وكل ما يربط الإنسان بمحيطه وتلك العلاقات الاجتماعية والانسانية التي تعيش هذا الواقع بكل تفاعلاته وتأثيراته: كالغضب، والفرح، والعلاقات الشخصية والاجتماعية والأسرية. ـ لقد بيّنا أن الوعي القائم عبارة عن حالة هيمنت على ماض أو حاضر لفئة ما، وربما قد شعرت هذه الطبقة الاجتماعية عن عجزها بالتغيير أو التأثير على هذا الوعي الفعلي، أي القائم؛ وهذا كان ملموسا عند قراءتنا للرواية، حيث إن طبقات اجتماعية ما كانت ترى نفسها مرهونة لوعي واقع قد حكم على تلك البيئة الاجتماعية؛ والحقيقة أنها هي بيئة المبدع، أي الكيلاني الذي ترعرع فيها وكانت الرواية كأنها وليدة تلك البيئة. ـ كان الوعي الممكن متجليا في فئات جاء ذكرها في الرواية، نحو شيخ البلدة أو الحاج متولي، عندما نهض من جديد بعد أن غزا الشيب رأسه، فحاول جاهدا أن يصحح ماضيه السلبي، ذلك الوعي الواقع الذي جعل نظرة الناس إليه سلبية، فعزم على تغيير هذا الوعي الفعلي إلى وعي ممكن، فرسم خطوات تستشعر من خلالها بإدراج كلما تطمح إليه الطبقات الاجتماعية المضطهدة. ـ من جملة ما خلصنا إليه هو الوعي الممكن الذي رأيناه ظاهرا من خلال رؤية الفرارجي إلى الحياة وكيف أنه كان يستنهض الهمة على التغيير في نفس ولده عبد المغيث الذي هو بدوره أيضا رغم محاولاته الكثيفة في تغيير الوعي الواقع إلى الوعي الممكن، رأى فئة هي الأصلح بذلك، وسمّاها مجتمع الصفوة. ـ قد نعني بالوعي الخاطئ في هذه الرواية ما آلت إليه الأمور من حياة رمضان، فهو كان خاطئا من البداية، حيث كان يعيش في أوهامه الضبابية وكان يظنها قد تتحقق؛ ولهذا كان يستمر في تطبيق هذه الأفكار الزائفة، حتى انتهت به إلى نهاية مأساوية.
[1] .Lucian Goldman [2] .G. W. F. Hegel [3] .Karl Marx [4] .George Lukacs [5] .Jean Paul Sartre [6] .Jean Piaget [7] .Jean Duvignaud | ||
مراجع | ||
* القرآن الكريم.
إبراهيم، زكريا. (1990م). مشكلة البنية أو أضواء على البنيوية. القاهرة: دار مصر للطباعة.
بحري، محمد الأمين. (2015م). البنيوية التكوينية من الأصول الفلسفية إلى الفصول المنهجية. بيروت: مكتبة مؤمن قريش.
البياتي، عباس محمد رضا؛ وإيناس كاظم شنباره الجبوري. (2016م). «عتبات البنيوية التكوينية ونقاط انطلاقها». مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية. ع 25. ص 455 ـ 473.
تقار، فوزية. (2010م). البنى الفنية في رواية مقامات الذاكرة المنسية لحبيب مونسي. رسالة الماجستير. جامعة خيضر بسكرة. كلية الآداب واللغات.
خشفة، محمد نديم. (1997م). تأصيل النص المنهج البنيوي لدى لوسيان غولدمان. ط 2. حلب: مركز الإنماء الحضاري.
شحيد، جمال. (1982م). في البنيوية التركيبية: دراسة في منهج لوسيان غولدمان. بيروت: دار ابن رشد للطباعة والنشر.
عصفور، جابر. (1981م). «عن البنيوية التوليدية: قراءة في لوسيان غولدمان». فصول. ع 2. ص 84 ـ 100.
عيلان، عمرو. (2006م). النقد الجديد والنص الروائي العربي: دراسة مقارنة للنقد الجديد في فرنسا وأثره النقد الروائي العربي. أطروحة الدكتوراه. جامعة منتوري قسنطينة. كلية الآداب واللغات.
علوش، سعيد. (2009م). الرواية والإيديولوجيا في الأدب العربي المعاصر. بيروت: دار المنهل اللبناني.
غولدمان، لوسيان. (1996م). العلوم الإنسانية والفلسفة. ط 2. ترجمة الأنطكي يوسف. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة.
ـــــــــــــــــ ؛ وآخرون. (1986م). البنيوية التكوينية والنقد الأدبي. ط 2. ترجمة سبيلا محمد. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية.
الكيلاني، نجيب. (2013م). أهل الحميدية. القاهرة: دار الصحوة للنشر.
لحمداني، حميد. (1990م). النقد الروائي والإيديولوجيا. بيروت: المركز الثقافي العربي.
ماضي، إسراء حمد مرزوق. (2017م). سيميائية السرد في روايات نجيب الكيلاني. رسالة الماجستير. جامعة الأقصى. كلية الآداب.
نجفى، حسن؛ وسردار اصلانى. (2020أم). «دراسة اجتماعية لرواية "حفّار القبور" الشعرية من بدر شاكر السياب: البنيوي التكويني». الجمعية الإيرانية للغة العربية وآدابها. ع 56. ص 43 ـ 64.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ . (2020بم). «دراسة قصيدة "المومس العمياء" لبدر شاكر السياب من منظار النقد البنيوي التكويني». مجلة اللغة العربية وآدابها. ع 2. ص 205 ـ 227.
هال، جون. (1986م). كتاب مجموعة مقالات ضد البنيوية. ترجمة إبراهيم خليل. عمان: دار الكرمل للنشر والتوزيع.
ياسين، السيد. (1991م). التحليل الاجتماعي للأدب. القاهرة: مكتبة مدبولي. | ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 1,830 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 526 |