تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,639 |
تعداد مقالات | 13,330 |
تعداد مشاهده مقاله | 29,909,419 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 11,961,532 |
عملية التأويل في نطاق تلقي المفارقة قصيدة نزف الحبيب شقائق النعمان، لمحمود درويش أنموذجا | ||
بحوث في اللغة العربية | ||
مقاله 10، دوره 14، شماره 27، دی 2022، صفحه 121-136 اصل مقاله (1.15 M) | ||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | ||
شناسه دیجیتال (DOI): 10.22108/rall.2020.114304.1285 | ||
نویسندگان | ||
علي عندليب1؛ سيد حيدر فرع شيرازي* 2؛ محمد جواد پورعابد3؛ ناصر زارع3 | ||
1طالب الدكتوراه في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة خليج فارس، بوشهر، إيران | ||
2أستاذ مشارك في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة خليج فارس، بوشهر، إيران | ||
3أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة خليج فارس، بوشهر، إيران | ||
چکیده | ||
إنّ المفارقة أداة بيد المؤلف يؤمئ إلى أغراض مختلفة بوسيط لغوي متكامل مستخدماً أساليب ممتعة متقنة في اللغة والفن، حتى يجعل المتلقي يفهم مغزى الكلام، دون استخدامه مباشرا وليتنحّی عن الاستجابات السالبة التي يحتملها؛ ومن جانب آخر، يستطيع المستخدم أن يحول دون فهم المتلقي ويجعله ضحية المفارقة باستخدام بعيد عن الصور الذهنية التي يفرضها المتلقي ويحتملها. وبما أنّ المفارقة تحتاج إلى عملية التلقي في كلا الموقفين، فالمتلقي يستعمل آلية التأويل، إمّا على ما يؤوّل أو على أنّ التأويل غير ناجح لقصد المؤلف. فمهما كانت المفارقة آلية بيد المؤلف فالتأويل يصاحب المتلقي، واستقباله يحتّم أمر المفارقة ناجحة. وهذه المقالة دراسة تحليلية تتناول قصيدة نزف الحبيب شقائق النعمان، للشاعر المعاصر، محمود درويش، لتعتني بالمفارقة، على أنّها بحاجة ماسة إلى القراءة والتأويل والتفسير، مما يجعل المتلقي عالماً بانعكاسات اللغة، ومما يأمله الجمهور المراقبون. فالمفارقة بكلا نوعيها تحتاج إلى تفاسير وتأويلات من مستقبلها إن كان ضحية المفارقة أو مراقبها، فهذه التأويلات تجعل الكلام أكثر تأنقاً وشفافية والأغراض أوقع كفاءة وتدفقاً، وهي تحتاج إلى مهارات عملية وخبرات لغوية وبلاغية وقراءات متعددة وفهم سيمولوجي هرمنوطيقي، وأخيراً تحتاج إلى مهارات تفسيرية تأويلية لتوصل المتلقي إلى محتوى المفارقة، كما فعلنا في قصيدة محمود درويش وألممنا بتلك المهارات، وقد تؤثر كثير من العوامل النفسية والاجتماعية واللغوية في تأويلات المتلقي فتجعله غير ناظر بما يقصده المؤلف. | ||
کلیدواژهها | ||
التأويل؛ التلقي؛ نزف الحبيب شقائق النعمان؛ محمود درويش؛ المفارقة | ||
اصل مقاله | ||
إنّ المفارقة[1] بنية لغوية أو موقف درامي مقصود من المؤلف يوقع المتلقي في مأزق الفهم، حيث لا ينتبه لأوّل مرة ما يقوم المؤلف بإرساله، بل يحتاج إلى شيء من التدقيق في الوقوف على ما يجعله المؤلف مفارقة، بغية التوصل إلى الأغراض التي ينويها وراء المفارقة. فتلك اللقطات الزمانية التي يجعلها المتلقي للتأمّل في البنية اللغوية، تملؤها شحنات عقلية واستجابات نفسية؛ لكي يدرك المتلقي مغزى الكلام ويقف على مبتغيات المؤلف وأغراضه، دون أن يباشرها بنفسه. فكم من موقف لا يستطيع المؤلف الولوج فيه بصورة مباشرة، فيقوم بإرهاصات لغوية صارخة يجعل المتلقي يفهم تلك الإرهاصات أو يقع ضحية سوء فهمه للأغراض الموجهة إليه. والتأويل[2] تقنية تساعد القارئ والمتلقي في الإبداع وفهم الأغراض والمفاهيم التي لا يستطيع الآخرون الوقوف عليها. فكثير من الشعراء يقيمون حفلات لغوية مثيرة للتساؤل تحتاج إلى حوار تأويلي بين المؤلف والمتلقي، للوصول إلى مغزى النص. ويحتاج النص إلى استجابات روحية لا تحصل إلا وراء الحوار المعنوي بين الشاعر والمتلقي. فالشاعر يطرح أسئلة غير متسائلة عبر الكلمات التي يوحيها إلى المتلقي، فتخرج في ظاهر الإخبار ويبطنها الحوار والتساؤل. ويجيب المتلقي عن هذه التساؤلات النصية بتأويلاته التي يحسب كأنها إجابات لتساؤلات الشاعر. يقوم الباحثون في دراستهم هذه بتأصيل نظرة تأويلية في فهم المفارقات التي يستجيبها المتلقي في مواجهته مع النص الأدبي أو غيرها، وذلك عبر القيام بفهم النص فهماً يسهل على المتلقي تفسير الألفاظ الجارية في النص، ومن ثم الحصول على مفهوم ضمني في النص والقيام بتأويل النص في قراءة ثانية يقوم بها المتلقي. وكان غرضنا الأساسي في هذه الدراسة تأصيل نظرة تأويلية في تلقي المفارقة. واستفدنا للمطابقة والتحليل من قصيدة شاعرنا المعاصر محمود درويش، نزف الحبيب شقائق النعمان، المفعمة بأنفس المفارقات التي توحي ببواطن مثيرة ومهمّة ترفض حضور المتلقي في صدور الأبيات دون الوعي بخفاياها لإثبات حضور هذه الرؤية التأويلية في فهم المفارقة. وذلك لا يمكن إلا بفكّ الترميزات التي استخدمها المؤلف والتوصل إلى القاعدة العامة التي استحكم الأثر الأدبي بواسطتها، وهي الأسس البلاغية والأسلوبية التي تتحكّم في النص ويجب على المتلقي فهمها وتفسيرها، ومن ثمّ تأويلها إلى ما سيحقق وراء النص وفي الواقع الموجود، ويصل أخيراً إلى الحقيقة المنشودة، وذلك بغية التأويل ومهمته. ونواجه في سبيل تأصيل النظرة التأويلية أسئلة بلا حدود، وهي كيف يقوم المتلقي بتأويل النص؟ وما الأدوات المستخدمة في تأويل قصيدة محمود درويش؟ وما العناصر التي استخدمها الشاعر لبيان المفارقات ضمن الفحوى؟ فنشير إلى أنّ التأويل يعني إقامة مفروضات كثيرة في المعنى والتوصّل إلى الحقيقة والحصول على تعدّد المعنى بتعدّد القرّاء. وفي سبيل ذلك، يحتاج المتلقي إلى استخدام الذهن وفهم الأسلوب والآليات البلاغية وفهم الكلمات والترميزات للحصول على التأويل الصحيح، كما عملنا في قراءتنا في قصيدة نزف الحبيب شقائق النعمان، واستعنا بالصور البلاغية والرموز الأسطورية للوصول إلى المحتوى الأساس فيها.
1ـ1. خلفية البحث كثرت التساؤلات عن مفهوم التأويل في الكتب الأدبية من القديم إلى الحديث، وذلك لقرابة المصطلح من هرمنوطيقا[3] وعملية التفسير والتحليل. وهذه الكثرة لا تمنع الباحثين من أن يزيدوا من دراساتهم في التأويل؛ ومن تلك ما كتبت عائشة عويسات (2011م)، في المتلقى الوطني الأول في الاتجاهات الحديثة في دراسة اللغة والأدب، عنوانه التأويلية في النصوص الأدبية، واستنتجت أن التأويلية هي قبول تعدّد المعنى للنصّ الواحد. وأما أفضل دراسة في قضية المفارقة والتأويل نشرت في صحيفة قاب قوسين، عنوانها المفارقة والتأويل في لغة الشعر قصيدة "ثلج" لأحمد عبد المعطي حجازي نموذجا، كتبها إبراهيم خليل (2011م)، وفرض فيها دراسة الكلمات التي تثير معنى معارضاً لما عرضه الشاعر. رغم الكثرة التي نشاهدها في تحليل قصائد محمود درويش، إلاّ أننا لم نجد شرحاً مبسوطاً أو تأويلاً لقصيدة نزف الحبيب شقائق النعمان، وإن وجدنا إرهاصات ضئيلة في الرمزية الموجودة فيها في بعض الكتب. ولذلك، نحسب دراستنا أوّل دراسة تأويلية لهذه القصيدة وأوّل بحث يرعى قضية المفارقة والتأويل معاً ويدرس هاتين القضيتين في قصيدة واحدة.
جاء التأويل مصدراً من "أ ـ و ـ ل"، بمعان كثيرة في كتب اللغة. فهو إمّا أن يعني الرجوع والعودة إلى الأصل، وصرف اللغة عن معناه الظاهري إلى معنى أخفى منه (طريحي، 1375ﻫ.ش، ج 5، ص 312). فعليه يستلزم لقارئ المفارقة أن يعيد اللغة إلى ما يخفى منه لأغراض يريدها المؤلف. ويستلزم التأويل بهذا المعنى أن يكون المتلقي مدركاً المواقف الزمكانية والحالات النفسية، ومنه: «المَوْئِلُ للموضع الذي يرجع إليه، وذلك هو ردّ الشيء إلى الغاية المرادة منه، علماً كان أو فعلاً، ففي العلم نحو: «وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرّاسِخونَ فِي الْعِلْمِª (آل عمران 3: 7)» (راغب الأصفهاني، 1412ﻫ، ص 99). و«هو حمل الظاهر على المحْتَمل المرجوح، فإنّ حمِّل لدليلٍ فصحيح أو لما يُظَّنّ دليلا ففاسد أو لا لشيء فلعب لا تأويل» (الزبيدى، 1414ﻫ، ج 14، ص 32)؛ أي حين يحاول متلقي الكلام أن يحمل مفروضات متعددة على صوت واحد حتى يقابل تلك المفروضات مفهوم يترجّح عنده. وقد يمكن أن لا يصل المتلقي إلى ما أراد المؤلف من العبارة، بل يدرك فحوى الكلام بما يرجّحه أن يكون صحيحاً، وذلك يعارض سوء الفهم لكون المتلقي يفهم مغزى الكلام، دون أن يراعي قصد المؤلف، بل وإنّه يفهم معنى مرجوحاً عنده، ويمكن مطابقة هذا المرجوح مع قصد المؤلف؛ فالتأويل بهذا المعنى هو تفسير «ما يَؤُولُ إليه الشيء» (الجوهري، 1376ﻫ، ج 4، ص 1627). وبناء على ذلك، يجب أن نقول إنّ التفسير يختلف عن التأويل في كثير من المواقف لما تختلف تفاسير العبارة الواحدة ويبقى تأويلها واحداً. فإن قيل تفسير الكلام الذي تختلف معانيه فهو بمعنى أنّ دلالة المعاني على الأشياء مختلفة، فالمؤلف وإن يقم بإحالة الكلام إلى مدلول واحد، ولكنّه يقوم بمطابقة الكلام على مدلول آخر، وهذا هو التفسير. والتأويل ـ كما تناولنا ـ بمعنى الرجوع إلى أصل الكلام الذي استتر خلف الألفاظ، وذلك يتطلّب معلومات مختلفة عند المتلقي ليقوم بذلك. فاللغة متعدّدة الدلالة. ومن يفسّر اللغة ير كثيراً من دلالات اللغة التي تؤثر على دلالة النص الواحدة، ولكن مفهوم النص الأشمل واحد لا يكون النص إلا بذلك. فمهمة التأويل هي الوقوف على ذلك المفهوم بدراسة الأسلوب والنبرات والمشاهد النفسية والزمكانية وغير ذلك من العوامل المؤثرة على فهم النص.
يحتاج المستمع أو القارئ إلى فهم الكلمات والأجزاء التي ترتبط بتشكيل العبارة، قبل أن يبدأ بفهم المفارقات النصية[4]. وبما أنّ خطاب المتكلم أو مكتوباته فضاء مشحونة «بالفرجات والفراغات التي ينبغي للمتلقي ملؤها» (بن عون، 2016م، ص 103)، فالمتلقي لا يستطيع التكييف مع الفضاء النصي أو العبارة المرسلة، إلاّ بفهم سليم من تلك الأجزاء، ومن ثمّ محاولة تفسير الكلمات، لتبيان العبارة والولوج في جوّ التأويل للوصول إلى مغزى الكلام وتحويل الخطاب إلى ما لا يخلّ بالفهم وإلى مقصديته الأساسية التي اختفت خلف الأسلوب. والمفارقة كثيراً ما تنتهي بسوء الفهم والتعارض العقلي بين القارئ والمبدع. وإساءة الفهم هذه مما تتطلّب التفسير والتأويل بقرينة السياق[5] والمقام. وعلى هذا، نرى أنّ المفارقة نوع من البنية التأويلية؛ لأنّنا لا نستخلص من نصّ ما، معناه المباشر ولا يمكننا الفهم المباشر للنصّ للغموض والإبهام الموجود في المفارقات التي ترسل إلينا، ثمّ إنّنا «لا نفهم أوّل الأمر ما يعبّر عنه الإنباء أو التعبير» (هايدغر، 2012م، ص 317)، خاصة إذا كان البيان الذي يتلقاه المتلقي بياناً غامضاً مستتر القصد وبحاجة إلى شئ من التفسير والتأويل للوصول إلى المقصود الأساس؛ ولذلك «إنّه يوجد تأويل كلّما وجد غموض وكلمّا وجدت عتامة أصلية تعوق الفهم المباشر» (بن حسن، 1992م، ص 32). والعلاقة القائمة بين الفهم والتأويل علاقة دائرية، بحيث يتكامل التأويل بحدوث الفهم الصحيح للتركيب والأسلوب، ومن ثمّ تفسير الكلمات؛ لأنّ التفسير مقدمة للتأويل، وذلك بدراسة «علاقات النص الداخلية وتحديد بنياته الخاصة» (شرفي، 2007م، ص 19)، ويأتي بعد ذلك تأويل الكلام وتحويله إلى ما يطابق الحقيقة الأساسية من قصد المؤلف، وذلك عن طريق الإحاطة بالبنية النصية[6]، والبنية السياقية[7]، والنفسية للمتلقي، والتفاعل بين المتلقي والنص، وبعد ذلك يحصل المتلقي على المفهوم الصحيح والمعنى المنشود للعبارة أو النص. وهذا المفهوم هو المعنى المستتر، فـ«الوصول إلى فهم للمؤوَّل نتيجة للتأويل الصحيح» (سلفرمان، 2002م، ص 31)، كما أنّ «المهمة التأويلية محكومة بفهم متلقي النص الأصلي» (ريكور، 2006م، ص 146).
وهناك نوع آخر من التفاسير يدلّ على المعاني النفسية المستخرجة والمستنبطة عن النص يهتمّ بطابع فردي أو عبقري يريد الكاتب إبلاغها. فإنّنا بإزاء نوعين من التأويل، وعلى هذا الغرار نوعان من المفارقة: المفارقة التي تبوح بسرّ متحدثها وتتكون من أغراض خالقها لكي تبين وتبلغ رسالتها إلى المتلقي، وأخرى مفهومية يتعين للمتلقي أن يفهمها ويدرك أغراضها بنفسه. وفي الواقع أنّ المتلقي هو الذي يعوّل عليه الفهم من النص. ويحتاج هذا النوع من المفارقة إلى أن ننظر إلى القول، لا إلى القائل، كما يمكننا الاستعانة بنظرية موت المؤلف، حتى نصل إلى الغرض المفهوم من النص. فالمتلقي في سبيل تأويله للنصّ أو العبارة يستعين بمختلف المكونات الصياغية والتركيبية التي تقوم على خاصية الانزياح والعدول والانحراف. فإن كانت النتيجة الحاصلة من تلك العبارة أو ذلك النص مخالفة للقصد والمعنى الأول الذي يقصده المبدع، فيسمى ذلك المفهوم مفارقة مفهومية[8]؛ وإن دلت العبارة على مدلولات أخرى متوازية ومتساوية من حيث المعنى أو الفهم مع المنطوق، فهذا يدلّ على أنّ التأويل قد يكون مطابقاً، لكنّه متعدداً. ومن أجل أن يتمتع المتلقي بمساحة عقلية واسعة وفرصة للتأويل الصحيح، يمكن مساندته ببعض الفرضيات عند فهم النص، وهي ما يلي: ـ أنه ينبغي لمفسر النص التمثيل الذهني للأوضاع؛ ـ أنه يفهم مفسر النص على أنّ النص من نوع معين؛ ـ أنه يعتمد المفسر على مواقف المؤلف وقيمه وآرائه؛ ـ أنه يراعي المفسر وظيفة النص في السياق الاجتماعي؛ ـ أنه يعيد المفسر بناء قصد المؤلف نسبياً من سياق الموقف والتفاعل؛ ـ أنه يستدعي النظريات والفرضيات وحتى خبراته الشخصية (هاينه من وفيهفيجر، 1999م، ص 158 - 159). فهذه المفروضات الأساسية تساعد المتلقي على التأويل، حتى وإن ظهر «أنّ المفسر أخرج الكلام عن مراد المؤلف فكان تحريفاً» (الطيار، 1427ﻫ، ص 117). ففي فهم المفارقة عن طريق التأويل، يجب أن ننظر في العبارة وطريقة التعبير عن المعنى. فهناك مستويان للتعبير عن عبارة ما هما: المستوى الداخلي الذي يعبّر عن المعنى الأصلي للكلمات في نظمها وتركيبها الأفقي، ويتمثّل في آليات المجاز، والاستعارة، والتشبيه، والكناية؛ وأمّا المستوى الخارجي للعبارة فيعتمد على مجموعة من الوسائط الصوتية، والإيقاعية، والتراكيب؛ وكلاهما يعبّران عن الوظيفة الأساسية للعبارة أو النصّ؛ لأنّ «البنية الداخلية تولد من أعطاف البنية الخارجية» (أحمد، 1994م، ص 52). والمفارقة المفهومية نتاج لكلا المستويين؛ لأنّ طرق التعبير عن عبارة ما والأجواء الموجودة والسياقات المختلفة تساعد المتلقي على الفهم والتأويل، كما أنّ المستوى الداخلي وهي الآليات المستخدمة لجمال النص هي المادة الأصلية التي تجري عليه عملية المفارقة. فالمفارقة تستخدم المستويين الداخلي والخارجي معاً للوصول إلى مفهوم مخالف. والمتلقي يحاول الوصول إلى مراد المتحدث في المفارقة؛ لأنّ مؤلفها «يقدّم للمؤول (المتلقي للمفارقة) أثراً يحتاج إلى أن يكمله، وهو (المؤلف) يجهل الطريقة المحدّدة التي ستحقّق بها ذلك» (إيكو، 2001م، ص 38). فإنّ الموقف الاستقبالي يحدّد كيفية استخدام العناصر العقلية والسياقات الموجودة للوصول إلى قصد المؤلف من وراء النظام التركيبي الذي استعمله المؤلف لبيان قصده. فالبنية اللغوية تختلف مع البنية الذهنية والفكرة الإرسالية في المفارقة؛ ولذلك يصعب الوصول إلى مراد المتكلم. فيحاول المتلقي تأويل البنية اللغوية للوصول إلى ذلك المراد، ولكنّ «القارئ يضع التأويل تحت تصرّف القدرات المحدودة لفهمه» (ريكور، 2006م، ص 147). وإنّ «التأويل لا حدّ له؛ لأنّ معتمده العقل والعقول تختلف في مذاهبها» (الطيار، 1427ﻫ، ص 122)، وعليها تختلف ميزانية الفهم لدى كل متلق لبيان واحد.
المفارقة عملية في وقت القراءة والتلقي. وفهم القراءة يختلف من زمن إلى زمان آخر، ولكنّ السياقات والآليات العلمية والعملية تساعد المتلقي على فهم نص ما في زمان غير زمانه. وهذا بحاجة إلى المهارات العلمية والفهمية والتفسيرية المختلفة. بذلك، يجب أن نجد بعض الافتراضات المسبقة للوصول إلى فهم دقيق للنص. فاستحضار بعض المفترضات والسياقات شرط أساس في فهم الشيء، إن كان مطابقاً أو مخالفاً. والمفارقة تضاد بيّن مع هذا القول الذي يعد حكماً لجودة الكلام في البلاغة القديمة. يقول السكاكي: «لكلّ كلمة مع صاحبتها مقام، ولكلّ حدّ ينتهي إليه الكلام مقام» (1987م، ص 256)؛ لأنّ المفارقة هي أن تبوح بكلام في غير مقامه، كلام يحتوي على الشكر في مقام الشكاية، كأن تقول لمن يردعك عن الورود في حفلة: "شكراً لك"، وهذا الكلام مغاير لمقامه؛ لأنّك يجب أن تشكو ردعه إياك، ولكنّك شكرته للإفادة بأنّ عمله ليس مشكوراً، وكان يتوقع منه أن يسمح لك بالدخول كما كان عليك أن تشكره لهذا الامتنان. والمفارقة تتجلى في موضوعات كثيرة وتنقسم إلى أقسام مختلفة، أهمها المفارقة اللفظية التي تظهر في الكلام، ومفارقة الموقف التي تنجلي في الظروف المحيطة بالضحية، كما أنها تنطوي على أجزاء مختلفة، أهمها التضاد بين القول والفهم، ومن ثم حضور الضحية في المفارقة وعنصر السخرية عند ولوج الضحية في خضم المفارقة. ولكننا في هذا البحث درسنا المفارقة اللفظية لقرابتها، كما ودرسنا قضية التأويل التي تنعكس في عملية القراءة والكتابة. وأمّا الاختلاف الذي نشاهده في المفارقة فإنّه ليس ذلك الاختلاف الذي يحدث في فكرة القائل والمتلقي، بل هو اختلاف في الفهم السيمولوجي الذي يؤدي إلى تعدد المعاني في نص واحد ويخلق نظاماً مفتوحاً من العلاقات مع معانيها المتعددة أمام المتلقي، وبالتالي اختلاف في النظم الهرمنوطيقية التي «تقدم معنى النص من خلال ما يؤوّل في ضوء علاقته بالعالم وعندما ينعكس على الذات المؤولة» (سلفرمان، 2002م، ص 57). فالمفارقة نتاج هذه الاختلافات الموجودة في الفهم السيمولوجي من اللغة والفهم التأويلي الذي يقوم به المتلقي محاولة الانطباق الدلالي مع الأحداث السياقية واللفظية و«هي اعتراف بالاختلاف الذي يقع بين الإدراك الخلفي والمسبق لبعض الأحداث» (ميلانويچز، 2013م، ص 117). وللمفارقة ككلّ النصوص الموجودة وظيفة تبيان النصّ، كما قد تكون لها وظائف إضافية في ظروف معينة. فللوصول إلى هذه التعددية الوظيفية، يجب استخدام تلك الظروف وتفكيك الوظائف الاجتماعية وتحليل مستويات العبارة؛ لأنّ كلّ عبارة «رسالة تتواكب عناصرها الصوتية واللفظية والتركيبية والايقاعية في سياق آني غير خاضع لمنطق التعاقب وأنّ المرسل لا يتعامل مع كلّ هاتيك العناصر منفرداً» (أحمد، 1994م، ص 40)، بل إنّ المتلقي هو الذي يجب عليه أن يحلّل كلّ العناصر الموجودة في النصّ. فانّ كان ذلك السياق مختلف بالنسبة للمبدع فينتج النص مفهوماً غير ما قصده المتحدث أو إن كان الايقاع والعناصر الصوتية مختلفة عما ينوي المتكلم ومبدع النص فيختلف المفهوم من النص والعبارة مخالفاً للغرض الأساسي. ثمّ إنّ عملية التلقي لدى أرسطو تتشكل بعناصرها الثلاث، وهي النصّ، والكاتب، والمتلقي (عبد الواحد، 1996م، ص 45). ويجب في هذه العملية التفاعل بين هذه العناصر؛ لأنهّا تؤدّي إلى تذوّق جماليات النص أخيراً، وهذه العناصر تعتبر الأركان الثابتة لإدراك المفهوم المخالف للنطق، إلا أننّا نزيد على هذه العناصر عنصرا آخر، وهو السياق. وحقيق في المفارقة أنّ المبدع حين ينشئ نصاً أو عبارة، فهذه العبارة تشتمل على عناصر فنية يجب على المتلقي تحليل مستوياتها وفكّ شفراتها مستخدماً عناصر مختلفة تساعده في هذه العملية. فالمفارقة تظهر أهميتها في عملية التلقي أولاً ثمّ التأويل. فاللغة ذات مستويين في المفارقة؛ لأنّ المستوى الظاهري منها يختلف عن المستوى الداخلي أو العمق. إنّ القراءة في كل نص مرتبطة بفكرة التعدد في المعاني وفكرة قابلية النص الواحد للتأويل بغير معنى؛ لأنّ النص عند رولان بارت[9] «ليس سطراً من الكلمات ينتج معنى أحادياً أو ينتج منه معنى لاهوتي، ولكنه فضاء لأبعاد متعددة تتزاوج فيها كتابات مختلفة وتتنازع، دون أن يكون أي منها أصلياً، فالنص نسيج لأقوال ناتجة عن ألف بؤرة من بؤر الثقافة» (1994م، ص 21). والمفارقة صيغة دلالية تنجم عن تعدد المفاهيم وتأويلية العمل الأدبي، فإنّها «قول شيء بطريقة تستثير لا تفسيراً واحداً، بل سلسلة لا تنتهي من التفسيرات المغيّرة» (ميويك، 1993م، ص 161). فالذي يسعى لتأويل نص ما، يبلغ رسالات عدة تطرح قصد المؤلف إلى جانب؛ ولذلك أنّ التأويلية المعاصرة ـ خلافاً للهرمنوطيقية الماضية ـ تعطي الأولوية التفسيرية المتلقي ولا المؤلف. وإنّنا نحاول الوصول إلى قصد المؤلف في المفارقة خوفاً من أن نقع ضحايا لفعل المفارقة، فإن لا نعدّ العملية التأويلية قسطاً عملياً للحصول على مقصد المؤلف، نضع أنفسنا مهرجين أمام الظاهرة الأسلوبية التي تؤدي إلى خلق فعل المفارقة، فقد «يراد لبعض المفارقة أن تكشف فنصف الإخفاء جزء من الغاية الفنية لدى صاحب المفارقة وكشف المناورة واستلطافها جزء كبير من متعة القارئ» (المصدر نفسه، ص 76). والقارئ المتضلع يدرك أنّ هناك فهماً سقيماً يحول دون اللجوء إلى فكرة المؤلف الحقيقي؛ لكونه يتعمّد على إخراج الكلام على صورة خاطئة ومتناقضة مع الفكرة. ونفهم ذلك إذا رجعنا إلى السياق المعنوي الذهني وبعد القراءة الثانية على التوالي للقصيدة. وتكون المفارقة أشد وقعاً حين يحاول المؤلف إلقاء صدق الكلام وحقيقتها في البنية اللغوية، ويرى أنّ فكرة المؤلف صادقة مع البنية الذهنية، ولكن من يؤول هذه العبارات، يصل إلى أنّ المؤلف يجري وراء مقصود يخالف الأساليب اللغوية. فالمفارقة بحاجة إلى القراءة لتفهم ويتبين فيها إدراك القارئ، وهي تعطي القارئ مسار التأويل؛ وهذا لأنّ القراءة شرط ضروري للتأويل. وفي تلقي المفارقة وتأويلها، يجب أن نعترف بأنّ المؤول يستعين بفهمه وإدراكه في فهم المعاني المتعددة، أو بعبارة أخرى يجب أن نعترف أن المؤول يسعی وراء فهم المفاهيم المتعددة؛ إذ إنّ مفهوم النص متعدد والمعنى واحد يعنيه المبدع. والمفارقة إدراج الفكرة الحقيقية في فعل المفارقة المعاكس لتلك الفكرة وإرسالها إلى الجمهور بغية أن يؤمن الجمهور ذلك الفعل المفارقي ويستثير لديهم الميل إلى الانعزال من الظواهر الأسلوبية إلى فهم الفكرة الحقيقة التي تتجلى في ما يراه صاحب المفارقة أو المراقب. فالجمهور المتلقون لذلك الفعل المفارقي أو المظهر الأسلوبي والشارات الإرسالية يجب عليهم السعي وراء المظهر للوقوف على الحقيقة التي تكاد تبين بمساعدة السياقات اللفظية والعوامل التي تساعد المؤول أو المفسر للوصول إلى قلب المعنى الظاهري «فالمفسر يقوم بقلب فعل المفارقة تحت تأثير الإشارات أو تصادم الرسالة مع السياق فيتخلى عن صفة القبول ويحول المديح إلى الذم وبذلك يبلغ مآرب صاحب المفارقة» (المصدر نفسه، ص 175). يعتبر دي سي ميويك مساعي المتلقي للوصول إلى الحقيقة في طور الوصول إلى مقصد المؤلف ومآربه، وقد يقتضي ذلك الوقوف على فهم مسبق لتاريخ المؤلف، وذلك هو التأويل حسب ما يعتقد به فيلهم دلتاي[10] أو شلايرماخر[11]. ولكنّ التأويلية أو الوصول إلى قصد مؤلف المفارقة يستمدّ من الفهم الصحيح لأطوار اللغة وتفسيرها بدقّة ثم الحصول إلى المعنى الحقيقي الذي اختفى خلف المظهر المتناقض مع الواقع الفكري، ولذلك ينبغي لنا لإدراك المفارقة «أن ننفذ من الحدث اللغوي أو اللفظي إلى حدث المغزى أو من القول إلى مقصد القائل» (العبد، 1994م، ص 72). وهذا إشارة تأويلية للوصول إلى مغزى المفارقة أو حقيقتها. ويرى هايدغر أنّ «تأويل النصوص موقف فرعي ومشتق من موقف أصلي أسبق منه هو موقف الفهم والتفسير» (2012م، ص 298)، كما يسمى التفسير تشكيل الفهم لدى القارئ؛ وبذلك يعتقد أنّ القارئ يجب أن يؤول حين يلمّ بفهم النص ثمّ تفسير الظواهر الموجودة بما يناسبها من الأسبقية اللغوية والذهنية والفكرية ثمّ الوصول إلى تأويل تناسب النصّ لبلوغ الحقيقة الأساسية التي قد تطابق مقصد القائل. وإنّ وقوع المتلقي في موقف متعارض مع الواقع الذي ينتهي بإيجاد سوء الفهم، يتطلب تأويلا عقليا بمراعاة السياق والقرائن للوصول إلى مغزى مقبول بالنسبة للامتوقع؛ لأنّ السياق العام أو النبرات والعلامات تهدينا إلى معنى غير ذلك المعنى الذي نتوقع من الكلمات معنى مباشراً. فيمكننا أن نقول إنّ المفارقة هي أداة تأويلية بيد المتلقي «يستند إلى الخصائص العامة للخطاب في ثقافة ما ويهتمّ بخصائص لغوية متميزة عن المؤلف ومستقلة عنه» (بن حسن، 1992م، ص 33)، وهي بحاجة إلى عمليتين هما التفسير اللغوي للوصول إلى فهم أكمل وأشمل لظواهر اللغة، ومن ثمّ يؤوّل القارئ أو المتلقي تلك الظاهرة الأسلوبية[12]، ويؤدي هذا التأويل والمحاولة إلى حقيقة الفكرة والواقع. إذن، إنّ المفارقة تأويلية؛ لأنهّا في عالم مستقلّ، وهو استقلال ثقافي وإيديولوجي من الكاتب واستقلال تجاه المرسل إليه، ويجب أن يتحرّر النصّ أو العبارة في المفارقة من سياق إنتاجه؛ لأنّ المفارقة بأغراضها المختلفة مفهومة من جانب المتلقي، ولديها أغراض، ولأن يكون هذا الفهم من العبارة مخالفاً لما يريده المتكلم ويقصده، يجب أن تبتعد العبارة عن السياق الإنتاجي الأول الذي يولده المنتج كإشارات خاصة لهداية المتلقي إلى الحالات التي ينويها ويهتم بإبلاغها، وكذا يجب على المتلقي في المفارقة أن يقوم بتحليل بنيوي حتى يكشف عمق المعنى في العبارة. والتأويل هو «العدول عن ظاهر اللفظ إلى المعنى العميق، وهو غوص نحو العمق للوصول إلى قلب النص واستخراج المعاني الخبيئة فيه» (البريكي، 2006م، ص 114). وهذا ما نجد في فهم المفارقة، حيث نعبّر عن ظاهر اللفظ بمعونة السياق الموجود والعلامات المشيرة إلى عمق النصّ والعبارة وفهم المعاني المختلفة للعبارة. فالمفارقة تفسّر النص أولاً للوصول إلى الجذور الأدنى للنصّ في ذهن المبدع ثمّ الوصول إلى المعاني العميقة بمعونة التأويل والفهم العميق للنص. فالمفارقة تأويلية؛ لأنها تحاول أن تكشف في النص عن ما هو غير مرئي وغير مقول؛ ولأنّ «أيّ نصّ يكون مشوباً بعناصر دلالية خفيّة ضمنية غير مقولة تحتاج إلى قارئ أو متلق يقوم بتأويلها» (زروالي، 1434 ـ 1435ﻫ، ص 31 ـ 32). وقد يستنبط من النص أكثر مما يظهر؛ لأنّ الغائب من النصّ أكثر بكثير مما هو حاضر، وهذا يتوقّف على مدى اعتبار المتلقي للنصّ أو الاستنفار منه أو إعجابه.
قصيدة نزف الحبيب شقائق النعمان، لمحمود درويش من القصائد التي تعكس الرؤية التأملية للشاعر حول الواقع الذي يعيشه في قضية الاحتلال الصهيوني، فيبادر انعكاس المضامين الفكرية والصور الغنائية في واقع من الألفاظ التي تتجه إلى المقاومة، كما «اتجهت أشعار المقاومة داخل إطار من الواقعية الثورية إلى حنين حزين وإحساس مأساوي سلبي» (الورقي، 1983م، ص 273). ويستعين الشاعر لانعكاس هذا الحزن المأساوي والشعور المفعم بالمقاومة بكلمات ساذجة وثقيلة في آن واحد فيلهمه هذا الإحساس المرهف كلمات رمزية أسطورية في قالب القصيدة، كما تعينه ألفاظ من المقاومة والملحمة على تصوير صورة نازحة عن الاستسلام أمام العدوّ، بل استنهاض الشعب للمقاومة أمام الاحتلال الصهيوني، وهذا عن سبيل استخدام آلية المفارقة والأساليب البلاغية خاصة الاستعارة في القصيدة. 6ـ1. نص القصيدة نزف الحبيب شقائق النعمان / أرض الأرجوان تلألأت بجروحه / أولى أغانيها: دم الحب الذي سفكته آلهة / وآخرها دم ... / يا شعب كنعان احتفل / بربيع أرضك، واشتعل / كزهورها، يا شعب كنعان المجرّد من / سلاحك، واكتمل! / من حسن حظك أنّك اخترت الزراعة مهنة / من سوء حظك أنّك اخترت البساتين / القريبة من حدود اللّٰه / حيث السيف يكتب سيرة الصلصال / فتكن السنابل جيشك الأبدي / وليكن الخلود كلاب صيد / في حقول القمح، / ولتكن الأيائل حرةً / كقصيدة رعوية ... / نزف الحبيب شقائق النعمان / فاصفرّت صخور السفح من / وجع المخاض الصعب، / واحمرّت، / وسال الماء أحمر / في عروق ربيعنا ... / أولى أغانينا دم الحب الذي / سفكته آلهة / وآخرها دم سفكته آلهة الحديد ... (درويش، 2009م، ص 49 - 50). تموج في هذه القصيدة مفارقات لفظية درامية، وذلك لما فيها من رموز للمقاومة الفلسطينية التي تثير الدهشة في القارئ فيما يقرأه ويقرع آذانه ثقل الكلمات برنين موسيقايي قام المؤلف بصنعها ضمن سرده لتلك الأحداث المؤسفة. فلا يمكن لمتلقيها، الوقوف على الرؤية المتلهّفة في القصيدة؛ لأنّه ينفصل على تاريخ الشاعر حسب ما يعتقد به ولفانغ إيزر[13]؛ ولأنّ الفهم نتيجة لتفاعل النص والقارئ. فالذي يقرأ هذه القصيدة لأوّل مرة، لا يلتفت إلى أزاهير المفارقة فيها، بل يتلقاها كما يتلقاها كثير من القارئين؛ ولكن مع ذلك، يتأثّر بالإيقاع المؤلم في ذات الكلمات التي انعكست في بطن القصيدة، حيث يرى أنّ الشاعر قد استخدم كلمات مؤلمة، فينتبه للمرة ثانية إلى ما يشعر به من الآلام الموجعة في صدره، فليجأ القارئ إلى قراءة ثانية تأويلية للوصول إلى مقاصد المؤلف. 6ـ2. رؤية تأويلية لا يسيء ظن القارئ حين يتناول هذا المقبوس من القصيدة من حسن ظنّك أنّك اخترت الزراعة مهنة؛ لأنّ القارئ لا يرى في التعبير ما يخالف معتقده والواقع الموجود، ولكن البيت ينشد بالمفارقة التي تظهر وراء الكلمات وتتستر خلف الظاهر الذي يحاول الشاعر أن يصدّقه المتلقون، فكيف نلوذ بخفي يجب الاستطلاع عليه؟! فاللغة لدى درويش «تمارس انزياحاتها وتخرج من ألفتها ويدفع النص المتلقي إلى مزيد من التأويل والبحث والاكتشاف» (حمد المرايات، 2014م، ص 27). ولا يمكن ذلك إلا بمراجعة السياق اللفظي والعوامل الزمانية والمكانية التي يتناولها المؤلف في القصيدة، والاطلاع على الإيقاع والموسيقى الرنان الذي يجلو في هذه القصيدة. 6ـ2ـ1. مفارقات تحمل مفهوم المقاومة * "يا شعب كنعان احتفل / بربيع أرضك": هذه العبارة مفارقة لفظية يبوح الشاعر فيها بغضبه من كثرة الشهداء وكثرة دمائهم، فينادي شعبه إلى المقاومة والنضال مستخدماً لفظة "احتفل" للدلالة على الحركة، ولكن غير تلك الحركة التي تكون في الحفلات، بل إنّ هذه الحركة حركة نضال وشهادة ومقاومة، فكيف تكون هناك احتفالات للحب الضائع والدم القتيل؟ فبذلك ندرك أنّ الاحتفال معارض للفكرة التي تكون وراءه، والفكرة هي المقاومة والشهادة، فيعد الشاعر الشهادة عيد ميلاد جديد فيحتفله ويوصي شعبه بهذا الاحتفال. * "من حسن حظك أنّك اخترت الزراعة مهنة / من سوء حظّك أنّك اخترت البساتين / القريبة من حدود اللّٰه ...": في هذه العبارة كثير من المفارقات، أوّلها مفارقة وتناقض بين أن يكون حسن الحظ للزراعة، ويناقضه قوله في سوء حظه باختيار شعبهم البساتين القريبة من حدود اللّٰه، ثم بعد ذلك يرمز إلى الأعداء والظلمة بكلمة "آلهة". وهذه إشارة إلى أنّ الظلمة يسمّون أنفسهم آلهة، فيعتبرون الأراضي القريبة من حدود اللّٰه ـ وهي إشارة إلى قداسة أرض فلسطين لوقوع مسجد الأقصى فيها ـ أراضيهم، فيشير بذلك إلى الاحتلال الصهيوني، ثم بعد ذلك يشير إلى أن الزراعة مهنة شعبهم، أي يربّون أبناءهم ويزرعونهم، ليحصدهم العدو ويكونوا هشيم الحصاد. فهذه الخطوات الشعرية تجعل البيتين في ذروة المفارقة، ويواجهها القارئ في قراءته الثانية على أن المفارقة صارت تضحي بأبناء فلسطين المحتلة. وتشتد السخرية عندما يتبين أنّ الشاعر لا يريد أن يمدح شعبه على الزراعة، بل وراء ذلك يلهف عليه؛ لأنه يربي الأبناء ويقتلهم الأعداء، فلا يريد أن يقول إنّ شعبه سيء الحظ لنزوله في جنب اللّٰه، بل يلهف عليه؛ لأنّ العدو احتل أرضه فيرى شعبه محظوظاً لنزوله بجنب القدس، ولكن العدو يمانعه على ذلك. ثم إنّ كل هذه التعابير ترجمة للرمز الأسطوري لإله الخصب والزراعة، وهو أوزيريس الذي «علّم البشر الزرع وتعداد الخبز غذاء مقدساً أحلّهم بينهم قوانين عادلة والعدالة» (جاك تيبنو، 2004م، ص 58). فبقوله من حسن حظّك يعبّر عن تلك الأسطورة، ولكنه يقابل بذلك دلالة أخرى، وهي أن هذه الزراعة مسفوكة بيد الأعادي فتصير موجبة لسوء الحظ كذلك. * «فاصفرّت صخور السفح من / وجع المخاض الصعب، / واحمرّت، / وسال الماء أحمر / في عروق ربيعنا ...": هذا المقبوس يمثّل نشيد المقاومة. فليس من شأن الصخور، وهي رمز للصلابة والتحدي والوقوف، أن تخاف العدوّ وتهون. فاستلهم الشاعر من الطبيعة والألوان المحيطة به في إحداث مفارقة جميلة تناقض الواقع الموجود؛ ليبين أنّ المشاهد التي يراها ليس من الواقع في شيء، بل يتفكر في المقاومة والصمود أمام الجبابرة حتى تصبح الصخور مصفرة ولا يبقى ما في الأرض من صامد مثابر أمامهم. والتعبير هذا كناية عمّا ينتاب الوطن العربي من الظلم والاضطهاد، فكأنّه هو الأم التي يصيبها وجع المخاض فيصفرّ وجهها؛ لأنها تنزف الدماء الكثيرة، كما أشار إليه في نزف الحبيب شقائق النعمان، وإشارة إلى كثرة الضحايا في مفارقة جميلة، حيث يكون بعد الحمل سرور الولادة. ولكن الشاعر لا ينتابه أي سرور؛ لأنّ أبناء وطنه صاروا ضحية الظلم، فالاحمرار والسيلان يساعداننا لنقول إنّ المفارقة في "فاصفرّت الصخور من وجع المخاض..."، عبارة عن فكرة الشاعر عن المقاومة حتى الموت. كما أنّ هذا المقبوس يتضمن صورة سريالية من حضور الواقع والمتوقع ووصفاً في ظاهره كلمات حارة صاخبة تلهم الأذهان نغمة المقاومة. وفي البنية العميقة من النص تتجذر مفارقة واضحة تعطينا صورة للولادة، وهي ولادة شعب جديد بآمال جديدة يصمد أمام الجبابرة، فهناك تضاد بين الموت والولادة وثمرته المقاومة والنضال. * "فلتكن السنابل جيشك الأبدي / ولتكن الخلود كلاب صيد / في حقول القمح، / ...": يستمد الشاعر مضامينه في هذا القسم من الطبيعة التي تصف مشاهدنا فيأمل أن ينشد أولاد فلسطين القصائد الغنائية ويتنزهون في الطبيعة وحقولهم وحدائقهم، فيستعير من منهل الطبيعة مفهومه ومن القرآن الكريم مغزاه، حيث يشير بتناص قرآني جميل إلى خصب الوطن وإنّ الآباء يربون أبناءهم على حبّ الوطن ولكي يكونوا جيوشاً تردع الأعداء، ولكنهم هشيم الحصاد ولا يكتب لهم الخلود والنمو. وهذا ما يثير مفارقة لفظية خلابة، مما يجعل هولاء ضحية المفارقة وتثير المفارقة سخرية لاذعة لخراب آمال الشعب ومصيرة أبنائه. فـ"السنابل" رمز لكثرة الإنماء وتربية الأبناء؛ "والجيش" مجاز علاقته ما سيكون، وبغية الشاعر وراء ذلك كثرة الإنجاب واستملاك الأرض وامتلاكها لأنفسهم، ولكن يردعهم الأعداء عن تلك الجولة الكريمة، فيوصي الشاعر مشيراً إلى قوله "ولحسن حظك أنّك اخترت الزراعة مهنة"، بأن تكون السنابل جيش بلده الأبدي مشعراً بأنّ تلك السنابل لا تقوم إلى الأبد، فهناك تناقض بين السنبلة والأبدية، ولكنه يوجّهنا إلى أنّ السنابل لكثرتها لا تبيد أبداً. فهناك قراءتان: قراءة في المقاومة والصمود، وقراءة في الموت والفناء تحدثان مفارقة لفظية جميلة. 6ـ2ـ2. التعليق بين الواقع والسرد / الغناء والملحمة تتأرجح القصيدة بين الغناء والملحمة وبين السرد والواقع، حين يورد الشاعر واقعيات عن حياة الفلسطيني المحاصر في الأراضي المحتلة،حيث لا يتمكن من أن يتسلح للقيام، فيسرد هذه الوضعية الخائبة بكلماته التي تسرد الواقعية الموجودة، ولكنّه في حينه يقوم بوصف متعارض فكرياً لما يتجلى في واقع الحياة، يقول: «يا شعب كنعان المجرد من سلاحك، واكتمل». ولا يعني هذا البيت القصيد سرد الواقعية الموجودة كما يبطن من واقعيات كثيرة، بل الجو الفكري الذي يكون وراء هذا البيت هو إشعار بالمقاومة والقيام؛ وهذا هو التأويل المناسب للبيت، وإن كان موضوع الشاعر «الأساسي الخسارة والفقدان وبكلمة واحدة هو الهزيمة» (درويش، د.ت، ص 103). فالشاعر يختار كلماته بين الملحمة والغناء و«جاء نشيده على مستوى البناء والسياق والأفق ملحمياً؛ وأما على مستوى العبارة والصورة والإيقاع فهو يحتفظ بكامل غنائيته» (المصدر نفسه، ص 59)، ويترسّل في صفحات فكره عمّا يوجعه من وجع الاحتلال ويركّز على فكرة القيام، فيغني بملحمة المقاومة وينكر للعدو أن يكون صاحب هذا الوطن. وهناك ملحمة كبرى يسردها بغناء عزيز عند الشاعر، حيث يقول: «وسال الماء أحمر في عروق ربيعنا»، متنكراً إشعاره بالضعف أمام العدو، بل يغني ذلك الموت المنشود لأبناء وطنه فتجري دماؤهم في عروق الربيع ويناسب بين ذلك وبين نزف الحبيب بشقائق النعمان سرداً يقوم به الشاعر في قالب ملحمي وغناء لا تنتابه آفاق الفكر والقراءة الأولى ولا يتمكن المتلقي أن يفسر ما يموج في ذهن الشاعر. ومن أهمّ النماذج التي تتجلى فيها المفارقة، هي أنّ القصيدة من جهة تحتوي على مضامين الغناء والحب والبهجة وتتكلم عن الأزهار والأنهار والأرجوان والسنابل التي تحدث في القارئ الابتهاج والسرور والفرح، ومن جهة ثانية يقابل الشاعر هذا الرصف الطبيعي البهيج، بمضامين مؤسفة، كالحرب والقتل والجيش وسفك الدماء ونزيفها؛ وهذان الموقفان المؤلمان يسردان الواقعية الموجودة في تناقض شديد يحدث مفارقة ظرفية درامية ويجعل القصيدة محطّ حضور هذه المفارقة: «نزف الحبيب شقائق النعمان ... / دم الحب الذي سفكته آلهة / وآخرها دم سفكته آلهة الحديد». وكيف لا تنزلق القصيدة عمّا عليه من وصف الطبيعة الواقعية في بلاد الشاعر في بدايتها، إلى أن تبين أنّ ذلك النزيف والجروح ما سبّبته آلهة تقتل المحبين. فالشاعر يجعل من هذا الوصف مفارقة خلابة ويعتقد أنّ الآلهة لا يرتجى منها السفك والقتل، بل يأمل منها الرحمة والرأفة، فكيف تنزلق الآلهة من الحب إلى البغض والضغينة، فتوحي القصيدة موقفاً درامياً مفارقياً في هذا النشيد الواقعي. ونشيد السخرية يتجلى في كون الضحايا قرباناً للآلهة في كلا الموقفين: موقف الحب، وموقف النضال. وبذلك، يريد الشاعر أن ينفي من الآلهة ذلك الوصف المرعوب. وليست السخرية المفارقية سخرية تهكميةً، بل إنها سخرية مرة تعكس واقع الحياة وتعكس التضاد بين ما يتوقع وما يحدث حالياً للشعب الفلسطيني. فجميع أقسام المفارقة التي تحدثنا عنها نتاج الضدية بين الموقف الراهن وما يتوقع العباد من الآلهة. فمن لا يتمكن من تأويل هذه المفارقة يسيء ظنه ويقع ضحيتها. الواقعية = لا يقدر الناس على الحب ويقتل العاشقون في نضالهم المتوقع = تهب الآلهة الناس السكينة التي يسكن في ظلها العاشقون ويستريحون والجانب اللغوي الذي تجتاز منه عقلية المخاطب إلى إدراك المفارقة هو استخدام صنوف البلاغة في النص، حيث يجعل "الحديد" آلهة ويرمز إلى أصناف السلاح التي يقتل بها الناس، وهناك من الناس من يكون يافعا أو مراهقا شابا؛ ومن هذه القرينة، يفهم المتلقي مقاصد النص التحتية التي تتبلور ضمن المفارقة الموجودة. 6ـ2ـ3. الرمزية الأسطورية إنّ في القصيدة رموزاً كثيرة يجب فكّها للوصول إلى التأويل الصحيح. وهذه الكثرة ناتجة عن رؤية الشاعر في رسم معايير المقاومة الفلسطينية بلسان الشعر وتعكس تجربة الشاعر الذي يعاني من استغلال شعبه تحت قيود العدوان الصهيوني فينادي بأعلى صوته انكسار شعبه وخضوعهم أمام الطغيان ويوصيهم بالمقاومة والاستشهاد. وتؤدي تلك الترميزات إلى فتح النصّ على التعددية، حيث الحقيقة المنعكسة في تلك الرموز تستحيل إلى تأويلات للقارئ وتقربه إلى فك الترميز عن الحقائق المستترة في القصيدة. وكلّما كان المتلقي ملمّاً بالتجربة الشعورية التي جربّها المؤلف كان فك الترميز أيسر وعندما يكون «المتلقي غير ملمّ بالأسطورة وكان الشاعر قد استخدم الرمز استخداماً مباشراً، فإن المغزى يستغلق في هذه الحالة ويفقد فاعليته» (إسماعيل، 1966م، ص 216). وتعد "شقائق النعمان"، ممّا استخدمه الشاعر، وهي رمز للحياة والممات معاً ورمز للانبعاث والتجدّد. ففي القراءة الأولى من القصيدة، يستخدم الشاعر هذا الرمز مستعيناً بأفانين البلاغة، حيث يقول: «نزف الحبيب شقائق النعمان». ونعلم أنّ الحبيب (الوطن) لا ينزف شقائق النعمان، بل إنّ شقائق النعمان تنبت على الدماء التي تنزف منها إثر الجروح التي أصابتها. فالاستعارة تصف «حالة الإنسان الفلسطيني المعذب من كثرة جراحاته على يد المحتل» (عبد الهادي، 2014م، ص 143). وشقائق النعمان «رمز لرحيل الشتاء وبداية الربيع، كما تكون رمزاً للشهداء، كما ترتبط بأسطورة أدونيس، أي التموز أو العشتار التي نبتت من دم أدونيس»[14] (ساتيك، 2015م). بالإضافة إلى ذلك، أنّها لا تعيش منفردة، بل تنبت بالجماعة ولا تعيش أكثر من أسبوعين (العقرباوي، 2017م). فهذه الخاصيات تظهر أنّه لاستخدام مثل هذه الرموز فائدة كبيرة، وهي الوقوف على الصورة الذهنية التي تكون وراء هذه الكلمات. فالمفارقة الحادثة إثر نزاع الموت والحياة تحتاج إلى عملية هرمنوطيقية هائلة لمقاربة طفيفة بين الرمز والمغزى المفارقي الموجود فيه. ولكي نستظهر الصورة الحقيقة، يجب أن نلتمس تلك البنية العميقة التي تتجذر في ذهن الشاعر، وذلك من خلال مراعاة السياق واستدراك رمزية شقائق النعمان التي تكون رمزاً للحياة، حيث تنمو على سفح الجبال في ظاهرها وتكون مصدر إلهام للأرواح التي يفتدى بها في المقاومة حتي تلاقي الشهادة. وقد لا يتمكن المتلقي من الوصول إلى تلك البنية العميقة لاستخدام الرمز ويبقى ضحية المفارقة ومعرض السخرية، حيث لا يستطيع الوقوف على المحتوى. والعلاقة بين الرمز والمفارقة تنبعث من كون الرمز مفارقة بين البنية العميقة والبنية السطحية، وكلاهما تتكئان على القدرة الاستحضارية للمتلقي، حيث يكون هو المصدر الوحيد لتفسير الرمز، كما يكون المصدر الوحيد لتأويل المفارقة. وللرمز حقل واقعي اعتيادي، وكذلك حقل تخييلي دلالي يعتمد على قريحة المتلقي؛ وهكذا في المفارقة، فلها حقل دلالي يعتمد على ذاتية المتلقي، إذا لم يكن ضحية المفارقة، ولها حقل أصلي يعتمد عليها الضحية في كثير من الأحيان. وإن لم يكن المتلقي يتسلط في هذا البيت على الجانب الرمزي من "شقائق النعمان"، فلم يستطع إخراج المفارقة والتوصل إلى البنية العميقة وتأويل الرمز بصورة مرموقة، ليفهم مفهوم المرسل بدلاً من أن يكون المتلقي ضحية المفارقة وخائب الظن في فهم الرمز. و"الحبيب" رمز للوطن العربي (فلسطين) و"شقائق النعمان" رمز للتجدد والثبات وللحبّ والدم؛ فالقراءة الأولى دون تأمل التاريخ الأدبي للمؤلف ودون مراعاة العوامل الجانبية تسوقنا إلى فهم القراءة البلاغية من هذين البيتين، حيث يمكن للقارئ أن يصل إلى أن التنزيف استعارة عن الإنبات والاحمرار، كما يمكن أن ندرك أنّ هذا السطر يوحي بأنّ أرض الوطن قد نبتت عليها شقائق النعمان واحمرّت وأنّ هذه الشقائق تشبه الجروح لحمرتها، ولكن القراءة التأويلية تسوقنا إلى التنزيف والجرح. والسياق اللفظي في القصيدة يوحي بأنّ هذا التنزيف غير ذلك الذي نفهمه من ظاهر البيت، بل وراء ذلك ما يدلّ على الشهادة والمقاومة، حيث «يستغلّ الشاعر فكرة الخصب والانبعاث عبر شقائق النعمان من دائرة المألوف إلى فضاءات افتدائية مقاوماً لآلهة الموت والدمار الذي حلّ بفلسطين» (المصدر السابق، ص222-223). ويظهر بذلك أنّ المفارقة التي يستغلها الشاعر، تعتمد على الرمز الأسطوري الذي يحلّ في ساحة التجدد والقيام بدل الدمار والموت. فيظهر استعمال هذا الرمز الأسطوري واستخدام لفظة "كنعان" في القصيدة ذاتها خفايا الشاعر الذهنية التي يريد ترويضها في كلمات تبدي لنا الواقع المؤسف للشعب الفلسطيني بما يرمز الشاعر إلى كلمات تفوح منها رائحة الجرح والظلم والاحتلال. وهذه الكلمات تدلّ على أنّ الشاعر ساخط، لذلك يأتي بكلمات، مثل: "الجروح"، و"سفكت"، و"المجرد من السلاح"، و"السيف والصلصال"، و"كلاب صيد"، و"الدم"، و"نزف الحبيب"، و"الوجع"؛ وفي المقابل، يأتي بكلمات أخرى تناقضها. فعلى المتلقي أن يؤولها. وتلك الكلمات ألفاظ مبتهجة مرحة، كـ"الغناء"، و"الحقل"، و"الزهرة"، و"الحب"، و"الاحتفال". فالمفارقة جلية فيما يستعمل الشاعر الحب للعزاء لا للحبّ وحده، وهذا ما يثير سخرية المفارقة والتضاد الذي يتبناه الشاعر في الكلمات مع ما يتوقع من الواقع المنشود. وكذلك حين يستعمل الشاعر "الربيع" لا يريد معناه المعروف، بل يوظفه لكونه مراسيم الشهداء. ويبقى هذا الكشف على عاتق المؤول للواقع الأدبي حتى يدرك جمالية الأثر الأدبي وشعريته. واستخدم الشاعر رمز "الآلهة" لينادي بمفارقة صاخبة ساخطة، وتلك في سبيل إطلاق اسم لا ينبغي للأعداء على سبيل المفارقة، حيث ينادي بأنّ الآلهة تسفك دماء المحبين محبي الوطن، ويستفيد الشاعر هنا من أسطورة الآلهة أوزيريس آلهة الحب وجداله مع ستّ آلهة الشر. فأوزيريس «ربّ النبات والمزروعات وتعمل على إخصاب السماء والأرض وإنّه هو الذي تنازل عن العرش وراح ضحية حادث اغتيال، وهو الذي يتعارض مع ستّ إله الجبال والصحاري، وهو الطيب إلى أبد الدهر» (جاك تيبو، 2004م، ص 57). وراح الشاعر يستخدم الأسطورة ليبين أنّه لا يخضع شعبه لآلهة القتل والسفك، وهل يمكن أن نسمي من يقتل الأحباء آلهة ثم يعبر أن اختيار البساتين من قرب اللّٰه من سوء حظ شعبه، وهل ينبغي للشعب أن يكون غير محظوظ بقربه من حدود اللّٰه، إلاّ وأن يكون ذلك الإله مسلوب الصفات الإلهية على سبيل المفارقة؟ وهذه المفارقات في نص الشاعر والرمزية الساخطة التي استخدمها في جو النص جعل القصيدة محفوفة بالمفارقات اللفظية والدرامية. ويستلزم بهذا التأويل أن «نمنح للنص إمكانية ظهوره مختلفاً والكشف عن حقيقته الخالصة ضد الأفكار التي نصورها مسبقاً» (غادامير، 2006م، ص 48). فصورة الآلهة صورة محببة إلينا، ولكنّ الشاعر يری آلهة الشر والحديد بديلاً لآلهة الخير والإخصاب فتتبدد أحلامه ويصير ضحية الآلهة فينادي بمفارقة جميلة تنعكس ما يرجوه من الخير والإنماء. ثم يشير الشاعر إلى رمز أسطوري آخر وهو "الأيل"، حيث يقوم بإفراده في مأزق الموت والفناء فينفرد دون الأم فيقول: «فلتكن الأيائل حرة، فهو لا يريد من الأيائل أن تكون حرة، بل إنها تمثل الخصوبة والحياة المتجددة ترتبط بدرويش وأبناء فلسطين، وهم جميعاً يتصلون بأم الأرض يفيضون عليها القوة والإرواء» (حمد المرايات، 2014م، ص 71). فدرويش «يستخدم الكلمات في غير ما وضعت له وتتجاوز صوره حدود المجاز، فنراه يقول شيئاً ويريد به شيئاً آخر» (المصدر نفسه، ص 216). فهو لا يريد أن يكون الأيل حراً، بل يعتنق بانضمامه إلى أم الأرض لكي تكون الخصوبة ومقاومة الموت والفناء والتجدد والبقاء. فالعبارة تحتوي على شحنات عاطفية، حيث تتلون العبارة بألوان مختلفة تعطينا مفارقة لفظية من إطلاق سراح الأيائل لتستمتع بالحرية والإنطلاق في موطنهم ويحيطهم بالانفراد وتختفي الصورة في كونهم مجتمعين يداً واحدةً. فـ"الأيل" رمز للخصوبة والقدرة اللتين لا تحصلان إلا بالانضمام إلى أم الأرض؛ وقوله "فلتكن الأيائل حرة" يوحي بأنّ هذه الحرية تجعل الأيائل وأبناء وطنه قادرين على إحياء أرضهم وإخصاب شعبهم والمقاومة والصمود والتغلب على العدوان.
الخاتمة توصلت المقالة إلى ما يلي: ـ قيام المتلقي بتأويل المفارقة يحتاج إلى قراءة ثانية لنزوح النص عن الفهم المتيسر في القراءة الأولى، وذلك بسبب التناقض الموجود بين النص والفكرة المؤلفة. فالمتلقي يجد مضامين مفارقية بين الغناء والملحمة واستدعاء المقاومة في الموت والشهادة، ومن ثم الرموز والاساطير التي تكمن في التراكيب وتعطي ثمارها معنى معاكساً للواقع. ـ والقصيدة مشحونة بصور مفارقية لفظية ودرامية، وذلك بحلول ألفاظ رنانة توحي بالحركة في نطاق ملحمي، حيث يصنع الشاعر من الغناء والملحمة عجيناً يرتكز على مفاهيم متضادة وينتج مفارقة تخلف الأذهان. وكذلك، قد اتخذ الشاعر المجاز آلية لإرواء ذهن المتلقي وإلمامه بالبنية التحتية التي تتجلى فيها المفارقة. والمفارقة أشد وقعاً، حيث يحاول المؤلف إلقاء صدق الكلام وحقيقته في البنية اللغوية؛ إذ يصدقها كل متلقّ لأول مرة، فيرى أنّ فكرة المؤلف صادقة مع البنية الذهنية، ولكن من يؤول هذه العبارات يصل إلى أن المؤلف يجرى وراء مقصود يخالف الأساليب اللغوية. ـ كثير من العبارات توحي بالحركة والدينامية التي تتبلور في بنيتها التحتية. وللألفاظ جرس رنّان وألوان دافئة تميل إلى الحياة أكثر من الموت. وبذلك، حدثت مفارقة لفظية في كون المغزى الذي يشير إلى القيام والانفعال ويشير ظاهر الأبيات إلى الانخراط في سبيل الموت. إنّ الاختلاف الذي نشاهده في المفارقة لا يحدث في فكرة القائل والمتلقي، بل هو اختلاف في الفهم السيمولوجي الذي يؤدي إلى تعدد المعاني في نص واحد ويخلق نظاماً مفتوحاً أمام المتلقي، وبالتالي اختلافاً في النظم الهرمنوطيقية. فالمفارقة نتاج هذه الاختلافات الموجودة في الفهم السيمولوجي من اللغة والفهم التأويلي الذي يقوم به المتلقي محاولة الانطباق الدلالي مع الأحداث السياقية واللفظية. ـ درويش يستمد من الصور البلاغية والرموز والأساطير لإعطاء القارئ موقفاً فعالاً لإدراك مغزى النص، ولذلك كثر عنده ذكر الأساطير، كـ"الأيل"، و"شقائق النعمان". وهناك رموز كثيرة أخرى، كـ"الحبيب"، و"الآلهة" تجعل القصيدة رمزية أكثر من أن تكون واقعية. فللقصيدة بنية تحتية عميقة تدعو إلى الصمود والإنهاض وبنية سطحية وصفية لما يحيط بالشعب الفلسطيني.
[1]. Irony [2]. Hermeneutics [3]. Hermeneutics [4]. Verbal Irony [5]. Context [6]. Textual Structure [7]. Contextual Structure [8]. Conceptual Irony [9]. Roland Barthes [10].Wilhelm Dilthey [11]. Schleier Macher [12]. Stylistic [13]. Wolfgang Iser [14]. فتلك الأسطورة تحكي أن قصة حب نشأت بين أدونيس وعشتار التي أخذت تسدي النصائح له بألا يأمن الحيوانات التي تعترضه، وخصوصاً التي زودتها الطبيعة بقوة خارقة، لكن شجاعة أدونيس ما كانت لتوقفها تحذيرات حبيبته؛ إذ رأى خنزيراً برياً فطعنه برمحه، لكنه نزع الرمح الدامي، وركض خلف أدونيس الذي فر مذعوراً باحثاً عن ملجأ إلى أن ظفر به الخنزير، فعضه في فخذه عضة دوّت معها صيحات أدونيس في الأجواء، فوصلت أنّاته إلى عشتار التي عادت إليه مسرعة، ثم رأته مضرجاً بدمائه، وراحت تلوم الأقدار، قائلة: سوف يبقى أدونيس ذكرى حزن بالغ للأبد (ساتيك، 2015م). | ||
مراجع | ||
أ ـ العربية
أحمد، محمد فتوح. (1994م). «جدليات النص». مجلة عالم الفكر. ع 3 - 4. ص40 - 55.
إسماعيل، عز الدين. (1966م). الشعر العربي المعاصر. ط 3. القاهرة: دار الفكر العربي.
إيكو، إمبرطو. (2001م). الأثر المفتوح. ترجمة عبد الرحمن بو علي. ط 2. اللاذقية: دار الحوار.
بارت، رولان. (1994م). نقد وحقيقة. ترجمة منذر عياشي. حلب: مركز الإنماء الحضاري.
البريكي، فاطمة. (2006م). قضية التلقي في النقد العربي القديم. دوبي: دار العالم العربي.
بن حسن، حسن. (1992م). النظرية التأويلية عند بول ريكور. أمرشيش: دار تينمل.
بن عون، مخلص. (2016م). «المعنى بين إرادة المتكلم ومجهود القراءة». العلامة. ع 3. ص 99 - 104.
جاك تيبنو، روبير. (2004م). موسوعة الأساطير والرموز الفرعونية. ترجمة فاطمة عبد اللّٰه محمود. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة.
الجوهري، إسماعيل بن حماد. (1376ﻫ ). الصحاح. بيروت: دار العلم للملايين.
حمد المرايات، رفعت عبد اللّٰه. (2014م). تحولات التوظيف الأسطوري في الشعر العربي الحديث. رسالة الدكتوراه. جامعة مؤته. عمادة الدراسات العليا.
درويش، محمود. (2009م). الأعمال الجديدة الكاملة. بيروت: رياض الريّس للكتب والنثر.
ــــــــــــــــــ . (د.ت). سجِّل! أنا عربي. تقديم: رياض نعسان آغا. إعداد: علي قيم. د.م: د.ن.
راغب الأصفهاني، حسين بن محمد. (1412ﻫ). مفردات ألفاظ القرآن. بيروت: دار القلم.
ريكور، بول. (2006م). نظرية التأويل. ترجمة سعيد الغانمي. ط 2. بيروت والدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.
الزبيدي، مرتضى. (1414ﻫ). تاج العروس من جواهر القاموس. بيروت: دار الفكر.
زروالي، زهرة. (1434 - 1435ﻫ). مصطلح الانزياح بين البلاغة والأسلوبية. رسالة الماجستير. جامعة تلمسان. كلية الآداب واللغات.
السكاكي، أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر. (1987م). مفتاح العلوم. ط 2. بيروت: دار الكتب اللعلمية.
سلفرمان، هيو .ج. (2002م). نصّيات. ترجمة علي حاكم صالح وحسن ناظم. بيروت والدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.
شرفي، عبد الكريم. (2007م). من فلسفات التأويل إلى نظرية القراءة. الجزيرة: الاختلاف؛ بيروت: الدار العربية للعلوم.
طريحي، فخر الدين. (1375ﻫ.ش). مجمع البحرين. ط3. تهران: مرتضوی.
الطيار، مساعد بن سليمان. (1427ﻫ). مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر. ط 2. الدمام: دار ابن الجوزي.
عبد الهادي، عقبة فالح. (2014م). الاستعارات الكبرى ودلالاتها في أعمال محمود درويش. رسالة الماجستير. جامعة بيرزيت. كلية الآداب.
عبد الواحد، محمود عباس، (1996م). قراءة النص وجمالية التلقي بين المذاهب الغربية الحديثة وتراثنا النقدي. بيروت: دار الفكر العربي.
العبد، محمد. (1994م). المفارقة القرآنية. بيروت: دار الفكر العربي.
عويسات، عائشة. (2011م). «التاويلية في النصوص الأدبية». المتلقى الوطني الأول في الاتجاهات الحديثة في دراسة اللغة والأدب. ص 112 - 116.
غادامير، هانس غيورغ. (2006م). فلسفة التأويل. ترجمة محمد شوقي الزين. ط 2. الجزيرة: دار الاختلاف؛ بيروت: المركز الثقافي العربي؛ بيروت: الدار العربية للعلوم.
ميويك، دي سي. (1993م). «المفارقة وصفاتها». موسوعة المصطلح النقدي. ترجمة عبد الواحد لؤلوة. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
هاينه من، فولفانغ؛ وديتر فيهفيجر. (1999م). مدخل إلى علم اللغة النصي. ترجمة فالح بن شبيب العجمي. الرياض: جامعة الملك سعود.
هايدغر، مارتن. (2012م). الكينونة والزمان. ترجمة فتحي المسكيني. بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة.
الورقي، سعيد. (1983م). لغة الشعر العربی الحديث: مقوماتها الفنية وطاقاتها الإبداعية. ط 2. القاهرة: دار المعارف.
ب ـ الإنجليزية
ميلانويچز
Milanowicz, Anna. (2013). »Irony as a means of perception through communication channels«. Psychology of language and communication. Vol 17. no 2. pp 13 – 115. ج ـ المواقع الإلكترونية
خليل، إبراهيم. (2011م). المفارقة والتأويل في لغة الشعر: قصيدة ثلج لأحمد عبد المعطي حجازي نموذجا.
www.qabaqaosayn.com ساتيك، سنان. (2015م). شقائق النعمان ... بين أسطورة أدونيس وملك المناذرة.
https://www.alaraby.co.uk/miscellaneous/2015/7/24/ العقرباوي، حمزة. (2017م). شقائق النعمان ... أسطورة الدم والحب.
https://ultrapal.ultrasawt.com | ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 1,048 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 352 |