
تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,687 |
تعداد مقالات | 13,862 |
تعداد مشاهده مقاله | 32,907,301 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 13,014,593 |
زمن الخطاب الروائي بين البنية والدلالة في رواية الزمن الموحش لحيدر حيدر | ||
بحوث في اللغة العربية | ||
مقاله 3، دوره 14، شماره 26، تیر 2022، صفحه 17-32 اصل مقاله (1.25 M) | ||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | ||
شناسه دیجیتال (DOI): 10.22108/rall.2021.123716.1298 | ||
نویسندگان | ||
رضا آنسته1؛ علي أصغر قهرماني مقبل* 2؛ رسول بلاوي3؛ ناصر زارع4 | ||
1طالب الدكتوراه في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة خليج فارس، بوشهر، إيران | ||
2أستاذ مشارك في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الشهيد بهشتي، طهران، إيران | ||
3أستاذ مشارك في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة خليج فارس، بوشهر، إيران | ||
4أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة خليج فارس، بوشهر، إيران | ||
چکیده | ||
يعد الزمن محورا أساسیا في تشكيل الخطاب الروائي، باعتباره من الفنون الزمنية، حتى يتحدد ويتبلور شكل البنية الروائية معتمدا على شكل البنية الزمنية لها ويؤثر في توصيل دلالاته؛ ولهذا، يحاول هذا البحث دراسته لتبيين هذا التأثير والتلازم بين البنية الزمنية والدلالية للرواية، مما يؤدي إلى فهم أعمق للنص الروائي. ولم يعد الزمن في الرواية العالمية الحديثة عامة، والرواية العربية الحديثة بصورة خاصة، قائما على التسلسل التعاقبي كالرواية الكلاسيكية، بل اتجهت الرواية إلى انحراف السير الزمني. فبناء الحدث الروائي لا يخضع لمنطق السببية؛ لذا نرى تحولات الزمن في أعمال الروائيين الجدد. والروائي السوري، حيدر حيدر، من هؤلاء الروائيين الذين وظفوا الزمن بنائيا لتكسير وخرق الزمن الخطي التتابعي، والمفارقة بين زمن الحكاية والخطاب لغاياته الدلالية؛ وهو ما يتحرى هذا البحث دراسته. يعتمد هذا البحث المنهج الوصفي ـ التحليلي، مستفيدا من آراء جيرار جنيت لدراسة الزمن الروائي في رواية الزمن الموحش لحيدر حيدر. والدراسة تحاول أن تكشف عن بنية توظيف الزمن الروائي وخصوصيته ودلالاته أيضا. ومن النتائج التي توصلت إليها الدراسة أن بناء الزمن في هذه الرواية هو من النوع الدائري، مما خدم دلالاتها الجدلية وفكرتها؛ وهو صراع الحداثة والتراث، حيث إن الزمن الدائري هو أحد أنواع الزمن التداخلي الجدلي، كما عدم التطابق بين نظام السرد ونظام القصة بسبب الاسترجاع والاستباق سبّب حدوث مفارقات زمنية، خاصة عبر تقنية الاسترجاع؛ لأن الرواية سيرة ذاتية لبطلها الشبلي عبد اللّٰه، وتطرح إشكالية صراع الحداثة والتراث، موظفة لذلك تقنيات زمنية مختلفة، منها ما خلخل الزمن الروائي وسرعه، مثل: الخلاصة والحذف، ومنها ما أبطأه، مثل: الوقفة والمشهد؛ فنوّعت على مستوى البناء من إيقاعه وكسرت رتابة النص؛ وعلى مستوى الدلالة، نهضت بدلالاته السوسيوسيكولوجية. | ||
کلیدواژهها | ||
البنية السردية؛ الدلالة؛ الزمن الروائي؛ حيدر حيدر؛ رواية الزمن الموحش | ||
اصل مقاله | ||
يعد الزمن محورا أساسيا في تشكيل الخطاب السردي، وهو أكثر الأنواع الأدبية التصاقا بالزمن؛ لأن السرد يدل على التتابع والتعاقب، وهو مفهوم زمني. فالزمن ليس عارضا على السرد، بل هو جوهره وذاته. وهذا التتابع هو تتابع الأحداث ولا حدثَ يحدث خارج الزمن. وحتى حين يتخلخل هذا التتابع يتمّ عبر الزمن والتلاعب به. وبسبب هذا التضافر والتضمن البنائي بين الزمن والسرد، قيل: «لا سرد بدون زمن؛ فمن المتعذر أن نعثر على سرد خال من الزمن؛ وإذا جاز لنا افتراضا أن نفكر في زمن خال من السرد، فلا يمكن أن نلغي الزمن في السرد؛ فالزمن هو الذي يوجد في السرد وليس هو الذي يوجد في الزمن» (بحراوي، 1990م، ص 117). فهو «يؤثر في العناصر الأخرى وينعكس عليها؛ الزمن حقيقة مجردة سائلة لا تظهر إلا من خلال مفعولها على العناصر الأخرى. الزمن هو القصة، وهي تتشكل، وهو الإيقاع» (قاسم، 2004م، ص 38). ويترتب على الزمن عناصر التشويق والاستمرار ويساهم في تشييد النص فنيا وجماليا. ولذا، كان الشكلانيون الروس هم من الأوائل الذين درسوا الزمن ضمن نظرية الأدب والأعمال السردية والعلاقات التي تجمع بين أحداثها وتربط أجزاءها، ثم اعتمد النقد البنيوي نظريات الشكلانيين، حيث ميّز تودورف[1] بين زمن القصة وزمن الخطاب، حيث إن الأول خطّي والثاني متعدد الأبعاد، وتلاه جيرار جنيت[2] مكملاً آراءه، والذي كان صاحب الحظ والجهد الأعظم في هذا المجال ونحت الكثير من مصطلحاته، فاعتمدت عليه أكثر البحوث اللاحقة له؛ فهو قد درس المظهرين الأساسيين داخل الرواية، وهما زمن الشيء المروي وزمن السرد، أي بلغة اللسانيات زمن الدال (البناء) وزمن المدلول (بحراوي، 1990م، ص 116). ويتم دراسة هذين الزمنين على مستوى المفارقات السردية والديمومة، وستتناولهما هذه الدراسة في رواية الزمن الموحش لحيدر حيدر. فهي نموذج للرواية الحديثة التي انزاحت بالنص الروائي مغايرة عن الرواية الكلاسيكية الخطية التتابعية بما يتناسب ويتلاءم مع حاجات الإنسان المعاصر النفسية والاجتماعية الحداثية وما بعد الحداثية. لقد طرحت رواية الزمن الموحش إشكالية الحداثة والتراث وصراعهما، رياديا وطلائعيا، طبعت عام 1973م، أول مرة، وتبوأت المرتبة 7 في قائمة أفضل مائة رواية عربية. وبما أن صراع الحداثة والتراث هو إشكالية على مستوى الزمن بالدرجة الأولى، اهتمت الرواية به خطابيا ودلاليا. فعلى مستوى الخطاب، افتتحت به عتبتها الزمن الموحش الذي يدل على مضمونها ودلالاتها، وهو اغتراب المثقف العربي ووحشته وعزلته الحداثية في مجتمعه الذي يعيش ببعض قيم التراث البالية المتخلفة؛ وتكررت مفردة "الزمن" في الرواية لأهميتها ومحوريتها 309 مرة. لهذا الغرض، وظفته الرواية بنائيا بصورة مغايرة عن الرواية الكلاسيكية، ليعبر عن دلالاتها المذكورة، وهو ما حدا بنا إلى دراستها على مستوى البنية والدلالة. فبحثنا تقنياتها الزمنية المرتبطة بالمفارقات السردية (الاسترجاع والاستباق)، وإيقاع الزمن الروائي، مما ينضوي تحت عنوان مبحث "الديمومة" أو المدة، وهي "الحذف، والخلاصة، والوقفة، والمشهد". وعمدنا إلى استخراج بعض دلالات التوظيف البنائي لهذه التقنيات الزمنية المذكورة في الرواية، حتى تتضافر البنية مع الدلالة في خلق النص الروائي. إن الزمن في رواية الزمن الموحش ليس مجرد شرط للإنجاز، بل موضوعها وبطلها، حسب تعبير ريكارد[3]، وهو الكاتب والناقد الفرنسي الذي اشتهر بكونه منظرا رسميا لتيار "الرواية الجديدة"، ونشر عدة أعمال نظرية، مثل: "إشكاليات الرواية الجديدة" (1967م)، فوظفته الرواية كقيمة وثيمة، فهي تفكير في الزمن وتخطيبٌ له (يقطين، 1997م، ص 80). لذا تتحرّى هذه الدراسة البحث فيها. 1ـ1. منهج البحث اعتمد البحث على المنهج الوصفي ـ التحليلي، مستفيدا من آراء جيرار جنيت حول تقنيات الإيقاع الروائي، وبيّن المفاهيم العامة في هذا المجال، ثم حلل تجلياتها ودلالاتها في رواية الزمن الموحش. 1ـ2. أسئلة البحث إن هذه الدراسة تستمد أهميتها وضرورتها من كونها مقاربة نقدية زمنية سردية، وهي المقاربة الأمثل لفهم هذه الرواية بناء ودلالة بصورة معمقة وفعالة لما طرحناه آنفا من مركزية وقيمة الزمن والإيقاع فيها بصورة خاصة، ومن أنسب الآليات لفهم أية رواية بصورة عامة؛ لذا تحاول الإجابة عن الأسئلة التالية: ـ كيف تجلت البنية الزمنية في رواية الزمن الموحش؟ ـ ما دلالات البنية الزمنية في هذه الرواية؟ 1ـ3. فرضيات البحث أما فرضيات البحث فهي ما يلي: ـ يبدو أن البنية الزمنية تجلت في الزمن الموحش بصورة تداخلية جدلية دائرية غير خطية. ـ نفترض أن إشكالية الحداثة والتراث وجدليتهما، والاستلاب، والعزلة، وأزمة الزمن النفسي في المجتمعات العربية، من أهم دلالات البنية الزمنية في الرواية. 1ـ4. خلفية البحث لقد جرت مقاربات ودراسات زمنية متعددة لأعمال سردية مختلفة، منها: كتاب خطاب الحكاية لجيرار جنيت (1997م)، الذي اعتمدت عليه الكثير من الدراسات الأجنبية والعربية في هذا الحقل. أما عربيا فنلمح بنية الشكل الروائي لحسن بحراوي (1990م)، وبنية النص السردي لحميد لحمداني (1991م)، حيث درسا الزمن الروائي من خلال بنية النص. وكذلك كتاب الزمن في الرواية العربية، لمها حسن القصراوي (2004م)، والتي تدرس فيه موضوع الزمن الروائي بصورة تفصيلية، خاصة في الرواية العربية. وأما فيما يتعلق برواية الزمن الموحش، فيمكننا الإشارة إلى بحث لفؤاد عزام (2010م)، تحت عنوان بناء الأحداث في روايات حيدر حيدر. تطرق فيه الباحث إلى بناء الأحداث في الرواية، وكيفية وطبيعة تشكيلها. وكذلك رسالة رواية الزمن الموحش لحيدر حيدر: مقاربة أسلوبية، لفاطمة الزهراء الغدير (2017م)، حيث تدرس الباحثة الرواية من منطلق أسلوبي ولغوي وطرائق وخصائص التعبير فيها. وهناك بحث موسوم بمرايا البوليفونية في رواية الزمن الموحش على ضوء نظرية باختين السردية لرضا آنسته وآخرين (2019م). ناقش البحث البوليفونية وتعدّد الأصوات في الرواية المذكورة وتجلياتها. وهذه الدراسات بالرغم من غزارتها العلمية وأهميتها إلا أنها لم تسلط الضوء على تضافر البنية والدلالة الزمنية في الزمن الموحش ولم تبحثها بصورة مفصلة ووافية في ضوء مقولات تقنيات الزمن الروائي؛ وهو ما يرومه هذا البحث بالذات مقاربا لها بصورة مغايرة تبويبا ومنهجا وتحليلا.
ولد الكاتب حيدر حيدر عام (1936م)، في قرية حصين البحر بطرطوس. وهو خريج معهد المعلمين، وانخرط في التيار الوحدوي ـ العروبي في مطلع الخمسينات، وكان من مؤسسي اتحاد كتاب العرب وعضواً في مكتبه التنفيذي. ونشر في مجلة الآداب اللبنانية قصصه الأولى ثم هاجر إلى الجزائر عام (1970م)، ليشارك في ثورة التعريب أو الثورة الثقافية (غدير، 2017م، ص 64). نشر روايته الزمن الموحش عام (1973م)، عن تجربته وانخراطه في المناخ الثقافي والسياسي في دمشق. من أعماله المعروفة الأخرى أيضا رواية وليمة لأعشاب البحر (يقطين، 2001م، ص 68). تتلخص قصة رواية الزمن الموحش في استذكار السارد "الشبلي عبد اللّٰه"، وعلاقته بحبيبته "منى"، والتوتر الذي سادها ورحيلها في آخر الرواية، ولقاءاته وحواراته الجدلية حول أسباب تخلف المجتمعات العربية، وتأثير النكبة والنكسة عليها، مع نخبة من أصدقائه المثقفين. تعاني منى من اضطرابات نفسية بسبب مقتل زوجها وأخِذ أهله لابنتها ميسالينا وعلاقاتها غير المشروعة، ممّا يلقي بظلاله على علاقتها بالشبلي، كما أنّ باقي الشخصيات الرئيسة كلا منهم ينتمي إلى مذهب نفسي واجتماعي أو سياسي معين، فـ"راني" يعتقد بعلم النفس والمدرسة الفرويدية، و"سامر" بالاشتراكية، و"مسرور" مشرد فلسطيني، و"وائل" عسكري بعثي، و"أيوب" أرستقراطي مفلس سابق، وزوجته "أمينة خليلة الشبلي".
لا بد من فهم الزمن السردي لفهم العمل الروائي، فلا يتم ذلك إلا من خلال التفريق في الخطاب السردي بين زمنين: زمن القصة، وزمن الحكي (السرد) حسب رأي جنيت، أو زمن الخطاب وزمن الحكاية كما يصطلح عليه تودورف (يقطين، 1997م، ص 68 ـ 70). فزمن القصة «يخضع بالضرورة للتتابع المنطقي للأحداث، بينما لا يتقيد زمن السرد بهذا التتابع المنطقي» (لحمداني، 1991م، ص 73). فهو ترتيب الأحداث المتصلة المخبر عنها كما وقعت، وزمن السرد هو ترتيبها ونظام ظهورها في العمل؛ فنيا من قبل الكاتب (يقطين، 1997م، ص 70)، من خلال التقنيات الزمنية السردية، مما يسبب تقديما وتأخيرا أو تكثيفا أو إسهابا في عرض الأحداث؛ وبالتالي ينتج من ذلك بما يسمى "بالمفارقات السردية". فـ «عندما لا يتطابق نظام السرد مع نظام القصة، فإننا نقول إن الرواي يولِّد مفارقات سردية» (لحمداني، 1991م، ص 74). فإذا كانت الوقائع في زمن القصة على الترتيب التالي: "أ ← ب ← ج ← د"؛ فإن زمن السرد قد يأتي على الشكل التالي: "ج ← د ← ب ← أ". وللمفارقات السردية دور مهم في الرواية الحديثة، بما أنها تتلاعب بترتيب الزمن الروائي وتخلخله (عامرى وبخشش، 2018م، ص 648). ونوعية وشكل تلاعب المفارقات السردية مع الزمن الروائي إلى جانب نوعية توظيف التقنيات المرتبطة بالديمومة وإيقاع الزمن الروائي، المسرعة للسرد: كالحذف والخلاصة، والمبطئة له: كالوقفة والمشهد، تنتج عنه أشكال مختلفة من الزمن الروائي. وهذا التلاعب وإن كان على مستوى البناء، لكنه يؤثر على مستوى الدلالة أيضا؛ وهذا ما أثبتته الدراسات الشكلانية والبنيوية، كما أنه على ضوء قاعدة زيادة المبنى تعني الزيادة في المعنى. نعتقد أن أي تغيير في البناء يفضي إلى تغيير في الدلالة نقصانا أو زيادة، تقديما أو تأخيرا. والتقنيات الزمنية الاسترجاع والاستباق تعنى بالتقديم والتأخير، وتقنيات الديمومة بالنقص والزيادة. وتتم دراسة الترتيب الزمني لحكاية ما حسب جيرار جنيت: من خلال مقارنة نظام ترتيب الأحداث أو المقاطع الزمنية في الخطاب السردي بنظام تتابع هذه الأحداث أو المقاطع الزمنية نفسها في القصة؛ وذلـﻚ لأن نظام القصة هذا تشير إليه الحكاية صراحة أو يمكن الاستدلال عليه من هذه القرينة غير المباشرة أو تلـﻚ. ومن البدهي أن إعادة التشكيل هذه ليست ممكنة دائما وأنها تصير عديمة الجدوي في حالة بعض الأعمال الأدبية (1997م، ص 47). وتتنج بنائيا من خلخلة الترتيب الزمني للرواية أنواع مختلفة من الزمن، منها: "البناء التداخلي الجدلي للزمن". إن من أهم سمات بناء الزمن التداخلي الجدلي هو جدل الحاضر مع الماضي بصورة مستمرة ومفتوحة على المستقبل أمام القارئ ليضع رؤيته وتأويلاته وتتشابك فيه أزمنة الحكاية مع الخطاب بصورة لا تخضع لترتيب منطقي وتهيمن عليه المفارقات الزمنية والماضي يطفو على الحاضر، في جدلية عنيفة بينهما. وللزمن التداخلي الجدلي أنواع، منها: الزمن الدائري، الذي تنطبق نهايته مع بدايته. ورواية الزمن الموحش ـ كما سنرى ـ تقوم على هذا البناء، إلى جانب أنها تهتم بالزمن النفسي الشعوري، كما هو الغالب في الرواية الحديثة، وليس الزمن الموضوعي أو الطبيعي. 3ـ1. الاسترجاع إن الاسترجاع هو إحدى المفارقات الزمنية، وهو قصّ ما قد وقع في الماضي في حاضر النص؛ لذا يعتمد على الذاكرة «وله وظائف متعددة، منها: سد الثغرات التي يخلفها السرد الحاضر، فيساعد على فهم مسار الأحداث ودلالاتها وتقديم شخصية جديدة وإضاءة سوابقها ورؤية الآتي في ظل معطيات الحاضر والماضي وتنوير اللحظة الحاضرة في حياة الشخصية وفعلها في ضوء الماضي. وتخليص السرد من الرتابة والخطية ويكشف التحول والتطور في الشخصية بين الماضي والحاضر ودلالاته» (القصراوي، 2004م، ص 188). مما لا يخامرنا الشك أن الاسترجاع مهم جدا في رواية الزمن الموحش حتى يمكن عدّها رواية استرجاعية بامتياز؛ إذ يغطي مدة وفترة طويلة منها وبالتالي تتسع سعته؛ لأنها سيرة ذاتية، للسارد الشبلي عبد اللّٰه المثقف المتنور، وتقص فصولاً من حياته في دمشق، وعشقه لحبيبته منى، وهو ما تبدأ به الرواية، وعلاقاته بالآخرين، وهم من الطبقة المثقفة غالبا بعد هجرته إليها من القرية قبيل نكسة 67. وخلال ذلك، يتم التطرق إلى أحاسيس الشخصيات وأفكارهم، ويتم ذلك عبر بناء الزمن دائريا، كونه معبرا عن استمرارية الماضي في الحاضر؛ لذا بُنيت الرواية على تقنية الاسترجاع أكثر من غيرها؛ إذ إن الاسترجاع يعني أن ينوس الزمن بين الماضي والحاضر مناوبةً وبندولياً، مثل رقّاص الساعة، والتمفصلات الكبرى للرواية بين هذين الزمنين، هي علاقة الشبلي بمنى، وراني وأمينة، وسامر ووائل، ومسرور وزوجته ديانا، وسائر المثقفين من خلال راني صديق الشبلي. يستهل الراوي باعتباره الشخصية الرئيسة، الرواية بتذكّره لحبيبته منى وعلاقتهما ورحيلها، وهو الخط والمسار الحكائي الرئيس على طول الرواية. ومن هذه النقطة الزمنية في زمن الحاضر السردي، يبدأ الراوي السرد بضمير المتكلم من نقطة الحاضر، ليقطعه بإرجاعات زمنية، فيعود إلى الماضي (ترهين الماضي في الحاضر)، ليكشف لنا علاقته بمنى وطبيعتها، بمسحة نوستالجية وحنين وفقدان: الآن يبدو العالم صحوا أكثر عن أي وقت مضى صحو يشبه هدوء بحيرة غبّ إعصار (...) إنني أتذكر الآن بهدوء تام كيف نفحت الريح في تلك الأودية (...) ثم فجأة لم يبق غير الصدى النائح فوق البوابات التي عاودها الصمت القديم (1993م، ص 9). ولفظة "صدى" في المقبوس قامت دلاليا مكان لفظة "التذكر"، لنستمع نحن إلى هذا الصدى ...، وتستمر الرواية بعدة أحداث متوازية، كلها مسترجعة تلقي الضوء على تحول وتطور الشخصيات وأسباب أفعالها، مثل رحيل منى في نهاية الرواية؛ وتنتهي من حيث ما بدأت منه، مثل ما نرى في الخطاطة التالية: ترمز "أ" إلى حدث رحيل منى، الذي انطلقت وانتهت به الرواية، وهو ينتظم على طول الرواية أيضا؛ وترمز"ب، وج، ود" إلى سائر الأحداث المستقلة المتداخلة المتقاطعة المسترجعة مع بعضها، ومع الخط الأصلي للرواية "أ"، مثل لقاء الشبلي بسائر الشخصيات، وهذا التشكيل الزمني المتقاطع يشمل التقنيات الزمنية الأخرى في الرواية أيضا، مثل: الخلاصة، والوقفة، والمشهد. واتخاذ الاسترجاع معظم المساحة الزمنية في الرواية يتوافق بنائيا مع أنها رواية تيار الوعي، وهو تدفّق الذاكرة، ودلاليا مع النوستالجیا، وهو فقدان الراوي لأحبائه وتحسره عليهم مع نقده للتراث. فالتراث في الرواية يتم عبر مقابلته مع الحداثة أو جدليتهما. إن التراث مقصود به استرجاع واجترار الفكر الماضوي ـ في جانبه المظلم ـ في اللحظة الحداثية الحاضرة حين يجب التحرر منه. وهذه الرجعة البنائية دلاليا ترمز إلى هذا العلوق والانحباس. وبذا، ينحو الاسترجاع منحيان: خاص، وعام. والخاص إيجابي والعام سلبي. والإيجابي هو العلاقات الإنسانية ومشاعر الحب والصداقة ...، والسلبي هو النفور من التراث في بعده الرث. وفي القبس التالي، نرى تجاور وتداخل هذين المنحيين الذي هو ناتج عن تشابك واختلاط الأحداث في ذاكرة الراوي: مشتبك هو العالم كشبكة تداخلت خيوطها، ومبعثر (...) لو قلت لأمينة مليون مرة: أنا مفتت من الداخل (...) وأنا وأمينة وأيوب السرحان ومنى وميسالينا، ندور كالدروايش في حلقات ذكر حول جدار الزمن المرفوع بيننا جميعا (...) وفي ليلة الخمر. في مكتبه الخاص، يقول سامر البدوي: الانسان مركز العالم (المصدر نفسه، ص 88). ففي فقرة واحدة، ينتقل أو يقفز السارد من الخاص إلى العام استرجاعا، لكن بطريقة التلخيص. فأمينة خليلته وأيوب زوجها ومنى حبيبته وسامر صديقه، ويناقش نفسه ـ مفترضاً حضور أمينة كمحاورة بطريقة المونولوج ـ مشاعر الحب والفقدان والتفتُّت والقضايا الوجودية الإنسانية مع سامر. وهذه المحاور تتحاذى بطريقة التوازي والتداخل؛ وكما هو واضح، تتوازى؛ لأنها تُسرد جنبا إلى جنب، وتتداخل؛ لأنها مشتبكة ببعضها شعوريا. فعلى مستوى البناء هي متوازية، وعلى مستوى الدلالة متداخلة. وكأن الحكاية تُنجب الأخرى وتتمخض عنها. ويعبر الراوي عن تضافر الخاص بالعام بـ«عبر عالم يتشکل بشخوصه الذاتيين وشخصيته الاجتماعية» (المصدر نفسه، ص 96). وترهين الماضي في الحاضر بهذه السعة المراد منه إبراز الجدلية العنيفة والصراع بينهما، والماضي ماضيان قريب وبعيد كما أشرنا، ماضي الشخصية وماضي الشعب. وتداخل هذين الماضيين يراد منه أنّ مصير الفرد ليس معزولاً عن مصير مجتمعه. لكن الماضي يتغلب وينتصر على الحاضر؛ لأنه أكبر سعة بكثير من الحاضر ويلقي بثقله وتراكمه على اللحظة الحاضرة فيضغط عليها ويسحبها نحوه فكرياً ونفسياً "يأساً وركوداً" بدل أن تتحرك نحو المستقبل أملاً وحيوية. يقول الروائي: ملايين الافكار التي تتضارب وترتطم كموج يفني نفسه بنفسه (...) أنبياء وصعاليك. قادة وجنود. شعراء وباعة. مناضلون وبرجوازيون. آلهة وسفلة. إرثٌ جاهلي، ووشم من عصر صدر الاسلام. نزوع جنس قديم قدَمَ الصحراء والشمس، خمر وجدل من عهد ابي نواس والمعتزلة، مزيج من الانحطاط مع شرارة اليقظة المعاصرة. وفي خضم هذا التاريخ المرتج تنزع لأن تتطهر (المصدر نفسه، ص 96). ويمكن تشبيه تقابل الحاضر مع الماضي في الرواية بالصدى؛ إذ إن الحاضر ليس إلا في عمقه صدى للماضي. إذا كان الحاضر هو الدال فالماضي هو المدلول. ويتمّ التوالد الحكائي للماضي في مواجهة الحاضر عبر تضمين حكايات متعددة أتاح الانتقال بين الأزمنة ودائريته من الحاضر إلى الماضي ومن الماضي إلى الحاضر باتجاه المستقبل (القصراوي، 2004م، ص 93). وهذا الشكل البنائي تشكيل للرؤيا، رؤيا تحلم بالتغيير، لكن يقيّد جناحها الماضي. وللاسترجاع دلالة نفسية مهمة أخرى، بل هي ما رويت الرواية من أجله من قبل الراوي، وهي التطهيرية (الكاتارسية) والتطهير مفهوم لأرسطو (عبد القادر طه وآخرون،2014م، ص 123)؛ يراد به أن إعادة تمثيل المأساة والمعاناة وإثارة الخوف والشفقة، مما يساعد في التخفف من وطأتها وضغطها أو حتى التخلص من المشاعر والأحاسيس السلبية التي تختلج بها نفسية الإنسان عبر الأدب والفن، لكنه يكبتها ويلجمها لروادع أخلاقية واجتماعية، وهو يختلف مع مفهوم التسامي، حيث توجّه تلك النوازع والدوافع إلى غايات سامية: «كنت أمتحن نفسي على نحو تطهيري، محاولاً الخروج من الماضي، مكتفياً بعودته عن طريق الذاكرة» (حيدر، 1993م، ص 86). فالراوي يحاول، من خلال مواجهته لماضيه وإضاءته، أن يعالج لحظاته المظلمة ويخفف من أعبائها على النحو الذي يبوح به المريض في التحليل النفسي بذكرياته عبر التداعي. وهنا، تمثّل الرواية والكتابة هذا العلاج. فالكتابة تمنح ذكرياتنا وآلامنا تجسداً وعينية، وتخرجها من حالة التجريد. إلى جانب أن هناك نقاط ومراحل في حياتنا لا ندركها ونفهمها، كما يجب إلا بالكتابة عنها أو بمشاركتنا لها مع الآخرين. والرواية توفّر هذه الفرصة للمشاركة. لا شك أن كل روائي حتى وإن لم يكن يروي سيرته الذاتية ـ فما بالك لو كانت رواية تيّار وعي ـ إلا أنه يتسرب نصيب ملحوظ من وجوده وتجاربه ومشاعره بين طيات أدبه وفنّه. ومن هذه النقطة بالتحديد، تنطلق الدراسات السايكولوجية لفهم وتحليل نفسية الفنان والمبدع من خلال أعماله. 3ـ2. الاستباق الاستباق أو الاستشراف هو قص مختصر لما سيحدث لاحقاً، قبل حدوثه. فالسارد يقفز على الترتيب الزمني للأحداث قفزا؛ أي على فترة من الخطاب إلى فترات لاحقة تكهناً بالمستجدات والأحداث الآتية؛ لذا هو «مفارقة زمنية سردية تتجه إلي الأمام بعكس الاسترجاع، والاستباق تصوير مستقبلي لحدث سردي سيأتي مفصلاً فيما بعد، إذ يقوم الراوي باستباق الحدث الرئيسي في السرد بأحداث أولية تمهد للآتي وتومئ للقارئ بالتنبـﺅ واستشراف مايمكن حدوثه أو يشير الراوي بإشارة زمنية أولية تعلن صراحة عن حدث ما سوف يقع في السرد» (القصراوي، 2004م، ص 211). ونرى الاستباق في الزمن الموحش، حين يحاول السارد أن يسبر أغوار المستقبل، حيث يتصوّر السارد الشبلي رحيله ومنى ومغادرتهما دمشق معاً مخمّناً: هل سيرحلان معا أم لا؟: «كانت فكرة الرحيل معا ذات حدين ...» (1993م، ص 42). ويرد هذا الاستباق بعد استرجاع الراوي لرحيل منى. وقد يرد سؤال: كيف يكون هذا استباقاً، وقد أخبرنا الراوي قبل صفحات برحيل منى لوحدها؟ إن هذا الماضي يتم ترهينه من جديد في زمن الحاضر ويجب أن نعاينه مع الراوي من أفق ومنظور ما لم يقع بعد ...، أي كأننا لا ندري بالخبر أو نتغافل عنه، ونضع معارفنا على حد تعبير الفلسفة الظاهراتية في الإيبوخة أو بين (...)، أي تعليقها. ويفعل الراوي نفسه ذلك، فيعيش الماضي من جديد مستذكراً، مع أنه مُنقضٍ وحاضر في وجدانه في اللحظة الحاضرة؛ فقد أخبرنا قبل هذا برحيل منى، إلا إنه يستمر في سرد حكايته آملاً الرحيل معها حين ينظم الحكاية في الخطاب السردي. ودلالة ومغزى الاستباق هنا هي الخوف الكامن. والخوف يكون مما سيكون أو باعتبار ما سيكون بلغة المجاز من المجهول. فتتنازع وتتجاذب الشخصية قوتان: البقاء أو السكون؛ وهو الزمن واقفاً (الماضي) والرحيل والهجرة؛ وهي الزمن متحركاً (المستقبل). فتتأرجح الذات بينهما (الزمنين) مثل رقّاص الساعة. وهناك نوع آخر من الاستباق في الزمن الموحش، قلما نعثر عليه في الروايات الأخرى؛ إذ إن الاستباق وإن كان إخبار لما هو آت من قبل الراوي، لكنه في النهاية هو إخبار لما واقع أو سيقع ـ بناء على معطيات وقرائن عقلية أو ماديّة ـ يعرفه الراوي مسبقاً ويجهله القارئ، فيكون له بصيغة المستقبل وللراوي بصيغة الماضي. لكن في هذا الأستباق، يتمّ الإخبار بما لم يقع بعد وحتى أنه من المفروض أن لا يعلمه الراوي نفسه؛ إذ يخبر والد الشبلي عن طبيعة شخصية مولوده ومصيره: سميته الشبل وأنا أبوه. درتُ أزقة القرية وأنا أنادي: يا قوم هوذا الخارج من ضلعي ينمو ويتألم. يصير رجلاً بعد شقاء مرير. يخرج علي ويلعنني في آخر الزمن لأنني أصير في عينيه عتيقاً بالياً. يهجر باديته ووحل أزقته، ويتقدم نحو مدنكم. يحكمكم أعواماً فتلدون من نسله. يطهركم فيكون لذريته دوّي في طول الأرض وعرضها. ذرية مباركة، في دمها الخمر ووالنساء والمكابرة والقتل وهجير الصحارى (المصدر نفسه، ص 162 ـ 163).
ونحن نرتأي أن نسمي هذا النوع من الاستباق بالاستباق الرؤيوي؛ إذ يتنبأ ويستشرف الراوي المستقبل ويخترق حجب الغيب. ويبدو أنّه فعل ذلك بالتبصر الصوفي الذي كان قد أخبرنا عنه الراوي الرئيس الشبلي فيما سبق لوالده قبل أن ينقل عنه نموذجا بالنقل المباشر هنا في هذا التنبؤ، وهو يشبه الحدس والشهود إلاّ أنهما مبنيان على الظن. والرؤيا الصادقة يقينية؛ إذ إتها نوع المكاشفة مثل مكاشفات المتصوفة. ودلاليا، هذا الاستباق يلمح إلى أن ثيمة الرواية الأصلية التي هي الأمل ورؤيا التغيير وتجاوز الماضي البال (صراع الحداثة والتراث) متحققة على يد الشبلي (رمز الأجيال القادمة) لا مناص منها عاجلا أم آجلا. 3ـ3. الديمومة لا يمكن استيفاء وفهم الزمن الروائي وتقنياته، دون دراسة الديمومة أو المدة؛ فهي تبحث عن إيقاع الزمن الروائي؛ أي العلاقة بين كم السرد والزمن الذي تجري تغطيته وملاحظة «الإيقاع الزمني ممكنة من خلال النظر إلى اختلاف مقاطع الحكي وتباينها، فهذا الاختلاف يخلّف لدى القارئ دائما انطباعا تقريبيا عن السرعة الزمنية أو التباطؤ الزمني» (لحمداني، 1991م، ص 76). لهذا، يقترح جيرار جنيت أن يدرس الإيقاع الزمني من خلال التقنيات الزمنية التالية: الحذف، والخلاصة، والوقفة، والمشهد (المصدر نفسه، ص 76). والحذف والخلاصة يؤديان إلى تسريع السرد والوقفة والمشهد إلى إبطائه. 3ـ3ـ1. الحذف إن الحذف (القطع) هو إسقاط الفترات الزمنية السردية والقفز عليها وتجاوزها. ومن وظائفه بالإضافة إلى تسريع وتيرة السرد الروائي، إسقاط الفترات الميتة والتي لا تؤثر على سير وتطور الأحداث (القصراوي، 2004م، ص 230)؛ وبالتالي يكون قسم «من القصة مسكوتا عنه في السرد كلية، أو مشارا إليه بعبارات زمنية تدل على الفراغ الحكائي من قبيل "ومرّت بضعة أسابيع"... أو "مضت سنتان ... إلخ"» (بحراوي، 1990م، ص 156). والرواية الحديثة أكثر استخداماً وتوظيفاً له؛ لأنها لا تعتمد الترتيب الكرنولوجي للزمن، فهي تُسرد غالباً، عبر تيار الوعي وعشوائية الذاكرة. والحذف ثلاثة أنواع: المعلَن، وغير المعلن، والضمني. والحذف المعلن «هو إعلان الفترة الزمنية وتحديدها بصورة واضحة، بحيث يمكن للقارئ أن يحدد ما حذف زمنياً من السياق السردي. وتعد الرواية ذات البناء التتابعي للزمن هي أكثر الأشكال الزمنية التي يمكن للقارئ أن يتتبع فيها الحذف المعلن ويحدده؛ لأن الراوي يسعى إلى المحافظة على التسلسل الزمني» (القصراوي، 2004م، ص 230). وأما الحذف غير المعلن فهو ما «يصعب تحديد المدى الزمني بصورة دقيقة؛ لذلك تكون الفترة المحذوفة التي أسقطها الكاتب غامضة وغير واضحة» (القصراوي، 2004م، ص 232). والحذف الضمني لا تدل عليه أية إشارة زمنية أو مضمونية، لكن يهتدى إلى معرفة موضعه باقتفاء أثر الثغرات والانقطاعات في تسلسل القصة ولا تخلو قصة منه (بحراوي، 1990م، ص 162). * الحذف المعلن وغير المعلن حذفت بعض أحداث رواية الزمن الموحش؛ لأنها لا تضيف شيئا يعمق من دلالة الحدث الروائي، فيستغني عنها الرواي؛ لأنها لا تعبر عن رؤيا أو غاية: «ـ ملعونٌ دينك مضى أسبوعان ولم نركَ!» (1993م، ص 15). في هذا المقطع، حذفت فترة من الأحداث الروائية تستغرق أسبوعين حذفاً معلناً؛ لأنها ليست أسباباً مهمّة ومؤثرة في نتائج لاحقة عليها، وهي فترة غياب الشبلي عن صديقه مسرور. وأما الحذف غير المعلن فنجده مثلا في المقطع التالي حين يلغي ويسقط السارد تفاصيل جزئية كثيرة من السرد مشيراً إليها بكلمة "مذ" فقط: «مذ عرفتها امتلكتني طفولتها النقية» (المصدر نفسه، ص 11). فالسارد لا يخبرنا كيف وأين ومتى تعرّف عليها منى، مختزلا كل ذلك بأداة بنائية ذات دلالة ماضوية، هي "مذ"، مسرّعا بذلك وتيرة السرد؛ لأنّ ما يهمّه الشخصية في لحظتها الراهنة التي أثّرت على حاضره، قافزاً للأحداث اللاحقة التي تعقب التعارف: «كان لها شفة سفلى رائعة الوميض (...) وكان وجهها مسكونا بالأسى» (المصدر نفسه، ص 11). كما لتغاضي الراوي عن الزمن الماضي للشخصية وحذفه دلالة وجودية نفسية، وهو أن الذات تحاول القبض على اللحظة الحاضرة فهي كل ما يهمّها، والخطاب وإن جاء بصيغة الماضي (عرفتها)، إلا أنه يخرج ويمتد إلى الحاضر (امتلكتني)، حيث تبقى الأنا رهينة وحبيسة (الآخر). كما نجد حذفا غير معلن آخر على هذه الشاكلة، حين يشير السارد إلى أحداث مضى عليها فترة ومدى زمني طويل بكلمة "منذ"، ولا يمكن تحديد المدى الزمني لها بصورة دقيقة: «منذ سنوات قررت التلذذ بعذاب نفسي» (المصدر نفسه، ص 13). فنحن لا ندري تحديدا منذ متى بدأت تلك السنوات وطيلتها، فالحذف هنا مداه طويل يشمل عدة سنوات. ولعل للحذف هنا دلالة نفسية مازوخية، فالإنسان عادة لا يحب أن يتذكر آلامه وعذاباته النفسية. * الحذف الضمني تكاد لا تخلو رواية حديثة من هذا النوع من الحذف؛ إذ لا تعدم من تداعٍ للأفكار، وخاصة في رواية تيار الوعي المبنية. أساساً على هذا التداعي، فتتقاطع وتتجادل الأزمنة، فهي رواية مبنية على الوعي والذاكرة؛ وهما انتقائيان كما أنهما يصابان بالنسيان أو العطب، إلى جانب أن زمنهما نفسي غير موضوعي؛ وبالتالي يتم القفز على الفترات الزمنية أو حذفها والتلاعب بها من قبلهما بسبب تداعي الأفكار وانكسار الزمن والمسار الخطي للأحداث وتتخلص وتستغني الرواية عن فائض السرد حسب طلب وطبيعة الذاكرة والوعي، خاصة إذا كانت رواية تيار وعي وفي الرواية الحديثة عامة، حيث تفرض الرؤية التنويرية المعقدة للإنسان المعاصر ـ يؤكد هذا الأمر ظهور رواية تيار الوعي مع بدايات القرن المنصرم ـ الذي لا يفكّر بصورة خطية هذا النوع من الحذف، لاسيّما بعد الثورات والتحولات التقنية والرقمية الهائلة في حياته. ونلحظ عادة تلك الحذوفات بين مقاطع وفقرات من الزمن الموحش، بصورة مبتسرة دون سببية، مخلّفة ثغرات وانقطاعات في السرد، فهي خطابياً تقوم على مقاطع سردية مستقلة يصعب رصد الزمن فيها، حيث يتحدث السارد عن حدث أو شخصية ما. فإذا به يقفز وينتقل إلى أخرى دون رابط سببي، وكأنّما تداعي الذكريات ألجأه إلى ذلك وتارةً يعود إلى الحدث أو الشخصية السابقة وتارةً لا يفعل مثل المقطع التالي، فبينما الحديث عن ديانا زوجة مسرور صديق الشبلي، فإذا به بغتةً ينتقل إلى أيوب السرحان زوج أمينة عشيقته الذي ليس حاضراً في المشهد، لكنه حاضر في وعي السارد دون مقدمات أو وجه سبب: «... فاجأتها الجملة كمن طُعن في غفلة، فاهتزت يدها القابضة على المكواة، ثم ضغطت بعنف على ياقة قميص مسرور، ولم تجب. ويقول أيوب السرحان وهو يحتسي خمرته ...» (1993م، ص 169). وهذا في الحين الذي أن السارد كان قد ترك الحديث عن ديانا قبل عدة فقرات أيضاً، وهي تكوي الثياب، ليعود إليها، في الفقرة المذكورة، ثم ينتقل ويتحول فجأة إلى الحديث عن أيوب السرحان، دون أي إشارة زمنية إلى الفترة والمدى بين الانتقالين (الحدثين)، مما يسبب تداخل وتقاطع الأزمنة. ونعتقد أن الرابط هنا، وإن لم يكن سببيا ظاهرا إلا أنه نفسي، فما يجمع بين الفقرات ـ على طول خطوط الرواية المتوازية ـ هو الموضوعات المشتركة الاجتماعية والسياسية، وما ينتج عنها من أحاسيس ومشاعر مضطربة ...، فالربط بين الشخصيات والأحداث يتم داخل وعي السارد عن طريق المحفزات النفسية وتداعي الذكريات وما تخلّفه من انطباعات متشابهة ومشتركة، فهي تتجاور في ذهنه مفهومياً، وليس مكانيا؛ وبالتالي تتجلى التركيبة السايكولوجية (الدلالية) للسارد بنائيا على هيئة حذوفات ضمنية، وكأنها فجوات أو مناطق فراغ يملؤها الحس والفضاء العام للرواية. 3ـ3ـ2. الخلاصة هي سرد موجز تعرض فيه الأحداث والوقائع باختصار وإشارات دون الخوض في تفاصيلها قولاً وفعلاً. لهذا، زمن الخطاب في الخلاصة أصغر من زمن الحكاية. من أهم وظائف الخلاصة هي المرور السريع على الفترات الزمنية الطويلة، وسدّ الثغرات في النص، والربط بين المشاهد، وتقديم شخصية جديدة، وتجاوز الأحداث الثانوية، وتسريع السرد وتحقيق الترابط النصي، وحمايته من التفكّك. ونرى السارد في المقطع التالي يلخّص أحداث سنوات طويلة في سطر نقلاً عن حبيبته منى: «واستمرت تتحدث عن نفسها: الطفولة والمعاشرات اليومية، والناس الذين تخيلوا أنهم عرفوها (...) إلى ذاكرتي وثبت قصة طفلتها التي رمتها في القاهرة من زوجها الذي مات» (المصدر نفسه، ص 11). فالسارد بتكثيف شديد أشبه باللمحة يتجاوز سريعاً أحداثا لو قيّض لها أن تُسرد بإسهاب وتفصيل، لاقتضت العشرات من الصفحات، إن لم نقل رواية بحد ذاتها، ولكنه اكتفى منها بالتلميح دون التصريح؛ لأنّ مجرد الإشارة إليها يكفي القارئ ليقف على ماضي الشخصية ويفهم أسباب أزمتها النفسية وتوتّر العلاقة بينهما. وبذلك سدّ بعض الثغرات الزمنية في حياة منى الماضية (خلفيتها)، وبالتالي سدّ الثغرة البنائية أدى إلى سدّ ثغرة استفهامية دلالية في ذهن القارئ، عن سبب هذا التوتر والصدام الذي ينتظم علاقتهما على طول خط الرواية. ولا بد من الإشارة هنا إلى الفرق بين تقنيتي الخلاصة والحذف، رغم الشبه بينهما واشتراكهما في إسقاط الأحداث والقفز على الفترات الزمنية، إلّا أننا في الخلاصة ـ خاصة الاسترجاعية وهي الغالبة في السرد ـ نركّز على أحداث وفترات من الماضي بصورة مختصرة، تضيء حاضر الشخصية التي لو أسقطناها لاختلّ تطوّر وسير الرواية وفهمنا للأحداث والشخصيات، ونهمل الأخرى، لكن في الحذف نسقط الفترات الميتة التي لا أهمية لها، وليس هدفنا إضاءة سوابق الشخصيات والأحداث، بل مجرد تسريع السير الروائي. 3ـ3ـ3. الوقفة تحدث الوقفة أو الاستراحة من خلال الوصف، فيتباطأ زمن السرد الروائي ويتعطل زمن الحكاية ويتسع زمن الخطاب ويمتد. وللوقفة الوصفية وظيفياً غايات مهمّة، منها: الوظيفة التزيينية، والوظيفة التفسيرية الرمزية، والوظيفة الإيهامية (القصراوي، 2004، ص 245 ـ 246). لم توظف رواية الزمن الوحش الوصف من أجل الوصف، بل وظفته في خدمة السياق السردي، فكان ذا وظيفة تفسيرية ورمزية؛ أي تفسير حياة الشخصية الداخلية والخارجية؛ تأمّل البطل لذاته، أو عرضٌ لمحيطه، فلعب دورا مهمّا في بناء الشخصية والحدث وخدمة بنية السياق السردي بصورة عامة (البحراوي، 1990م، ص 175)، مثل ما نرى في المقطع التالي، حيث عبّر الوصف عن اغتراب الشخصية: كسهل أسطوري ونحن نرتقي هضبة مطلة، فاجأنا البحر. أمامنا استوى، متوّجا بكل المهابة والأسرار كإله لا نهائي واثق متفرد، وخلفه أفق مسدود. في الظلام شبه المضاء لمحت عينيه منغرستين في ذلك السهل المرتاح هناك. حرفاً واحداً عن ذلك العالم الطقسي، لم ينبس. وإذ شعر بأننا قد أصبحنا وحيدين التفت إلي: هنا لن يسمعنا أحدٌ طبعا؟ وابتسمت: إلا البحر وهذه السكينة. وأفضى بالسر (1993م، ص 25). إن البطل يشعر بالوحشة؛ لأن محيطه لا يشعر به ولا يفهمه، فتتجه الذات إلى الطبيعة، موضوعاً للتأمل تسقط عليها أحاسيسها، وترتفع أو تقترب بها إلى مستوى الرمز الذي يعبّرعن دواخلها. ويأخذ المكان بعداً أسطورياً كسهل أسطوري، وهي (أسطوري) صفة زمنية رمزية ذات دلالة جمالية، فكل ما يفوق الواقع ويعجز عنه الوصف، فهو خيالي أسطوري، وحتى البحر يتحول إلى إله مثل الإله الإغريقي بوسيدون[4]؛ ويتم تحويل وتحضير الأسطورة من ما قبل التاريخ وتزمينها وترهينها في الحاضر وتمكينها عبر ما هو طقسي. وتتناسب الوقفة مع الزمن الأسطوري، حيث يتعطل ويتجمد الزمن الطبيعي الموضوعي؛ إذ لا يمكن قياس وتقدير الزمن الأسطوري، لكن يمكن وصفه، مما يقع ضمن الزمن الحلمي والنفسي، حيث تخترق الذات والوعي الزمان والمكان ويتجاوزانهما، وسبب ودلالة هذا التجاوز هو الاغتراب، حيث لم يعد الزمان والمكان الطبيعي المُعاش يرضي طموحات الشخصية وأحلامها، فتستعيض عنه بالأسطورة. وأحيانا، يأخذ الوصف وظيفة الإيهام بالواقعية: «الغرفة باردة وصغيرة تحتوي سريراً وخواناً وطاولة حديد عليها بعض الكتب» (المصدر نفسه، ص 20). فالمقطع الوصفي يلعب هنا دورا في إيهام القارئ بالواقع الخارجي بتفاصيله الصغيرة؛ إذ يدخل العالم الواقعي إلى عالم الرواية التخييلي، فيزيد من إحساس القارئ بواقعية الفن. وبالمقابلة بين هذا المقطع الوصفي والسابق عليه، نرى أن الأول لم يتعطل ويتوقف الزمن فيه نهائياً، وإن كان أسطورياً لا زمنياً في الظاهر، لكن كما قلنا إنه تم تزمينه عبر تمكينه وأيضاً إنّ لا زمنية الأسطورة لا تعني عدم زمنيتها المطلقة بقدر ما تعني أن زمنها مغاير للزمن الموضوعي الحضاري الذي تمّ تقنينه وقياسه بعد تطور الإنسان من البدائية واختلاف فهمهما له. فالأول يعيشه طبيعياً كما الحيوانات عبر تغيرات الطبيعة، والآخر يعتمد التوقيت الذي وضعه لهذا الزمن بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى أو بتعبير أدق لا يقيم وزنا كبيراً لها، مادام يظن أنه امتلك الزمن وليس العكس. وفي هذا دلالة نفسية وتاريخية، فحين كانت الذات في المكان الطبيعي المفتوح (السهل والبحر)، تحررت من قيودها في الحاضر ورجعت إلى الأسطورة، حيث كانت تشعر وتتماهى مع الطبيعة، لكن حين تموضعت في (غرفة) أصبح الوصف صرفا خالصا. 3ـ3ـ4. المشهد المشهد هو ما يشاهده المتلقي من حوار بين الشخصيات على طريقة المسرحية في الرواية أو ما عبّرت عنه يمنى العيد: «بغياب الراوي وتقديم الكلام على هيئة الحوار بين صورتين» (1999م، ص83). وهو من التقنيات الزمنية المبطئة لإيقاع الرواية؛ لأنه يميل إلى التفصيل وقطع خطية السرد، لتقدّم الشخصية نفسها (القصراوي، 2004م، ص 236). وهو ما تمثّله الخطاطة التالية: المشهد: مساحة النص > سرعة الحدث (قاسم، 2004م، ص 94). لقد تميزت رواية الزمن الموحش بمقاطع حوارية كثيرة حتى صارت سمة بارزة فيها، لتساعد بنائياً على كسر رتابة النص ودلاليا على تعددية الخطاب وتنوعه، حتى يمكن عدّها رواية بوليفونية، ولم يأت ذلك اعتباطاً، بل متناسباً ومتناغماً مع غاياتها وهو معاينة الذات من خلال مرآة الآخر صورولوجياً، فعرضت وجهات نظر الشخصيات الفلسفية والسياسية والاجتماعية المتباينة بجدلية، وكشفت عنها (آنسته وآخرون، 2019م، ص 53)، مما أضفى عليها الحركة والتوتر والحيوية وطابعاً درامياً لتؤكد تضافر البنية والدلالة مرة أخرى؛ إنها بَنينَت مقاطع كثيرة، مشهدياً وحوارياً، لتدل على أن الحل الأمثل لمشكلات المجتمعات العربية يتم عبر ثقافة الحوار وديمقراطية إدلاء الأصوات بوجهات نظرها والاعتراف بمشروعية لآخر في الوجود: «[سامر البدوي] ما الثورة في رأيك؟ [الشبلي] أجيب الثورة أن تبني عالماً يعيش فيه الإنسان بصحة نفسية مطلقة (...)، ـ هذا تعريف نصفه اشتراكي والنصف الآخر برجوازي. تعريف عمومي غامض» (1993م، ص 117). واستحواذ الحوار على مساحة واسعة جدا من الرواية، يبدو أنها تقنية لجأ إليها الروائي للرد على أسئلة معرفية ثقافية تراوده داخلياً وخارجياً والخطاب السوسيوسياسي السائد، فاخترع لها الشخصيات الروائية لينطقها تلك الأسئلة وأجوبتها. وبذلك، ليبرهن على أن الخطاب الروائي ليس عمل فني هدفه الإمتاع فقط، بل هو فعل معرفي تنويري أيضاً، قصده خلخلة بنية وعي القارئ عبر ما هو جمالي، حيث إن الانسان يتقبله برحابة صدر أكبر مما لو كان خطابا مباشرا جدليا ويوفّر حرية للكاتب في المجتمعات العربية، لا توجد في الخطابات الأخرى، مثل الخطابات الإعلامية التي يطالها مقصّ رقابة السلطة بحدة أكثر. وبعبارة أخرى، نستطيع القول إن الحوار هنا يماثل تقنية القناع في الشعر، حيث يختبئ أو يتموضع الروائي خلف القناع (الشخصية) لقول ما لا يمكن قوله أو ليعطي أبعادأ ومديات تاريخية وحضارية أوسع وأبعد لخطابه: «ـ أيها العقائدي اسمع. ـ تفضل. ـ أزمة الثورة مرتبطة أساساً بالجنس في جانب من جوانبها الاجتماعية والنفسية. أحد السياسيين الكبار في هذا البلد قال: لن تكون هناك ثورة في هذا الوطن ما لم تُحل قضية الجنس والدين» (المصدر نفسه، ص 75). وبذا تكون تقنية القناع تقنية فنية على مستوى البناء، ومنطوقها هو المستوى الدلالي. 3ـ4. التبئير والزمن إن نوعية الراوي ووجهة النظر في الرواية يتحدد أحياناً حسب كيفية تخطيبها للزمن. فرواية تيار الوعي، مثل الزمن الموحش بزمنها النفسي، لا يناسبها التبئير الصفر. فالراوي فيه عليم كالإله، كما نرى في السرد التقليدي الكلاسيكي؛ في الحال أن رواية تيار الوعي تنتمي إلى لسرد الحداثي وما بعد الحداثي الذي يهتم بالفرد ووعيه ولا وعيه ويغوص فيه. ولأن الوعي واللاوعي شيء شخصي جداً، لا يعرفه إلا الفرد نفسه، لذا ليس من المقنع فنياً، اختيار سارد عليم لمثل هذه الروايات؛ ولذا يناسبها التبئير الداخلي بأقسامه المختلفة، أكثر من أي نوع آخر، كون فيه الراوي مشارك في الأحداث والتبئير جوّاني وليس برانيا، ولذا كانت تقنية التبئير الرئيسة في الزمن الموحش هي الداخلية، وقد نقلنا نماذجاً منه في بحثنا لتقنيتي الاسترجاع والاستباق، حيث البطل يتكلم بضمير الذات "أنا". كما رواية تيار الوعي تعتمد المونولوج ـ وهو لا يكون إلا في التبئير الذاتي الجواني ـ وهو مناجاة ومحاورة الشخصية لذاتها. وتكمن أهميته بنائيا بتنقل الوعي فيه بين أقطاب الزمن الثلاثة (الماضي والحاضر والمستقبل) بحرية وبصورة غير خطية، فهو «زمان جزئي يسمح بتداخل الأزمنة» (أصلان، 2012م، ص 85)؛ فرواية تيار الوعي ينصب فيها الاهتمام على «ارتياد مستويات ما قبل الكلام من الوعي بهدف الكشف عن الكيان النفسي للشخصيات» (همفري، 2000م، ص 10). ونجد المونولوج في الزمن الموحش بغزارة؛ لأنها كما أسلفنا تسرد عبر الذاكرة والوعي ويعبر المنولوج فيها عموماً عن صراع الذات مع نفسها ومع الخارج: «امتد صمت كالقبر؛ أبحر في سفينتي الداخلية» (1993م، ص130). إن المنولوج يمثل حلم اليقظة لرغبات الذات الملجومة من قبل الرقابة (فرويد، 2014م، ص 240)؛ لذا يكثر في الرواية؛ لأنها تسرد هذه الرغبات والهواجس. ويرتبط التبئير بالزمن في الزمن الموحش من جهة مهمة أخرى، فهي كونها رواية بوليفونية كما أشرنا؛ تتشكل عبر وجهات نظر ومنظورات سردية أو تبئيرية مختلفة، خلافا للرواية الكلاسيكية التي يهمين عليها منظور السارد الكلي العليم باستبدادية وسلطوية مطلقة، حيث يعرف السارد أكثر من الشخصيات، أو يحركهم بآلية، كدمى العرائس، بل تنقل الرواية لنا أفكار وأحاسيس الآخرين، من لسانها هي ردّاً على السارد الرئيس فيها الشبلي، عبر الحوار أو التبئير الخارجي ـ وقد أوردنا نموذجاً منه في بحثنا عن تقنية المشهد ـ حيث يعرف السارد أقل من الشخصية، مما يعني تعددية الفكرة والحرية، وما أكثره في الرواية (آنسته وآخرون، 2019م، ص 56).
الخاتمة توصلت المقالة إلى ما يلي: ـ إن رواية الزمن الموحش رواية زمنية؛ لأن الزمن بطلها وتأمله موضوعتها، فقامت بتخطيبه. فهو فيها ثيمة وقيمة أساسية تضافرت مع سائر ثيماتها بنائيا ودلاليا لتشكيل خطابها الروائي، فانفتحت عليه مع عتبة العنوان وترددت مفردة الزمن فيها 309 مرة. ـ إن البناء الزمني للرواية كان دائريا، فانتهت إلى حيث ما انطلقت منه، وهو رحيل منى حبيبة السارد الشبلي؛ ولأن الزمن الدائري هو أحد فروع البناء الزمني التداخلي الجدلي تقاطعت فيها الأحداث وتداخلت وجاءت على هيئة مقاطع سردية مستقلة متجاورة غير سببية، رويت عبر الذاكرة وتيار الوعي، فعكست تشوشها، وبالتالي تشوش الأحداث مما صعّب رصد الزمن فيها كونها لم تستغل الإشارات الزمنية المحددة: كالساعات، والأيام، والأسابيع، والشهور، والسنوات. ـ وظفت الرواية التقنيات السردية في سبيل مقاصدها الروائية والدلالية التي هي بلورة إشكالية التراث والحداثة وجدليتهما وصراعهما واغتراب الشخصيات المثقفة وانفصامها. فعلى مستوى المفارقات السردية (الاسترجاع والاستباق)، كان الاسترجاع التقنية الزمنية الأساس والأوسع حضورا وتوظيفا فيها، مما يتناسب مع مفهوم التراث وكون الرواية سيرة ذاتية والسيرة تمت إلى الماضي. وعمل الاستباق على التكهن بمصائر الشخصيات، مثل رحيل منى حبيبة السارد. ـ أما على مستوى الديمومة، فالوقفة الوصفية والمشهد (الحوار)، مما أدى إلى تباطؤ سرعة السرد وإيقاعه. وقد نهض الوصف بوظيفة تفسيرية إيهامية (بالواقع) وتأملية، حيث أسقط السارد، الشبلي عبد اللّٰه، أحاسيسه ومشاعره على الموصوفات بغنائية، فكان حدثا بنفسه؛ لأنه كشف عن ماهية شعور الشخصيات بمحيطها. وقام المشهد الحواري إلى جانب المنولوج، بالكشف عن دواخل وعقائد الشخصيات، مثل الماركسي سامر البدوي باعتبارها رموزا للحركات السياسية والاجتماعية الموجودة في المجتمع العربي، وهو ما راهنت عليه الرواية ورامته من خطابها. وفي المقابل والمناقض لهما، قامت تقنيتا الخلاصة والحذف بتسريع حركة السرد من خلال تجاوز فترات زمنية طويلة ليست ضرورية ومحورية، مثل: ماضي منى قبل لقائها بحبيها الشبلي وعصمت النص من الملل أو التفكك والتشتت. ـ لقد حرفت وخرقت التقنيات الزمنية في الرواية، ترتيب ومسار الزمن الروائي عن العمودية والخطية والتعاقبية وتلاعبت به، مما انتظمها في صنف الرواية الحديثة؛ إذ إنها رواية تيار وعي، مبنية على الذاكرة والتداعي، وكانت لها دلالات سوسيوسايكولوجية. فعلى مستوى الاسترجاع والاستباق والمشهد، رمزت ومثلت ثيمة الرواية الأصلية، وهي صراع أو جدلية التراث والحداثة وقيمة الرفض ورؤيا التغييربصورة عامة؛ ودلاليا عكست هذه التقنيات نفسيات وشخصيات الرواية القلقة المغتربة وصراعها الداخلي والخارجي وطريقة إدراكها للزمن بصورة خاصة؛ وعلى مستوى الخلاصة والحذف تخلصت من فائضها السردي. ـ يرتبط التبئير ونوعيته بزمن الزمن الوحش، من حيث إنها رواية تيار وعي أولا، ورواية بوليفونية ثانيا؛ فلذا وظِّف التبئير الداخلي والخارجي؛ فتجلى التبئير الداخلي على شكل المونولوج والمناجاة، والتبئير الخارجي على هيئة الحوار.
[1]. Tzvetan Todorov [2]. Gerard Genette [3]. Jean Ricadou [4]. Poseidon | ||
مراجع | ||
أصلان، هشام. (2012م). «إبراهيم فتحي قراءة العالم الروائي عند نجيب محفوظ: محاولة للفهم والاعتذار». نزوى. ع 70. ص 83 ـ 85.
آنسته، رضا؛ وآخرون. (2019م). «مرايا البوليفونية في رواية الزمن الموحش على ضوء نظرية باختين السردية». الأدب العربي. س 11. ع 1. ص 49 ـ 70.
بحراوي، حسن. (1990م). بنية الشكل الروائي: الفضاء، الزمن، الشخصية. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.
جنيت، جيرار. (1997م). خطاب الحكاية. ترجمة محمد معتصم وزملائه. دار البيضاء: المجلس الأعلي للثقافة.
حيدر، حيدر. (1993م). الزمن الموحش. بيروت: دار أمواج.
عامرى، شاكر؛ ومقصود بخشش. (2018م). «التقنيات الزمنية في رواية عبث الأقدار لنجيب محفوظ دراسة في ضوء نظرية جيرار جينيت». اللغة العربية وآدابها. س 14. ع 4. ص 643 ـ 663.
عبد القادر طه، فرج؛ وآخرون. (2014م). معجم علم النفس والتحليل النفسی. بيروت: دار النهضة العربية.
عزام، فؤاد. (2010م). «بناء الأحداث في روايات حيدر حيدر». الكرمل أبحاث في اللغة والأدب. ع 31. ص 77 ـ 126.
العيد، يمنى. (1999م). تقنيات السرد الروائي: في ضوء المنهج البنيوي. ط 2. بيروت: دار الفارابي.
غدير، فاطمة الزهراء. (2017م). رواية الزمن الموحش لحيدر حيدر: مقاربة أسلوبية. رسالة الماجستير. جامعة محمد بوضياف ـ المسيلة. كلية الآداب واللغات.
فرويد، سيغموند. (2014م). محاضرات تمهدية في التحليل النفسي. الرياض: دار مدارك للنشر.
قاسم، سيزا. (2004م). بناء الرواية: دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
القصراوي، مها. (2004م). الزمن في الرواية العربية. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع.
لحمداني، حميد. (1991م). بنية النص السردي. بيروت: الدار البيضاء.
همفري، روبرت. (2000م). تيار الوعي في الرواية الحديثة. ترجمة محمود الربيعي. القاهرة: دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع.
يقطين، سعيد. (1997م). انفتاح النص الروائي: النص والسیاق. ط 2. المغرب: دار البيضاء.
ــــــــــــــ . (2001م). تحليل الخطاب الروائي: الزمن، السرد، التبئير. ط 3. بيروت: المركز الثقافي العربي. | ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 3,787 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 1,050 |