1 المقدمة
إنّ المفارقة تقنیة فنیة یستخدمها الأدباء للتأثیر على المتلقّین وإثارة دهشتهم حسب تجاربهم الاجتماعیة والنفسیة والسیاسیة، کما
یستخدمونها لنقل آرائهم إلى الآخرین؛ فتظهر قیمتها من خلال وظائفها لا على الأسلوب التعبیری فحسب، وإنّما على الأثر الذی
تحدّثه فی المتلقّین. وتکتمل قیمتها الفنّیة عندما تدفع القارئ إلى البحث عن المعنى الحقیقی خلال غیاهب النصّ وبنیاته اللغویة حتى
هناک للمفارقة وأنماطها دورٌ بارزٌ فی تکوین الآثار الشعریة وتأثیرها؛ لأنّها لغتها « . یکشف الصلة بین المعنى الظاهری للفظٍ وبین دلالاته الخفیة
عبدالرحمن، ( » الحتمیة وسلاح الشعراء الکبار فی سجل الشعریة الکونیة. وهی ظاهرة یعبّر فیها الأدیب عن موقفه على نحو یستلزمه ذلک الموقف
فهی تتجاوز « 9191 م، ص 19 (. فالمفارقة صیغة بلاغیة، وهی قول الشیء بطریقة تستفزّ تأویلات متغیرة، ولها وظیفة هامّة فی الشعر
الفطنة إلى خلق التوتّر الذی قد لا یأتی فقط من خلال الکلمات المثیرة والمروّعة، بل عبر خلق الإمکانیّات البارعة فی توظیف مفردات اللغة العادیّة،
.)www.diwanalarab.com( » وکثیراً ما تعدّ المفارقة عملاً فکریاً یحقّق أعلى درجات التوتّر، وبها نبلغ الحقیقة ونصل إلى لذّة النص ودهشته
کانت المفارقة عند ظهورها شدیدة الالتصاق بالفنون البلاغیة، کالسخریة والتناقض والعکس والمدح بما یشبه الذم )میویک،
9119 م، ج 4، ص 82 (. ولکن یبدو أنّ المفهوم المعاصر لها یقصد التهکّم والسخریة، ویستعمل اللغة بطریقة تحمل معنى باطناً
بوصفها خروجاً على دائرة « موجهاً لجمهور معین، أو یستخدمُ تعبیراً لغویاً یرتکز على تحقّ العلاقة الذهنیّة بین الألفاظ ومعانیها، فهی
المألوف تمثّل رؤیة معیّنة للعالم قبل أن تکون أسلوباً ادبیاً أو لعبةً لغویةً، وهی تهدف إلى هدم الثوابت واختراق العادی والمتوقّع والجمع بین المتناقضات
ربابعة، 9119 م، ص 49 (. ویکون هذا باستثمار آلیات مختلفة لبناء المفارقة، کالتضاد والتناقض والانزیاح والفکاهة. ( » والمتضادات
للمفارقة أیضاً أهداف کثیرة؛ فقد تکون سلاحاً للهجوم الساخر وقد تشبه بستار رقیق یشفّ عمّا وراءه من هزیمة الإنسان، وربما کانت تهدف إلى «
.) الوقاد، 8002 م، ص 81 ؛ إبراهیم، بلا تا، ص 912 ( » إخراج أحشاء قلب الإنسان الضحیة لنری ما فیه من متناقضات تُثیر الضحک
تعود جذور المفارقة إلى البلاغة العربیة التی انصبّ اهتمامها على لونٍ من التصویر البدیعی القائم على مبدأ متضاد، سواءً کان فی
شکله البسیط یعنی الطباق أم فی صورته المرکّبة أی المقابلة. ومن المعلوم أنّ هذا المبدأ یقوم على الجمع بین المتضادات اللفظیة فی بیتٍ
أو عبارةٍ ویشتمل على تناقضٍ واقعی بین مقصود المتکلّم وتصوّر المتلقّی من الکلام )پاشازانوس، 9919 ه.ش، ص 82 (. وتعکس
ماهیة العالم المفارقیة التی یجب على الشعر أن یوضّحه )دیچز، 9922 ه.ش، ص 821 (. ویستخدم الشعراءُ الصورَ والمفاهیم المفارقیة
لتقویة الغموض والانزیاح فی أشعارهم )المصدر نفسه، ص 820 (. ترجع ضرورة هذا البحث إلى أهمیّة المفارقة فی تکوین قصائد الشاعر
علی فودة وتکمیل شعریتها، ودور أنماط هذه التقنیة فی تأثیر النصّ على المتلقّین وإثارة الدهشة والإعجاب فیهم، إضافة إلى إلقاء
الضوء على بعض أقسام المفارقة التی لم یکد یعرّفها النقّاد والدارسون.
2 منهج البحث
یعتمد هذا البحث على المنهج الکیفی الذی یقوم على الوصف والتفسیر والنقد لدراسة ملامح المفارقة فی دیوان علی فودة، ثمّ یتناول
هذه التقنیة الأدبیة لغةً واصطلاحاً مع الوقوف سریعاً على حیاته، ثمّ یقوم باختیار الأبیات الدالّة على المفارقة لدى الشاعر وتصنیفها
على أساس قسمین رئیسین للمفارقة، وهما المفارقة اللفظیة والمفارقة التصویریة، ثمّ یأتی بنماذج لکلّ منهما حسب الأغراض التی
یقصدها الشاعر مع تحلیلها. فللوصول إلى هذا الهدف، قد عرضنا لستّة منها، هی مفارفة السخریة والأضداد والإنکار والتحوّل
والمفاجأة والأدوار.
3 أسئلة البحث
ما هی أنماط المفارقتین اللفظیة والتصویریة فی شعر علی فودة؟
ما هو دور أقسام المفارقتین فی التعبیر عن الأوضاع الاجتماعیة والسیاسیة فی فلسطین أثناء حیاة الشاعر؟
کیف استخدم علی فودة هذه التقنیة الأدبیة فی شعره وما هو غرضه من استخدامها؟
4 خلفیة البحث
کرامت نفس در آینه شعر على فوده شاعر مقاومت « إنّ الدراسات التی تناولت حیاة علی فودة وشعره قلیلة جدّاً منها: مقالة
لفضل الله میرقادری وحسین کیانی. فحص الکاتبان فیها عن مکارم النفس فی شعر فودة، کالصبر والصدق والشجاعة، » فلسطین
المقاومة فی « کما عبّرا عن هذه الصفات من خلال وصفه لأعمال بعض الشخصیّات القدیمة مثل بلال الحبشی وعروة بن الورد. ومقالة
» ملامح أدب المقاومة فی شعر علی فودة « التی کتبها عماد عبدالوهّاب الضمور؛ ورسالة لنیل درجة الماجستیر بعنوان » شعر علی فودة
لمرضیة زیبنده، حیث أشار الکاتبان فیهما إلى اهتمام فودة بقضیة المقاومة منها التأکید على الهویة الفلسطینیة والدعوة إلى المقاومة
واستنتجا أنّه یمکن أن نعدّ علی فودة شاعرَ المقاومة الفلسطینیة بسبب اهتمامه الوافر بقضایا وطنه.
کما یتبیّن من عناوین هذه البحوث لم یتطرّق الکتّاب إلى دراسة المفارقة فی دیوان علی فودة، إلا أنّهم کشفوا عن مظاهر المقاومة
والکرامات الإنسانیة فی شعره فحسب، ولم یتحدّث أحد حتى الآن عن ظاهرة المفارقة وأنماطها فی شعر هذا الشاعر، ولکن هناک
المفارقة فی الشعر العربی الحدیث )أمل دنقل، سعدی یوسف، محمود « عدة بحوث تناولت المفارقة من جوانب مختلفة منها: کتاب
للمؤلّف ناصر شبانه الذی یتناول أولاً نشأة المفارقة وتطورها فی الغرب ومن ثم فی التراث العربی، ثم یقوم بتبیان ») درویش نموذجاً
تعریفها وعناصرها ووظیفتها. أما فی القصیدة العربیة فیتناول دور المفارقة فیهما من خلال استعراض أهم أشکالها التی تتجلّى فی
قصائد کل من أمل دنقل وسعدی یوسف ومحمود درویش ویدرس علاقتها بالتقنیات النصیة: بقفلة القصیدة والصورة الفنیة
لمحمّد العد الذی بادر بتعریف المفارقة فی اللغة والاصطلاح وأشار » المفارقة القرآنیة دراسة فی بنیة الدلالة « والتناص والایقاع. وکتاب
إلى صلتها بالسیاق والمعنى کما لخّص أقسام المفارقة القرآنیة فی مفارقة النغمة ومفارقة الحکایة أو الإیهام، وکذلک المفارقة البنائیة
ومفارقة السلوک الحرکی.
» المفارقة التصویریة فی شعر معروف الرصافی « ومن المقالات التی کُتِبت حول المفارقة وتعدّ کسابقة بحثنا هذا نستطیع الإشارة إلى
لحمید ولی زادة وعلی صیادانی وعلی خالقی الذین استنتجوا أنّ المفارقة التصویریّة عند الرصافی تتشّکل من الصراعات السیاسیّة
التی یشارک فیها وأنه یری لنفسه دوراً هامًّا، وهو إیجاد الصحوة الشعبیّة إزاء المستعمرین، وقسّم کُتّاب هذه المقالة المفارقةَ التصویریّة
المفارقة « إلى المفارقة اللاشخصیّة، ومفارقة الاستخفاف بالذات، والمفارقة الدرامیّة، والمفارقة ذات المعطیات التراثیّة. وکذلک مقالة
لعاصم شحادة علی. وهو ذکر عنصرین للمفارقة، هما الإخفاءُ وحقیقة » اللغویة فی معهود الخطاب العربی: دراسة فی بنیة الدلالة
تجلیات المفارقة التصویریة بین معروف الرصافی ومهدی أخوان « کون المعنى المختفَى فی اللفظ هو الذی یقصد أن یظهر. وکذلک مقالة
لأحمد پاشازانوس وعلی خالقی. وتبیّن من هذه المقالة أنّ الرصافی وأخوان ثالث قد أرادا من خل المفارقةِ التعبیرَ عن » ثالث
سخطهما من الواقع العربی والفارسی الألیم وإبداء السخریة و التناقض منه لما آل إلیه الواقع العربی والفارسی، وأرادا أن تکون
لرقیة » مظاهر المفارقة فی قصیدة لمن نغنّی؟! لأحمد عبدالمعطی حجازی « أشعارهما صرخة بوجه کلّ ما یؤخّر نهوضَ أمتهما. ومقالة
رستم پور الملکی وإنسیة خزعلی ومریم غلامی. وقد دُرِسَت فیها أقسام المفارقة کاللفظیة والدرامیة والنغمیة فی القصیدة المذکورة
لإظهار الظروف السائدة فی مسقط رأس الشّاعر الذی سیطر علیه جوّ خان کان الشّاعر یرجو أن یعود السلم والحریة إلى وطنه.
لمحمّد صالح قریمیة الذی قامَ بدراسة جذور المفارقة فی الأدب » مصطلح المفارقة والتراث البلاغی العربی القدیم « والبحث الآخر هو
الغربی، ثمّ فحص آراء النقّاد العرب المحدثین فی هذه التقنیة، وبعد ذلک بَحَث عن ملامح استعمال المفارقة فی الفنون البلاغیة
کالتعریض والکنایة والاستعارة والمدح بما یشبه الذمّ ووضّح مدی ارتباط هذه المصطلحات البلاغیة مع مصطلح المفارقة. وأیضاً
لتاوریریت بشیر، وهو بحث عن کیفیة المفارقة فی » سیمیائیة العنوان واستراتیجیة المفارقة فی قصیدة المهرولون للشاعر نزار قبّانی «
فی عنوان القصیدة وقیاسها مع مفهومها الحقیقیة فی نصّ القصیدة من منظور الشاعر. ورسالة » المهرولون « الدلالة المعجمیة للفظة
لیسری خلیل عبدالرحمن سلامة أبوسنینة التی درسَت مفارقة النغمة الإیقاعیة والحرکیة کالاشتراک » المفارقة فی شعر الصنوبری «
اللفظی وتجاور الأضداد والتناوب الدلالی الجناسی فی مجال المفارقة اللفظیة کما أنّها بادرَت بالفحص عن المفارقة الاستعاریة التشبیهیة
لغلامرضا کریمی فرد وفرزانه » پارادوکس، خاستگاه و پیشینه آن در بلاغت عربى « والتراسل الحسّی والمخالفة وقلب الصّور. ومقالة
مهرگان، وهما قد أشارا إلى أنّه یکمن رمز جمال المفارقة وتأثیرها فی بعض عناصر هذه التقنیة، وهی الانزیاح والإبهام والثنائیة
والإیجاز والتضاد، کما ذکرا الفروق الموجودة بین المفارقة والتناقض وبین التضاد والمقابلة استناداً بنماذج شعریة من الشعراء القدامى
لحمید عبّاس زاده ومحمّد خاقانی » جمالیة الانزیاح البیانی فی المفارقة القرآنیة « وأیضاً آراء الزمخشری وابن الأثیر وابن رشی . ومقالة
ونصر الله شاملی ومحمّد رضا ابن الرسول. واستجلت هذه المقالة الملامح الجمالیة للمفارقات القرآنیة التی تصوّر الکفّار فی مواقفهم
المختلفة وأشارت إلى تأثیر المفارقات القرآنیة، واعتماد القرآن الکریم المفارقةَ بوصفها فنّاً یجعل المتلقّی یطیل التفکیر لاستبطان حقائ
لروح الله صیّادی نژاد وزهرا مؤمن زاده اللذین وصلا إلى أنّ المفارقة فی » دراسة المفارقة فی شعر سنائی وابن العربی « الحیاة. ومقالة
أشعار ابنعربی وسنائی ترتبط بالتجارب الصوفیة ووحدة الوجود، وأیضاً أنّ المفارقة لدى سنائی تتعلّ باللغة والتراکیب الإسنادیة،
ولکن فی دیوان ابن العربی تتعل بالتراکیب الوصفیة بین الجملتین. فکما یتّضح مما قلنا لم تتطرّق هذه البحوث إلى المفارقة فی دیوان
الشاعر علی فودة وکلّ ما ذَکَرنا من أقسام المفارقتین اللفظیة والتصویریة لاتوجد فی هذه الکتب والمقالات وهذا ما یمیّز هذه المقالة عن
البحوث المذکورة.
5 لمحة عن حیاة علی فودة
سنة 9141 م وحلّت به النکبة المزلزلة من مولده، فانتزع طفلاً » قنّیر « اسمه الکامل علی یوسف أحمد فودة، ولد فی قریته الفلسطینیة
ورمت به إلى الغربة آنذاک حتى استشهاده فی السادسة والثلاثین من عمره. وقد ترافقت النکبة مع فقدانه لأمّه التی سیظلّ لها حضورٌ
عطرٌ فی شعره. قد لجأ مع أسرته إلى القسم الشرقی من فلسطین ممّا عرف بالضفّة الغربیة، وأصبح یتبع الإدارة الأردنیة قبل حدوث
نکسة 9119 م واحتلال الضفة. استشهد هذا الشاعر المصاب بالوحدة والغربة سنة 9128 م وصدر له خمس مجموعات شعریة هی
فلسطینی کحدّ السیف، وقصائد من عیون امرأة، وعواء الذئب، والغجری، ومنشورات سرّیة للعُشب )خلیل والآخرون، 8002 م،
.)28 - ص 91
1 المفارقة لفظاً واصطلاحاً
وهو فی اللغة خلاف الجمع، کما نری عند ،» الفَرقْ « ومصدرها » فَرَقَ « المفارقة فی تعریفها المعجمی أخذت من جذرها الثلاثی
فَرَقَه یَفرقُه فَرقاً وانفَرَقَ الشیء وتفرقاً وافترقاً، أی بایَنَه المفرق والمفرق وسط الرأس، وهو الذی یفرق فیه الشَّعر، وفرق « : صاحب لسان العرب
بدأ المشیب فی مَفرقه وفَرقِه، وفَرَق فی الطریق « : ابن منظور، 9119 م، مادة فرق(، وکذلک قیل فی هذه المادّة ( » له الطریق أی اتجاهٌ له طریقان
الزمخشری، 9112 م، مادة فرق(. فیتّضح أنّ مدلول المفارقة لا یخرج ( » فُروقاً وانفَرَقَ انفِراقاً إذا اتّجه لک طریقان فاستبان ما یجب سلوکه منهما
عن معنى الافتراق والتباعد والاختلاف.
کلّ أدیبٍ أو ناقدٍ یدرک « وأما المفارقة اصطلاحا فهو مصطلح غامض شائک یثیر الالتباس ولیس هناک تحدیدٌ واضحٌ لها؛ لأنّ
داد، 9929 ه.ش، ص 92 (. فلذلک تعدّدت التعریفات المختلفة لها، حیث نجد نبیلة ( » مفهوم المفارقة وتوظیفها خلاف ما یدرکه الآخرون
إنّ المفارقة تعبیر بلاغی یرتکز أساساً على تحقیق العلاقة الذهنیة بین الألفاظ أکثر مما یعتمد على العلاقة النغمیة أو التشکیلیة، « : إبراهیم تقول
وهی لاتنبع من تأمّلات راسخة ومستقرة داخل الذات، فتکون بذلک ذات طابع غنائی أو عاطفی، ولکنها تصدر أساساً عن ذهن متوقّد ووعی شدید
المفارقة انحراف لغوی یؤدّی بالبنیة إلى أن تکون مراوغة « إبراهیم، بلا تا، ص 919 (. یرى بعض النقّاد الآخرین بأنّ ( » للذّات بما حولها
شبانة، 8008 م، ص 41 (، أمّا عبد العزیز الأهوائی فیعرّفها ( » غیرمستقرة ومتعددة الدّلالات، وهی بهذا المعنى تمنح القارئ صلاحیات أوسع
المفارقة « بأنّها إثارة التعجّب بین متناقضین، ولکن أحدهما لایبطل الآخر )الأهوائی، 9121 م، ص 901 (. وعلى أساس تعریف آخر
الوقاد، ( » ترفض المعنى الحرفی للکلام لصالح المعنى الآخر الذی لم یعبّر عنه، وتهدف لا إلى أن تجعل النّاس یصدقون، بل إلى أن تجعلهم یعرفون
8002 م، ص 91 80 (، فملخّص القول، أنّ المفارقة صورة تعبیریة یتشکّل من قسمین؛ الأوّل ما نقرأه من النصّ، والثانی ما لا
نفهمه منه، ورمز جمال المفارقة وتأثیره یکمن فی مفهوم الکلام المفارقی الذی یختلف تماماً عمّا نقرأه.
7 أنواع المفارقة
7 1 المفارقة اللفظیة
المفارقة اللفظیة هی شکل من أشکال القول، یساق فیه معنى ما فی حینٍ یقصد منه معنى آخر یخالف غالباً المعنى السطحی الظاهر،
فهی تشتمل على عنصر یتعلّ بالمغزی، وهو مقصد القائل، وکذلک على عنصر لغوی یتمثّل فی شکل المغایرة )العبد، 9114 م: 99
98 (. فهی طریقة من طرائ التعبیر یکون المعنى المقصود فیها مناقضاً أو مخالفاً للمعنى الظاهر )جدیتاوی، 8098 م، ص 88 (. تبرز -
المفارقة اللفظیة عندما یعکس ظاهر الدلالة اللفظیة ویحسّ القارئ بالمغایرة بین المبنى والمعنى؛ ومِن هنا یمرّ القارئ بثنائیة حادّة بین
اللفظ والمعنى )عبّاس زاده والآخرون، 9498 ه.ق، ص 991 (. فعلى هذا الأساس، یمکن تحدید المفارقة اللفظیة فی أنها المفارقة التی
یکون فیها المعنى الظاهری واضحاً، ولا یتّسم بالغموض، وکما یکون ذا قوة دلالیة مؤثرة وهذه المفارقة یتعمدها الشاعر ویخطط لها
عبر التضاد بین المظهر والمخبر.
9 1 1 مفارقة السخریة
إنّ القول بأنّ السخریة نوع من المفارقة مسألة فیها نظر. ومن شروط المفارقة أن نحسّ بقوة المعنى الظاهر والحقیقی معاً؛ فإذن
السخریة ممّا لا یکاد یقع فی باب المفارقة. فنبرة الساخر تؤدی معناه الحقیقی بشکلٍ لا یقبل التردد، بحیث لا یغدو من الممکن التظاهر
أنّه لا یعی قصده فی ذلک المعنى، لکن أثر السخریة برغم ذلک یختلف عن أثر اللغة المباشرة )میویک، 9119 م، ج 4، ص 94 (. وهذا
العنوان الذی أتینا به هنا مزدوج الدلالة، لکنها ازدواجیة مترابطة فی الوقت نفسه؛ فالأولى أی المفارقة تؤدى إلى الثانیة أی السخریة
وهذه الأخیرة نتیجة للأولى بما أنّ المفارقة أداة أسلوبیة فعّالة للتهکّم والاستهزاء )العبد، 9114 م، ص 92 (. تبنى هذه المفارقة على
موقف یناقض ما ینتظر فعله تماماً؛ إذ یأتی الفعل مغایراً للوجهة التی یجدر بالإنسان أن یقوم بها، کأن یکون ردّ فعل من اغتصب
حقّه فی الحیاة، الرضا والذلّ وشکر المغتصب )سعدیة، 8009 م، ص 9(، کما نری عند علی فودة فی وصفه أحوال مواطنیه الذین هم
فی المقهى / یختلط الحابل بالنابل.. تختلط الأصوات / یختلط الأحیاء مع الأموات / ها هم « : مشغولون باللهو ونسوا قضایا وطنهم، حیث یقول
الجوع /» یانسوناً « حیفا تأکل شفتیها النیران/ /» شایاً « صحبی فی المقهى / ها هم یلتفّون على طاولة الزهر/ وفی خاطرهم بعض الحسناوات /
أنغولا دمّ یطلب ثأراً من جند الأمریکان / شایاً.. یانسوناً.. کولا بالثّلج / وأنت؟ / - أنا؟ /» کولا بالثّلج « - / یغنی فی الهند وفی الباکستان
919 (. فالشاعر – فودة، 8009 م، ص 918 ( » هات النّار مع الصودا هات / یشتعل العالم من حول الصحب / وهم یلهون ... یلوکون القات
یعانی کثیراً ممّا غاص النّاس فیه من الغفلة والإهمال. ویظهر سخطه منهم خلال هذه العبارات کما یقصد من توصیف هذا المشهد
تقریر المبالغة فی بیان غفلة النّاس وبیان شدّة استهزائه بهم؛ لأنّه لایقوم الإنسان بهذه الأمور، إلا إذا کان فارغ البالِ ویعیش فی
المصدر نفسه، ( » فأیّ المحبّین أنتم / دفنتم فلسطین ثمّ استرحتم «: الرفهیة والسّلم. فی موضع آخر، یستهزئ برجال فلسطین الجبناء ویخاطبهم
فلا تتبادر بأذهان المتلقّین إلا أحاسیس الشوق والحنان، ولکن إذا یقرأ خاتمة کلامه وما » المحبّین « ص 914 (. فعندما یأتی الشاعر بلفظ
فإذا کانت المفارقة، تکشف عن تناقضات الحیاة التی لا یستطیع « . فیه من المفاهیم السلبیة فیتّضح له بأنّ الشاعر استخفّ بمواطنیه وسخر لهم
فیها الإنسان الوصول إلى حقیقة واضحة، فإنّ السخریة تسلب الشخص قدراته وتعریه من کل ما یتخفى فیه ویتحصن وراءه، فعلى هذا الأساس إنّ
المفارقة، قد تصنع السخریة، والسخریة فی هذا الإطار، مفهوم مرادف لمفهوم الضحک، وتکشف السخریة المتّجهة من الأعلى إلى الأسفل معنى
مرشحة، 8004 م، ص 892 (. کما رأینا تجلیّات هذا الأمر فیما آتینا بها من نماذج شعریة لعلی فودة. ( » الاستهزاء المحقّر
وفی موضع آخر یذکّر الشاعر المواطنین بأنّهم مشغولون بالرقص واللهو دون أن یبادروا بمعالجة ما یجری حولهم من الأزمات
یا طین بلادی / یا برقوق بلادی / یا فرسان بلادی: أفلا تأتون على ظهر الخیل؟ أفلا تأتون... / لیسکت هذا الصوت « : والمصائب ودفعها قائلاً
فودة، 8009 م، ص 921 (. فالشاعر یدقّ فی حیاة النّاس وأعمالهم لیتمکّن من الکشف ( » النائح فی اللیل؟ / هذی اللیلة لیست للرقص
عن غفلتهم تجاه المصائب الموجودة فی فلسطین من التشرّد وما یتبعه، وعندما یقرأ المخاطب بدایة هذه العبارات یخطر بباله أنّه سیطَرت
هذی « على حیاة الشاعر ووطنه مصائب کثیرة، فمِن الطبیعی أنّه یجب القیام بالدفاع عن وطنهم وتدمیر الظلم، ولکن إذا یقرأ عبارة
یتّضح له بأنّ الشاعر قد سخر النّاس بسبب لهوهم وإهمالهم تجاه قضایا وطنهم. فکما نشاهد فی هذه الأمثلة ،» اللیلة لیست للرقص
ابراهیم، بلا تا، ص 919 (. من خلال ( » تصدر هذه المفارقة عن وعی شدید للذّات بما حولها؛ لذا فإنّها اتّصال سری بین الکاتب والمتلقی «
عامل التهکّم والسخریة من العوامل التی « السخریات اللاذعة الخفیّة المستورة التی لا یُفهم تأثیرُها إلا عند التعمّ فی النصّ، ولا ریب أنّ
سعدیة، 8009 م، ص 91 (. وفی موضع آخر، یسخر شاعرُنا بهم لعدم ( » تؤدّی إلى قلب المعنى وتغییر الدّلالة إلى ضدّها فی کثیر من الأحیان
إلى الملتقى یا رفاق إذن / إلى موسم قادم / أتمنى لکم سهرة ممتعة / سأرحل « : اهتمامهم به؛ إذ لم یهتموا به ولم یعرفوا له أجراً ویخاطبهم
قطاری أتى آه / لا تنهضوا عن مساندکم، اجلسوا / فی فمی اجلسوا / أو تعالوا ارقصوا / کبدی سوف یعزف قبل الرحیل المغامر / ».. وو.. وو «
» أغنیةً / عن خداع قدیم جدید، لماذا توقفت أنت؟ / لاتقفوا لحظةً / اشربوا من دمی واسکروا / اسکروا / اسکروا من بدایة نزفی وحتى الغبش
.) )فودة، 8009 م، ص 999 998
وفی هذه العبارات نری مدی استهزائه بالنّاس، إذ لم یکرموه ولم یهتمّوا به ولو ضئیلاً قدرَ القیام عندما یرید الرحیل من عندهم،
فیوجد تناقض منبعث من السخریة والهزء، حیث یطلب الشاعر من النّاس أن یحلّوا ولا یقعدوا عند رحیله، فکأنّهم یریدون القیام
وراءه احتراماً له؛ ولکن عندما ندرک بأنّ الشاعر یتحدّث عن خدعة النّاس ومکرهم، فیطلب منهم أن یشربوا دمه وهذا یدلّ على
شدّة الغضب والعداوة نفهم بأنّ النّاس لم یبالوا برحیل الشّاعر وذهابه ولم ینهضوا من مکانهم، فأتى الشاعر بالعبارات الأولى
ولی وطن شئتُ لقیاه، لکنّه ظلّ یسخر / ویسخر منّی ویسخر / « : سخریةً منهم، کما یستهزئ بوطنه والمراد نفس المواطنین بهذه العبارات
فناشدته رحمتی/ صرختُ بأشواق قلبیَ: فیم الأسیّة؟! /صرختُ: قتلتک یا وطنی ذات یومٍ / وها أنا صِرتُ الضحیّة / حنانیک یا وطنی /
.) المصدر نفسه، ص 999 ( »... حنانیک
فی هذا المجال نری المفارقة بصورة صریحة، حیث یذعن فی بدایة الأمر بأنّ الوطن کان یسخر منه ولم یهتمّ به، وفی نهایة العبارات
فیدعو له، ولکن على سبیل السخریة والاستهزاء. فکلّ هذا یهدف إلى مفاجأة ،» حنانیک « : یخاطبه بأسلوب رائع، حیث یقول
المتلقّین وإثارة إعجابهم کما یرید خل صورٍ رائعةٍ مستهزئةٍ فی أذهان المتلقّین. فبنظرة عابرة إلى هذه الأمثلة نستنتج أنّه لا تقوم
السخریة إلّا بالمفارقة، حتى یمکن القول بأنّ المفارقة أداة السخریة، بل هی رجلها التی تمشی بها، فالسخریة سلاح اجتماعی، تقصد
من الضحک النقدَ والإصلاحَ، ویعدُّ الضحکَ أداةً ثوریةً، وبذلک الأدب الساخر غالباً ما یخفی مدلولاً نقدیاً وراء سطحه الظاهر
لأنّ السّخریة تکون من شخصٍ متفاءل محبّ للبشر، وهدفه الإصلاح والتهذیب والتقویم، ویعالج ؛)www.almutmar.com(
الرذائل لیظهرها ولینفر الآخرینَ منها حتى یصلحوا أنفسهم من هذه الأخطاء، والسخریة هی وسیلة أخلاقیة، إذ یقول الشخص غیر
ما یؤمن به )الوقاد، 8002 م، ص 92 (، کما تدلّ هذه العبارت المفارقیة على سلوک یختلف تماما عما یعبَّر عنه حرفیاً.
9 9 8 مفارقة الأضداد
یجمع هذا النمط من المفارقة بین المتنافرین فی الدلالة اللغویة )الرواشدة، 9111 م، ص 92 (، بشکل مباشر. لکن هذه المباشرة لا
تعنی عدم العم ؛ لأنّ السطحیة فیه طریقة من طرائ التعبیر، إذ یکون المعنى المقصود فیه مناقضاً ومخالفاً للمعنى الظاهر، وتسمّى
إذ یعمد الشاعر فیها إلى مجاورة الأضداد بطریقة تستنفر القاریء )شبانة، 8008 م، ص 929 (، کأن یجعل ؛» مفارقة التجاور « أیضاً
المبدع البیاض والسواد على طرفی نقیض، وهذا ما نجده عند الشاعر علی فودة، وهو قد جمع فی دیوانه بین موقفین متضادّین فی
فودة، 8009 م، ص ( »؟ أقدیسة أنت أم عاهرة؟ / ... / مؤمنة أنت أم کافرة « : مواضع کثیرة؛ على سبیل المثال، عندما یخاطب حبیبته
لأنّهما صفتان ضدّان فی المعنى. والإتیان بهما فی أسلوب ،» عاهرة « و » مؤمنة « 822 (. فإنّ البرادوکس الموجود فی هذه العبارة یوجد بین
الاستفهام یُدهش المخاطب ویحفزه على التعجّب والتفکیر فی أنّه کیف کان تعامل حبیبة الشاعر معه، حیث یسأل الشاعر منها هذا
السؤال؟! ولکن عندما ندقّ فی نص القصیدة التی اُختیرت هذه العبارة منها نفهم بأنّ الشاعر خاطَبَ وطنَه وهو بمثابة حبیبة له،
والسبب فی هذا السؤال أنّه یتعجّب من سکوت رجال الحکومة وغفلة النّاس أمام ما نزل على فلسطین مِن الاشغال والدّمار. وکأنّ
فلسطین التی تکون کامرأةٍ عفیفةٍ لدی الشاعر قد صار الآن کعاهرة بین یدی المستعمرین، وهذا ما یُدهِش الشاعر ویجعله یسخط
المصدر نفسه، ص 492 (. فاستعمال هذین ( » أنا القاتل والمقتول « : ویغضب کثیراً. وکما أنّه یستخدم هذه التقنیة فی التعریف بنفسه قائلاً
اللفظین المتناقضین لمدلولٍ واحدٍ وهو الشاعر نفسه زادَ کلامَه عمقاً وتأثیراً، إذ یفکّر المخاطب فی أنّه کیف یمکن أن یکون شخصٌ
قاتلاً ومقتولاً فی آنٍ واحدٍ؛ فالجواب أنّه لا یتیسّر هذا الأمر إلّا عبر المفارقة.
خلف الشواطیء تصهل سیّدتی فرس البحر/ وهی تجری وتلهث « : کذلک الحال عندما یتحدّث علی فودة عن فرس البحر ویصفه هکذا
المصدر نفسه، ص 912 (. ففی کلّ کلمةٍ حدّدناها فی هذه العبارات ( » ما بین بوابة البحر والشرفات / صاعداً هابطاً / فرحاً قانطاً صوتها کان
استخدم الشاعر مفارقة التضاد والتناقض فی صفات متناقضة للدلالة على موصوف واحدٍ متزامناً أو فی حالة واحدة، فهذا هو رمز
لجمال هذا الوصف البدیع الذی لا نستطیع تصوّره فی الظاهر مع أنّه یمکن لنا أن نصل إلى الغرض الحقیقی المراد للشاعر بعد التأمّل فی
مغزاه ومعناه. فکما یری صاموئیل هاینز أنّ وجود التنافرات معاً جزءٌ من بنیة الوجود )میویک، 9119 م، ج 4، ص 91 (. شاهدنا أنّ فی
هذه النماذج التی اخترنا من دیوان علی فودة توجد تناقضات وتنافرات قد ساهمت فی تشکیل بنیة النصّ الأدبی وجعلته تؤثّر فی
.) المصدر نفسه، ص 822 ( » المفارقة صیغة بلاغیة تعبّر عن القصد باستخدام کلمات تحمل المعنى المضاد « المتلقّی أشدّ تأثیرٍ؛ لأنّ
من الجدیر بالذّکر أنّ شاعرنا استخدم تعابیر جمیلة مبیّنة التضاد فی دیوانه وهذه التعابیر قد ساهمت فی خل هذا النمط من المفارقة
،) فودة، 8009 م، ص 821 810 ( » یصدف أن أعتذر لطفلٍ عربیٍ/ صرعته الأیدی العربیة فی المیدان اللامیدان « : فی شعره، حیث یقول
المصدر نفسه، ص 492 (، وقد خل صورة جیّدةً عند المتلقّی، وأثّر فیه أشدّ ( »!؟ ماذا خلّف التاریخ لی/ غیر الوصال اللاوصال « : وأیضاً
المصدر نفسه،ص 802 (. فی هذه الألفاظ المشارة إلیها بخطٍ یُسنَدُ دالّان متضادّان ( » وضحک الأصحاب اللا أصحاب «: تأثیر کما نری فی عبارة
إلى مدلولٍ واحد. وفی هذه النماذج الثلاثة الأخیرة تتّضح مفارقة الأضداد بصراحة کثیرة؛ إذ أتى الشاعر بحرف النفی لخل الکلمة
المتضادة. وفهم هذا التضاد لا یحتاج إلى التأمّل الکثیر خلاف ما کان فی الأمثلة السابقة. وإنّ استعمال کلّ لفظٍ مع نقیضه یُعطی معنى
الکلام ومفهومه حلیةً طریفةً مبدعةً تدهش المخاطب، وربّما یکون مراد الشاعر من هذه التناقضات تصویر شدّة الیأس فی وجوده
والإشارة إلى کثرة الاضطرابات وشدّة الفجائع فی بلده. فکما رأینا فی هذه النماذج یقوم هذا النمط من المفارقة على موقفین
متضادین؛ إذ یرکز کل منهما على صورة تزیل الأخری فیسبّبُ تقابلاً یضع المتلقّی أمام مشهد واسع الهوة بین المتوقع والمتحقّ على
.) نحو یُثیر الغرابة والدهشة )سعدیة، 8009 م، ص 99
9 9 9 مفارقة الإنکار
هذا شکل مفارقی یفیض بالسخریة، إلا أنّه یتوسّل بالسؤال لإظهارها مع السخریة الممزوجة بالإنکار لما تحقّ . والفرق بین
المفارقتین السخریة والإنکار فی أنّ الأولى تعتمد الأسلوب الخبری، فی حین أنّ الثانیة تستخدم اللغة الإنشائیة، وهذا المنحنى یثیر
التساؤل للغرابة ولحجم المفارقة التی یکتنفها )سعدیة، 8009 م، ص 99 ؛ بشیر، بلا تا، ص 9؛ الرواشدة، 9111 م، ص 80 (. إنّ علی
فودة یکره بعض القضایا فی وطنه ویتحدّث عنها فی دیوانه من خلال أسلوب الاستفهام الإنکاری حتى یرسل مدی کراهیته عنها إلى
المتلقّین. ومن أهمّ هذه القضایا هی غربة الشاعر فی الوطن ووحدته فی سبیل الأهداف وعدم قیام النّاس بمساعدته لإصلاح الأمور
ولکنّی أخی فی العار/ کما تعلم ... / غریب الدّار/ غریب غریب / أصیح أصیح: أما من حبیب؟ / وأسأل « : والدفاع عن الوطن، حیث یقول
.) فودة، 8009 م، ص 18 19 ( » فی الدّرب همّی / وما من مجیب / فأدرکتُ أنّی غریب
یشکو الشاعر من وحدته وغربته فی الوطن، وبعد ذلک یسأل سؤالاً یظنّ المخاطب بأنّ جوابه إیجابی، ولکن بما أنّ الاستفهام ههنا
إنکاری فمن المعلوم أنّ الجواب سلبیّ یناقض ما کان ینتظره المخاطب. نقرأ من النصّ الآتی أیضاً مفارقة موفّقة تتحدّث عن غربة
فأینَ الدّیار – الدّیار؟ / أهذی دیاری... / وأنتم هنا تنصِبون المناحَةَ فی کلِّ دار؟ / أهذی دیاری ... « : الشاعر حیث یخاطب المواطنین هکذا
.) المصدر نفسه، ص 891 840 ( »؟ وأنتم تَبیعونَنی للدِّمار
هناک فرق بارز وبون شاسع بین الصورة الذهنیة المتجسّدة فی أذهان المتلقّین وبین ما تثبته هذه الاستفهامات الإنکاریة، کما نشاهد
یا طین بلادی / یا برقوق بلادی / یا فرسان بلادی: أفلا تأتون على ظهر الخیل؟ أفلا تأتون ... / لیسکت هذا الصوت النائح فی اللّیل؟ / « : فی
المصدر نفسه، ص 921 (. فی هذا الکلام، یطلب الشاعر من الناس أن یستعدّوا للقیام أمام الأعداء والدفاع ( » هذی اللیلة لیست للرقص
عن وطنهم، فمفهوم سؤاله وُجوبُ المقاومة، وهذا الطلب یناقض أعمال النّاس؛ فهو یهجّن إهمال النّاس الذین ناموا أو تناموا تجاه
ما یجری فی فلسطین من المصائب. وفی موضع آخر، ینکر جمودهم وعدم اهتمامهم بالشاعر ویشیر إلى وحدته فی المجتمع ویصوّر لنا
الطیّبون الطیّبون « : صورة شاعرٍ وحیدٍ طرید ویشکو من خلوّ الوطن من أناس یجدر بالإنسان أن یحبّهم ویطلب مساعدتهم حیث ینشد
الطیّبون ... أین هم؟ / الأصدقاء الطیّبون.. أین؟ / الودعاء الطیّبون ... أین؟ / الشعراء الطیّبون ... أین؟ / من دونهم ... / الماء فی فمی کؤوس
المصدر نفسه، ص 910 (. فی هذه العبارات، یشیر الشاعر مرّات إلى وحدته وغربته وأعماله التی لا جدوی ( » ... حنظل وسم / فأین هم
لها فیُدهشُ المخاطبین ویُخبرهم بوقائع أحدثت فی بلاده، وهذه الدهشة نتیجة لِمزج السخریة والاستفهام الإنکاری فی تجسید مجتمع
الشاعر وأحواله المضطربة، ورمز المفارقة فی هذه العبارات هو أنّ المتلقّی یظنّ أنّ الشاعر یعیش بین النّاس فی احترامٍ فائ ، ولکن إذا
وصف الشاعر أحواله السیئة یری المخاطب أنّ تصویره الذهنی یناقض تماماً مع حیاة الشاعر الواقعیة، ویؤکّد هذا المفهوم فی موضع
أما فی الأرض من أصحاب؟ / أما فی الأرض قلبٌ نابضٌ بالحب والأشواق / أما فی الأرض قلبٌ یشتری قلبی/ أما فی الأرض، أین الأهل « : آخر قائلاً
والأحباب؟ / أین حکایةٌ تحکی من الأعماق؟ / وأین الدّرب نحو معابد الأوطان / أیترکنی بنوقومی أجوب عوالم الصحراء وحدی / دون زادٍ دون
قربة ماء؟ / أیترکنی الأحبة هکذا؟ / أیحیا هکذا الشعراء فی بلدی / أیحیا هکذا الشعراء / بدون زمن / بدون صحاب / بدون وطن / أیحیا هکذا
المصدر نفسه، ص 994 992 (. فهو یستکره من الذین لا یقومون بدفع الأعداء ولا یساندونه لإیصال الوطن إلى الحریة ( »!؟ الشعراء
والخلاص، فیستنکرهم من خلال هذه الاستفهامات الإنکاریة ولا یتصدّق أنّ الأصدقاء نسوه وترکوه وحده فی سبیل تحقّ أهدافه،
فیتحسّر ویحزن. مضافاً إلى ذلک، أنّه یخل من مواطنیه صورةَ شعبٍ غافلٍ متخلّفٍ من أذهان المخاطبین، وربّما یکون غرضه من هذه
الصورة المفارقیة تجسید الانحطاط الحقیقی الذی کان یسعى فی زواله عن الشعب الفلسطینی الذین کانوا ولایزالون یؤذون شاعرَنا
نحن کنّا توأمین / خیمة واحدة تجمعنا / ورغیف واحد/ « : حیث نراه یتذکّر الزمن الماضی الملیء بالذکریات الحلوة مع أصدقائه ویقول
فلماذا حین أشعلتُ سراجی أطفأوه؟ / واستشاطوا غضباً / ولماذا قبل أن أطلق سهمی کسروه؟ / ولماذا جعلوه / سیّد العشب ... لماذا احتضنوه /
ذلک الطفل الذی روّی زهور الغضب الناعم والحزن ... لماذا / احتضنوه / ولماذا أطلقوه/ فی البراری لحظةً / ثمّ عادوا اعتقلوه / ولماذا کمسیحٍ
.) المصدر نفسه، ص 498 499 ( »؟ صلبوه؟ / کیف نامت عنه عین الله والحرّاس کیف
فی هذا المجال، یأتی الشاعر بأسئلةٍ تصف أعمال النّاس من قدیم الزمن حتى الآن وتقبّح سکوت رجال الحکومة تجاه هذه المظالم.
فالاستفهامات الإنکاریة المؤدّیة إلى السخریة ههنا تخل صورة مفارقیة لما یحدث حوله من الأذی والطرد وتزعجه هذه الظروف. ربّما
یکون غرضه هنا تنبیه النّاس وإخبارهم بنسیانهم هذا الرجلَ النافذَ الشجاع الذی یستطیع تدبیر أمورهم وتحقی مقاصدهم العالیة.
أهکذا ... / لأنّنی تَوَّجتُ عینیک أمیرتین « : کان لعلی فودة تجربة فاشلة للحبّ، وهو فی بعض قصائده یشکو حبیبته بسبب خیانتها قائلاً
فی جفونی / لأنّنی زرعتُ فی خدّیک من دمائی / وما عبدتُ غیر أفراحک والشجون / أهکذا تخاصمین ودبی / أهکذا تخونین؟! / أهکذا ... / حین
سکبتُ عمری / وعطر أنفاسی کؤوس خمرٍ / لتشربینی ... / أهکذا تضاجعین غیری / ... آه من ساقیک هل تخونین؟! / أهکذا../ بعد صلاتنا فی
المصدر نفسه، ( »!؟ مسجدی / وأمسیاتنا... / والفأس فی یدی / بعد بکائنا معاً فی مرقدی / أهکذا تخونین... / لأنّنی ما خُنتُ یوماً حبّنا، تخونین
الحزنُ الأوّل أنتِ / الحزنُ الثّانی أنتِ / الحزنُ الثّالث أنتِ / الحزن الرابع والخامس والعاشر أنت / آه ../ لم أقسُ علیکِ، « : ص 82 81 (، وأیضاً
المصدر نفسه، ص 898 (.فمن الطبیعی أنّه هناک بین المحبّ وحبیبه صلات وثیقة مبنیّة على الحبّ. وعندما نقرأ هذه ( »!؟ فکیف قسوتِ
العبارات نشاهد مفارقة بین تصوّرنا من المعاملات الحسنة من جانب حبیبة الشاعر وبین ما یوجد فی العالم الواقعی مِن خیانتها تجاه
الشاعر، فهو کبّل وکسّر العادات الفاشیة فی استخدام المعانی وألبس العبارات زیّاً حدیثاً من خلال أسلوب الاستفهام الإنکاری الذی
أدّى إلى مفارقة رائعة فی المعنى. کما رأینا فی هذه الأمثلة یسأل الشاعر أسئلة یکره عن استجابتها. وکلّ هذا ینبه النّاس بأعمالهم تجاه
الشاعر والوطن ویسخرهم ویستنکر أعمالهم من خلال هذه المفارقة.
7 2 المفارقة التصویریة
تشیر إلى عملیة » التصویریة « تدلّ هذه المفارقة على عملیة عقلیة یقوم بها الفهم لإدراک المعانی والمفاهیم الکلیة وتکوینها. وإنّ لفظة
التصوّر العقلی أو تکوین صورة عقلیة لشکل الأشیاء )العبد، 9114 م، ص 912 (. تعتمد المفارقة هنا على حسِّ الشاعر الذی یرى به
الأشیاء من حوله، وتصویرها بمنظور المفارقة، ویترک للمتلقّی تحلیلها واستنباط أبعادها الشعوریة. فمن هنا تختلف المفارقة اللفظیة عن
التصویریة فی أنّ الأولى تعتمد فی کشف حقیقتها أولاً على صاحب المفارقة، والثانیة تعتمد على القارئ فی کشف التعارض بین المعنى
الظاهری والخفی.
9 8 9 مفارقة التحوّل
تظهر هذه المفارقة من خلال تغیّر الدلالة. وفی هذا النمط، تبدأ الصورة بدلالات معیّنة. لکنّها تتحوّل إلى دلالات جدیدة مغایرة،
کأن تکون الدلالة فی بدایتها إیجابیة، ثم تتحوّل إلى السّلب )الرواشدة، 9111 م، ص 88 ؛ بشیر، بلا تا، ص 9(؛ ومن نماذجها قول
الشاعر فی قصیدة عیسى بن مریم بیننا، حیث یتحدّث عن إدبار السلام فی بدایة المقطّعات کلّها، ولکنّه سرعان ما یعود من أقواله
رحل السّلام / الشمس لاذت بالفرار/ واللیل أقبل یهزم الأحیاء فی عزّ النّهار/ والنّاس « : الأولى ویبشّر الناس بإتیان بالخیر والبرکة فی حیاتهم
عطشى للسّلام! / رحل السّلام / الحزن یضحک فی أخادید البشر/ رحل السّلام / فالنّجم یسبح فی الظلام /لکنّما القمر اختفى خلف الغمام/لقد
انتحر! / ما لی أری الأیّام تذبل کالشموع / والنّاس تعولُ مِن خطر/ مالی أری الأشجار تنشج والثّمر/ قدجفّ، والغصن انکسر/ رحل السّلام /
الأرضُ تَلعَنُ طینَها والبرتقال / والشمسُ مالت للزّوال / بشراکم طلع النّهار/عیسى بن مریم بیننا / الفجر هلّ علیکم بعد انتظار/ والبدر أطلع فی
السّماء/ عیسى یقول: / الحزن مرٌّ یا حزانى والضیاع / والجوع مرٌّ یا جیاع / لکنّما الشهداء من أجل الحقول / قالوا بأبواق المحبّة للرسول / الحزن
.) فودة، 8009 م، ص 44 49 ( » یکفی یاحزانى والضیاع / والخبز آتٍ یاجیاع
استخدم علی فودة فی هذه التفعیلات تناقضاً ومفارقةً فی ألفاظه وعباراته، حیث أتى فی بدایة الأمر بألفاظ وعبارات دالّةٍ على
الیأس والخیبة. فالقارئ یری أنّ الشّاعر یثیر فی وجود المواطنین الرعب من الأحداث الآتیة المخیفة وهم ینتظرون مستقبلاً ملیئاً
فی کلامه، ولکن سرعان ما یغیّر موضعه ویمیل إلى بشارة النّاس » رحل السّلام « بالفجائع والاضطرابات. وذلک بسبب تکرار عبارة
ویشحن قلوبهم بالفرح والسرور. وبعمله هذا جعل المتلقّی مدهشاً مفاجئاً من خلال تعابیره المفرحة والمبشّرة، فإذا دقّقنا فی بدایة
کلامه ونهایته نشاهد هذا التناقض الذی یتجلى فی تحوّل النصّ من الیأس إلى الرّجاء، فجدیرٌ بالذّکر أنّ هذه الصور التی یخلقها
الشاعر عبر هذا القسم من المفارقة تنبعث من حیاته الاجتماعیة والسیاسیة وما یجری فی وطنه من الأزمات والمصائب، فاستخدام
المفارقة لبیان هذا المفهوم بهذه الصورة المثیرة المدهشة یدلّ خیر دلالة على قدرة شاعرنا الفنیّة ومدی تذوّقه الأدبی فی التأثیر على
القارئ.
وفی مواضع عدیدة أخری یشیر إلى تحوّلٍ تعرّض لحیاته، حیث کان له أصدقاء وأحباب، ولکنّه أصبح وحیداً بسرعة وأوضح
ما کنتُ وحیداً / لکنّی حین طعنتُ الحوتَ / التفّ الحوت على ساقی/ سال الدّم / اصطبغت أمواه البحر/ « : الدلیل على هذا الأمر هو قوله
المصدر نفسه، ص 802 (؛ یصرّح الشاعرُ بدایةَ کلامه بأنّه لیس وحیداً، وبعد ذلک ( » صرختُ فما ردّوا / ملقىًًًً فی فم الحوت الکاسر، ترکونی
فی آخر الکلام. فبالتأمّل فی هذه » ترکونی « یردف بأقوال تدلّ على وحدته وتفرّده، فکأنّه ینقض کلامه الأوّل لاسیّما إذا جاء بفعل
العبارات یخطر ببالنا أنّ علی فودة یسخر مواطنیه الذین کان وجودهم کالعدم، إذ لا خیرَ فیهم إلا تعذیب الشعر وتألیمه، فالمفارقة
ذات یوم... / کنتُ «: الموجودة فی هذا الکلام ساعَدَ الشاعر فی خل صورة مدهشةٍ مِن خیانة الأهل والرفاق. کذلک الحال عندما یقول
بین الرفاق وبین المناشیر والقهوة الساخنة / بعد عامٍ تبیّن لی أن أودّعهم / عسساً یا غریبة کان / عسس! / ذات یومٍ... / کان لی إخوة / کفراخ
المصدر ( »!؟ العصافیر یحومون حولی / وکنتُ أغازلهم دائماً / من یغازلهم یا غریبة من بعد أن/ عسکر الاحتلال على بیتنا / ثمّ شتتنا / یا غریبة من
نفسه، ص 890 و 898 (. نری فی هذه العبارات أیضاً تناقضاً فی معانی العبارات الأولى والأخیرة؛ إذ یتحدّث بدایة الأمر عن حیاته
الملیئة بالذکریات الحلوة بین الرفاق، ولکن فی نهایة الأمر یُترَک وحیداً ویعانی من الوحدة الموحشة، فهذا التناقض یُخفی مظاهر
الخدعة والاختناق والضوضاء تحت سِتره. والشاعر استطاع أن یخبّر النّاس عن الأزمات الموجودة خلال هذه المفاهیم المتناقضة. کذلک
لبستُکم یا أصدقاء/ ثمّ «: نری هذا النمط وکیفیة استخدام الشاعر فعلین متضادّین لتوصیف حالتین مختلفتین عند خطابه لأصدقائه
یدلّان على إعراض الشاعر عن موقفه الأوّل، » خلَعتُکم « و » لبستُکم « المصدر نفسه، ص 481 (، ففعلین ( » خلعتُکم... وکان الحزنُ شاهداً
وهو حبّه لأصدقائه، ولکنّه بعد مشاهدة غدرهم وإهمالهم فی قضایا الوطن انصرف عنهم وقطع عنهم الرجاء. ومن خلال تشبیههم
بألبسة لبسها مرّة وخلعها مرّة أخری جعل المتلقّی أن یصوّر صورة متحوّلة متغیّزة مفارقة من هذا الحب والصدق. کذلک عندما یرید
أن یصف ما حلّ بالوطن من النهب والدّمار نتیجةَ دخول الأعداء یتوسّل بمجموعة من الکلمات المتضادّة ویشیر إلى تحوّلها
صار الأبیض أسود، والأزرق أسود، والأخضر أسود، والأصفر أسود، والأحمر أسود / ... / صار العشبُ الأخضرُ حطباً، والماء صدیداً، «: هکذا
.) المصدر نفسه، ص 449 444 ( » صار الصمتُ عواء
فکما نشاهد فی هذه السطور أنّ علی فودة جاء بألفاظ متضادّة لتوصیف حالات مختلفة لموصوف واحد لا لحالة واحدة له، فإدراک
التی تدلّ على الصیرورة والتحوّل. کما نعلم ومن خلال هذه المفارقة یؤکّد » صار « مفهوم التحوّل فی هذا المجال یتیسّر لنا من کلمة
الشاعر على التحوّل وعدم الثبات فی مجتمعه بشکل واضح مستعیناً بالألفاظ المتضادّة، إضافة إلى القرائن اللفظیة التی تدلّ على
التحوّل والتغییر. زد على ذلک، أنّ استخدام أسماء الألوان دون الإتیان بموصوفها یدلّ على شمول هذا التحوّل ویساعد الشاعر فی
خل صورة معجبة مؤثّرة، فیبدو أنّ هذه الصورة المفارقیة المتشکّلة من هذه الألفاظ المتضادة هی أحسن طری اختارها الشاعر لإظهار
براعته فی إدهاش القارئ وبیان أغراضه بصورة مؤکدة خالدة. وملخّص القول أنّ هذه الکلمات لا تناقض إحداها الأخری، ولکنّ
الشاعر أتى بها فی مفهوم یشبه التناقض، بل تعکس صورة محیّرة فی أذهان المتلقّین. فبعلمه هذا قصد إبداع جمالیّات لنصّه واستخدم
المفارقة من خلال هذه الألفاظ المتضادّة لبیان أهدافه ومقاصده منها: التبیین لما یدور فی بلده من الضوضاء والتحوّل وعدم الثبات، إذ
لا یلبث أن یتحوّل کلّ شیء أو کلّ إنسان إلى ضدّه.
7 2 2 مفارقة المفاجأة
تقوم هذه المفارقة على مخالفة ما یتوقّعه المرء فی الموقف الذی یمرّ به، فیفاجأ تماماً بما فی ذهنه )سعدیة، 8009 م، ص 92 (. کثیرا ما
نرى مفارقة المفاجأة فی دیوان علی فودة عندما یصف زمن رجوعه إلى الوطن ویری معاملة المواطنین والأحباب تجاهه، ومن هذه
قبل سنین .../ أطلقتُ عنان حصانی الجامح ... سابقت الرّیح /عبرتُ الصحراء، الودیان، الغابات الملتفّة / خُضتُ المعرکة وراء « : النماذج قوله
المعرکة، مع العسس، المرتزقة / نازلتُ تنابلة السلطان / فخرَّ حصانی بین القصب جریحاً / سرتُ على الثلج، تشقق قدمای / ولکنی أدلجتُ إلیکم
والشعلة فی قلبی/ لم ألتفت أبداً للخلف، ولم یهزمنی شبح الخوف / مضیتُ وحیداً حتى لاحت بعض بشائرکم / رکضتُ إلیکم، فرحی یسبقنی / حین
فودة، ( » وصلتُ إلیکم فاجأنی ما فاجأنی / أوّل من أطلق ناراً، أطلقها بین القدمین / لیستقبلنی / لکن رصاصات الثانی والثالث خرّت فی بدنی الأزرق
.) 8009 م، ص 988 989
عندما یقرأ المتلقّی الأسطر الأولى لهذا النموذج یتوقّع أن یصل إلى نتیجة ملائمة مع أعمال الشاعر وتضحیاته یعنی احترام النّاس
له وإکرامهم إیّاه، ولکن فی نهایة العبارات یواجه خلاف ما یتوقّعه. فإنّ معاملة النّاس تجاه الشاعر تختلف تماماً مع تصوّر المتلقّی،
وهذا التناقض هو الذی فاجأه. ربّما یکون أشد المفاجأة التی واجهها الشاعر عند رجوعه إلى الوطن ووصفها فی دیوانه هو قوله
وطن شئتُ لقیاه / فناشدته رحمتی ... صحتُ بالدّمع، بالبندقیة / صرختُ بأشواق قلبیَ: فیم الأسیّة؟! / وها أنا صِرتُ الضحیّة / حنانیک یا وطنی /
»! حنانیک ... خُذنی ولو لحظة بین تلک الرعیّة / ودعنی أموت / ولما مددتُ یدی لیأخذنی عاد یسخر. یسخر منّی ویسخر/ وعاد الحنین بقلبی یکبر
)المصدر نفسه، ص 999 (. إنّ مشاهدة فرح الشاعر واشتیاقه فی بدایة الأمر وقیاسه مع سخریة الوطن إیّاه التی أشیر إلیها فی نهایة الأمر
ظاهرةٌ تقعُنا فی مفاجأةٍ مدهشةٍ، لأنّ النتیجة التی حصلت للشاعر عند رجوعه إلى الوطن تفارق وتنقض ما کان ینتظره الشاعر. وإنّ
الصلة الموجودة بین مفهوم الاشتیاق ومعنى السخریة شبیهةٌ بالتناقض. وفی موضع آخر، یُرینا الشاعر صورة مفارقیة من التضاد
الموجود بین أشواقه للدخول فی وطنه وبین الصورة الحقیقیة لعودته إلیه حیث ینشد مخاطِباً لأمّه التی یشکو إلیها من جور المواطنین
کنتُ یا أمّاه أبکی خلف أسوار المدینة / بعدما کلّت یدای / من طَرق أبواب المدینة / کان کلّ النّاس یا أمّی نیام / وأنا کالطائر « : ومظالمهم
المذبوح للأسف أبکی / خلف أسوار المدینة / کنتُ کاللاشیء مرمیّاً، فداسونی بأغلى الأحذیة / وقطارات الأسى مرّت على الأحلام فی صدری /
» فشادوا فوق أشلائی مواخیر الهوی والأندیة / وأنا کنتُ أسیر الجوع مصلوباً على باب المدینة / وبعینیّ صلاة الحبّ للکفّار ... أصحاب المدینة
.) )المصدر نفسه، ص 11
فکما نری لا یطرق إنسانٌ بابَ وطنه بالإلحاح، إلا إذا اشتاق إلى لدخول إلیه وملاقاة أهله وکلُّ ما یتوقّع هو اشتیاق المواطنین
إلیه، ولکن على أساس هذه العبارات نری أنّ علی فودة فوجئ بعدم مبالاة المواطنین واستنتج نتیجة سلبیة من حنینه الوافر. کما نری
حین طرقتُ البابَ الأوّل / أوصد فی وجهی الباب / فعدتُ وحیداً / عدتُ شریداً / فحلفت «: مفاجأته الشدیدة المثیرة للحزن فی هذه العبارات
بعینیک بأنّی ما کنتُ بیومٍ رعدیدا / لکن الحظ العاثر أشقانی / یا أمّی / فطرقتُ الباب الثّانی / والباب الثّالث / صفقوا فی وجهی الأبواب / خنقوا
المصدر نفسه، ص 940 (. ومن المتوقّع أنّه حین یتحدّث إنسانٌ عن وحدته وغربته ( » فی صدری الإحساس / عذّبنی یا أمّی/ عذّبنی النّاس
یساعده أهله وأصدقاءه، ولکن فی هذه العبارات نری أنّ شاعرنا بقی وحیداً دون زادٍ وعونٍ فی تحقّ أهدافه، فصُوِّر فی أذهاننا صورة
متناقضة خلاف ما یحدث فی العالم الحقیقی. نشاهد صورة أخری لوحدته فی العبارات التالیة التی یختلف مفهومها مع ما وقع للشاعر
وحیداً أسیر ... وحیداً وحیداً / فعند احتباس الغیوم / أمدّ یدی للنجوم / لأقطف واحدةً ... فتعود یدی خاویة / وعند « : فی العالم الحقیقی
انهمار المطر/ أحس الخطر/ فأقبع فی الزاویة / ولکننی حین ینطفئ النّور لیلاً ... أسیر/ وحیداً أسیر أسیر/ وبین یدیّ دمی، ودموعی/ وقلبی
» الکسیر! / .../ ذلیلاً وقفتُ بعزّ الظهیرة / ذلیلاً وقفتُ وفی القلب حیرة / ... / ذلیلاً وقفتُ وفی القلب حسرة / وقفتُ وقلبی یدقّ، یدقّ، یدقّ
.) )المصدر نفسه، ص 401 409
إنّ علی فودة قد تعجّب من أعمال الأصدقاء ومعاملتهم إیّاه. وبما أنّ الأصدقاء لا یُتَوقَّع منهم إلا الجمیل فقد ففوجئ بمشاهدة
أطعمتُکم قلبی وروحی الدامیة / لکنّنی... / رجمتُ بینکم کزانیة / فحینما أتیتُ « : تلک الأعمال السیئة من قبلهم. ففی موضع آخر یخاطبهم
المصدر نفسه، ص 811 819 (. فی هذا المجال أیضاً ( » فی الصباح / طردتنی الأشباح / وحینما رجعتُ فی المساء. فوجدتُ بالخواء والکراهیة
نشاهد نتیجة مضادّة لأعمال الشاعر وحسناته. وهذه هی التی تدهشنا کثیراً، حیث نستطیع القول إن الشاعر بادر بتوصیف هذه
الأعمال وخل هذه الصور فی أذهاننا حتّی یجسّد لنا صورةً بارزةً لمجتمعه وأعمال مواطنیه الذین لا یتوقّع منهم الخیر، فهم لا یقومون
بإصلاح الوطن وإخراج العدوّ منه، بل اعتادوا بقبول الظلم والغوص فی الغفلة والنسیان وهذا ما یغضب الشاعر ویحزنه کثیراً.
7 1 3 مفارقة الأدوار
یظهر هذا القسم من المفارقة فی النصوص الأدبیة، عندما یتّخذ صاحب الموقف الطبیعی موقفاً محایداً لموقفه الذی اقترن به فی
الذاکرة، أین تنتهی مهمّة صاحب الموقف فی الذهن، لتبرز مهمّة أخری مغایرة )سعدیة، 1007 م، ص 9(. وترد هذه الصورة من المفارقة
فی قول الشاعر علی فودة الذی لجأ إلى قلب دلالة الرموز التی استقرّت فی وجدان القارئ، حیث إنّ التعب الذی یرمز للداء والضجر
،) فودة، 1003 م، ص 49 ( »! ولن أشکو من التعب/ فذاک دواء دائی ... آه ما أنجع « : أصبح علاجاً ودواءً للداء لدی الشاعر، کما یقول
هو « : کما أنّ الرصاص الذی یدلّ على الحرب والقتل فی بادیء الأمر، صار مفتاحاً ووسیلة للفتح والفرج والخلاص عنده فی قوله
المصدر نفسه، ص 194 (. وهذا التغییر فی دور الرصاص فی ( » الرصاص أیّها النهر ... هو الرصاص/ سیّد هذا العالم المغرور ... / مفتاح الخلاص
وجهة نظر علی فودة، یجعل القارئ یفکّر فیما یدور فی المجتمع من الفجائع حتى أصبح الرصاص سبباً للخلاص والفرج. وفی موضع
وکأنّ الفجر یرید أن یخدع النّاس ویمکرهم على حدّ قول ،» دبیب العجلات « الذی یعدّ رمزاً للفرج والفتح إلى » الفجر « آخر قلّبَ
.) المصدر نفسه، ص 309 ( » إنّه الفجر... / سلاماً أیّها الفجر / سلاماً یا دبیب العجلات / کلّ شیء جاهزٌ للغدر «: الشاعر
للدلالة على مفاهیم مغایرة مما اعتاده » الفجر « و » الرصاص « ،» التعب « استخدم الشاعر فی هذین النموذجین ثلاث ألفاظ هی
الناس حتى یجعلهم یفکّرون فی کیفیة تحوّل هذه الدلالة فیها على المعانی المتناقضة لینبّههم بما یجری فی الوطن من تغییر السنن والرسوم
إلى خلافها وتحوّل الحسنات إلى السیئات. ولعلّ أوضح نموذج لهذا النوع من المفارقة تلک الأبیات التی یأتی بها فی قصیدة حدیقة
لستَ شؤماً ... / طائرُ الحمری والنورسُ قالا / والیمامة / لست شؤماً / نحن نهواک وتهواک الغمامةُ / لستَ شؤماً / « : الحیوان، حیث ینشد
.) المصدر نفسه، ص 374 ( » أنتَ معشوقُ الیتامى فاقترب / من زهور التین والحلفا وتفاح الحقول / لا تخف منّا ولا... / یا أیها البوم الخجول
سمعتُ « : فیخاطب البوم، وهو رمزٌ للشؤم والنحوسة بهذه العبارات التی لا یصدّق ما نراه فی العالم الراهن. وفی موضع آخر، یقول
.) المصدر نفسه، ص 19 ( » صوتَ قبّرة / تنوح فوق جثّة الصباح / وبومة تغنّی / للیاسمین والأقاح
فالقبّرة الطائر الحسن الصوت یتحوّل صوته عند الشاعر إلى نواح، وإذا بالصباح الذی یعلن بدایة الحیاة وتوهجها جثّةٌ، ولنا أن
نتخیّل ذلک الیوم الذی صباحه جثّة، وجعل البومة رمزَ الشؤم. إنّ تصویر البومة فی هذا الشکل المفارقی یعنی الدلالة على التفاؤل
وتغییر صوت القبّرة المبشّرة بالسرور إلى صوتٍ نائحٍ حزین، هو نوعٌ من المفارقة والتناقض فی خل الأدوار الجدیدة. ولجأ شاعرنا إلى
هذه المفارقة لترسیم الجوّ المضطرب فی بلده الذی بدّل کلّ الخیرات إلى أضدادها.
الخاتمة
لقد عمد علی فودة إلى المفارقة لإبراز عواطفه وآماله لتزوید أشعاره وخروج النصّ الشعری إلى ما یوجد فیه من التأثیر والإدهاش؛
فقد وظّف مفارفة السخریة والأضداد والإنکار، وهی أنماط المفارقة اللفظیة واستخدم نماذج مفارقة التحوّل والمفاجأة والأدوار بمثابة
أقسام المفارقة التصویریة. فکلّها تنمّ عن رؤیته تجاه الحیاة والتزامه بقضایا الوطن وإصلاح أوضاعه عندما یفشل النقد المباشر. فصُوَره
المفارقیة تصوّر لنا الأوضاع المشوّشة السائدة على حیاته وحیاة فلسطین والثنائیات الموجودة فی مجتمعه التی سبّبت الیأس والتحسّر فی
وجوده خلاف ما کان یتوقّع.
فعِلماً بمقاصده المختلفة علینا القول إنّ بیان الأغراض والمقاصد عبر الألفاظ المتضادة والتصاویر المفارقیة ساعده أن یَسلمَ من مؤاخذتة
الآخرین إیّاه؛ إذ یسخر أبناء وطنه أحیاناً بسبب إهمالهم فی معالجة قضایا الوطن ویستکره منهم أحیاناً أخری،کما یبرز غدرهم من
خلال أمثلة مفارقتی التحوّل والمفاجأة ویکون غرضه تنبُّه النّاس بالفجائع وتحریضهم على معالجتها بواسطة الوحدة والتدبیر. إنّ علی
فودة قد کان یحمل کلامه على محمل الجدّ خلال إتیان هذه الألفاظ المتضادة والصور المفارقیة لیؤدّی شعره وظیفته الأساسیة، وهی
الإصلاح، کما أنّه وفّ فی تقویة شعره عن طری حثّ المتلقّی على البحث عن المعنى الحقیقی المستور وراء الألفاظ والعبارات لیؤثّر
فیه أشدّ التأثیر فوظّف المفارقةَ لأغراض عدیدة، منها مباغتة القارئ لإثارة انتباهه وذلک بمفاجأته من حین إلى آخر، کما حفّزه على
التأمّل فی موضوع المفارقة من خلال الصور التی تصوغ فی ذهنها، کما تمنحه حسّاً باکتشاف علاقات خفیّة فی قصائده وعدم الوقوف
عند الحدّ الظاهر للنصّ، بل الغوص فی مفاهیمها الحقیقیة منها التهکّم والاستهزاء، التهویل من عاقبة الأمور والتعبیر عن صدقه
وخلوصه تجاه الوطن وأبنائه، واستطاع أن یؤدّی أهمّ مطالبات الأدب کفاعلیة التلقّی وغرابة النصّ وتأثیره ومشارکة المتلقّی فی
أحاسیسه وأهدافه.