تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,651 |
تعداد مقالات | 13,405 |
تعداد مشاهده مقاله | 30,225,398 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 12,080,031 |
دراسة تحليلية في الفروق المعنوية بين أساليب القصر | ||||
بحوث في اللغة العربية | ||||
مقاله 4، دوره 8، شماره 15، دی 2016، صفحه 33-46 اصل مقاله (600.63 K) | ||||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | ||||
شناسه دیجیتال (DOI): 10.22108/rall.2021.21289 | ||||
نویسندگان | ||||
علي صياداني* 1؛ بهنام فارسي2 | ||||
1أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية وآدابها؛ جامعة الشهيد مدني بأذربيجان (الکاتب المسؤول). | ||||
2أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية وآدابها؛ جامعة يزد. | ||||
چکیده | ||||
إنَّ القصر من أهمّ مباحث يُطرح في علم المعاني وله طرقه المختلفة. يذهب کثيرٌ من القدماء إلى تسوية هذه الطرق في الدلالة وإلقاء المعنى على المتلقّي، ولکن في رأينا أنّ کل طريق من هذه الطرق يختلف عن آخر، فالقصر بالنفي والاستثناء يختلف عن القصر بـ«إنما»، والقصر بحرف «بل» يختلف عن القصر بحرف «لا». تسعى هذه الدراسة التي اعتمدت في خطتها على المنهج الوصفي ـ التحليلي أن تکشف عن الفروق الأساسية بين طرق القصر. وهذا بالتأکيد على أن لکل طريقة معنى يفرّقها عن الأخرى. توصّل البحث إلى أنّ تعدد طرق القصر دليل على ثراء اللغة و تنوع صيغها، وهي ليست من قبيل الترادف، بل بينها فروق جوهرية في النحو و المعنى. وملخص ما يتيح لنا ذکره في هذا المجال هو أن کلّ بنية للقصر يتضمن معنى لا يوجد في بنية أخرى و لها دلالة لا يمکن الحکم عليها بالمساواة بينها وبين الآخر. إضافة إلى أنَّ أحکام الوجوب انتقلت من النحو إلى البلاغة في تمييز مواضع المقصور من المقصور عليه، و هذا الوجوب يمنح المعنى دقة و بياناً. في النهاية جدير بالذکر أن القصر بصيغة "النفي والاستثناء" بما فيه من بنية نحوية متقن وخاص، يعدّ أهمَّ أساليب للقصر في إلقاء المعنى. | ||||
کلیدواژهها | ||||
أسالیب القصر؛ المعنى؛ النحو؛ الفروق الجوهریة | ||||
اصل مقاله | ||||
المقدمة ترتبط البلاغة العربیة بالنحو وقواعده ارتباطا وثیقاً، خاصة فی تلقّی المعانی المتواجدة فی کل جملة یلقیها المتکلم ولم یکن النحو العربی علما یهتم بتتبع علامات الإعراب والبناء فحسب، بل هو علم یهتم أیضا بمعانی الکلام ومقاصد المتکلمین، ولعل الدلیل على ذلک ما نجده منذ أول نشأته من إشارات ومحاور تهتم بالمعنى وتؤدی إلیه، فالکلام عند سیبویه ینقسم من حیث المعنى إلى خمسة أقسام «فمنه مستقیم حسن، ومحال، ومستقیم کذب، ومستقیم قبیح، وما هو محال کذب» (سیبویه، 1975، 1/ص25)، وکل ذلک قائم على أساس من النحو إسنادا وتعلیقا، وهذا إنما یثبت للنحو غایة ووظیفة هی أوسع مما علیه الآن، إذ تشیر هذه الأقسام إلى المعنى، ولا تقف عند سلامة النطق لما فی أواخر الألفاظ من علامات. والقصر من الأسالیب القائمة على بنیة نحویة معینة تحقق غرض التأکید والتخصیص بحسب ما عرفه البلاغیون، إذ قالوا: «هو تخصیص أمر بآخر بطریق مخصوص» (السیوطی، 1988، ج 1، ص181)، فهم یعنون بـ(الطریق المخصوص) صیغه التی تستلزم وجود طرفین فیه (مقصور ومقصور علیه) فضلا عن أداة تحقق معنى القصر بینهما ولعل هذا اللزوم بوجود الطرفین وأداة القصر بینهما هو الذی نعنیه بقیامه على بنیة نحویة معینة ـ کما سنرى ـ والدلیل على ذلک هو أن دلالة القصر قد تتحقق فی بعض صیغ الکلام، غیر أنها لم تعد من صیغ القصر وطرقه؛ لعدم قیامها على طریق معین أو مخصوص. فالاستفهام ـ على سبیل المثال ـ قد یحقق دلالة القصر من خلال خروجه عن أصل وضعه إلى غرض الإنکار، فإن من الإنکار ما فیه نفی وإثبات، بمعنى أنه ینفی أمرا عن أحد، ویثبته فی الوقت نفسه لآخرین، وهذه هی دلالة القصر بوجه عام، وبیان ذلک فی قوله تعالى: )وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِی مِنَ الْمُسْلِمِینَ( (فصلت41: 3)، فإن الکلام هنا استفهام، ولکنه حقّق دلالة القصر من خلال إنکاره أو نفیه أن یکون أحد أحسن قولا ممن دعا إلى الله، وإثباته فی الوقت نفسه (حسن القول) على أولئک الداعین، بید أن هذا لم یدخله ضمن صیغ القصر؛ لأنه لم یقم على صیغة مخصوصة بوجود طرفین ثابتین وأداة معهما، ولأنه لم یوضع لهذه الدلالة حقیقة وأصل، بل إنه خرج إلیه مجازا، بخلاف صیغ القصر، فإنها مع أساسها النحوی ـ کما ذکرنا ـ قد وضعت للدلالة على التخصیص حصرا، فلم ترد أبدا إلا دالة علیه. ومما تحسن الإشارة إلیه هنا، أن النحاة تنبهوا إلى صیغ القصر ودلالته، فلقد بیّنوها وأشاروا إلى دلالاتها، فقالوا مثلا: «وإنما احتجت إلى النفی والاستثناء؛ لأنک إذا قلت: (جاءنی زید) فقد یجوز أن یکون معه غیره، فإذا قلت: (ما جاءنی إلا زید) نفیت المجیء کله إلا مجیئه» (المبرد، د.ت، ج 4، ص389). ومن هذا المنطلق، سنتناول فی هذا المقال الجوانب المختلفة للقصر ونبین وظیفة النحو فی إدراک التمایز الدلالی لکل أسلوب بالنسبة للآخر. وللوصول إلى هذا المهم ندرس أولا طرق القصر والخصائص الدلالیة لکلّ منها ثمّ نتطرق إلى تبیین التمییز بین دلالة الطرق المختلفة للقصر والفروق الجوهریة بینها. أهمیة البحث تکمن أهمیة البحث فی کونه یلقی الضوء على قضیة بالغة الأهمیة، وهی طرق القصر فی اللغة العربیة ودلالات استخدامها، وهذا مبحث شائع الاستخدام بین عامة الناس وخاصّتهم، ویزید من أهمیة هذه الدراسة کونها تربط بین الجانبین النحوی والدلالی. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ مسالک القصر لم تکن سهلة، بل ظلّت وعرة لا یجیدها إلا أرباب البلاغة، لأنّ من أراد أن یسلک هذا الفن علیه أن یکون عالما بدقائقه، وخبیرا بأسالیبه وطرائق استعمالاتها والفروق التی توجد بینها. أسئلة البحث وفرضیاته ترصد هذه الدراسة طرق القصر فی البلاغة والنحو العربی؛ حیث تعالج سؤالا أصلیا یتفرع منه أسئلة أخرى. أما السؤال الأصلی فهو: - ما الفروق الدلالیة فی طرق القصر من منظور علم المعانی؟ والأسئلة الفرعیة التی تفرض نفسها للطرح فی هذا البحث هی: - ما دلالات أدوات القصر فی علم المعانی والنحو العربی؟ - ما أقوى الأدوات فی الدلالة على القصر؟ بناء على الأسئلة التی مرّ ذکرها نحاول فی هذه الدراسة أن نثبت الفرضیات التالیة ونناقشها: - طرق القصر تختلف أسالیبها، فما یجوز فی طریقة قد لا یجوز فی أخرى، فبینها فروق لابدّ من معرفتها. إن الطریقة الواحدة تختلف أسالیبها، فالقصر بـ«لکن» یختلف أسلوبا ودلالة عن القصر بـ «بل»، کما أن القصر بإنما یختلف عن القصر بالنفی و«إلا» وکذلک الحال فی بقیة الأداوات. - أهم دلالات القصر هو حصر صفة فی شخص والتأکید فی نفیها عن سائر الأفراد. - یکون أسلوب القصر بالنفی والاستثناء أقوى الأسالیب فی القصر. 1ـ 1ـ خلفیات الدراسة هناک دراسات معمقة خصبة تناول بشکل خاصّ أسالیب القصر ودلالاتها البلاغیة، منها کتاب أسالیب القصر فی القرآن الکریم وأسرارها البلاغیة لصباح عبید دراز. والباحث فی مؤلفه ذکر طرق القصر وأقسامه ودلالات کلّ منها ولکن ما ذکر الفروق التی توجد بین طرق القصر. والبحث الآخر هو أطروحة الباحث إسماعیل سیبوکر المعنون بـ«أسالیب القصر فی القرآن الکریم وآثاره النحویة». وهذا الباحث قد درس طرق القصر فی القرآن الکریم من منظور الدراسات النحویة وأشکال الآیات التی ورد فیها القصر من حیث موضعه النحوی. وکذلک ثمة بحوث نشرت فی المجلات الجامعیة مثل «القصر بالنفی والاستثناء فی نهج البلاغة دراسة دلالیة» للباحثین عقیل عبد الزهرة مبدر الخاقان ووردة صالح نغماش، والمنشورة فی مجلة اللغة العربیة وآدابها بجامعة کوفة. کما یظهر من العنوان، إنّ الباحثین قد درسا أسلوبا واحدا من أسالیب القصر دون أن یتعرضا إلى الفرق بین تلک الطرق. وکذلک الحال فی المقالة المعنونة بـ«أسلوب القصر وبلاغته فی القرآن الکریم». أما أولّ الإشارات ـ حسب علمنا البسیط ـ التی جاءت فی تبیین الفروق بین طرق القصر، فظهرت فی کتاب دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجانی حیث تحدث بشکل جزئی عن الفرق بین القصر بـ«إنّما» والقصر بالنفی و«إلا»، فحسب ولا یذکر شئیا آخر عن سائر أدوات القصر وبعده نرى هذه الأقوال تکررت فی کتاب مختصر المعانی وشروح التلخیص لتفتازانی وفی کتاب شرح التلخیص فی علوم البلاغة للقزوینی. ومن النقاد والباحثین المعاصرین وجدنا الدکتور إبراهیم أنیس، حینما یتعرّض إلى نقد أقوال الجرجانی حول الفرق بین القصر بـ«إنّما» والقصر بالنفی و«إلا»، أبدى آراء نتعرض لنقدها أثناء البحث إن شاء الله. فمع کلّ هذه المباحث التی أنجزت حول موضوع القصر، ما وجدنا بحثا مستقلا یتناول موضوع دراسة وتحلیل الفروق الأساسیة بین طرق القصر، فالفارق الأساسی بین بحثنا هذا وسائر البحوث المنشورة قبل بحثنا، أن هذه المقالة تعدّ أول بحث علمی أعدّ لتحلیل الفروق الجوهریة لأسالیب القصر الأربعة وفق علمی؛ البلاغة والنحو؛ لأن المقالات المسبقة على مقالنا أولا ما ذکروا الفروق بین الأسالیب، وإن تعرضوا إلیها یکون بشکل بسیط بحیث لا یسمن ولا یغنی وثانیا لم یتناولوا کل الطرق الأربعة، فهذا دلیل على جدة موضوعنا. منهج البحث یمکن تلخیص المنهج الذی سرنا علیه بأنّه وصفی تحلیلی، وفق النقاط التالیة: أولا:حرصنا على ذکر میزات أسالیب القصر الأربعة ودلالاتها فی النحو والبلاغة. وثانیا: أجرینا المقارنة بین هذه الأسالیب من حیث دلالاتها فی الجملة وثالثا: حلّلنا الفروق الجوهریة لأیّ من أسالیب القصر. قیمة أسلوب القصر فی علم البلاغة أسلوب القصر من الأسالیب الغنیة بالاعتبارات الدقیقة والملاحظات العدیدة، فهو فنٌّ دقیق المجرى، لطیف المغزى، جلیل المقدار، کثیر الفوائد، غزیر الأسرار، تأمل مثلاً قول عبید الله بن قیس الرقیات:
تجده یفید المبالغة فی وصف مصعب بالشجاعة والإقدام بعبارة مختصرة وأسلوب موجز، وقد آثر الشاعر التعبیر بـ"إنما" لیدل على أن اتصاف مصعب بصفة الشجاعة أمر ظاهر بیّن؛ فتلک خصوصیة من خصوصیات "إنما"، وبهذا یتضح لک أن أسلوب القصر فی البیت قد حقق ثلاث مزایا: «الإیجاز والمبالغة والدلالة على شهرة مصعب وذیوع شجاعته». ویرجع ثراء أسالیب القصر وکثرة فوائدها إلى تنوّع طرقها وما بین تلک الطرق من فروق دقیقة واعتبارات وملاحظات لطیفة. 2ـ طرق القصر هناک طرق عدة للقصر، ولکن جمهور البلاغیین اتفقوا على أربعة منها، وتلک هی (السکاکی، 1981، ص 508؛ القزوینی، 1405هـ.ق، ص 118؛ القزوینی، 1982، ص 76؛ التفتازانی، د.ت، ج 2، ص166؛ التفتازانی، 1330 هـ، ص 204؛ الجندی، 1962، ص 134؛ الهاشمی، 1960،ص 180): - القصر بـ(إنما)؛ - القصر بـ(النفی والاستثناء)؛ - القصر بـ(العطف)؛ - القصر بـ(التقدیم ما حقه التأخیر). وهذا یعنی قیامه على أساس من النحو، فإن تلک الطرق أسالیب مشهورة فیه. ولعل ما حقق القصر فیه أمران: الأول، هو قیام تلک الأسالیب على طرفین مخصوصین ومعینین، حتى ثبت أحدهما مقصورا والآخر مقصورا علیه، وذلک یکون بین «المبتدأ والخبر وبین الفعل والفاعل وبین الفاعل والمفعول وبین المفعولین وبین الحال وذی الحال» (السکاکی، 1981، ص507). والآخر، أن تلک الأسالیب أفادت قوة التأکید من خلال طبیعة الأدوات فیها، أو من خلال بنیتها وترکیبها حتى اتفقت ومعنى القصر الذی هو «تأکید على تأکید» (القزوینی، 1405 هـ ، ص 126). ونحن نبیّن ذلک أکثر بعد الوقوف على کل طریقة منها.
2ـ1ـ القصر بـ«إنما» تقوم هذه الطریقة على أساس نحوی یتمثل فی وجود أداة تأکیدیة منه، و هی (إن) وقد دخلت علیها (ما) ـ الکافة المؤکدة ـ لوظیفتین: الأولى، نحویة، تتمثل فی کفّها (إن) عن العمل، وتهیئتها للدخول على الأفعال بعد ما کانت مختصة بالأسماء حصرا، والأخرى، معنویة، تتمثل فی إفادتها (إن) تأکیدا على تأکیدها حتى صار غرضها موافقا لغرض القصر الذی هو تأکید على تأکید (الازهری، د.ت،ج 1، ص225؛ السیوطی، د.ت، ج 1، ص144؛ السیوطی، 1967، ج 2، ص49 ـ 50). وأما الجهة التی یقع علیها ذلک التأکید، فهی النسبة بین الطرفین (المقصور والمقصور علیه) بغض النظر عن کونهما عمدة أو فضلة فی الکلام، فقوله تعالى : )وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُکُمْ وَأَوْلادُکُمْ فِتْنَةٌ( (الأنفال 8 : 28)، مبنی على قوة تأکید النسبة بین المسند والمسند إلیه وهما المقصور والمقصور علیه؛ وذاک لتصدر (إنما) أول الکلام. 2ـ2ـ القصر بـ«النفی والاستثناء» تقوم هذه الطریقة على أساس من النحو أیضا، وهو الاستثناء المفرغ فیه، و لعل هذه الطریقة من أمسّ الطرق دلالة بغرض القصر أو الاختصاص؛ وذاک لبنائها على مطلق النفی ومخصص الإثبات، فأصل قولنا: (ما قام إلا محمد) هو (قام محمد)، ولکن لما تردد شک فی قائم غیره نفینا القیام مطلقا، وأثبتناه له، ومن ثمّ صارت الأداتان (ما وإلا) کالأداة الواحدة؛ لوقوعهما جملة واحدة فی الکلام. 2ـ3ـ القصر بـ«العطف» وقد یکون القصر بـ(العطف)، بواحد من ثلاثة أحرف فیه، هی: (لکن، وبل، ولا) ولعل ما یحقق معنى القصر فی الحرفین الأولین هو ما فی دلالتهما من تقریر ما قبلهما، وإثبات نقیضه لما بعدهما (ابن عقیل، 1974، ج 3، ص236)، وذلک نحو قولنا: (ما جاء زید لکن عمرو) وقولنا: (ما جاء زید بل عمرو). فالقصر هنا قائم على النفی والإثبات أیضا، من حیث نفی شیء معین مخصوص، وإثبات ضده بهذین الحرفین. أما الحرف (لا) فیتحقق القصر فیه من خلال إفادته النفی بحد ذاته، ولذا یکون المنفی به بعده لا قبله، ویکون السابق له هو الإثبات، نحو قولنا: (جاء زید لا عمرو) و(اضرب زیدا لا عمرا) فواضح وجه القصر والتأکید من هذا الأسلوب، فإن النفی أکد الحکم المثبت من خلال رفع الشک عنه وقصر الأمر علیه. ومما جاء على ذلک قوله تعالى: )قُلْ مَنْ بِیَدِهِ مَلَکُوتُ کُلِّ شَیْءٍ وَهُوَ یُجِیرُ وَلا یُجَارُ عَلَیْهِ( (المؤمنون23: 88) فقد قصر تعالى الإجارة علیه من دون غیره، وذلک من خلال إثباتها له أولا، ونفیها عمن سواه آخرا. وهناک قرینة أخرى تدل على هذا المعنى، وهی تقدم الفاعل المعنوی على الفعل فی جملة الإثبات، فقال : (وهو یجیر) إذ هی تدل على التخصیص أیضا، وأحسب ذلک من قبیل التوافق أو الوحدة المعنویة بین المتغیرات النحویة بوجه عام. 2ـ4ـ القصر بـ«التقدیم ما حقه التأخیر» تکاد هذه الصیغة تتفق شکلا ودلالة مع جوانب من ظاهرة التقدیم والتأخیر، فقد ذکرنا هناک أن من التقدیم ما یفید الاختصاص، بل إن الاختصاص أهم معانیه، وذلک نحو تقدیم الخبر على المبتدأ فی قوله تعالى : )أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ( (الأعراف7: 54)، ونحو تقدیم المفعول به على الفعل فی قوله تعالى : )بَلْ إِیَّاهُ تَدْعُونَ( (الأنعام6: 41) فقد أفاد کلا التقدیمین سمة الاختصاص. ولعل ما یمکن زیادته هنا هو أن هذه الصیغة مع ما تفیده من قصر واختصاص، فقد تتفق مع إحدى صیغتی القصر ـ وهما (إنما) و(النفی والاستثناء) ـ فیکون القصر بهما مرکبا، والدلالة أکثر اختصاصا، ومن ذلک قوله تعالى: )أُولَئِکَ الَّذِینَ لَیْسَ لَهُمْ فِی الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ( (هود11: 16)، فلو کان القصر بالتقدیم فحسب لأفاد معنى الاختصاص، بید أن (النفی والاستثناء) أضفى على ذلک الاختصاص دقة وبلاغة. وهنا نودّ الإشارة إلى أمر هامّ بین هذا القصر والمعنى، فقد ذکرنا أن هذا الاتفاق یزید فی الاختصاص حتى یصیر القصر بین طرفیه أکثر لزوما، وذا حدود مخصوصة لا یتجاوز أحدهما الآخر أبدا، ولذا وجدنا أن صیغة (النفی والاستثناء) تدخل على صیغة (التقدیم) أحیانا، ولا تدخل علیها إلا بردّ المقدم إلى أصل وضعه أحیانا أخرى بحسب ما یطلبه المعنى والسیاق. فمن صیغ التقدیم فحسب قولنا مثلا: (علیک البلاغ) فقد قدمنا الخبر على المبتدأ لإفادة التخصیص، غیر أن هناک آیات ورد القصر فیها مرکبا، إذ دخلت (إنما) تارة و(النفی والاستثناء) تارة أخرى على هذه الصیغة نفسها ـ والخبر ما زال مقدما ـ وذلک زیادة فی معنى القصر والتخصیص، نحو قوله تعالى: )فَإِنَّمَا عَلَیْکَ الْبَلاغُ( (آل عمران3: 20) وقوله أیضا: )مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ( (المائدة 5: 99)، ولعل الفرق واضح بین الحالتین، فالقصر المرکب فی الآیتین أبلغ دلالة على التخصیص مما لو جاء القصر مفردا کما مثلنا فی قولنا أولا. غیر أن هذا القصر المرکب لم یکن مطردا فی کل معنى وسیاق، إذ نرى آیات یقع فیها القصر بصیغة (التقدیم والتأخیر) فتفید الاختصاص، نحو قوله تعالى: )أَلا لَهُ الْحُکْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِینَ( (الأنعام6: 62) إلا أن دخول (النفی والاستثناء) على مثل هذا اللفظ والمعنى فی آیة أخرى لم یکن إلا بردّ الخبر إلى أصله من التأخیر ؛ لئلا یتحدد الاختصاص، نحو قوله تعالى : )إِنِ الْحُکْمُ إِلَّا لِلَّهِ( (الأنعام6: 57)، فلم یقل: (إن لله إلا الحکم) کما مرّ معنا فی القصر المرکب ؛ لأنه ـ والحال هذه ـ سیزید فی التخصیص ولکن على حساب المعنى، إذ ینفی أن یکون لله شیء إلا الحکم، وهذا من المعنى المحال، وفضلا عن ذلک، فإن الصیغة فی الآیة تنفی أیة مشارکة لله فی الحکم، بخلاف الصیغة المفترضة، فإنها لا تمنع مشارکة أحد لله فیه وذلک من حیث اختلاف موقع اللفظین بین المقصور والمقصور علیه[1]. تلک هی طرق القصر المتفق علیها عند جمهور البلاغیین، ولکن هناک منهم من زاد علیها طرقا أخرى، رآها مناسبة لأساس القصر وصیغه، ومؤدیة ـ فی الوقت نفسه ـ وظیفته من مبالغة واختصاص وتأکید، ولعل أبرزها طریقتان (الرازی، 1985، ص 77؛ السیوطی، 1967، ج 2، ص110، 190). الطریقة الأولى : هی القصر بـ(تعریف الجزأین) وذلک یکون بین المبتدأ وخبره نحو قولنا : (محمد الناجح). والطریقة الأخرى : هی القصر بـ(ضمیر الفصل) وذلک یکون بین المبتدأ وخبره أیضا، ولکن بوضع ضمیر الفصل بینهما حال کونهما معرفتین نحو قولنا : (محمد هو الناجح).
3ـ التمییز بین طرق القصر نحوا ومعنى وقف بعض أرباب البلاغة عند طرق القصر فذکروا أقسامها وخصائصها وبعض أوجه الاختلاف فیما بینها، من حیث الدلالة (الجرجانی، 1969، ص 316ـ322؛ القزوینی، 1405، ص 126ـ130؛ التفتازانی، د.ت، ج 2، ص76)، فمثلا عبد القاهر الجرجانی یتعرض إلى الفرق بین القصر بإنّما والقصر بالنفی و«إلا» ویذکر أنّ «لا» تحسن بعد «إنّما» إذا لم یکن الأمر خاصّا، فإذا کان خاصّا، فإنّها لا تحسن، تقول: «إنّما نجح خالد لا سعید» و«إنّما عاد أحمد لا علی» جاز النفی بعد «إنّما» لأنّ النجاح والعودة لیسا خاصّین بأحد دون آخر. فإذا قلت: «إنما یتذکَّرُ أُولو الألبابِ»، لم یحسن أن تنفی بعدها فتقول إنما یتذکَّرُ أُولو الألبابِ لا الجهالُ لأنّ الفهم لا یکون إلا من أولی الألباب (للمزید انظر عبد القاهر الجرجانی، دلائل الإعجاز، تحقیق عبد الحمید هنداوی، ص 231ـ229). هذا مجمل ما قاله الجرجانی عن الفرق بین القصر بإنما والقصر بالنفی وإلا ولکن عندما تقصینا رأیه فی الفرق بین سائر أدوات القصر ما وجدنا رأیا له فی هذا الحقل. 3ـ1ـ التمییز بین القصر بـ(إنما ) والقصر بـ( النفی والاستثناء). إن أکثر الفروق والتمییزات بین طرق القصر کانت بین طریقة (إنما) و (النفی والاستثناء)، ولعل سر ذلک هو کثرة استعمالهما دون غیرهما، ومن تلک الفروق التی وقف عندها الجرجانی أن طریقة (إنما) تجیء لخبر لا یجهله المخاطب ولا یدفع صحته، أو لمن ینـزل هذه المنـزلة، نحو قوله تعالى : )إِنَّمَا یَسْتَجِیبُ الَّذِینَ یَسْمَعُونَ( (الأنعام6: 36) وکذلک قوله : )إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ یَخْشَاهَا( (النازعات79: 45)، فکل من الآیتین «تذکیر بأمر ثابت معلوم؛ وذلک أن کل عاقل یعلم أنه لا تکون استجابة إلا ممن یسمع ویعقل ما یقال له .. وکذلک معلوم أن الإنذار، إنما یکون إنذارا، ویکون له تأثیر إذا کان مع من یؤمن بالله ویخشاه، فأما الکافر الجاهل فالإنذار وترک الإنذار معه واحد» ( الجرجانی، 1969، ص 316؛ التفتازانی، د.ت، ج2، ص76). «وأما الخبر بالنفی والإثبات نحو: (ما هذا إلا کذا وإن هذا إلا کذا) فیکون للأمر ینکره المخاطب ویشک فیه» (الجرجانی، 1969، ص 317)، نحو قوله تعالى: )مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِیُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى( (الزمر39: 3)، فالکافرون اعتقدوا إنکار الرسل عبادتهم، فجاؤوا بهذه الصیغة فی التعبیر لیثبتوا لهم أن عبادتهم الأوثان مقصورة على تقریبهم إلى الله. فالجرجانی یجعل (النفی والاستثناء) أبلغ من (إنما)، ولعل ما ذهب إلیه حقیقة نجدها فی القرآن الکریم، فمتى ما اجتمعت الصیغتان لغرض التأکید کانت صیغة (النفی والاستثناء) هی المؤکدة لصیغة (إنما)؛ وذاک لما تفضلها فی مزیة المبالغة والتأکید، فضلا عن أنه لا یصح لغة ونحوا أن یکون المؤکِد أقل معنى ومبالغة من المؤکَد، وبیان ذلک فی قوله تعالى: )یَسْأَلونَکَ عَنِ السَّاعَةِ أَیَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّی لا یُجَلِّیهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِی السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِیکُمْ إِلَّا بَغْتَةً ( (الأعراف7: 187)، فحیث تعددت صیغ القصر فی إثبات علم الساعة لله وقصره علیه، کانت الصیغة الثانیة ـ (ما وإلا) ـ أقوى معنى وأبلغ دلالة، وإلا ما صح وقوعها فی مقام التأکید. ولکن قد یقع الأمر خلافا لما ذهب إلیه الجرجانی من إفادة کل صیغة دلالة تتناسب وحال المخاطب أو السیاق، إلا أنه تنبه إلى ذلک أیضا، وهو ما ذکرناه له أولا من تنـزیل المخاطب هذه المنـزلة، إذ قال: «ومما یجب علیک أن تجعله على ذکر منک من معانی (إنما) ما عرفتک أولا من أنها قد تدخل فی الشیء على أن یخیل فیه المتکلم أنه معلوم، ویدعی أنه من الصحة بحیث لا یدفعه دافع [...] ومن ذلک قوله تعالى حکایة عن الیهود: )وَإِذَا قِیلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ( (البقرة2: 11) دخلت (إنما) لتدل على أنهم حین ادعوا لأنفسهم أنهم مصلحون، أظهروا أنهم یدَّعون من ذلک أمرا ظاهرا معلوما، ولذلک أکد الأمر فی تکذیبهم والرد علیهم، فجمع بین (ألا) الذی هو للتنبیه، وبین (إن) الذی هو للتأکید، فقیل : )أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَکِنْ لا یَشْعُرُونَ( (البقرة2: 12)» (الجرجانی، 1969، ص335 ـ 336) ولعل قوله تعالى: )وَلَکِنْ لا یَشْعُرُونَ( هو زیادة تأکید ما ذهب الجرجانی إلیه. أما إن جاء (النفی والاستثناء) لشیء هو من المعلوم الذی لا شک فیه ـ وهو خلاف موضعها ودلالتها ـ «فذلک لتقدیر معنى صار به فی حکم المشکوک فیه. فمن ذلک قوله تعالى: )وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِی الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِیرٌ( (فاطر35: 22، 23) إنما جاء ـ والله أعلم ـ بـ(النفی والإثبات)؛ لأنه لما قال تعالى: (وما أنت بمسمع من فی القبور) وکان المعنى فی ذلک أن یقال للنبی J أنک لا تستطیع أن تحول قلوبهم عما هی علیه من الإباء، ولا تملک أن ترفع الإیمان فی نفوسهم مع إصرارهم على کفرهم واستمرارهم على جهلهم، وصدهم بأسماعهم عما تقوله لهم، وتتلوه علیهم، کان اللائق بهذا أن یجعل حال النبی J حال من قد ظن أنه یملک ذلک، ومن لا یعلم یقینا أنه لیس فی وسعه شیء أکثر من أن ینذر ویحذر، فأخرج اللفظ مخرجه، إذا کان الخطاب مع من یشک فقیل: (إن أنت إلا نذیر)» (الجرجانی، 1969، ص 318 ـ 319). ومن ذلک ما جاء فی قوله تعالى: )قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ( (إبراهیم14: 10)، فالقائلون لا ینکرون أن الرسول لا یکون بشرا، ولکنهم جاؤوا بهذه الصیغة الدالة على الإنکار لتنـزیل المخاطبین منـزلة من ینکر أنه بشر(القزوینی، 1405، 128؛ التفتازانی، د.ت، ج2، ص79)، وبعبارة أخرى، فإن ظن القائلین إنکار المخاطبین کونهم بشرا هو الموجب فی استعمال هذه الصیغة من التعبیر. وأما قوله تعالى حکایة عن الرسل فی ردهم على ذلک القول من الکافرین: )قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُکُمْ وَلَکِنَّ اللَّهَ یَمُنُّ عَلَى مَنْ یَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ( (إبراهیم14: 11)، فمع أن قولهم کان جوابا و ردا على الکافرین و هم لا ینکرون علیهم هذا، إلا أنه من باب «مجاراة الخصم للتبکیت والإلزام والإفحام، فإن من عادة من ادعى علیه خصمه الخلاف فی أمر هو لا یخالف فیه، أن یعید کلامه على وجهه ... فالرسل Dکأنهم قالوا: إن ما قلتم من أنّا بشر مثلکم هو کما قلتم لا ننکره، ولکن ذلک لا یمنع أن یکون الله تعالى قد منّ علینا بالرسالة» ( القزوینی، 1405، ص128؛ التفتازانی، د.ت، ج2، ص79). و إذا تبین هذا، فإنما یدل على أن القصر بـ(النفی والاستثناء) أقوى وأبلغ دلالة من القصر بـ(إنما). ومن الفروق التی شهدها الجرجانی بین هاتین الطریقتین أیضا، هو أن (إنما) تفید مزیّة التعریض، وقد جعلها فی أحسن مواضعها، إذ قال: «ثم اعلم أنک إذا استقریت وجدتها أقوى ما تکون وأعلق ما ترى بالقلب إذا کان لا یراد بالکلام بعدها نفس معناه، ولکن التعریض بأمر هو مقتضاه، نحو أنّا نعلم أن لیس الغرض من قوله تعالى: )إِنَّمَا یَتَذَکَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ( (الزمر39: 9)، أن یعلم السامعون ظاهر معناه، ولکن أن یذم الکفار، وأن یقال إنهم من فرط العناد، ومن غلبة الهوى علیهم، فی حکم من لیس بذی عقل، وإنکم إن طمعتم منهم فی أن ینظروا ویتذکروا کنتم کمن طمع فی ذلک من غیر أولی الألباب» (الجرجانی، 1969، ص 333 ـ 334). والحق أن هذه المزیّة لا تکون لـ(إنما) دون (ما وإلا) فهما فیها سواء؛ وذاک لتناوب وقوعهما على الجملة نفسها، فهناک عدد من الآیات یکون القصر فیها بـ(النفی والاستثناء) للعبارة نفسها، نحو قوله تعالى: )وَمَا یَذَّکَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ( (البقرة2 : 269)، وهی تحقق مزیّة التعریض أیضا. وقد حاول الدکتور إبراهیم أنیس إیجاد فرق آخر بین هاتین الصیغتین، استنبطه من دلالة القصر على التأکید من جهة، ومن تباین الصیغتین إثباتا ونفیا ـ بحسب رأیه ـ من جهة أخرى، ویربط ذلک فی السیاق، فالصیغة الأولى ـ عنده ـ تأکید لـ(الإثبات)، والصیغة الأخرى تأکید لـ(النفی)، ویرى ذلک مطردا فی القرآن الکریم، «فإذا سبق الکلام بـ(الإثبات) جاء القصر بـ(إنما) مثل الآیات: )قُلْ إِنَّمَا الْآیاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِیرٌ مُبِینٌ( (العنکبوت29: 50)، ومثل: )قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِیرٌ مُبِینٌ( (الملک67: 26)» (انیس، د.ت، ص194)، وإذا سبق بـ(النفی) جاء القصر بـ(النفی والاستثناء)، «سواء کان هذا الذی سبق ملفوظا أو ملحوظا، ونراه یسبق فی غالب الأحیان بمعنى منفی، ثم یأتی هذا الأسلوب مؤکدا لذلک المعنى المنفی، فهو أسلوب نفی یؤکد نفیا سابقا بطریق غیر مباشر» (انیس، د.ت، ص 194)، ومن ذلک قوله تعالى: )أَوَلَمْ یَتَفَکَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِیرٌ مُبِینٌ( (الأعراف7: 184) وقوله أیضا: )وَمَا مَسَّنِیَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِیرٌ وَبَشِیرٌ لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ( (الأعراف7: 188)، «فقد نفى سبحانه وتعالى فی الآیة الأولى أن به جنة، أو بعبارة أدق، أکد هذا النفی الذی یستفاد من کلام سابق، وفی الآیة الثانیة أکّد نفی أن الرسول قد مسّه سوء، ویتفق هذا مع ما یقوله أهل البیان فی باب الفصل والوصل من أن الفصل فی الجملتین فی کل آیة من هاتین الآیتین، إنما کان لأن الجملة الثانیة مؤکدة للأولى تفید معناها» (أنیس، د.ت، ص194)، ثم قال معقبا: فقد «أدرکنا أن القصر بـ(النفی مع الاستثناء) لا یماثل القصر بـ(إنما) وإن ما قاله البلاغیون من تساوی الأسلوبین فیه کثیر من التجوز [...] وذلک لأن الأسلوب الأول أسلوب نفی، فی حین أن الأسلوب الآخر ـ القصر بـ(إنما) ـ أسلوب تقریر وإثبات» (المرجع السابق، ص 194). ولکن لنا ملاحظات على ما ذهب إلیه الدکتور أنیس، فالصیغتان کلاهما تفیدان التقریر والإثبات ـ کما ذکرناه سلفا ـ ولا سیما مع (ما وإلا) إذ هما بمثابة الأداة الواحدة لنفی الشک مطلقا وإثبات الیقین، ولیس لتأکید المنفی من الکلام، ثم إن جعل کل صیغة مختصة وأسلوب معین لم یکن مطردا فی القرآن، فلیست (إنما) مؤکدة للمثبت من کلامه، و لیست (ما وإلا) مؤکدة للمنفی منه أبدا، بل هما صیغتان تتناوبان فی أعقاب المتشابه من الکلام؛ لأن غایتهما ترتبطان بمعنى السیاق وغرضه، ولیس بشکله من نفی وإثبات. فمن ورود (إنما) عقب أسلوب النفی ما جاء فی قوله تعالى: )قُلْ هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لا یَعْلَمُونَ إِنَّمَا یَتَذَکَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ( (الزمر39: 9)، فالاستفهام خرج إلى معنى النفی، ولکنه أعقب بالقصر بـ( إنما). وخلاف هذا، هو أن یتصدر الإثبات کلاما، ثم یُعقب بقصر طریقته (النفی والاستثناء) نحو قوله تعالى: )یَعِدُهُمْ وَیُمَنِّیهِمْ وَمَا یَعِدُهُمُ الشَّیْطَانُ إِلَّا غُرُوراً( (النساء4: 120)، وقوله کذلک : )وَقَالَ مُوسَى یَا فِرْعَوْنُ إِنِّی رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِینَ حَقِیقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ( (الأعراف7: 104، 105)، وما هذا إلا دلیل على أن الواجب لیس هو التناسب بین الصیغة وشکل الکلام، بل الواجب هو التناسب بین الصیغة والمعنى، فتلازم الصیغة مع الأمر الذی ینکره المخاطب أو یشک فیه هو الذی استوجب وقوعها هنا، فالآیة الأولى تعریض بأصحاب الشیاطین، والآیة الأخرى حوار مع فرعون، ولا یخفى ما لهؤلاء من شک وإنکار. أما اتهامه البلاغیین بتسویتهم بین الأسلوبین ففیه من التجوز الکثیر، إذ هو غض النظر عما ذکره الجرجانی ومن تبعه من البلاغیین (الجرجانی، 1969، ص 316 ـ 322؛ القزوینی، 1405، ص 126 ـ 130؛ التفتازانی، د.ت، ج2، ص76). وأخیرا فی مجال هذا التفریق بین الصیغتین، یمکننا أن نزید على ذلک فرقین مهمین فی البنیة النحویة شکلا ومعنى. أولا: إن صیغة (النفی و الاستثناء) تحقق بناء جدیدا فی وضع الرتب النحویة ضمن السیاق، فضلا عما تحققه من معان وأغراض للجملة لا تکون بـ(إنما)؛ و ذلک أن (ما) تجعل الابتداء بالنکرة جائزا؛ لما فی النفی من مسوغ للابتداء بها (الأشمونی، 1955، ج 1، ص96)، وفی ذلک یتحقق غرض یتمثل فی بلوغ النفی تمامه؛ لأن نفی النکرة یکون نفیا مطلقا من حیث دلالة النکرة ـ أحیانا ـ على العموم والإطلاق، ومن ثم استثناء ما یراد إثباته فی الکلام، ولعل ذلک یحقق للمعنى مبالغة وللسیاق تناسبا، ومن ذلک قوله تعالى: )لَقَدْ کَفَرَ الَّذِینَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ( (المائدة 5: 73) فواضح أن لفظة (إله) ما کان لیبتدأ بها لولا اعتمادها على نفی لأنها نکرة، وواضح أیضا، أن نفی النکرة هنا یراد منه الإطلاق لإثبات إله واحد بصیغة الاستثناء بعده. ولعل لهذه البنیة صلة بالسیاق، فلقد ابتدأت الآیة بحکم الله على الذین أشرکوا بالکفر، لقولهم: (إن الله ثالث ثلاثة) فرد الله علیهم ردا معجزا بمطلق النفی ومخصص الإثبات. ثانیا: إن صیغة (النفی والاستثناء) تکوِّن مساحة أوسع فی القصر من خلال تجاوز قصرها من اسم على اسم أو فعل على اسم إلى جملة فعلیة على جملة فعلیة أخرى، وهذا لا یکون بـ(إنما)، ومن ذلک قوله تعالى: )وَمَا أَرْسَلْنَا فِی قَرْیَةٍ مِنْ نَبِیٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ یَضَّرَّعُونَ( (الأعراف7: 94)، فإن القصر فی الآیة لم یکن بین لفظین مفردین، بل کان بین جملتین، وهذا ما لا یکون بغیر هذه الطریقة أبدا. 3ـ 2ـ التمییز بین القصر بـ(النفی والاستثناء) والقصر بـ(حرفی العطف بل ولکن). یقوم القصر فی هاتین الطریقتین على النفی والإثبات، فبینهما تشابه من حیث الأساس الذی یقوم علیه القصر، ولکن هناک اختلاف فی الأمر المنفی من جهتین: الجهة الأولى، تتمثل فی أن النفی فی الصیغة الأولى یکون عاما مطلقا، بخلافه فی الصیغة الأخرى فإنه یکون خاصا مقیدا، والجهة الأخرى، تتمثل فی أن الأمر المنفی فی الصیغة الأولى یکون محذوفا ؛ إیجازا واختصارا للعلم به ولعدم الفائدة من ذکره ـ لکونه مطلقا ـ بخلافه فی الصیغة الأخرى فإن الأمر المنفی یذکر وجوبا لعدم العلم به ـ لکونه مخصوصا ـ ولا یجوز إثبات ضد الشیء ونقیضه إذا کان معدوما من الکلام. فالنفی الذی یسبق هذین الحرفین هو نفی مخصوص، ولذا ترد هذه الصیغة فی الأمر الذی یحتاج إلى تفصیل لشیء معین من قول وظن واعتقاد، فتنفیه وتثبت ضده، بل وتقصر الأمر علیه. و مما جاء على ذلک قوله تعالى: )مَا کَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِکُمْ وَلَکِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِیِّینَ( (الأحزاب33: 40)، فإن هذا التفصیل وذکر الأمر المنفی ینبئ عن أهمیته لتنبیه الناس علیه، ولتأکید کون الآیة مقصودة فی أمرهم لتصحیح ما ذهبوا إلیه، و لو عدنا إلى مظان المفسرین لوجدنا سر ذکر الأمر المنفی وإثبات ضده على هذا النحو من التفصیل، فقد ذکر المفسرون أن رسول الله J لما تزوج زینب ـ زوجة ابنه بالتبنی ـ قال الناس: (إن محمدا قد تزوج امرأة ابنه) فنـزلت الآیة (القرطبی، 1967، ج 14، ص196). وقد وضح بعضهم الأمر المنفی بقولهم: «أی لم یکن أبا رجل منکم على الحقیقة حتى یثبت بینه وبین ما یثبت بین الأب وولده من حرمة الصهر والنکاح» (الزمخشری، 1983، ج 3، ص264)، ووضح بعض آخر القول المثبت فقالوا: «أی لو لم أختم به النبیین لجعلت له ولدا یکون بعده نبیا» ( الجوزی، 1964،ج 6، ص393). و من هنا یتضح سرّ هذا التفصیل، و وجوب ذکر الأمر المنفی، وعدم العدول عنه إلى لغة الإیجاز والتعبیر بـ(النفی والاستثناء) فیقال مثلا (ما محمد إلا رسول وخاتم النبیین) لأنها ـ ولا شک ـ لا تحقق تلک الدلالات والأغراض التی اضطلعت صیغة (العطف) بتأدیتها. أما ما وقع من خلاف بین النحاة فی عدّ (لکن) هنا عاطفة أو غیر عاطفة بناء على اقتران الواو بها (ابن هشام، د.ت،ج 1، ص292 ـ 293)، فإننا مع الرأی الذی یعدها عاطفة؛ لما یأتی من أسباب: ـ سلامة اللفظ من التقدیر مع تمام المعنى بها، إذ إن الذین یعدونها غیر عاطفة یقدرون محذوفا لیستقیم لهم الکلام، نحو (ولکن کان رسول الله). ـ إن الواو ـ عند القائلین بالعطف ـ زائدة لازمة أو غیر لازمة، فلا یضیر ذاک الاقتران. ـ إن الواو ـ فی تقدیری ـ لا تتعارض مع (لکن)؛ لأنها وإن اشترکت معها فی صیغة العطف نحوا، بید أنها تختلف عنها دلالة ومعنى، فـ(الواو) ذات دلالة على التشریک بین المعطوف والمعطوف علیه مطلقا لفظا وحکما، بخلاف (لکن) فهی ذات دلالة على التشریک بینهما لفظا فحسب، فلا مانع إذن من اقترانهما معا. ـ إن معنى القصر متحقق فیها هنا، فهی أداة واقعة بین نفی وإثبات وبین مقصور ومقصور علیه. 3ـ 3ـ التمییز بین القصر بـ(إنما) والقصر بـ(حرف العطف لا) میّز الجرجانی بین صیغتی القصر بـ إنما) والقصر بـ(لا) فقال: «واعلم أنها ـ أی (إنما) ـ تفید الکلام بعدها إیجاب الفعل لشیء ونفیه عن غیره، فإذا قلت: (إنما جاءنی زید) عقل منه أنک أردت أن تنفی أن یکون الجائی غیره، فمعنى الکلام معها [...] إیجاب الفعل لشیء ونفیه عن غیره دفعة واحدة [...] ولیس کذلک الأمر فی: (جاءنی زید لا عمرو) فإنک تعقلهما فی حالین» (الجرجانی، 1969، ص 320) ؛ ولعل هذا هو السر فی قلة ورود هذه الصیغة فی القرآن الکریم، بخلاف صیغة (إنما) فإن ورودها کثیر فیه. 3ـ 4ـ التمییز بین القصر بـ(تعریف الجزأین) والقصر بـ(ضمیر الفصل) إن هاتین الطریقتین تکادان تتشابهان لولا أن فی الثانیة اختصاصا وتأکیدا أکثر مما علیه الأولى، وذلک من خلال وقوع ضمیر الفصل بین الجزأین المعرفین، فقولنا: (محمد الناجح) فیه اختصاص وتأکید، ولکنه یختلف عن قولنا: (محمد هو الناجح) إذ فیه المبالغة فی الاختصاص والتأکید. وعلى أساس من هذا، یمکن قیاسهما على الصیغتین (إنما) و(النفی والاستثناء) ـ کما مر آنفا ـ من حیث إن فی الأولى إثبات أمر لا یجهله المخاطب ولا ینکره، وإن فی الثانیة فضل مبالغة علیها لتثبت أمرا مجهولا أو ترد على إنکار. ولعل فی ذلک دلیلین: أحدهما، نحوی معنوی، ویتضح من زیادة الضمیر فی الثانیة دون الأولى، إذ هو فی حکم تکریر المبتدأ مرتین تأکیدا، والآخر، نقلی، ویتضح من خلال ورود الصیغتین فی القرآن الکریم، فمتى ما کان الکلام لتقریر أمر لا جاهل ولا منکر فیه وقع القصر بـ(تعریف الجزأین) ومتى ما کان الکلام خلاف ذلک فـ(ضمیر الفصل) هو صیغة القصر فیه. فمن الأول، ما جاء فی قوله تعالى: )رَضِیَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِکَ الْفَوْزُ الْعَظِیم( (المائدة5: 119)، ومن الآخر، ما جاء فی قوله أیضا: )قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا یَنْفَعُنَا وَلا یَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ کَالَّذِی اسْتَهْوَتْهُ الشَّیَاطِینُ فِی الْأَرْضِ حَیْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ یَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِینَ( (الأنعام6: 71). فإذا کان الکلام فی الآیة الأولى خاصا بالمؤمنین ولا یستلزم زیادة قصر فیه، إذ وقع بـ(تعریف الجزأین) فی قوله: (ذلک الفوز العظیم) فإنه فی الآیة الأخرى حوار مع المنکرین الکافرین، وهذا هو الذی یستلزم قوة التأکید، فوضع لذلک ضمیر الفصل بین هذین الجزأین المعرفین فی قوله: (قل إن هدى الله هو الهدى) لیقصر هدى الله على الهدى کله قصرا تاما ومؤکدا ومبالغا فیه؛ ردا على الکافرین المعاندین ولا سیما الذی ضرب به المثل فی الحیرة والإنکار. وقد تتفق الصیغتان (ضمیر الفصل) و(النفی والاستثناء) ضمن سیاق واحد، وهذا إنما یؤکد ما ذهبنا إلیه من اتفاقهما فی الدلالة والمعنى، ومن ذلک قوله تعالى: )وَإِذْ قَالَ اللَّهُ یَا عِیسَى ابْنَ مَرْیَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِی وَأُمِّیَ إِلَهَیْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَکَ مَا یَکُونُ لِی أَنْ أَقُولَ مَا لَیْسَ لِی بِحَقٍّ إِنْ کُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِی نَفْسِی وَلا أَعْلَمُ مَا فِی نَفْسِکَ إِنَّکَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُیُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِی بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّی وَرَبَّکُمْ وَکُنْتُ عَلَیْهِمْ شَهِیداً مَا دُمْتُ فِیهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّیْتَنِی کُنْتَ أَنْتَ الرَّقِیبَ عَلَیْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى کُلِّ شَیْءٍ شَهِیدٌ( (المائدة5: 116، 117)، فهذا الحوار یکون بین الله ونبیه یوم القیامة (ابوحیان، 1978، ج 4، ص58)، ردا على من ادعى الألوهیة لعیسى وأمه 6وتبرئة لهما من ذاک الادعاء، فضلا عن أن إنکار عیسى بعد السؤال یکون أبلغ فی تکذیبهم وأشد فی تقریعهم وتوبیخهم (القرطبی، 1967، ج 6، ص375). ولعل وقوع أسلوب القصر بصیغ مخصوصة مع الإنکار فی جواب عیسى کان تأکیدا منه لإنکار ما وقع فی السؤال أمام الله وأمام الناس ـ لأنهم معنیون به أیضا ـ فقد أثبت أن قوله لهم کان مقصورا على ما أمره الله به من توحید، وهو نفی فی الوقت نفسه أن یکون دعاهم إلى اتخاذه وأمه الهین، فجاءت الصیغة بـ(النفی والاستثناء)؛ لما تفیده من مبالغة فی الردّ على الإنکار، إذ قال: (ما قلت لهم إلا ما أمرتنی به). وقد جاءت نظیرتها، وهی القصر بـ(ضمیر الفصل) فی إثبات الألوهیة لله ـ قبل تلک الصیغة وبعدها ـ وذلک بوقوع ضمیر الفصل بین اسم الناسخ وخبره اللذین یعودان على الله، وذلک فی قوله: )إنک أنت علام الغیوب( وقوله أیضا : )کنت أنت الرقیب علیهم(، لأجل تأکید اختصاص الله تعالى بهذین الخبرین الصفتین دون سواه؛ لأن القصر بـ(ضمیر الفصل) یثبت أن الله هو الذی یختص بعلم الغیب، وهو الرقیب دون سواه، وفی هذا نفی ـ فی الوقت نفسه ـ ما زعم من ألوهیة عنهما، فاتفاق الصیغتین وهذا المقام یؤکد صلة ما بینهما فی الوظیفة والمعنى. وقد تأتی هذه الصیغة من دون وجود إنکار، ولکنه یکون تعریضا بغیرهم فیستلزم تأکید الخطاب، ومن ذلک قوله تعالى: )وَالَّذِینَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِکَ هُمُ الصِّدِّیقُونَ( (الحدید57: 19)، فمع أن الخطاب موجه إلى المؤمنین، بید أنه تعریض بأهل الکتاب أیضا، إذ إنهم لم یؤمنوا برسل الله جمیعا، فأبطلت صیغة القصر أن یکونوا من الصدیقین. وقد تأتی للمبالغة أیضا نحو قوله تعالى حکایة عن سلیمان: )قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِی وَهَبْ لِی مُلْکاً لا یَنْبَغِی لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِی إِنَّکَ أَنْتَ الْوَهَّابُ( (ص 38: 35)، فإن سلیمان لما طلب ملکا عظیما من الله قصر ذلک علیه، بمعنى أنه لا یقدر على ذلک إلا أنت، وهو فی الوقت نفسه دل على المبالغة، فالمعنى أنک عظیم الملک واسع العطاء. 4ـ الخاتمة لقد بلغت الرحلة فی أحضان فروق طرق القصر نهایتها، فبعد مسیرة تناولت الفروق بین طرق القصر المشهورة وأکثر استعمالا، یمکن تأشیر بعض النتائج التی توصل إلیها البحث. إن البحث فی خطته تنجم عنه النتائج التالیة: إن تعدد طرق الحصر والقصر دلیل على ثراء أسلوب القصر وتنوع صیغها، وهی لیست من قبیل الترادف، بل بینها فروق فی النحو والمعنى، بحیث لا یجوز أن یستعمل أی من هذه الطرق مکان أخواتها، فإن القصر بـ«إنما» یختلف عن القصر بالنفی والاستثناء، وذلک لاختلافهما نحوا ودلالة؛ فإن صیغة (النفی والاستثناء) تحقق بناء جدیدا فی وضع الرتب النحویة ضمن السیاق، فضلا عما تحققه من معان وأغراض للجملة لا تکون بـ(إنما)؛ وذلک أن (ما) تجعل الابتداء بالنکرة جائزا؛ لما فی النفی من مسوغ للابتداء بها، وفی ذلک یتحقق غرض یتمثل فی بلوغ النفی تمامه؛ لأن نفی النکرة یکون نفیا مطلقا من حیث دلالة النکرة ـ أحیانا ـ على العموم والاطلاق، ومن ثم استثناء ما یراد إثباته فی الکلام، ولعل ذلک یحقق للمعنى مبالغة وللسیاق تناسبا. ومن جهة أخرى، إن صیغة (النفی والاستثناء) تکوِّن مساحة أوسع فی القصر من خلال تجاوز قصرها من اسم على اسم أو فعل على اسم إلى جملة فعلیة على جملة فعلیة أخرى، وهذا لا یکون بـ(إنما). وکذلک الأمر بین أسلوب القصر بالنفی والاستثناء والقصر بحرفی العطف؛ «بل» و«لکن» وهذا الاختلاف فی الأمر المنفی من جهتین: الجهة الأولى، تتمثل فی أن النفی فی الصیغة الأولى یکون عاما مطلقا، بخلافه فی الصیغة الأخرى فإنه یکون خاصا مقیدا، والجهة الأخرى، تتمثل فی أن الأمر المنفی فی الصیغة الأولى یکون محذوفا؛ إیجازا واختصارا للعلم به ولعدم الفائدة من ذکره لکونه مطلقا بخلافه فی الصیغة الأخرى فإن الأمر المنفی یذکر وجوبا لعدم العلم به لکونه مخصوصا ولا یجوز إثبات ضد الشیء ونقیضه إذا کان معدوما من الکلام. وأیضا تعرضنا إلى تبیین الفرق بین القصر بـ«إنما» والقصر بحرف العطف «لا» وقلنا إنّ القصر بـ«إنما» یفید فی الکلام بَعْدَها إیجاب الفعل لشیءٍ ونفیه عن غیره، فإذا قلت مثلا: (إنما جاءنی زیدٌ)، عُقِل منه أنک أردت أن تنفی أن یکون الجائی غیره، فمعنى الکلام معها شبیهٌ بالمعنى فی قولک: (جاءنی زیدٌ لا عمرو)؛ إلا أنَّ لها مزیَّةً وهی أنَّک تعقل معها إیجاب الفعل لشیء ونفیه عن غیره دفعة واحدة وفی حال واحدة، ولیس کذلک الأمرُ فی: (جاءنی زید لا عمرو)؛ فإنک تعقلهما فی حالین. ومزیة ثانیة وهی أنها تجعل الأمر ظاهرا فی أنّ الجائی زیدٌ، ولا یکون هذا الظهور إذا جعلت الکلام بـ«لا» فقلت: (جاءنی زیدٌ لا عمرو). والقسمین الأخیرین من طرق القصر أجرینا المقارنة بینهما وتناولنا فروقهما هما القصر بتعریف الجزأین والقصر بضمیر الفصل وذکرنا فرقهما بأنّ التأکید والاختصاص فی القصر بضمیر الفصل أکثر مما کان علیه القصر بتعریف الجزئین وذلک من خلال وقوع ضمیر الفصل بین الجزأین المعرفتین.
[1]. وذلک بناء على ما ذهب إلیه البلاغیون من أن قصر الموصوف على الصفة لا یمتنع أن یشارکه غیره فی الصفة المذکورة ؛ بخلاف قصر الصفة على الموصوف، فإن المشارکة تمتنع فیه ( السکاکی، 1981، ص 508 ). | ||||
مراجع | ||||
µ القرآن الکریم
10. الجرجانی، أبو بکر عبد القاهر بن عبد الرحمن. (1389هـ ـ1969م). دلائل الإعجاز. (تعلیق وشرح محمد عبد المنعم خفاجی). د.م: مکتبة القاهرة. 11. الجندی، درویش. (1381هـ ـ1962م). علم المعانی. (ط2). مصر: مکتبة النهضة. 12. الجوزی،أبو الفرج عبد الرحمن بن أبی الحسن بن محمد بن علی .(1964م). زاد المسیر فی علم التفسیر. د.م:المکتب الإسلامی للطباعة والنشر. 13. الرازی ، فخر الدین محمد بن عمر. (1985م). نهایة الإیجاز فی درایة الإعجاز. (تحقیق إبراهیم السامرائی ومحمد برکات حمدی أبو علی). عمان: دار الفکر للنشر. 14. الزمخشری، جار الله محمود بن عمر. (1403هـ ـ1983م). الکشاف عن حقائق التنـزیل وعیون الأقاویل فی وجوه التأویل. بیروت: دار الفکر للطباعة والنشر .
16. سیبویه، ابوبشر عمرو بن عثمان. (1975). الکتاب. (تحقیق عبد السلام هارون). القاهرة: الهیئة المصریة العامة للکتاب. 17. السیوطی، جلال الدین عبد الرحمن بن أبی بکر. (د.ت). همع الهوامع شرح جمع الجوامع. لبنان: دار المعرفة. 18. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. (1967م). الإتقان فی علوم القرآن. (تحقیق محمد أبو الفضل إبراهیم). القاهرة: مکتبة ومطبعة المشهد الحسینی. 19. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. (1408هـ ـ1988م). معترک الأقران فی إعجاز القرآن. (ضبطه وصححه أحمد شمس الدین). بیروت: دار الکتب العلمیة. 20. القرطبی، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاری. (1387هـ ـ1967م). الجامع لأحکام القرآن. (تحقیق أحمد عبد العلیم البردونی). (ط3). القاهرة: دار الکاتب العربی. 21. القزوینی، الخطیب محمد بن عبد الرحمن. (1405هـ). الإیضاح فی علوم البلاغة (المعانی والبیان والبدیع). بیروت: دار الکتب العلمیة. 22. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. (1402هـ ـ1982م). شرح التلخیص فی علوم البلاغة. (شرحه وخرج شواهده محمد هاشم دویدری). (ط2). بیروت: دار الجیل. 23. المبرد، أبو العباس محمد بن یزید. (د. ت). المقتضب. (تحقیق محمد عبد الخالق عضیمة). بیروت: عالم الکتب. 24. الهاشمی، أحمد. (1960م ). جواهر البلاغة فی المعانی والبیان والبدیع. مصر: المکتبة الکبرى. | ||||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 1,900 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 1,465 |