
تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,710 |
تعداد مقالات | 14,016 |
تعداد مشاهده مقاله | 33,913,088 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 13,565,247 |
التناوب ظاهرة أسلوبية في القرآن الکريم (دراسة في سورة "الأعراف" نموذجا) | ||
بحوث في اللغة العربية | ||
مقاله 5، دوره 7، شماره 13، دی 2015، صفحه 77-90 اصل مقاله (566.27 K) | ||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | ||
شناسه دیجیتال (DOI): 10.22108/rall.2016.20682 | ||
نویسندگان | ||
جواد محمدزاده1؛ صلاح الدين عبدي* 2 | ||
1طالب الدکتوراه في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة «بوعلي سينا». | ||
2أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة «بوعلي سينا». | ||
چکیده | ||
امتازالقرآنالکريمبأسلوبهالذييختص به عن سائر النصوص الدينية فنرى فيه أن لکل حرف وکلمة وجملة دلالات جديدة، لأنهيعطيللکلمة مالا تعطيهکلمةأخرى. کثيرا ما نرى أن القرآن الکريم يستخدم التقنيات المنزاحة عن المعيار اللغوي ومن أهم هذه التقنيات المنزاحة "التناوب" الذي يکمن هدفه الرئيسي في توليدمعانٍ مبتکرة بالعدولعنالنظاماللغويأو عنالأصل وهو يعني إحلال کلمة أو جملة محل غيرها مما يناظرها فتؤدي معناها. قد أصبح مفهوم "التناوب" ظاهرة أسلوبية في القرآن الکريم بسبب تواترها في الآيات الکريمة واستعان القرآن الکريم بهذه التقنية ليحقق الغايتين معا، أي: الجانب الدلالي وهو التوسع في المعاني والتنوع الأسلوبي وهذا أبرز سمة أسلوبية اختص بها القرآن. إذن، قمنا بدراسة هذا المفهوم في سورة "الأعراف" المبارکة علىالمنهجالوصفيالتطبيقي، وقددرسنا حقيقيةأنماطمنالتناوب في الفعل (التضمين النحوي) والاسم والصيغ والجملة، حيث تبين لنا أنالتناوب الفعلي أو التضمينقد شمل مساحة أکثر بالنسبة إلى الأنماط الثلاثة الأخرى وقد ظهر أن هناک صلة ما بين الکلمتين المنوب عنها والنائبة وقد بني أکثر العلاقات على أساس الترادف واللزوم. کذلک تبين لنا أن السياق ـ لغوياً کان أم مقامياً ـ رکن من الأرکان الرئيسة لکشف التناوب والمعاني الثانوية التي تکمن في الکلمة أو الجملة المنتقاة. | ||
کلیدواژهها | ||
سورة الأعراف؛ التناوب؛ التضمین؛ العدول؛ البنیة العمیقة والسیاق | ||
اصل مقاله | ||
المقدمة إن القرآن الکریم یشمل نصا ذا قوّة وإبداع، ویسلک فی تراکیبه ونظمه مسلکا واحدا، وهو النص السماوی المعجز الذی لا یستطیع أحد أن یجاریه بأسلوبه ونظمه أو ببلاغته وفصاحته لأن الله تعالى قد اختار ألفاظ القرآن وتراکیبه فی أحسن صورة وأدق نظم وکما یقال إن کل کلمة تحمل فی طیّها معنى لا تحمله کلمة أخرى وأحیانا تترادف الکلمات والتراکیب فتأتی بمعنى واحد وتختلف فی البناء، وإذا نظرنا إلى السیاق الذی وردت الآیة فیه نجد فلسفة هذا الاختلاف والمعانی الدقیقة والخفیة فی بطنها. نجد فی مواضع کثیرة من القرآن الکریم اختلافاً فی معنى الکلمة الواحدة فی البناء والصیغة بإضافة کلمة أو حرف إلیها، کقوله تعالى: ]إن أَحسَنتُم أحسَنتُم لِأَنفُسِکم[ (الإسراء: 7), فالفعلان متحدان فی الصیغة والمادة وإسنادهما إلى ضمیر المخاطبین (أحسنتم)، ومع ذلک اختلف معناهما لدخول الثانی فی علاقة جدیدة؛ إذ تعلق به جار ومجرور (لِأَنفُسِکم)، فاختلف معناه عن الأول، ولذلک لایصح أن یقال: «إن أحسنتم لأنفسکم أحسنتم لأنفسکم»، لأن معنى الفعلین سیکون واحداً فی الحالتین. کما لا یصح أن یقال: «إن أحسنتم أحسنتم»، إلا أن یضمر فی الثانی شیء لیس فی الأول کأن یکون المقصود: إن أحسنتم أحسنتم (بحق) مثلا، وهنا یلزم فی النطق تغییر التنغیم حتى یبرز هذا المعنى المضمر (عبد اللطیف، 2000م, ص 16). إن المیزة الأولى للنص القرآنی هی عدوله عن المألوف؛ بعبارة أخرى کثیراً ما یخرج القرآن الکریم فی تراکیبه وألفاظه من المتعارف المألوف فی القانون اللغوی، ویرفع کلامه من المستوى العادی إلى المستوى الفنی. توجد طرق کثیرة لإیراد الکلام على المستوى الفنی أو العدولی، منها ظاهرة التناوب التی تعدّ من أکثر الظواهر النحویة تردداً وأوسعها انتشاراً فی القرآن الکریم وقد ذکر النحویون کثیراً من صور تلک الظاهرة فی القرآن الکریم ولکن لم یعالجوها من أجل تحلیلها والوقوف على دورها التعبیری والتأثیری فی السیاقات التی وردت فیها، بل من أجل التمثیل بها، کما جاء بها ابن قتیبة فی کتابه تأویل مشکل القرآن. وبما أن التناوب أصبح ظاهرة أسلوبیة فی القرآن الکریم اخترنا سورةً من سوره الکریمة وعالجنا هذه الظاهرة فیها وخصصناها بالدراسة والتحلیل. أمّا هدف هذه الدراسة فیکمن فی تفسیر ظاهرة التناوب وتحلیل أنواعها حیث بینت الدراسة أن ظاهرة التناوب فی القرآن الکریم لا تأتی إلا للتوسع فی المعانی ولا تدل إلا على مرونة واتساع فی قواعد اللغة. إذن، قمنا بدراسة هذا المفهوم فی سورة الأعراف المبارکة وقد کان منهجنا فی کتابة هذه الدراسة المنهج الوصفی التطبیقی الذی یقوم على الدراسة والبحث فی الأسلوب القرآنی للوقوف على أسرار التقنیات اللغویة فیه معتمداً على کتب التفسیر والبلاغة والنحو واتجه البحث فی إطارین: الإطار الأول وهو الإطار النظری ندرس فیه مصطلح التناوب لغة واصطلاحا ونکشف عن علاقته بعلم الأسلوب وقد تحدّثنا فیه عن نشأة مفهومه عند المحدثین وبیان أشکاله وأنواعه, أمّا الإطار الثانی فهو عبارة عن التطبیق العلمی لما سبقت الإشارة إلیه فی الإطار الأول؛ حیث یتم البحث فی سورة الأعراف المبارکة للکشف عن أسرار البنى التحتیة بین السورة وآیاتها. وفیما یبدو، إن هذه الدراسة فریدة بنوعها؛ لأنها کتبت لتغطی مساحة دراسیة لم تملأ من قبل الدراسین فی فرع الأدب العربی ولأنها اختصت بدراسة التناوب وهو ظاهرة أسلوبیة شائعة فی القرآن الکریم بأنواعه المختلفة التی لم تؤثر فی جذب انتباه القارئ فحسب، بل تعین أسلوب القرآن الکریم فی إیراد المعانی بطرق لیس لها نظیر. یسـعى هـذا البحث إلى الإجابة عـن عـدة أسئلة رئیسـة وهـی: 1 ـ أی نمط من أنماط التناوب یعدّ أکثر انتشاراً فی السورة؟ 2ـ ما هی جمالیة التناوب والغرض الرئیس من هذا العدول فی النص القرآنی؟ 2 ـ خلفیة البحث لم یسبق لدراسة أن تتناول التناوب فی سورة "الأعراف", رغم ذلک ثمة بحوث سابقة على هذا البحث قد عرضت للتناوب فی الأفعال والحروف، نذکر منها: ـ «ظاهرة التناوب اللغوی بین المشتقات الدالة على الفاعلیة والمفعولیة والمصدر»، هذا المقال کتبه مالک یحیا وطبع سنة 2010م فی مجلة دراسات فی اللغة العربیة وآدابها، فصلیة محکمة فی العدد الثانی. تحاول هذه الدراسة أن توضح أن ظاهرة التناوب اللغوی التی وردت فی النصوص اللغویة تشیع فی العربیة، إذ قد تأخذ صیغة صرفیة ما الأحکام النحویة الدلالیة لصیغة أخرى وتتبادل معها مبنى ومعنى. ـ «حروفالجربینالنیابةوالتضمین»، کتب هذا المقال أحمد مطر المطیة، وطبع سنة 2008م فی العدد الـ112 فی مجلة التراث العربی بدمشق. قد أشار الکاتب فی هذا المقال إلى تعاریف التضمین والنیابة من قبَل النحویین والبلاغیین وجاء بأمثلة من القرآن الکریم. ـ «ظاهرةالتضمینفیالقرآن»، کتب هذا المقال الکاتبان: خلیل پروینی وجمیل جعفری، وطبع سنة 2004م فی العدد الـ11 فی مجلة العلوم الانسانیة. قام الکاتبان فی هذه المقالة بتحلیل مفهوم التضمین فدرسا حد التضمین الکوفی والبصری وصورهما المختلفة وکذلک دور التضمین الإیجابی. ـ «تناوب حروف الجر فی دیوان امرئ القیس دراسة وصفیة تحلیلیة»، کتب هذا المقال أحمد عبد الرحمن الذنیبات، ونضال محمود الفرایة. طبع فی مجلة کلیة الآداب واللغات، سنة 2011م فی العدد الـ9. فی هذه الدراسة لم یقتصر الباحثان على الشعر وحده، بل قرناه بنماذج من الآیات الشریفة فی القرآن الکریم. ـ «التناوب الدلالی بین صیغ الوصف العامل»، کتاب ألّفه طه محمد الجمدی، وطبع فی نشر دار الکتب المصریة، القاهرة سنة 1998م. فی هذا الکتاب یتناول الدکتور الجمدی نماذج من العدول فی صیغ المشتقات تحت عناوین أخرى تناقش کلها دلالة التنویع بین الصیغتین المشتقتین. إذا أمعنا النظر فی هذه الدراسات ـ رغم مساعیهم الجیدة ـ نجد أنهم تطرقوا بشکل إجمالی, لذا، قد اختصت هذه الدراسة بهذه الظاهرة بأشکالها المتعددة فی سورة الأعراف المبارکة وعالجتها من أجل تحلیلها والوقوف على دورها التعبیری والتأثیری فی السیاقات التی وردت فیها. 3 ـ الإطار النظری التناوب فی اللغة فیه معنى التبادل وتقسیم الأمر الواحد وتوزیعه، وفیه ـ أیضاً ـ معنى الإحلال، أی إحلال شیء محل شیء آخر وجاء أیضاً فی لسان العرب: «تناوب القوم الماء، أی تقاسموه على المقلة وناب الشىء عن الشیء ینوب: قام مقامه» (ابن منظور، د.ت, «نوب»), وفی الاصطلاح هو إحلال کلمة ـ قد تکون اسماً أو فعلاً أو حرفاً ـ محل غیرها مما یناظرها، فتؤدی معناها. قیمة التناوب أنها لا تثبت المعنى الکامن فی الکلمة الواردة فی السیاق فحسب، بل تتم فی ذات الوقت عملیة استحضار للکلمة المنوب عنها، وما ینجرّ عنها من معان، فتحدث عملیة مزاوجة بین الکلمتین المنوب عنها والنائبة ومن ثمَّ تزاوج المعنیین، مما یؤدّی فی النهایة إلى إثراء المعنى (سلیمان، 2008م, ص 91). أما الأسئلة التی یجب الانتباه بها فی عملیة التناوب فهی: ما هو القانون أو المعیار الذی به یتحقق التناوب؟ ما الأصل أو القاعدة التی تتم النیابة عنها؟ هل هی القاعدة المعیاریة المتواضع علیها أو أنها القاعدة السیاقیة التی یفرضها السیاق اللغوی؟ ما هی العلاقة بین الکلمتین المنوب عنها والنائبة؟ یعرّف المعیار على أنه النظام اللغوی الذی ینبغی على المتکلم إتباعه لیحقق أداءا لغویاً فصیحاً، واعتماداً على هذا المعیار تحدّد درجة الفصاحة عند کل فرد، ویطلق على هذا المعیار الذی یخرج عنه العدول بمسمیات کثیرة منها: «الاستعمال الدارج والمألوف والشائع والوضع الجاری والدرجة الصفر والسنن اللغویة» (سامح ربابعة، 2003م، ص 35), إن مصطلح "درجة الصفر للکتابة" الذی أطلق علیه رولان بارت هو مفهوم حدیث یلتقی مع حدیث القدماء عن "الأصل" و"أصل الوضع" وإن درجة الصفر صفة تطلق على الخطاب الذی تدل فیه کل کلمة على ما وضعت له فی أصل اللغة (المصدر نفسه، ص 55). لعل موازنة بین عبارتین مثل: "الدم الأحمر" و"الدم الأبیض" تظهر الفرق الکبیر بین المعیار والانحراف عنه، "فالدم الأحمر" عبارة یظهر فیها الأصل ودرجة الصفر؛ لأنها تمتلک معنى معجمیا فقط ولکن عبارة "الدم الأبیض" تعد خروجاً عن الأصل اللغوی المعتاد وهنا نابت کلمة "أبیض" مناب کلمة "الأحمر" وهذا هو التناوب. أمّا العدول عن الأصل فهو مظهر من مظاهر الأسلوبیة، حیث یشمل جمیع مستویات اللغة، لاسیما المستوى النحوی. الغرض من النحو هو النحو التولیدی التحویلی الذی ملخص نظریاته ینبنی على أن هناک ترکیبات أساسیة تشترک فیها اللغات جمیعاً وأنّ وظیفة القواعد التحویلیة فی هذه النظریة تحویل تلک التراکیب الأساسیة إلى تراکیب سطحیة وهی التراکیب المنطوقة فعلاً، ویسمعها السامع وعملیة وصف العلاقة بین الترکیب الباطنی والترکیب الظاهری تسمى تحویلاً والعلاقة بین الترکیبین تشبه عملیة کیمیاویة یتم التعبیر عنها بمعادلة أحد طرفیها المواد قبل تفاعلها " input" والطرف الآخر هو الناتج بعد التفاعل " output" وبمعنى آخر فإنها القواعد التی تضفی على کل جملة تولدها ترکیبین: أحدهما باطنی أساسی والآخر ظاهری سطحی وتربط الترکیبین بنظام خاص (المنصوری، 2013م, ص 236). إن الکفایة اللغویة والأداء الکلامی من الرکائز الأصلیة فی معرفة التناوب والمقصود بالبنیة العمیقة هو المعنى الکامن فی نفس المتکلم بلغته الأم ومقیاسه المقدرة أو الکفایة اللغویة أما البنیة السطحیة فهی ما ینطقه الإنسان فعلا ویمثلها الأداء الفعلی للکلام (میشال، 1986م, ص 26 ـ 27), أمّا السؤال الرئیسی فی مسألة التناوب فهو کیف نفهم أن هناک تناوباً فی الکلمة أو الجملة؟ نفهم عملیة التناوب إما عن طریق القواعد اللغویة الحاسمة فی علم النحو وإما عن طریق السیاق. قد لاحظ فان دیکvan Dijk أن الجملة ترکیب شدید التعقید یستمد وجوده مما یوجد أمامه وبعده، ووصفُ الجملة وحده غیرُ کافٍ، ولابد من أن یتصدّى النحو لدراسة بنیة أکبر هی النص, فقولنا "تلک الطاولة صاخبة" لو وردت وحدها دون أن توضع فی سیاق لما کان لها أی معنى مع أنها من الناحیة النحویة مقبولة. على أننا لو کنا نجلس فی مقصف، وکان الجالسون حول الطاولة یضحکون فی صخب، ثم قلنا هذه الجملة مشیرین إلیها فإن المعنى یغدو مفهوماً جداً مع أن الترکیب النحوی للجملة لم یتغیر فی قلیل أو کثیر, بناء على هذا فإن المقام یجعل من الترکیب المرفوض ترکیبا مقبولا ذا معنى (محمود خلیل، 2011م, ص 161). فالکلمة ـ حسب ما یرون ـ هی الموجودة فی السیاق، بمعنى أنّه لا یتحدد معناها تحدیدًا دقیقًا إلا من خلاله، وهی لا تدل مستقلةً بنفسها على شیء. قال اللسانی الفرنسی میلی: «إنالکلمةالحقیقیةهیالکلمةفی السیاق» (حسام الدین، 2001م, ص 48). کان مفهوم السیاق متضحا عند نقاد العرب القدامى ومنهم عبد القاهر الجرجانی حیث قال فی موضع: «فلوکانتالکلمةإذاحسنتْمنحیثهی لفظ،وإذااستحقتالمزیةوالشرفاستحقتذلکفیذاتهاوعلىانفرادها،دونأنیکون السببفیذلکحالٌلهامعأخواتهاالمجاورةلهافیالنظم،لمااختلف بهاالحال،ولکانتإمّا أنتحسنأبدًاأولاتحسنأبدًا،ولمتَرقولاًیضطربعلىقائلهحتىلایدریکیفیعبّر، وکیفیُوردویصدّر» (الجرجانی، 1978م, ص 96). بما أن التناوب یعدّ انحرافاً عن الأصل فینبغی على المؤلف معرفة وافیة باللغة الأصلیة وفی عملیة التناوب هناک احتراس یجدر بالمبدع أن یأخذه بعین الاعتبار، وهذا الاحتراس متمثل فی أن لیس کل انحراف یظهر قیمة فنیة تکشف عن القدرة على الإبداع والخلق، إذ لا بد أن یصاحبه وظیفة جمالیة وتعبیریة وکما قال شفیعی کدکنی فی کتابه موسیقى شعر یجب على أی ظاهرة عدولیة أن یکون متصفاً بمیزتین: الأول: مراعاة الأصل الجمالی, والغرض منه أن هذا التجاوز یسبب شعوراً جمالیاً لدى القارئ, والثانی: صمیم الإیصال وهو یتیح للمخاطب فرصة لیفهم احساس الکاتب فی حدود الشعر )شفیعی کدکنی، 1386، ص 13(. 4 ـ الإطار التطبیقی تأخذ ظاهرة التناوب فی سورة الأعراف المبارکة أشکالا متعددة، إذ تظهر على مستوى بناء اللفظة المفردة، کما تظهر على مستوى الوظیفة النحویة، أما الأولى فقد تحدثنا عنها بإسهاب فی بحثنا عن التناوب فی الأفعال والأسماء وأما الثانیة فإنها تدخل فی نطاق ما أطلق علیه التناوب فی الصیغ والتناوب فی الجمل. 4 ـ 1ـ التناوب فی الأفعال من الظواهر اللغویة المشهورة التی یلعب فیها المعنى دوراً بارزاً ظاهرة التناوب فی الأفعال والتی یسمى أیضا بالتضمین النحوی وهو یعنی إشراب فعل معنى فعل آخر لیعامل معاملته، ویجری مجراه کما أشار إلیه ابن هشام: «قد یشربون لفظاً معنى لفظٍ فیُعطونه حکمه، وذلک یسمّى تضمینا وفائدته: أن تؤدی کلمةٌ مؤدّى کلمتین» (ابن هشام، لاتا, ص 305). قال الزمخشری: ویضمنون الفعل معنى فعل آخر فیجرونه مجراه مع إرادة معنى المتضمن والغرض من التضمین إعطاء مجموع المعنیین (الزمخشری،1998م، ص 581). إن المعیار الرئیسی فی التضمین هو أننا لا نقول إن المعنى اللغوی السابق هو عین المعنى الاصطلاحی وإنما نقول أن هناک صلة ما بین المعنى اللغوی والمعنى الاصطلاحی مهما کانت طبیعة تلک الصلة، بعبارة أخرى إن المعنى اللغوی یعدّ قاعدة ینطلق منها المعنى الاصطلاحی للتضمین و«هذا لا یعنی أن یتجرد الفعل الأول من معناه لیکسب معنى جدیداً، وإنما القصد أن یجمع هذا الفعل بالتضمین بین الدلالتین: دلالته الأولى، ودلالة الفعل الذی أشرب معناه» (الزعبلاوی،1980م، ص 62), فباب التضمین النحوی ما هو إلا دراسة للمعنى؛ لأن الاعتماد على الألفاظ المنظومة فحسب لا یکفی فی تفسیر الأسلوب. جاء هذا النمط من التناوب فی هذه السورة الکریمة بأشکال مختلفة منها قوله تعالى: ]فَأُوْلَئِکَ الَّذِینَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا کَانُواْ بِآیَاتِنَا یِظْلِمُونَ[(الأعراف: ۹), کما نلاحظ أن الفعل "یظلمون" عدّی بالباء ونحن لا نقول: ظلمت به وإنما: ظلمته، لکنه هنا بمعنى الجحود والتکذیب، لهذا جاء سبحانه بالباء إیذاناً بأن فعل "یظلم بآیاتنا" هنا فی معنى التکذیب أی کذّبوا بها وجحدوا بها کما جیء بهذا الفعل فی الآیة 103 من هذه السورة الکریمة حیث یقال: ]فَظَلَمُواْ بِهَا[ (الأعراف: 103) «والظلم هنا ضد العدل أی یظلمون الآیات فلا ینصفونها حقها من الصدق وضمّن "یظلمون" معنى یکذّبون فلذلک عدّی بالباء» (ابن عاشور، 1984م,ص 32), فکأنّه قیل: بما کانوا یظلمون ویکذّبون بآیاتنا على حد قوله تعالى: ]وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَیْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا[(النمل: 14)، أما العلاقة بین الظلم والتکذیب هی اللزوم؛ لأنه کل تکذیب لا محالة ظلم وجور؛ لأن الذی یکذّب بالدین وبالآیات، یظلم نفسه وآخرین فی تحقیق هدفه الباطل. أما المثال الآخر للتضمین النحوی فهو الآیة الکریمة: ]فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ یَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن کُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِینَ[ (الأعراف: 77)، قال الزمخشری فی معنى فعل عتوا عن: تولّوا عنه واستکبروا عن امتثال أمره (الزمخشری، 1988م، ص 466) إن فعل "عتا یعتو عتواً وعتیاً" لازم لا یتعدى وتعدیته بحرف "عن" حملته على التضمین، حیث یأخذ معنى فعل استکبر وتولى. أمّا التضمین النحوی فی هذه السورة الکریمة فلا ینحصر فی الأفعال التی تأتی مع حروف الجر الأخرى بل یتعدى إلى تضمین فعل معنى آخر کقوله تعالى: ]وَأَمْطَرْنَا عَلَیْهِم مَّطَرًا[ (الأعراف: 84), فقد بیّن الله تعالى فی هذه الآیة عذاب قوم لوط ونوعه بقوله (وَأَمْطَرْنَا عَلَیْهِم مَّطَرًا) أی: أنزل علیهم نوعا من الحجارة یشبه المطر وعدی بــ"على" لأنه ضمّن معنى أرسلنا کما قال الزمخشری: «وأرسلنا علیهم نوعا من المطر عجیبا، یعنی الحجارة» (الزمخشری،1998م, ص 471). وأکده بقوله مطرا ونکر تهویلا وتعظیمًا له، مما سبب عنه الأمر بالنظر والتأمل فی هول عذابهم وعاقبتهم فقال: (فانظر کیف کان عاقبة المجرمین) أما الفرق بین "مطر وأمطر" فهو أن جملة "مطرتهم العذاب" بمعنى نزل علیهم المطر وأمطر بمعنى نزل علیهم من الجو ما یشبه المطر ولیس هو بمطر، کما قال تعالى: ]وَأَمطَرنا عَلَیهِم حِجَارَةً مِن سِجّیلٍ[ (الحجر: 74). وقیل أن التفرقة بین مُطِرَ وأمطِرَ، أنّ مُطرَ للرّحمة وأمطر للعذاب وقد کثر الإمطار فی معنى العذاب (ابن عاشور،1984م, ص 237). وإن الله تعالى شبه العذاب بالمطر المدرار وبدل أن یقول: وأرسلنا علیهم المطر قال: وأمطرنا والغرض من هذا التناوب إبراز تصویر العذاب بأحسن شکل وأنه تعالى قد صوّر لنا قطرات المطر من نوع الکبریت قطرة فقطرة حتى یؤثر على المخاطب تأثیرا وافرا ویتمکن فی باله کیف کان عاقبة من یقترف معاصی الله وکذّب رسله. وکذلک قول الله تعالى: ]فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِی دَارِهِمْ جَاثِمِینَ[(الأعراف: 78). فی هذه الآیة، تحقق التناوب فی فعل "أخذ" والله تعالى بدل أن یقول: "أهلکتهم الرجفة" قال: "فأخذتهم". کما نعلم أن الأخذ أصله تناول الشیء بالید «الأخذ: خلاف العطاء، وهو أیضا التناول. أخذت الشیء آخذه أخذا: تناولته، وأخذه یأخذه أخذا» (ابن منظور، د.ت، «أخذ»). ویستعمل أیضاً فی القهر وأخذ الرجفة: إهلاکها إیاهم وإحاطتها بهم إحاطة الآخذ (ابن عاشور،1984م, ص 227), إذن، فعل "أخذ" هنا کلمة تؤدی مؤدّى کلمتین: الأخذ ثم الإهلاک. وإذا أمعنا النظر فی سورة الأعراف المبارکة نرى أن هذا الفعل اکتسب دلالة أخرى حسب السیاق وجاء بمعنى فعل آخر کقوله تعالى: ]وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِینَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ[ (الأعراف: 130)، فکلمة "أخذ" اکتسبت دلالة أخرى وأدت معنى فعل آخر فی السیاق وبالتالی هی بمعنى ابتلى وامتحن وعدّی بالباء. فی عملیة فهم المعنى، یکون للمقام والموقعیة دور هام وإنما تنکشف معانی الکلمة حسب موقعیتها ویظهر تعدد مدلولاتها مع تغییر صیاغتها فی تراکیبها فمزیة المقام أکشف وأوضح فی بیان معناها. وهذه أفعال "ترى وتنظر" فی مساقاتها المتعددة فی هذه السورة الکریمة: ]وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِیقَاتِنَا وَکَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِی أَنظُرْ إِلَیْکَ قَالَ لَن تَرَانِی وَلَکِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَکَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِی[(الأعراف: 143). فی تفسیر هذه الآیة یجب أن نلاحظ معنى "الرؤیة" ومعنى "النظر" وما یوجد من الاختلاف بینهما. إن النظر لا إدراک معه لکن الرؤیة هی الإدراک (الزمخشری،1998م، ص 502), بعبارة أخرى إن الرؤیة عام ویشمل الإدراک ببعض الحواس لکن النظر هو الخاص ولا یشمل الإدراک وینحصر فی الحاسة البصریة؛ لهذا السبب نرى أن الله تعالى قال فی هذه الآیة "لن ترانی" ولم یقل "لن تنظر إلی" ولا یمکن للإنسان رؤیة ذات الله المقدسة لأن هذه البنیة البشریة لا طاقة لها إذن، نرى أن الله تجلى لما هو أقوى منه وهو الجبل «فلما ظهر من نور الله قدر نصف أنملة الخنصر اندک الجبل وتفتت» (الصابونی،1981م، ص 470). إن القرائن تحدد معنى الکلمة التی یوظّفها الترکیب وهذه القرائن هی التی تساعدنا فی معرفة التناوب فی الأفعال. على سبیل المثال قال تعالى:]وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَکُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِینَ[ (الأعراف: 80), إذا أمعنا النظر فی هذه الآیة الکریمة نرى أن فعل "تأتون" لم یأت فی معناه الحقیقی الوضعی؛ لأن کلمة "الفاحشة" لیست من الأشیاء التی تستحق الذهاب إلیها، بل تضمن معنى فعل آخر وهو "تمارس" أی: أتمارسون الفاحشة. أما السؤال فهو: لماذا عدل الله تعالى عن استخدام فعل "تمارسون" إلى استخدام فعل "تأتون"؟ إذا رأینا إلى معاجم اللغة نرى أن فعل "أتى" مصدره الإتیان أی: المجیء وإذا أخذ هذا الفعل مفعولاً به یضمن معنى وافق مثل أتیته على ذلک الأمر: أی وافقته وطاوعته (الزبیدی، د.ت، «أتا»). وقیل أیضاً: «المجیء کالإتیان، لکن المجیء أعم، لأن الإتیان مجیء بسهولة» (الراغب، د.ت, «أتى») وأتى المرأة بمعنى "باشرها وجامعها" والآیة التی تصدّق رأینا قوله تعالى: ]فَإِذَا تَطَهَّرنَ فَأتُوهُنَّ مِن حَیثُ أَمَرَکمُ اللهُ[ (البقرة:222) لذا؛ نفهم من هذه الآیة أن قوم لوط A کانوا یمارسون هذا العمل القبیح بسهولة وعن میل؛ فجمع التضمین المعنیین: الإقبال علیه وقبوله. إن النوع الآخر من التناوب فی الأفعال هو تضمین فعل معنى الفعل الناسخ فیتعدّى إلى مفعولین، أصلهما مبتدأ وخبر ویشیع فی الصیرورة؛ کقوله تعالى:]وَظَلَّلْنَا عَلَیْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَیْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى[(الأعراف: 160) نلاحظ فی هذه الآیة الکریمة أن فعل "ظلل" هنا بمعنى "جعل" لذلک عدّی بالمفعولین أصلهما مبتدأ وخبر وهما: (علیهم الغمام) کما نرى أن الله تعالى عدل عن استخدام فعل "جعل" إلى استخدام فعل "ظلل" وما هو الغرض من هذا العدول؟ إذا دققنا النظر إلى سیاق الآیة نرى أنه لما ذکر تعالى ما دفعه عنهم من النقم، شرع یذکرهم بما أسبغ علیهم من النعم فقال: (وظَلّلنَا علیهم الغمام) ولم یقل (وجعلنا علیهم السحاب) وعلینا بالدقة إلى الفرق بین الکلمتین: (الغمام والسحاب). إن الغمام هو جمع غمامة، سمّی بذلک لأنه یغم السماء، أی: یواریها ویسترها. وهو السحاب الأبیض، ظللوا به فی التیه لیقیهم حرّ الشمس (ابن کثیر،1997م، ص 266)، أمّا السحاب من السَّحب وأصل السَّحب الجرّ کسحب الذیل والإنسان على الوجه ومنه السّحاب إمّا لجرّ الریح له أو لِجرّه الماءَ والسّحاب الغیم فیها ماءٌ (الراغب،د.ت, «سحب») إذن، یصبح معنى هذه الآیة: وجعلنا هذا الغمام ظلیلا علیهم فی التیه ومن ثم أن هذا السحاب لم یأت إلا لوقایة القوم حرّ الشمس؛ فجاء الله تعالى بفعل "ظلل" بدل فعل "جعل" لیرینا شدة تلاؤم اللفظ مع المعنى. النموذج الآخر لهذا النوع من التناوب قوله تعالى: ]تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُیُوتًا[ (الأعراف: 74) نلاحظ أن فعل "تنحتون" یضمن معنى ما یتعدّى لاثنین، أی: وتتخذون الجبال بیوتاً بالنحت أو تصیرونها بیوتاً بالنحت کما أشار إلیه القرطبی: «اتخذوا البیوت فی الجبال لطول أعمارهم» (القرطبی،2006م، ص 239)، أمّا السؤال الرئیسی فهو: لماذا لم یقل الله تعالى (وتتخذون الجبال بیوتاً) وعدل عن هذا الفعل إلى استخدام فعل "تنحتون"؟ تشیر المعاجم اللغویة إلى أن فعل (تنحت) من النحت أی: نحت الحجرَ والخشبَ ونحوهما من الأجسام الصلبة (الراغب، د.ت، «نحت») والجبال من الأجسام الصلبة الملتویة مع الصخور الغلیظة وبناء البیوت من هذه الجبال عمل شاق جدا وهم صیّروا الجبال بیوتاً بالنحت لتقیهم هذه البیوت المنحوتة من الجبال من البرودة لطول أعمارهم لأنه قیل: کانوا یسکنون فی الصیف قصوراً، وفی الشتاء البیوت المنحوتة فی الجبال (الزمخشری، 1998م، ص 465). 4 ـ 2ـ التناوب فی الأسماء تعدّ ظاهرة التناوب بین الأسماء من الظوهر الأسلوبیة والغرض منها ورود اسم فی الآیة بدیلا عن نظیر له ولا یعنی ذلک أن أی اسم من الأسماء یصلح لأن ینوب عن غیره، إذ لابد أن تکون هناک مشابهة أو علاقة بین الاسم النائب الوارد فی السیاق والآخر المنوب عنه (سلیمان، 2008م، ص 113).جاء هذا النوع فی مواضع من هذه السورة المبارکة، منها ما ورد فی قوله تعالى: ]لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ یَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْیُنٌ لاَّ یُبْصِرُونَ بِهَا[(الأعراف: 179). نلاحظ أن التناوب فی ترکیب (لهم قلوب لا یفقهون بها) والقیاس لا یقال: القلب یفهم بل نقول: العقل یفهم ویدرک، والقلوب اسم لموقع العقول, «والمراد منها هنا الألباب والعقول، والعرب تطلق القلب على اللحمة الصنوبریة، وتطلقه على الإدراک والعقل، ولا یکادون یطلقونه على غیر ذلک بالنسبة للإنسان وذلک غالب کلامهم على الحیوان، وهو المراد هنا، ومقره الدماغ لا محالة ولکن القلب هو الذی یمده بالقوة التی بها عمل الإدراک» (ابن عاشور، 1984م، ص 255). طبقا لقانون المصاحبة اللفظیة نقول: (لهم عقول لا یفقهون بها) لکن عدل الله تعالى عن هذا القانون لنقطة دلالیة لا یمکن لکلمة عقل أن تعبّر عنها. والقرینة التی تسوقنا لاختیار التناوب فی (القلب) هنا فعل یفقهون. الفقه فی الأصل اللغوی هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم والفِقه هو العلمُ بأحکام الشریعة وفَقه أی: فهم (الراغب، د.ت, «فقه»). على أساس هذه القرینة، نرى أن الإتیان بالقلوب هنا بدل العقول أفضل؛ لأن فهم أحکام الشریعة والتأمل فی الوحدانیة وصدق الرسول کلها لا یمکن انحصارها بالإدراک العقلی دون إدراکها بالقلب والقلب کما قیل هو الذی یمده بالقوة التی بها عمل الإدراک. تکرر هذا النوع فی موضع آخر من هذه السورة المبارکة حیث قال الله تعالى: ]وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ یَسْمَعُونَ[(الأعراف: 100) کما نلاحظ أنّ الله تعالى جاء بالقلوب ولم یأت بالآذان وفعل (لا یسمعون) هو القرینة التی تدلنا على أن القلب هنا بمعنى الأذن، لکن ما هو الغرض الرئیسی لهذا العدول فی الآیة الکریمة؟ جاء الله تعالى بالقلب؛ لأنّه مکان للحفظ والفهم وهذا یعنی أنّ الکفار لا یفهمون ما یسمعون. إن سیاق الموقف هنا ینبنی على الکنایة التعریضیة للکفار الذین جعلهم الله تعالى فی عداد الموتى الذین لا یسمعون صوتاً، ولا یعقلون دعاءً، ولا یفقهون صوتاً، تهکماً وإزراءً علیهم؛ لأنّ المؤمنین هم الذین یفهمون ما یسمع من الکلام ویقبلونه ویعملون به دون الکفار الذین قد یسمعون لکن لا یفهمون. وکذلک من التناوب الاسمی ما ورد فی قوله تعالى:]حَقِیقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ[ (الأعراف: 105) کما نرى أنَّ اسم (حقیق) عدّی بـ(على)؛ ولا یقال: "فلان حقیق على الإکرام" بل "حقیق بالإکرام" وهو حقیق به ومحقوق به أی: جدیر وخلیق به (الزبیدی،د.ت. «حقق») ولکن لما کان الحقیق هنا فی معنى "حریص" جاء بالحرف (على) إیذاناً وإشعاراً بأنَّه فی معناه؛ لأنه قد روی أن عدوّ الله فرعون قال له لمّا قال ]إِنّی رَسُولٌ مِن رَبّ العَالَمِینَ[، کذّبتَ فقال: أنا حقیق على قول الحق أی: واجب علی قول الحق أن أکون أنا قائله والقائم به (الزمخشری، 1988م، ص 484) وإنما القصد بإتیان هذه الکلمة بدل کلمة "حریص" هو أن یجمع هذا الاسم بالتناوب بین الدلالتین: دلالته الأولى، وهی الخلیق ودلالة الاسم الذی أشرب معناه وهی الحرص والوجوب. ومنه أیضاً قوله تعالى على لسان هارون A عندما یرى فی وجه أخیه موسى A الغضب حیث قال: ]وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِیهِ یَجُرُّهُ إِلَیْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِی[(الأعراف: 150). إن شاهدَ التناوب فی هذه الآیة الکریمة هو ترکیب "ابنَ أمَّ". کما نعلم أن الله سبحانه عدل عن "یا أخی" إلى ذکر کلمة "ابن أم"؛ لأن ذکر الأم تذکیر بأقوى أواصر الأخوة وهی آصرة الولادة من بطن واحد والرضاع بلبان واحد (ابن عاشور،1984م، ص 117) لما رأى هارون A فی وجه أخیه الغضب والحدة لعبادة الیهود، وهم عاکفون على عبادة العجل، سلک فی خطابه مسلک الاستعطاف لإزالة ثورة الغضب عن نفس موسى A فابتدر أخاه بالنداء "ابن أم" وخص الأم بالإضافة استعطافاً لحقها وترقیقاً لقلبه «ولیس لما قیل بأنه کان أخاه لأمه بل على أنهما کانا شقیقین» (ابن کثیر،1997م، ص 477). إن من أهم أغراض النیابة التوسّع فی المعنى، فالإتیان بنائب المصدر قد یوسّع المعنى توسیعا لا یؤدّیه ذکر المصدر وذلک کالمجیء بصفة المصدر بدلا منه فإنک إذا حذفت المصدر وجئتَ بصفته فربّما احتمل معنى جدیدا لم یکن ذکر المصدر یفیده ولا یحتمله وقد یکون التوسع على نحو آخر، وذلک أن یؤتى بملاقی الفعل فی الاشتقاق فنکتسب معنیین (السامرائی،2003م، ص 138), وذلک نحو قوله تعالى: ]اللّهُ مُهْلِکُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِیدًا[(الأعراف: 164) کما نلاحظ، فقد جاء تعالى بالوصف (معذّب) لکن لم یجئ بمصدره، والقیاس أن یقول: معذِّبُهم تعذیبا شدیدا؛ لأن مصدر فعل عذَّب هو التعذیب کعلّم تعلیم، أما العذاب فهو مصدر (عذب) مثل خرب خرابا فجاء بالوصف (معذّب) ولکن لم یجیء بمصدره فجمع معنیین فی آن واحد والمعنى: الله معذِّبهم فیعذبوا عذابا شدیدا وقد جمع المعنیین؛ التعذیب والعذاب فی آن واحد والمعنى أن الله یرید أن یعذِّبهم ثم یریدهم بعد ذلک أن یعذبوا هم بأنفسهم أی دون استئصالهم بالمرة لأن التعذیب هو عذاب الاستئصال والعذاب دون الاستئصال وهو الإیجاع الشدید (الراغب، د.ت، «عذب»). 4 ـ3 ـ التناوب فی الصیغ تجمع هذه السورة المبارکة بعض مواطن التناوب فی مجال الصیغ (المصدر، والجملة والعدد) ونود فیما یلی أن نتوقف إزاء بعض هذه المواطن. نجد تلک الشواهد ـ على سبیل المثال ـ فی قوله $: ]وَکَم مِّن قَرْیَةٍ أَهْلَکْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَیَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ[ (الأعراف: 4)، کما نرى أن الله تعالى جاء بکلمة "بیاتا" مصدراً وقع موقع الحال بمعنى بائتین لکن عدل سبحانه عن هذا الأسلوب بعد حرف عطف "أو" وجاء بجملة اسمیة. وفقا لقانون العطف ینبغی أن یأتی الکلام فی غیر کلام الله بهذا الشکل (فجاء ها بأسنا بیاتا أو قیلولة) أو (فجاءها بأسنا وهم بائتون أو هم قائلون) و«فی التعبیر فی الحال الأولى بالمصدر وجعلها عین البیات وفی الحال الثانیة بالجملة الاسمیة المفیدة فی المشهور للثبوت مع تقدیم المسند إلیه المفید للتقوى ما لا یخفى من المبالغة» (آلوسی، د.ت، ص 15), وإنما خولف بین العبارتین على ما قیل وبنیت الحال الثانیة على تقوى الحکم والدلالة على قوة أمرهم فیما أسند إلیهم لأن القیلولة أظهر فی إرادة الدعة وخفض العیش فإنها من دأب المترفین دون من اعتاد الکدح و«إنما خص هذان الوقتان: وقت البیات ووقت القیلولة؛ لأنهما وقت الغفلة والدعة، فیکون نزول العذاب فیهما أشد» (الزمخشری، 1998م، ص 424). یمکن أن ننظر إلى هذه الآیة من الوجهة الأخرى وهی أن الله تعالى لم یقل لیلاً ونهاراً کأنّه للإشارة إلى أخذ العذاب إیاهم وهم آخذون فی النوم آمنون مما کمن لهم من البأس الإلهی الشدید غافلون، مغفلون (الطباطبائی، 1997م، ص 9). والنموذج الآخر من هذا النوع من التناوب یظهر فی قوله تعالى: ]قَالُواْ یَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِیَ وَإِمَّا أَن نَّکُونَ نَحْنُ الْمُلْقِینَ[ (الأعراف: 115), على أساس قانون العطف ینبغی بإتیان الکلام فی غیر کلام الله بهذا المنوال (إما أن تلقی وإما أن نلقی) أو بشکل آخر وهو (إما أن تکون أنت الملقی وإما أن نکون نحن الملقین) لکن نرى فی هذه الآیة عدولاً عن هذا الأسلوب, ففی ضوء قانون العطف یصبح تجانس المتعاطفین أمراً مألوفاً فی الأسلوب العربی، فیکون الحکم بوجود ظاهرة عدولیة فی الآیة أمراً مقبولاً لکن ما هو الغرض الرئیسی لهذا العدول؟ إن التأمل الدقیق فی بنیة المعدول إلیه یکشف عن قیم دلالیة تحققها ظاهرة العدول إلى صیغة أخرى وهی أن تغییرهم للنظم بتعریف الخبر، وتوسیط ضمیر الفصل وتأکید ضمیر المتصل ینبئ عن رغبتهم فی التقدیم وقد جاءوا بکلام یسترهب موسى A ویهول شأنهم فی نفسه واعتنوا بما یدل على ذواتهم بزیادة تقریر الدلالة فی نفس السامع المعبر عنها فی حکایة کلامهم بتأکید الضمیر (الزمخشری، 1998م , ص486), وإذا کان الکلام مستساغا مع قانون العطف، لم یکشف عن هذه المعانی الدقیقة والخفیة فی الآیة الکریمة. یوجد النمط الآخر من هذا العدول الذی تحقق مبنى التناوب فی هذه السورة وهو قوله تعالى: ]فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ کُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِینَ[(الأعراف: 166), وفقا لقانون النحو ینبغی أن تأتی الجملة فی غیر کلام الله بهذه الصورة: (کونوا قردة خاسئة) لامتناع الجمع بالواو والنون فی غیر ذوی العلم؛ لکن الله تعالى أتى بالجملة (کونوا قردة خاسئین) وعدل عن هذا القانون, لماذا؟ أجیب بأن ذلک على تشبیههم بالعقلاء، أو باعتبار أنهم کانوا عقلاء، أو بأن المسخ إنما کان بتبدل الصورة فقط، وحقیقتهم سالمة (آلوسی، د.ت، ص 225). ومن نماذج التناوب فی التراکیب التی وردت فی النص القرآنی قوله تعالى: ]سَوَاء عَلَیْکُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ[(الأعراف: 193), فقد حقق التناوب هنا فی الترکیب النحوی بین الفعلیة والاسمیة؛ لأن فی الآیة عدولا عن الجملة الفعلیة إلى الجملة الاسمیة والبنیة التحتیة هنا (أدعوتموهم أم صمتم) وإن الجملة الفعلیة (دعوتم) تمثل القاعدة السیاقیة التی تم العدول عنها؛ فإن إیثار الجملة الفعلیة هذه ابتداءاً فیه إشعار ضمنی بتوجه السیاق إلى بناء نسق متتابع من الأفعال الماضیة، ویأتی قانونا المعادلة والعطف لیعززا هذه الفکرة لدى المتلقی؛ ففی ضوء هذین القانونین یصبح تجانس المتعاطفین أمراً مألوفاً فی الأسلوب العربی، فیکون الحکم بوجود ظاهرة عدولیة فی الآیة أمراً مقبولاً. لکن ما هو الغرض الرئیسی لهذا العدول؟ فالجملة الاسمیة یلجأ إلیها المبدع للتعبیر عن الحالات التی تحتاج إلى التوصیف والتثبیت، ذلک أن الاسم یخلو من الزمن، ویصلح للدلالة على عدم التجدّد وإعطائه لونا من الثبات أما الفعل فیدخل فیه عنصر الزمن والحدث، بخلاف الاسم الذی یخلو من عنصر الزمن، ولأنّ عنصر الزمن داخل فی الفعل، فهو ینبعث فی الذهن عن النطق بالفعل، ولیس کذلک الاسم الذی یعطی معنى جامدا ثابتا، لا تتحدد خلاله الصفة المراد إثباتها (درویش، د.ت, ص 153). وقیل: إن جملة (سَواءٌ عَلَیْکُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) استئناف مقرر لمضمون ما قبله ومبین لکیفیة عدم الاتباع، أی مستو علیکم فی عدم الإفادة دعاؤکم لهم وسکوتکم؛ فإنه لا یتغیر حالکم فی الحالین کما لا یتغیر حالهم بحکم الجمادیة، وکان الظاهر الإتیان بالفعل فیما بعد أَمْ لأن ما فی حیز همزة التسویة مؤول بالمصدر، لکنه عدل عن ذلک للإیذان بأن أحداث الدعوة مقابل باستمرار الصمات، وفیه من المبالغة ما لا یخفى (آلوسى، د.ت، ص 563). وقیل أیضا: وقع قوله (أم أنتم صامتون) معادل (أدعوتموهم) مع اختلاف الأسلوب بین الجملتین بالفعلیة والاسمیة، فلم یقل: (أم صمتم) لأنه رأس الآیة أی لمجرد الرعایة على الفاصلة وأن الجملتین بین البلیغ سیان وهذا العدول إلى الاسمیة من مقتضى الفصاحة لأن الفواصل والأسجاع من أفانین الفصاحة (ابن عاشور، 1984م، ص 219). والنموذج الآخر للعدول فی التراکیب قوله تعالى: ]فَرِیقًا هَدَى وَفَرِیقًا حَقَّ عَلَیْهِمُ الضَّلاَلَةُ[(الأعراف: 30), ویلاحظ أن السیاق یعبر عن قضیة الهدایة بصیغة الماضی (هدى) وعن قضیة الضلال بصیغة الاسم (الضلالة) فهل لهذا المنحى الأسلوبی ما یبرره؟ نقول: ولم یقل عنهم :وفریقًا أضل؛ لأن فیه إشارة إلى استحقاقهم الإضلال لهم من الله لتولیهم الشیطان «وبذلک یظهر حسن موقع لفظ "حق" هنا دون أن یقال أضله الله لأنّ ضلالهم قدیم مستمر اکتسبوه لأنفسهم ولیس تغییر الأسلوب بین "فریقاً هدى" وبین "فریقا حق علیهم الضلالة" تحاشیاً عن إسناد الإضلال إلى الله» (ابن عاشور،1984م، ص 91). 4 ـ 4 ـ التناوب فی الجملة من الواضح فی هذا القسم أن الجمل فی المستوى السطحی ستنوب عن الجمل فی المستوى العمقی من قبیل التضمین، بمعنى أنها تضمنت جملا محذوفة سدت مسدها فی السیاق. مثال ذلک قوله تعالى: ]وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِینَ لَیْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ[ (الأعراف: 142) إذا أمعنا النظر فی هذه الآیة الکریمة، نرى أن الله تعالى بدل أن یقول: (وواعدنا موسى أربعین لیلة) قال: (وواعدنا موسى ثلاثین لیلة وأتممناها بعشر) ما الفرق بین هذین القولین؟ نقول: إن الله تعالى أمره بصوم ثلاثین یوما وأن یعمل فیها بما یقرّبه من الله ثم أنزلت علیه التوراة فی العشر وکلّم فیها لهذا نلاحظ أن الله تعالى فصل جملة (وأتممناها بعشر) وهو ضم عشرة إلى ثلاثین لتصیر بذلک أربعین، لیبین کیفیة نزول التوراة على موسى A (الزمخشری، 1998م، ص 500), وقیل: جیء به رمزا إلى أنه لم یقع فی تلک العشر ما یوجب الجبر (آلوسی، لاتا، ص 336) إذا دققنا النظر إلى التناوب فی الجمل، یظهر لنا أن هذا النمط من التناوب یأتی کثیرا ما فی الجمل الکنائیة والتی أبلغ من التصریح. نلاحظ فی مواضع عدیدة فی السور الکریمة أن القرآن الکریم استعان بهذا الأسلوب؛ لأنه تعجز الحقیقة أو البنیة العمیقة کثیرا ما أن تؤدی المعنى کما أدته الکنایة، مثل قوله تعالى: ]وَلَمَّا سُقِطَ فَی أَیْدِیهِمْ[ (الأعراف: 149), إن الأصل الافتراضی المتخیل فی جملة (ولما سقط فی أیدیهم) هو (ولما ندموا) أو بعبارة أخرى إن الأصل بین قطبی الظاهرة العدولیة هو (المعدول عنه: ولما ندموا) و(المعدول إلیه: ولما سقط فی أیدیهم) ولکن ما هو الغرض لهذا العدول؟ إن القرآن الکریم قام بإتیان هذه البنیة لتحویل کلامه إلى عمل فنی متمیز ویجعل لغة القرآن سمةً بارزةً. وأما ترکیب (ولما سقط فی أیدیهم) فقد ورد ذکره فی القرآن الکریم مرة واحدة وفعل (سقط) مسند إلى (فی أیدیهم)، وهو من باب الکنایة؛ لأن هذه الجملة تصوّر لنا شدة ندم قوم موسى A وحسرتهم على عبادة العجل، ومن شأن من اشتد ندمه وحسرته أن یعضّ یده غمَّا، فتصیر یده مسقوطاً فیها لأن فاه قد وقع فیها (الزمخشری، 1998م، ص 510) فإن العادة أن الإنسان إذا ندم على شیء عضَّ بفمه على أصابعه فسقوط الأفواه على الأیدی لازم للندم، فأطلق اسم اللازم، وأرید الملزوم على سبیل الکنایة. والترکیب الکنائی الآخر الذی یحقق تناوبا فی هذه السورة الکریمة قوله تعالى: ]وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِینَ کَذَّبُواْ بِآیَاتِنَا[ (الأعراف: 72), إن الأصل اللغوی فی معاجم اللغة حول کلمة (دابر) وهی من الدبُر نقیض القبُل والدُّبُر من کل شیء عقبُه والدَّبرُ خلفُ الشیء والدَّبرِ: الموت ودابر الرجل: مات (الزبیدی، لاتا: «دبر»), فقطع دابر القوم أی استوصل، قال الأصمعی وغیره، الدابر: الأصل (المصدر نفسه, «دبر»). إذا نظرنا إلى کتب التفسیر نرى أنها ذهبت إلى ما ذهبت إلیه معاجم اللغة من حیث إن معنى (قطعنا دابرَ الذین کذبوا بآیاتنا) کنایة عن الاستئصال. والدابر الآخر أی أهلکناهم بالکلیة ودمرناهم عن آخرهم. واستدل به بعضهم على أنه لا عقب لهم (آلوسی، د.ت، ص 195). قال الطباطبائی: «الآیة کنایة عن إهلاکهم وقطع نسلهم فإن الدابر هو الذی یلی الشیء من خلفه» (الطباطبائی، 1997م، ص 184). إن البنیة العمیقة لهذا الترکیب هی (استأصلنا القوم الذین کذبوا) لکن نرى فی البنیة السطحیة (قطعنا دابرَ الذین کذبوا), فما هو الغرض فی هذا العدول؟ قد اشتق القرآن الکریم من معنى (استئصال القوم) ترکیب (قطعنا دابر المکذبین) لیدل به على العقاب الذی ینزله الله تعالى بالقوم الکافرین الذین وسمهم بالکافرین فی الآیة وهو استئصال من الأصول وهذا الترکیب الکنائی أبلغ من التصریح وأولى لأداء معنى الاستئصال حیث یرینا أن القوم الکافرین لم تبق لهم باقیة. ومن الأمور الأخرى التی تدل على التناوب فی الجمل، ما یرتبط بأسلوب الشرط أو شبهه, فإن کلمة الشرط تطلب جملتین، یلزم من وجود مضمون أولاهما فرضا حصول مضمون الثانیة، وأدوات الشرط کلمات وضعت لتدل على التعلق بین الجملتین، والحکم بسببیة أولاهما ومسببیة الثانیة (ابن هشام، د.ت، ص 271 ،272), وهذا یعنی أن الشرط سبب والجواب مسبب عنه. فکثیرا ما نرى أن القرآن الکریم یحذف جواب الشرط فیجعل الدلیل نفس الجواب وهذا الأمر جائز إن کان فی الکلام ما یدل علیه, کقوله تعالى: ]وَالَّذِینَ یُمَسَّکُونَ بِالْکِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِیعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِینَ[ (الأعراف: 170), لیست هذه الآیة الکریمة من باب أسلوب الشرط بل هی شبیهة بالجملة الشرطیة وإذا أمعنا النظر فیها نشاهد أن القرآن الکریم حذف جواب الشرط أو خبر الموصول الرئیسی وهو (فأولئک هم الموجورون) وجاء بالجملة الأخرى مکانه وهی (إنا لا نضیع أجر المصلحین) لکن ما هو الغرض من هذا التناوب؟ کما أسلفنا الذکر، إن جواب الشرط أو شبهه یجب أن یکون مسببا عنه وهذا الأمر هو الدلیل الرئیسی لوجود التناوب فی الآیة الکریمة لأن جملة (إنا لا نضیع أجر المصلحین) لا یمکن أن یکون مسببا عن الموصول وإعادة الشرط أو المبتدأ بمعناه لتأکید الخبر من أجل رسوخه فی الذهن هو الدلیل الرئیسی لهذا التناوب, فإن المصلحین هم الذین یمسکون بالکتاب وطوی ذکرهم اکتفاء بشمول الوصف لهم وثناء علیهم على طریقة الإیجاز البدیع (ابن عاشور، 1984م، ص 164). وشبیه بهذا الباب قوله تعالى:] وَالَّذِینَ عَمِلُواْ السَّیِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّکَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِیمٌ[ (الأعراف: 153). هذه الآیة الکریمة نمط آخر من أنماط التناوب فی الجملة حیث تأتی جملة جواب الشرط بدل أخرى فلم یقل الله تعالى: (غفرهم الله) فلم یخصص المغفرة والرحمة بهم بل جعلها عامة، ولم یواجههم بغفران ذنوبهم، وإنما ذکر صفة المغفرة والرحمة فعسى أن تنالهم، ففی حذف الخبر (غفرهم الله): الف) اتساع صفة المغفرة والرحمة ولم یقیدها بهم بل هی شاملة عامة. ب) لم یواجههم صراحة بالمغفرة، وإنما ذکر صفة المغفرة والرحمة فعسى أن تنالهم وذلک لیبقوا فی حالة طاعة وخشیة من معصیة أخرى (السامرائی،2003م, ص 184).
5ـ الخاتمة تثبت دراسة التناوب فى سورة الأعراف أن ظاهرة التناوب فی الأفعال أکثر انتشاراً فی السورة قیاساً مع الأنماط الأخرى وهو یأتی إما بتضمین الفعل معنى آخر وإما بتضمین الفعل الذی لا یأتی مع حرف الجر المختص به، وهذا التنوع الأسلوبی یحقق معنیین فی آن واحد ولا یلغی معنى الفعل المنوب عنه. أمّا التناوب فی الاسم فالغرض منه ورود اسم فی الآیة بدیلا عن نظیر له؛ فتناولنا عددا من تلک الأسماء بالتحلیل والدراسة، حیث تحقق لنا بأن التدبّر فی هذه الأسماء النائبة قد هدانا إلى اختصاص کل منها بدلالة أو أکثر من الدلالات الهامشیة التی تجعله تمتاز من الألفاظ الأخرى التی تشارکه فی المعنى العام وأن تکون هناک مشابهة أو علاقة بین الاسم النائب الوارد فی السیاق والآخر المنوب عنه والتی أکثرها یقوم على الترادف کإقامة اللفظ مقام مرادفه والعموم والخصوص. أمّا التناوب فی الصیغ فهو النوع الثالث من التناوب فی هذه السورة المبارکة والذی جاء أکثره فی شکل العدول من الاسم إلى الجملة ومن المسوغات الأسلوبیة التی نتکئ علیها فی افتراض وجود ظاهرة التناوب فی هذا النوع، وقوع طرفی بنیة العدول تحت سلطة قانون العطف، وهو من المرجحات الأسلوبیة للتماثل الصیغی بین الدوال اللغویة. أمّا التناوب فی الجمل فالغرض منه إقامة جملة مقام جملة أخرى وهو النمط البدیع فی نوعه ولا یأتی إلا للتوسع فی المعانی التی لا نراها فی البنیة العمیقة؛ المعانی الدقیقة التی یرینا السیاق والبنیة السطحیة والمستوى الفنی من الکلام. کان التوسع فی المعانی، نقطة مشترکة من جمالیة التناوب فی الآیات الکریمة بأسرها، أما الغرض الرئیسی من التناوب فی الآیات یختلف باختلاف المعانی والسیاقات التی وردت فیها الآیة وأیضاً کانت علاقة الترادف واللزوم بین الکلمة النائبة والمنوب عنها، أکثر انتشاراً بین الآیات الکریمة فی السورة المبارکة. الهوامش * المراد بالأعراف أعالی الحجاب الذی بین الجنة والنار وهو المحل المشرف على الفریقین أهل الجنة وأهل النار جمیعاً (الطباطبائی، 1997م، ص 123). ** النحو التولیدی هو من المباحث الهامة التی ینادی بها التحویلیون وهدف هذه النظریة التی عرضها تشومسکی فی کتابه syntactic structures "الأبنیة النحویة" الذی صدر سنة 1957م قد تمثل بصورة أساسیة فی شرح الترکیب، أی فی تعیین القواعد النحویة الکامنة وراء بناء الجمل (عبد اللطیف، 2000م، ص 34).
| ||
مراجع | ||
المصادر والمراجع µ القرآن الکریم 1. ابن کثیر، أبو الفداء إسماعیل بن عمر. (1997م). تفسیر القرآن العظیم. (تحقیق سامی بن محمد السلامة). الجزء الأول والثالث. المملکة السعودیة: دار الطیبة للنشر والتوزیع. 2. ابن منظور، محمد بن مکرم. (د.ت). لسان العرب. بیروت: دار صادر. 3. ابن هشام، عبدالله. (د.ت). مغنی اللبیب عن کتب الأعاریب. (علّق علیه أبو عبدالله الجنوبی). (ج2). بیروت: دار إحیاء التراث العربی. 4. آلوسی، محمود أبو الثناء. (د.ت). روح المعانی فی تفسیر القرآن العظیم والسبع المثانی. بیروت: دار إحیاء التراث العربی. 5. الجرجانی، عبد القاهر. (1978م). دلائلالإعجاز. (تحقیق محمد رشید رضا). بیروت: دار المعرفة. 6. حسام الدین، کریم زکی. (2001م). أصولتراثیةفیاللسانیاتالحدیثة. (ط3). القاهرة: الرشاد للطباعة. 7. درویش، أحمد. (د.ت). دراسة الأسلوببینالمعاصرةوالتراث. القاهرة: دار غریب للطباعة والنشر والتوزیع. 8. الزبیدی، محمد مرتضى. (1972م). تاج العروس من جواهر القاموس. (تحقیق إبراهیم الترزی). کویت: مطبعة الکویت. 9. الزمخشری، جار الله أبی القاسم محمود بن عمر. (1998م). الکشاف عن حقائق غوامض التنزیل وعیون الأقاویل فی وجوه التأویل. (تحقیق عادل أحمد عبد الموجود وعلى محمد معوّض). (ج 2و3). الریاض: مکتبة العبیکان. 10. سامح ربابعة، موسى. (2003م). الأسلوبیة مفاهیمها وتجلیاتها. کویت: جامعة الکویت. 11. السامرائی، فاضل صالح. (2003م). معانی النحو. (الجزء الأول). القاهرة: شرکة العاتک لصناعة الکتاب. 12. سلیمان، فتح الله أحمد. (2008م). الأسلوبیة: مدخل نظری ودراسة تطبیقیة. القاهرة: دار الآفاق العربیة. 13. شفیعی کدکنی، محمد رضا. (1386هـ.ش). موسیقی شعر.(چ 10). تهران: موسسه انتشارات آگاه. 14. الصابونی، محمد علی. (1981م). صفوة التفاسیر. (ج3). بیروت: دار القرآن الکریم. 15. الطباطبائی، محمد حسین. (1997م). تفسیر المیزان. (ج8). بیروت: مؤسسة الأعلمی للمطبوعات. 16. عبد اللطیف، محمد حماسة. (2000م). النحو والدلالة مدخل لدراسة المعنى النحوی ـ الدلالی. بیروت: دار الشروق. 17. القرطبی، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاری. (2006م). الجامع لأحکام القرآن. بیروت: مؤسسة الرسالة. 18. محمود خلیل، إبراهیم. (2011م). النقد الأدبی الحدیث من المحاکاة إلى التفکیک. عمان: دار المسیرة. 19. المنصوری، أحمد المهدی. (2013م). النظریة التولیدیة التحویلیة وتطبیقها فی النحو العربی. مجلةجامعةالقدسالمفتوحةللأبحاثوالدراسات. العدد 29. 20. میشال، زکریا. (1986م). الألسنیة التولیدیةوالتحویلیةوقواعداللغةالعربیة (النظریة الألسنیة). د.م: المؤسسة الجامعیة للدراسة والنشر.
| ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 1,803 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 1,346 |