تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,646 |
تعداد مقالات | 13,380 |
تعداد مشاهده مقاله | 30,120,367 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 12,063,772 |
القناع في شعر بدر شاکر السّيّاب: قصيدة «سِفر أيوب» نموذجاً | ||
بحوث في اللغة العربية | ||
مقاله 7، دوره 3، شماره 4، تیر 2011، صفحه 81-89 اصل مقاله (440 K) | ||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | ||
نویسندگان | ||
حامد صدقي* 1؛ رضوان باغباني2 | ||
1استاد گروه زبان و ادبيات عربي، دانشگاه تربيت معلم ـ تهران. | ||
2دانشجوي دکتراي زبان و ادبيات عربي، دانشگاه تربيت مدرس ـ تهران | ||
چکیده | ||
کان بدر شاکر السياب من أقطاب الرواد في الشعر العربي الحديث، و من أوائل من استطاعوا بتجاربهم المبکرة أن يدعموا حرکة الحداثة في الشعر المعاصر. فهو استطاع أن يشقّ الطريق أمام شعر عربي حديث يعبّر عن الحياة العصرية شکلاً ومضموناً، وتمکن من إبداع رموز تدل على نبوغه وإبداعه الفني. وهو يهدف من خلال هذه الرموز إلى التعبير عن الدلالات المعاصرة، والمسائل والمشکلات التي يعانيها الناس. أحد أشکال الرمز هو القناع. وتقنية القناع تعد من أهم التقنيات الشعرية، وأبرز الآليات التي اتّکأ عليها الشعراء في عملية التوصيل الشعري، لما يحمله کل رمز من رموز القناع من طاقة هائلة محملة بالمعاني المتعددة. وبدر شاکر السياب من الشعراء الرواد الذين نجحوا في استخدام القناع، واستدعاء الشخصيات التراثية في قصائدهم. ومن الشخصيات التي اتخذها السياب في قصائده أقنعةً شخصية السيد المسيح، و النبي أيوب، و السِّندباد. والخلاصة أن البحث في هذا المقال يدور حول دراسة أسلوب القناع، واستدعاء شخصية أيوب U في قصيدة «سفر أيوب» لبدر شاکر السياب، ومدى ملائمة الشاعر لتجربة أيوب، وکيفية تعامله مع هذه الشخصية. أما المنهج في هذا البحث، فهو المنهج الوصفي ــ التحليلي. | ||
کلیدواژهها | ||
السیاب؛ أیوب ؛ القناع؛ الرمز؛ الشعر المعاصر | ||
اصل مقاله | ||
المقدمة إن العوامل السیاسیة والاجتماعیة فی المجتمع العربی، وما ألحقته بالإنسانیة من أضرار فادحة، مادیاً ومعنویاً، جعلت الإنسان العربی، والشاعر العربی خاصة، إزاء مجموعة من التناقضات دفعته إلى الخروج عن دائرة المألوف، والتمرد على قیم الثبات والجمود. فکانت القصیدة الشعریة محطة أولى أمام الشاعر، ومیَدان إبداعه (کندی، 2003م، ص7ــ8). فلجأ الشاعر العربی إلى استخدام الرمز وسیلةً فنیةً للتعبیر غیر المباشر عمّا یرید، وتقنّع بشخصیة من شخصیات التاریخ، فتشبّث بها، وانطلق منها نحو ذاته، معبّراً بوساطة التقنّع بها عن مکنونات نفسه، مبیحاً عن طریق التقنّع بتلک الشخصیة عن أسراره إلى المتلقّی. وصارت تقنیة القناع مظهراً من مظاهر الحداثة ومابعدها فی الشعر العربی الحدیث، ولعل بدر شاکر السیّاب ــ وهو من روّاد الشعر العربی الحدیث ــ شاعر عبقریّ فی مجال استخدام تقنیة القناع. فنجد فی دیوانه أقنعة السید المسیح، والنبی أیوب، والسِّندباد. وهذا البحث یتجه إلى دراسة الرمز والقناع فی شعر السیاب، مع الترکیز على قصیدته «سفر أیوب ».
الرمز الرمز فی اللغة: الإشارة والإیماء. (ابن منظور، 1988م، مادة «رمز»)، وهو فی الاصطلاح الأدبی: «علامة تعتبر ممثّلة لشیء آخر ودالّة علیه، فتمثّله وتحلّ محلّه» (ألتونجی، 1999م، ص 488)؛ وهو من الوسائل الفنیة المهمة فی الشعر، یعمد الشاعر فیه إلى الإیحاء والتلمیح بدلاً من اللجوء إلى المباشرة والتصریح. ویعدّ الرمز أسلوباً من أسالیب التصویر، أو وسیلة إیحائیة من وسائله. فکلاهما ــ الرمز والصورة ــ قائم على التشبیه، وعلاقتهما أقرب إلى علاقة الجزء بالکل (فتوح، 1984م، ص139ــ 140). والصور الرمزیة ذاتیة لا موضوعیة، کما یقول الدکتور محمد غنیمی هلال؛ إذ إن الصور الرمزیة «تبدأ من الأشیاء المادّیّة، على أن یتجاوزها الشاعر، لیعبّر عن أثرها العمیق فی النفس فی البعید من المناطق اللاشعوریة، وهی المناطق الغائمة الغائرة فی النفس، ولا ترقى اللغة إلى التعبیر عنها إلا عن طریق الإیحاء بالرمز المنوط بالحدس» (هلال، 1987م،ص 418). والرمز تقنیة عالیة، یرتفع بها شأن الصورة. والإکثار من استخدام الرمز والأسطورة من أبرز الظواهر الفنیة التی تلفت النظر فی تجربة الشعر الجدید. ومن متابعة الرموز القدیمة التی یستخدمها الشعراء المعاصرون یتبیّن لنا أن معظم العناصر الرمزیة إنما یرتبط بالقدیم بشخوص أسطوریِّین (أو دخلوا على مَرّ الزمن عالمَ الأسطورة). وأبرز هذه الرموز الأسطوریة وأکثرها دوراناً هی الشخوص: السِّندباد وسیزیف وتموز وعشتروت وأیوب...(إسماعیل، 1988م،ص202).
القناع القناع (MASQUE) فی اللغة: «ما تتقنّع به المرأةُ من ثوب تُغطّی رأسها ومحاسنها» (ابن منظور، مادة «قنع»)، أما تعریف القناع اصطلاحاً: فهو وسیلة فنیة لجأ إلیها الشعراء للتعبیر عن تجاربهم بصورة غیر مباشرة، أو تقنیة مستحدثة فی الشعر العربی المعاصر، شاع استخدامه منذ ستینیّات القرن العشرین بتأثیر الشعر الغربی وتقنیاته المستحدثة، للتخفیف من حدّة الغنائیة والمباشرة فی الشعر، وذلک للحدیث من خلال شخصیة تراثیة، عن تجربة معاصرة بضمیر المتکلم. وهکذا یندمج فی القصیدة صوتان: صوت الشاعر من خلال صوت الشخصیة التی یعبّر الشاعر من خلاله (عزام، 2005م، ص 1). و«یمثّل القناع شخصیة تاریخیة ــ فی الغالب ــ یختبئ الشاعر وراءها لیعبّر عن موقف یریده، أو لیحاکم نقائص العصر الحدیث من خلالها» (عباس، آ 1978م، ص 121). وهذا المصطلح لم یظهر إلا بعد مضی أحد عشر عاماً ــ تقریباً ــ على ظهور أول قصیدة قناع تکوینی فی الشعر العربی المعاصر، وهی قصیدة «المسیح بعد الصلب» لبدر شاکر السیاب التی قد کتبت ونشرت فی العام 1957 (بسیسو، 1999م، ص 108). فالقناع مصطلح جدید، وهو وسیلة إیحاء وتعبیر عن تجارب معاصرة عن طریق الاختفاء وراء شخصیة من الشخصیات التاریخیة ــ التراثیة. والشاعر بهذا الأسلوب یحقق حالة من الاتحاد والامتزاج بینه وبین القناع، بحیث یصبحان معاً کیاناً جدیداً لا یمثل الشاعر تمام التمثیل، ولا یمثل الشخصیة تماماً أیضاً، أی یتوحّدان توحّداً فنیاً رائعاً. فی بنیة قصیدة القناع، لا یُسمع صوت الشاعر وصوت الشخصیة التراثیة مستقلَّین، بل تبرز فی النص أشکال المجاذبة الناتجة عن هذا الترکیب الصوتی؛ لأن الشاعر لا یستدعی شخصیة صامتة، بل یستدعی شخصیة تحمل صوتاً یمیّزها، ویکشف عن هویتها، ویستعیر شکلها. ولا یتحدث بصوته فحسب، بل بصوت الشخصیة المستدعاة؛ لذلک تخرج قصیدة القناع بصوت واحد مرکب، لانستطیع معه معرفة إن کان صوتاً للشخصیة التراثیة أم للشاعر؛ لأن کلا الصوتین یتزاحم فی أضیق مساحات النص التی تتضمنها فی الصعود والهبوط، ویدخلان فی سیاق جدید یعید إنتاجهما صوتاً واحداً، یخرج من صُلبَیهما(السلیمانی،آ 2007م، ص 33). ولهذا نرى فی قصائد القناع نوعاً من التفاعل بین الشاعر والشخصیة التاریخیة، تفاعلاً عضویاً قادراً على إخفاء الشاعر إلى الحد الذی لا یعود فیه مرئیا لدى المتلقی، ولکن بموازنة محسوبة تحول دون طغیان أحدهما على الآخر. و«القناع حیلة بلاغیة أو رمز أو وسیلة للتعبیر عن تجربة معاصرة. وهذا یعنی أنه لابد من أن یکتشف المتلقی بنفسه وبمساعدة القرائن النصیة أن المقصود هو الحاضر، وما القناع سوى وسیلة إخفاء وإبعاد فنیة؛ ولذلک جنح الشاعر إلى الاستفادة تناصّیّاً من تجربة أو موقف أو رؤیاً أو حدث شهیر فی الماضی، لیتقنع بها، ویعیدها إلى الأذهان ضمن تجربة جدیدة مماثلة، فتتعدد أصوات القصیدة وتتفاعل هارمونیاً ودرامیاً؛ فیبتعد بذلک قلیلاً عن الصوت الأحادی والمباشرة، ویضفی على عمله الشعری شیئا من الموضوعیة والتعدد والاختلاف والتکامل والغموض الفنی الشفاف. فکلما کان الحدث المستعار من الماضی شائعاً فی أذهان المتلقین، کان الاتصال بین الشاعر وجمهوره سلیماً (الموسى، 1999م، ص 1). وتتأسس قصیدة القناع على قاعدة یدخل الرمز فی بنیاتها المختلفة، وفی تواتراتها الداخلیة؛ فللرمز حضور قوی و وجود حی فی لحمتها، وفی سیاقاتها النصیة والدلالیة. وعلاقة القناع بالرمز علاقة ارتباط الجزء بالکل، أوالخاص بالعام؛ فالقناع جزء خاص ودقیق من أجزاء الرمز المختلفة. له خصائصه وحضوره الذی یمیزه عن غیره من الأنواع أو الأشکال الرمزیة. وإن عدّ النص المقنّع وعاءً لتداخل شخصیة الشاعر وتفاعلها الترکیبی مع الشخصیة التراثیة، فإن الرمز بمثابة الخیط الذی یصل هذا التفاعل وتشابکاته فی بناء النص الجدید... (السابق، ص 34). تبیّن لنا من خلال ما مضى أن الرمز یرتبط بالقناع برابطة متینة، و أن تقنیة القناع تقع ضمن دائرة الرمز؛ لأن عملیة التقنع تنهض،أساساً،على استخدام متطور للرموز و الشخصیات. فمن الممکن، أن یرتقی کل قناع محکم إلى مستوى الرمز وفاعلیته، لکن الرمز لا یتحول، بالضرورة، إلى القناع. والأدیب یرمز فی شعره إلى الذات وإلى الموضوع. فقد یقصد بالرمز ذاته، وقد یقصد الموجودات والأحداث والکائنات حوله، أما القناع، فهو وسیلة فنیة للتعبیر عن الذات فقط. فالقناع فی الشعر العربی الحدیث ظاهرة مهمة من ظواهره، وأداة فعالة اتکأ علیها الشاعر الحدیث فی النهوض بتجارب شعریة عدیدة، شکّل بعضها أهم النتاجات الشعریة. ولقد اعتمد أغلب الشعراء على شخصیات تراثیةــ تاریخیة عند اتخاذهم الأقنعة الفنیة. الرمز والقناع عند السیاب اعتاد روّاد الشعر الحدیث استخدام الرموز، والأساطیر، والقصص الدینیة فی شعرهم،ولکنه «لم یستعمل شاعر عربی الأسطورة والرمز کما استعملها بدر. ولقد أکثر منهما حتى أصبح من النادر أن تخلو قصیدة من قصائده من رمز أو أسطورة.»(السیاب، 2000م، ص 31) و لقد مرت عملیة بناء قصیدة القناع شکلاً ومضموناً عند الشعراء العرب بسلسلة متصلة من المحاولات والتجارب الشعریة والإبداعیة، کان أولها تلک المحاولة التی اعتمدت خلق صیغة التوحد مع الرمز،وکان بدر شاکر السیاب أول من أخذ شکل التوحد مع رمزه، فهو سجل أولى الخطوات المهمة التی سعت نحو تشکیل القناع الشعری (السلیمانی، ب 2008م،ص 72). فالسیاب هو رائد قصیدة القناع ومؤسسها على مستوى الإبداع (بسیسو، 1999م، ص 279). وقصیدته «المسیح بعد الصلب» من أوائل القصائد المؤسَّسة على تقنیة القناع، إن لم تکن أقدمَها على الإطلاق (کندی، 2003م، ص185). کان السیاب یتکئ على شخصیات ورموز تاریخیة وأسطوریة. فقد کان بحکم موقعه الزمنی شدید البحث عن الرمز لا یهدأ له بال. وکانت حاجته إلى الرموز قویة بسبب نشوبه فی أزمات وتقلبات نفسیة وجسمیة، وبسبب التغییرات العنیفة فی المسرح السیاسی بالعراق حینئذ؛ ولهذا یصلح السیاب نموذجاً للشاعر الذی یطلب الرمز فی قلق من یبحث عن مهدّئ لأعصابه المستوفزة... وبهذا یکون السیاب قد فتح المجال بعده لمن شاء أن یستخدم الرموز، وإن تجاوزه بعضهم فی القدرة على الاختیار وفی طریقة الاستخدام (عباس، آ 1978م، ص 131). فالرمز الذی اعتبره السیاب مظهراً من مظاهر الشعر الحدیث أبرز الوسائل التی استخدمها الشاعر فی بناء الصورة، وتوسیع دلالاتها، وبناء عالمه الشعری المغایر. وهو یجعل الرمز أداة فنیة وسیاسیة یصبّ فیه کل طاقاته الشعریة، متخذاً من إیحاءاته الحیّة وما یفجّره من مغزى وإیماء بدائی طریقاً إلى تعمیم التجربة الإنسانیة فی کل حین (علی، 1984م، ص 104ــ105). «فوجد بدر فی الأسطورة وسیلة رمزیة للتعبیر عن إیمانه بانتصار الحیاة على الموت... والحقیقة أن ما شدّ السیاب للأسطورة ولعُه بالأسلوب غیر المباشر، إضافة إلى أنه کان یرید أن یتجنّب الاضطهاد السیاسی، فضلاً عن إدراکه قیمة استعمال الرمز اللغوی» (بیضون، 1991م، ص 70 ــ71). وقد تطور السیاب فی کیفیة استدعاء الشخصیات، و حاول أن یجذب القناع إلى تجربته، ویستلهم صوته أو تجربته، ویتقمّص شخصیة القناع، و یقوم بدورها للتعبیر عن واقع معاصر و تجربة معاصرة. ومن الشخصیات التی یتقنّع بها شخصیة أیوب النبی. فهو من متکررات العهد القدیم، والقرآن الکریم، والتراث الشعبی فی کثیر من الثقافات. والسیاب فی مرحلته المرضیة استلهم تجربة النبی أیوب A فی محنته المرَضیّة التی جاء فی الکتب المقدسة. أیوب U فی الشعر المعاصر رمز للصبر على البلاء، والإیمان فی المحن، والرّضا التامّ بقضاء الله. وقد شاع أیوب بهذه الدلالة منذ أن استخدمه بدر شاکر السیاب للتعبیر عن مرحلته المرَضیّة. فهو لم یجد ملجئاً یلوذ به سوى الصبر على البلاء. وقد وجد أن شخصیة أیوب هی أکثر الشخصیات تراسلاً مع هذا البُعد من أبعاد تجربته (زاید، 1997م، ص90).
تحلیل قصیدة«سفر أیوب» استخدم السیاب شخصیة أیوب فی قصیدته «سفر أیوب» استخداماً مباشراً للتعبیر عن مرحلة من مراحل تجربته. فقد کتب هذه القصیدة فی لندن فی أثناء استشفائه، بعیداً من عائلته وأصدقائه. وفیها یتحلّى بالصبر والتجلّد على غرار النبی أیوب فی العهد القدیم (بطرس، د. ت، ص 255). تتسم هذه القصیدة بالغنى، وتعبّر عن سعة المحزون التجاربی وطول الباع الشعری(بیضون، 1991م، ص 106ــ107). تتألف القصیدة من عشرة مقاطع، یتجلّى أسلوب السیاب فی بنائها على تقنیة القناع. وعندما نتأمل فی القصیدة، نلاحظ أن الشاعر یلجأ إلى شخصیة أیوب U، یتقمّصها، ویتّحد بها اتحاداً تاماً. فیتخذ السیاب من هذه الشخصیة الدینیة قناعاً للتعبیر عن تجربته فی مرضه الأخیر. وبذلک تحتوی القصیدة على مکوّنات الشخصیة والشاعر معاً فی آن واحد، بحیث یصعب فصلها أو تمییزها. «وقد بلغ من قوة الامتزاج بین السیاب وبین رمز أیوب الذی اختاره لیکون رمزه الأساسی فی تلک المرحلة أن الشعراء الذین رثوا السیاب بعد موته، مزجوا بدورهم بینهما. فکانوا یتحدثون عن السیاب باعتباره أیوب» (زاید، 1997م،ص90). یبدأ السیاب قصیدته بعبارة دعاء واستعطاف: «لک الحمد مهما استطال البلاء ومهما استبدّ الألم لک الحمدأنّ الرزایا عطاء وأن المصیبات بعض الکرم» (السیاب، 2000م،ص 149). عند التأمل فی هذا المقطع نکتشف أن وراء المعنى الظاهر ثمة دلالاتٍ عمیقةً أخرى. «لک الحمد» عبارة دعاء واستعطاف، ولکنها تأخذ بُعداً آخر فی فکرنا، ویبعث على الألم المضمر بقدر ما یوحی ظاهرُ العبارة بالرضا والراحة والسکون. والذی یجعل هذه العبارة تنفجر هو ما یأتی بعدها من هدیر موجع: «مهما استطال البلاء، ومهما استبدّ الألم»، وما یعقبها من تقریر مفجع بأن الرزایا عطاء، وبأن المصیبات التی ننالها لیست سوى بعض الکرم. فالسیاب فی هذه القصیدة یُبدی روحاً جدیدة عالیة من الصبر والتحمل والأمل (بلاطة، 1971م، ص 140). وهو یتوجه على لسان النبی أیوب إلى اللّه # یشکره على بلایاه الکبیرة: «فنبرة الحمد على البلاء، وتحوّل المصیبة إلى عطاء، والاستسلام القدَریّ الکامل، والتوجه إلى اللّه بما یشبه فناء المحب فی المحبوب، هی نبرة أیوبیة خالصة إلى أبعد حدّ، وهی تنتمی إلى أیوب بقدر ما تنتمی إلى الشاعر» (أحمد، 1984م، ص 300). ویقول أیضاً فی المقطع نفسه: «شهورٌ طوال وهذی الجراح تُمزّق جنبَیَّ مثلَ المُدى ولا یهدأ الداءُ عند الصباح ولا یسمح اللیل أوجاعه بالردى. ولکنّ أیوب إن صاح، صاح: لک الحمد أن الرزایا ندى، وأن الجراح هدایا الحبیب أضمّ إلى الصدر باقاتِها، هدایاک فی خافقی لاتغیب، هدایاک مقبولة، هاتِها!» (السیاب، 2000م، ص 150). فی هذه الأبیات نلاحظ وصف مظاهر الألم والمعاناة. فصاحب الصوت یتمزّق ألماً وجراحاً طوال اللیل، والداء لا یفارقة مساءً وصباحاً. ثم نلاحظ مواقف الشخصیة من تلک الآلام، وطریقة تعاملها معها. فیعمد الشاعر فی هذه الأبیات إلى تجسید المجرد، فالألم عطاء، والرزایا ندى، والجرح هدایا الحبیب. إنها لغة تجسّد الرضا الذی یُبدیه العاشق من معشوقه. حافَظ السیاب على التوازن فی هذا المقطع بین تجربة الماضی وتجربة الحاضر، وبین صوت النبی أیوب وصوته. فالجراح تمزّق جنبی السیاب والنبی أیوب، والآلام متواصلة فی مرضَیهما. واستسلام النبی أیوب لقدره یعنی استسلام الثانی له. وإذا کان النبی یتقبّل هذه الرزایا، ویُمنّی نفسه بالشفاء، فلیس السیاب أقلَّ منه فی ذلک (الموسى، 1999م، ص 13). المرض ربط بین السیاب وبین أیوب، ویمثل استدعاءه لصورة أیوب نهایة المرحلة التی بلغها فی حمّى الروحیة، ولعله لولا المرض، لم یبلغها (عباس، ب 1983م، ص373). فالشاعر یشبه نفسه بأسلوب فنّیّ رائع بأیوب النبی الصابر، کما فی القرآن الکریم، فهو شخصیة نالت الشفاء بعد داء طویل. وفی هذا النص الشعری نرى علاقة بین أیوب النبی والسیاب الشاعر، وهی علاقة الصبر على البلاء، کما جاء فی القرآن الکریم: «وَأَیُّوبَ إِذْ نَادىٰ رَبَّهُ أَنّی مَسَّنِیَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمینَª (الأنبیاء 21: 83). کذلک نرى السیاب یتقمّص هذا النداء الکونی لیصیح: ولکنّ أیوب إن صاح، صاح: لک الحمد أن الرزایا ندى وأن الجراح هدایا الحبیب» وهو یقبل هدایا الحبیب الذی هو البلاء،حیث کان یُؤلمه، ولکن هذا الألمَ کان هدیة الحبیب، و هدیة الحبیب لا تُردّ. فالحبیب فی هذه القصیدة رمز للذات الإلهیة. ثم یأتی الشاعر بتفاصیل لبیان صورة ألمه ومرضه. فهنا فی لندن أصداء بوم، وأبواق سیارة، وأصوات المرضى فی المستشفى، إلى غیر ذلک من الأصوات التی تؤلم من یحمل مشاعرَ رومنسیّة هادئة؛ لذا فصورة لندن مناقضة تماماً لما فی «جیکور» من خضرة وحیاة وأطفال ونخیل. فی المقطع الثانی یصف الشاعر مناخ مدینة لندن فی الشتاء، ویذکر شوقه لابنه «غیلان»،وامرأته «إقبال». وفی المقطع الثالث یحنّ إلى زوجه وأطفاله وجیکور، ویعبّر عن عواطفه الجیّاشة دون وسائط أو رموز. فلا نرى فی هذین المقطعین ما یشیر إلى أیوب النبی، أو ما یدل علیه. وفی المقطع الرابع یعود النبی ثانیة: یا ربّ، أیوبُ قد أعیا به الداءُ فی غربة دونما مال ولا سکن یدعوک فی الدُّجَن یدعوک فی ظلموت الموت أعباءُ نادَ الفؤاد بها، فارحمه إن هتفا. یا منجیاً فُلکَ نوحٍ مزِّق السُّدَفا عنّی، أعِدنی إلى داری، إلى وطنی! أطفالُ أیوب مَن یرعاهم الآنا؟ ضاعوا ضیاع الیتامى فی دجى شات یا ربّ أرجع على أیوب ما کانا: جیکورَ والشمس والأطفال راکضة بین النخیلات... (السیاب، 2000م، ص 153). یعود النبی أیوب فی هذا المقطع، «ولکنه أیوب المغترب عن وطنه وزوجه وأطفاله. وهو لا یمتلک المال أو المنزل، وهو ابن جیکور ذو العُکّاز الذی یتمنى أن یعود إلى وطنه لیُدفن فیه» (الموسى، 1999م، ص 14). فهذا المقطع یعبّر عن آلام السیاب وعواطفه، ولا یحمل من عمق شخصیة أیوب شیئاً. وفی المقاطع التالیة أیضاً یتمنى الشاعر أن یعود إلى وطنه، ویلجأ إلى خیالاته، ویحنّ إلى أطفاله کما یحنّ إلى العراق وجیکور. وفی المقطع العاشر، وهو الأخیر، یخاطب الشاعر غیمة فی أول الصباح، ویطلب منها أن تبرق وترعد وتمطر. والقصیدة تنتهی بهذه الأبیات: وأنت یا شاعر وادیک، أما تَؤوبُ من سفر یطول فی البطاح، تُراقص النهر وتَلثِم المطر أما سمعتَ هاتف الرواح؟: "خامٌ وزنبیلٌ من التراب وآخر العمر ردى". ویطلع القمر. فأبرق، وأرعد، وأرسل المطر قصائدَ احتوى مداها دارةَ العُمُر یا غیمة فی أول الصباح، یا شاعراً یهمّ بالرواح، وودّع القمر! (السیاب، 2000م، ص 160). فهذا رسالة من الذات إلى الذات یؤکد فیها الشاعر قرب المصیر الشخصی واستسلامه لقدَره، وهنا تفترق شخصیته عن شخصیة النبی أیوب، وتبرز تجربة الشاعر (الموسى، 1999م، ص 14). کما نرى فی هذه القصیدة أن الشاعر استخدم تقنیة القناع فی المقطع الأول منها، وقد اختفى وراء شخصیة أیوب 8 وتفاعل معها. وللقصیدة طابع قصصی. فالشاعر أخذ من قصة أیوب نموذجاً لقصیدته، و وقع تحت تأثیر تلک الشخصیة، واستخدم قصة أیوبA لمِا عاناه من صبر، وامتحان وبلاء. وکأنّ الشاعر یعانی ما عاناه أیوب Uمع الرضا بما أصابه. والشاعر یصوّر ما ابتلی به من صبر ، ومرض، وغربة فی لندن. فهناک صفات مشترکة بین شخصیة الشاعر وشخصیة النبی أیوب. یرى الدکتور محمد فتوح أحمد أن السیاب قد وجد أکثر الصیغ ملاءمة لأحزانه الصابرة فی شخصیة أیوبU؛ فامتزج بها امتزاجاً کاملاً. وکان أیوب حقیقةً هو الذی یشکو ویبوح ویهجِس ویأمل (فتوح، 1984م، ص 299). وهذه القصیدة کادت أن تشکّل عملاً درامیاً متمیزاً، لولا نبرة التفجع و النحیب التی انغمس الشاعر فیها، وغطّت معظم أقسام القصیدة (کندی، 2003م، ص 312). یبدو مما مضى أن السیاب یرى شخصیة النبی أیوب قادرة على حمل أعباء تجربته التی یعانیها. فاستخدم هذه الشخصیة استخداماً مباشراً، ولجأ إلى التقنع بها ـ خاصة فی المقطع الأول من القصیدة ـ ، و تفاعل معها وامتزج بها امتزاجاً کاملاً، معبّراً عن بعد من أبعاد تجربته. فالنبی أیوب رمز دینی یلبسه الشاعر، لیعبّر بشکل جدید عن تجربته. کما لاحظنا أن الشاعر فی معظم مقاطع القصیدة یرفع القناع عن وجهه، ویعبّر عن تجربته الذاتیة تعبیراً مباشراً.
النتیجة 1ــ إن القناع أحد أشکال الرمز، ووسیلة للتعبیر عن تجربة معاصرة؛ 2ــ الرمز وسیلة فنّیّة للتعبیر عن الذات و الموضوع. أما القناع، فهو وسیلة فنیة للتعبیر عن الذات فقط؛ 3ــ السیاب هو رائد قصیدة القناع على مستوى الإبداع؛ 4ــ کان السیاب یستخدم الرمز و الأسطورة فی قصائده کثیراً، و کانت حاجته إلى الرموز قویّة بسبب نشوبه فی أزمات و تقلبات نفسیة و جسمیة؛ 5ــ اتخذ السیاب شخصیة أیوب 4 قناعاً فی قصیدة «سفر أیوب »، و تحدّث من خلال هذه الشخصیة عمّا یعانیه من صبر وامتحان و بلاء؛ 6ــ من خلال قصة أیوب g نلاحظ أن المستوى من القصة هو:الصبر، والأمل بالخلاص، والألم، والرضا؛ 7ــ إنه یستلهم قصة أیوب A لیقیم نوعاً من التوازی بین تجربة أیوب النبی و تجربته الشخصیة | ||
مراجع | ||
المصادر والمراجع µ القرآن الکریم 1ــ ابن منظور، محمد بن مکرم. (1988م). لسان العرب. (ط 1). بیروت: دار إحیاء التراث العربی. 2ــ أحمد، محمد فتوح. (1984م). الرمز و الرمزیة فی الشعر المعاصر. (ط 3). القاهرة: دار المعارف. 2ــ إسماعیل، عزّ الدین. (1988م). الشعر العربی المعاصر. (ط 5). بیروت:دار العودة. 4ــ ألتونجی، محمد. (1999م). المعجم المفصل فی الأدب. (ط 2). (ج 2). بیروت: دار الکتب العلمیة. 5ــ بسیسو، عبدالرحمن. (1999م). قصیدة القناع فی الشعر العربی المعاصر. (ط 1). بیروت: المؤسسة العربیة للدراسات و النشر. 6ــ بطرس، أنطونیوس. (د. ت). بدر شاکر السیاب شاعر الوجع. طرابلس ــ لبنان:المؤسسة الحدیثة للکتاب. 7ــ بلاطة، عیسى. (1971م). بدر شاکر السیاب (حیاته و شعره). بیروت: دار النهار للنشر. 8ــ بیضون، حیدر توفیق. (1991م). بدر شاکر السیاب رائد الشعر العربی الحدیث. بیروت: دار الکتب العلمیة. 9ــ زاید، علی عشری. (1997م). استدعاء الشخصیات التراثیة فی الشعر العربی المعاصر. القاهرة: دار الفکر العربی. 10ــ السلیمانی، أحمد یاسین. (آ خریف2007 م). «تقنیة القناع الشعری ـ 1». غیمان. العدد الثالث. فی الموقع الإلکترونی: www.ghaiman.net. 11ــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (ب ربیع 2008م). «تقنیة القناع الشعری 2». غیمان. العدد الرابع. فی الموقع الإلکترونی: www.ghaiman.net. 12ــ السیاب، بدر شاکر. (2000 م). الأعمال الشعریة الکاملة. (ط 3). (ج 1). بغداد: دار الحریة. 13ــ عباس، إحسان. (آ 1978م). اتجاهات الشعر العربی المعاصر. الکویت:المجلس الوطنی للثقافة والفنون والآداب. 14ــ ـــــــــــــــــــــــــــــ (ب 1983م). بدر شاکر السیاب (دراسة فی حیاته و شعره). (ط 5). بیروت: دار الثقافة. 15ــ عزّام، محمد. (2005م). «قصیدة القناع فی الشعر السوری المعاصر». الموقف الأدبی. دمشق:اتحاد الکتّاب العرب، العدد 412. فی الموقع الالکترونی:www.awu-dam.org. 16ــ علی، عبدالرضا. (1984م). الأسطورة فی شعر السیاب. (ط 2). بیروت: دار الرائد العربی. 17ــ کندی، محمد علی. (2003م). الرمز و القناع فی الشعر العربی الحدیث. (ط 1). بیروت: دار الکتاب الجدید المتحدة. 18ــ الموسى، خلیل. (1999م). «بنیة القناع فی القصیدة العربیة المعاصرة». الموقف الأدبی. دمشق: اتحاد الکتّاب العرب، العدد 336. فی الموقع الإلکترونی: www.awu-dam.org. 19ــ هلال، محمد غنیمی. (1987م). النقد الأدبی الحدیث. (د ط). بیروت: دار العودة. | ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 1,226 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 4,458 |